نازك الملائكة، رحلت عنّا اليوم، بعد خمسٍ وثمانين من السنين الحافلة بالقلق،
الرائية إلى الموت باختلاف الشعراء عن غيرهم من أبناء الأرض، يحلمون بالحياة
الأبدية للقصيدة، ويحملون تعبها سرّاً من أسرار مرورهم العابر في الحياة كأنها
الموت منذ ولادتهم في عبقرية الشعر، وما ورائية القصائد الرائية.
نازك الملائكة، عاشت "احتفالية" الموت منذ تكوّن جنين الشعر في رحم معاناتها،
ليتلوّن بالسواد شكلاً لقصيدةٍ لم تكتمل مع أن الموت أمهلها العمر كلّه، بل هي
قصيدتها التي أعلنت موت أشياء الحياة منذ ولادتها الأولى، ولم تبشّر بغير أجراس
سوادها، في قصيدة لنازك الملائكة بعنوان "أجراس سوداء" تقول:
"لنمتْ فالحياة جفّت وهذي
الأكؤس الفارغات تسخرُ منّا
وغيوم الذهول في أعين الأيامِ
عادت أجلى وأعمق لونا
وسكون الحياة في جسدِ الأحلامِ
لم يبقِ قطّ للعيشِ معنى".
إذاً، هي الشاعرة التي أعلنت حياتها طقساً متجدداً في احتفالية موت الأحلام التي
كانت تحلمها برؤيا الشعر، وتحملها تعباً للقصيدة، قصيدة الذهول التي بشّرت بها،
وماتت قبلاً منذ أن انطفأت شعلة الشعر في عينيها.
وهي الشاعرة التي أنصتت للموت في بدايات حياتها، كأنّ الشعر هو الحياة، وعندما
يتوقف الشاعر عن الكتابة يموت. وهي التي أنصتت لدويّ أجراس سوداء تعلن انتهاء دور
البشر المحموم، وفراغهم من لعب هذا الدور على مسرح الحياة، في صمت الحوار الذي هو
عماد الحركة في وجود الإنسان الشاعر، وبدونه يصمت إلى الأبد. تقول في القصيدة
ذاتها:
"وبعيداً في الجوّ تنذرنا الاصوات
أنّ الحياة عادت جنونا
أنّ لون الخيال قد حال وارتدّ
شحوباً وواقعاً محزونا
أنّ "قبل" الرجاءِ أصبح "بعد"
فهو فكرةٌ لن تكونا
أنّ شيئاً في عمق أنفسنا
يجذبنا للموت، شيئاً مكينا".
وهي الشاعرة التي بشّرت بالنهاية في بداياتها الأولى، وكتبت مرثية ايامها التافهة،
كما ينبغي للشاعر أن تكون عليه بكائية أيامه في تكرار الساعات، واجترار الذكريات.
في قصيدة "مرثية يوم تافه" تنعى نازك الملائكة الأمل الذي عاشت لأجله، وماتت كروحٍ
شاعرةٍ منذ أن أيقنت استحالة تحققه، تقول:
"إنه لم يكُ يوماً من حياتي
إنّه قد كان تحقيقاً رهيبا
لبقايا لعنة الذكرى التي مزّقتها
هي والكأس التي حطّمتها
عند قبر الأمل الميّتِ".
هي في مسيرة النهاية، منذ خطت خطوتها الأولى في الشعر، كما لو أنها روّضت رغبة
العيش فيها، وتقبّلت الموت كقضاءٍ لا يُردّ، أو كاستراحة ضميرٍ شاعرٍ أتعبته
الذكريات، ولاحقته لعنة الحماقات والذنوب الصغيرة، كما لاحقت نازك الملائكة نفسها
أصوات صرخاتٍ خفيةٍ مكنونةٍ، تضجّ في أعماق ذاتها، وترمي بها في هاوية وادي السراب
الذي احتضن رفاتها قبل مماتها.
ونازك الملائكة والظلمة شقيقتا روح، فكأن عينيها لا تريان إلا في العتمة، وهي
والضباب صديقان، تلوّن به قصائدها الرمادية، في مساحة الكتابة التي سكنتها لا في
البياض ولا في السواد، لكن في عزلتها السوداء وبياض المعنى. كأنها أدمنت هذا العيش
المريض منذ ما يزيد على أربعين عاماً من العزلة والصمت قبل الآن، قبل موعدها الأخير
مع الموت.
أدمنت اللحاق بالصدى، صدى اليوم الغريب، في كهوف الذكريات التي تلوح الظلمة في
أفقها السحيق كضوء، كقنديلٍ يشتعل بالعتمة. يضيء للموت دربه إليها، في وجهٍ شاحبٍ
لخادمٍ من فرط الخوف، يقدّم سمّه في دسمه لسيده الغافل عن رغباته السوداء. وهي سيدة
الموت، ترحّب به مقبلاً عليها، كأنها تقول له: "تسللْ واسرقني مني، لم أعد أخافك
كما أسطورة حلمنا بها أطفالاً".
هي نازك التي لم تعرف إن كان الموت حياً فيها، أو ميتاً في موت كلماتها عن البوح.
والموت يردد على مسمعها أصداء الذكريات ورجع صوت الحبيب، تقول:
"كان يوماً تافهاًحتى المساء
مرّت الساعات في شبه بكاء
عندما ايقظ سمعي صوتهُ
صوتهُ الحلوُ الذي ضيّعتهُ
عندما أحدقت الظلمةُ بالأفقِ الرهيبِ
وامّحت حتى بقايا ألمي، حتّى ذنوبي
وامّحي صوت حبيبي
حملت أصداءهُ كفّ الغروبِ".
نازك الملائكة، كانت تكتب للموت قبل الموت، وتتلو مرثيات للحياة، والأيام، ولذاتها.
وترى أن لا بدّ منه، تروّض نفسها على تقبّله، وترتاح إليه في الوحدة الأقرب إليه،
كأنها تمشي في جنازتها في قصيدة "مرثية للإنسان"، وتصوّر الميت يمضي به محبوه
جثمانَ جفتهُ الآمال، ينيمونه على الشوك والصخر، وتحت التراب والأحجار، ويتركونه
لوحدته المريرة والظلمة الرهيبة تحت حكم الديدان وأيدي الفناء والرمل، تقول:
"ذلك الميت الذي حملوه
جثةً لا تحسّ نحو القبور
كان قلباً بالأسى تملأه الرغبةُ
والشوق بين عطر الزهور".
يحتل الموت في بنية اللغة الشعرية عند نازك الملائكة الفضاء الأرحب، فهي تتوحد به
حتى لكأنها تبّشر بساعته القريبة، وتنزع إلى إقامة مصالحة ما بينه وبين البشر، فهي
لا تريدهم أن يسرعوا بالميت إلى قبره، بل ترجوهم أن يكشفوا جسمه لضوء الشمس والعطر،
فهي آخر مرة.
هي وصية شاعرةٍ امتلكت حكمة الموت من فمهِ، ونظرت في عينيهِ، وبلسانه نطقت:
"لا تنوحوا عليهِ وليكن الشدوُ
ختاماً لما وعت أذناه
حسبهُ أنه يودّع دنياه
إلى قبره وتفنى مُناه
فاتركوا نعشهُ على الأرض حيناً
قبل أن تقبروه تحت اللحودِ
ربما كان خائفاً من دجى القبرِ
حريصاً على جمال الوجودِ".
تهزأ بالموت، وتقتحم عوالمه بلا استئذان، كأنها تتقمص روحاً شريرةً ترتدي رداءَ
الظلمةِ لتدخل القبر، وتحكي عن الموتى ومعهم قصص موتهم. تقول في قصيدتها "عيون
الأموات":
"يا رفات الأمواتِ في الأرض
ماذا رسم الموت فوق هذي العيون
ايّ رعبٍ وحسرةٍ وشكاةٍ
أيّ معنى من الرجاءِ الحزين؟".
تتساءل عن معنى الموت في أعين الأموات، وتغمض عينيها لتراه فتعتاده، لكنّ الأحياء
اليوميين العاديينَ لا يدركون كنهَ تساؤلها الوجودي العميق، فهي صاحبة صرخةِ "آهِ
يا ربّ لو فهم الأحياء ماذا في أعينِ الأمواتِ".
وهي كتبت للموت قصيدة اشتياقٍ فأبى إلا أن يعذّبها، وهي التي ركضت إلى الموت
فأبقاها في قائمة انتظاره تعاني الحزن والموت البطيء ولا يجيء.
شاعرةُ الألم والالم موت. وهي في القصيدة تحتفي بالالم في سادية الشعراء يستسقون
لمآقيهم كؤوس الأرق، ويتمنون للياليهم الأسى والحرقة التي تحياهم طالما ينبض القلب
الشاعر في فضاءات الأمل والألم معاً. فالألم رديف الأمل عند الشعراء، وهو عند نازك
الملائكة التجربة الدافعة إلى القصيدة، فلا يغيب في مفرداتها وبنائيتها لفظاً
ومضموناً. يتشكل أرقاً حيناً، قلقاً أحياناً، أسىً يتجدد ويستحيل حباً في القصيدة،
تقول في قصيدتها "خمس أغانٍ للألم":
"من أين يأتينا الألمْ
من أين يأتينا
آخى رؤانا من قِدمْ
ورعى قوافينا
إنّا لهُ عطشٌ وفمْ
يحيا ويسقينا".
هو الموت، المعاناة والألم، الصديق اللدود والعدو المحب معاً، طفلٌ ناعمٌ صغيرٌ
وادعٌ لكن يهدي الشعراء موتهم، في غياب المعنى وتفكيك القصيدة كنص مأزوم، لا تتحقق
فرضياته البنائية كحركية إيصالٍ ما، أو اتصال بشيءٍ ما، والقصيدة تنهدم بالالم
والموت، وتحيا بالغفران، تخاطب الألم قائلةً:
"يا طفلنا الصغير سامحنا يداً وفمْ
تحفرُ في عيوننا معابراً للأدمعِ
وتستثير جرحنا في موضعٍ وموضعِ
إنّا غفرنا الذنوب والإيذاءَ من قِدمْ".
ونازك الملائكة أقامت علاقةً جميلةً مع الموت، لا تشبهها علاقة الشعراء به، فقد كان
نقيضاً لتوقعاتهم في الحياة، وقاتلاً أحلامهم بيوتوبيا الخلاص التي وعدوا الآخرين
وأنفسهم بها، بينما كانت نازك تخاطب السماء بالحكمة، وترجوها التدخل الرباني بعدما
أعياها ظلم الإنسان أخاه الإنسان، وضاقت بها الحياة فأسلمت قياد نفسها لليأس، وفرغت
يداها من حيلةٍ سوى هذا الشعر الذي ترسم من خلاله الكون بريشة كلماتها، ولا تعوّل
على حكمة البشر إلا قليلا، تقول في قصيدتها "بين يدي الله":
"جئتك الآن يا إلهي وما لي
غير قلبي ونغمتي من شفيعِ
أنا مَنْ رسمتُ مأساة هذا الكون
شعراً روّيتهُ بدموعي".
وتقارب حكمة الشعراء الأوائل، و "كل ابن أنثى وإن طالت سلامتهُ ... يوماً على آلةٍ
حدياءَ محمولُ". وتؤكد ريادتها في لا جدوى الحياة وعدمية النظرة إلى الوجود خارج
الشعر، وحلم رسم العالم بعين الشاعر وادوات الكتابة، فهي تطلق على الحياة رصاصة
الرحمة معلنةً موت الإنسان في الإنسان، تقول:
"كلّ حيٍّ لا بدّ أن يقطع العمرَ
صريعاً على تراب الوجود".
هي شاعرةٌ لم تخف لحظة الموت، ولم تهرب منها إلى صور الفرح والربيع والرومنسية
الدافئة كما فعل شعراء كثيرون، بل تكاد تكون الوحيدة التي تلت بيان نعيها بينهم،
يوم كانت الحياة في أوّلها من سيرة عمرها، وهي الوحيدة التي رات ظلام الحياة في
وضوح نهارها، وسخرت من جدلية الموت الحياة، كأنهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ هي عملة زيف
الحياة نفسها، وبين الولادة والموت طرفة عين أو أقل، تقول في قصيدة لها بعنوان
"أنشودة الأموات":
"لحظة الموت لحظة ليس من رهبتها
في وجودنا المرّ حامي
وسيأتي اليوم الذي نحن فيهِ
ذكرياتٌ في خاطر الأيامِ ".
احتفالية الموت عند شاعرةٍ عاشت الحياة موتاً رائياً، تقمّصت روح طرفة بن العبد
وموته المبكر، كما استعادت تجربة الموت في السابعة والعشرين عند أبي القاسم الشابي،
واستعارت منه حكمة العمر القصير والعلاقة الحكمية بالموت في صخب بهائه وعلانيته،
وشدة أثره في خطوات الشاعر الإنسان نحو حتفه، بكلّ إصراره على التحدي وكلّ قدريّته
المؤمنة.
نازك الملائكة في خطوتها الأخيرة إلى حتفها، لم تطوِ صفحات حياتها إلا لتفتح صفحة
البياض في قصيدتها المستشرفة، المفلسفة للموت في الكآبة الجميلة ودفء اقترابه منها،
لتصير قصيدتها أقرب إلى الخلود.
كأنها تحتفل عبر فجاعة موتها بذكرى افتتاحها زمن الشعر التفعيلة، وتجادل به بدراً،
وتحاجج عبد الوهاب البياتي، وتسوق إليهم أنبل ما يستشهد به الإنسان على صوابية
رأيه، أو ما يقطع به من حجةٍ، أن تختتم حياتها بأول ما بداتها به، بقصيدةٍ هي الموت
نفسه، في شاعريته ونبلها، غريبةً في أهلها، منفيةً عن وطنٍ ضاق بالشعراء فأهدى
إليهم الموت المجاني في كل خطوةٍ في الشارع، أو حظوةٍ في الشعر.
نازك الملائكة أشهدت التاريخ على موتها، قبل هذا الموت الآن، بثلاثين عاماً ونيفِ
عقد، منذ كتبت قصيدتها "الخطوة الأخيرة"، منذ أن ردّدت مع الراحلين أنشودة موتهم،
وذبول أحلامهم تماثيلَ يأسٍ بشريّ و مجسّماتِ شقاءٍ أبديٍّ، جثثاً تمشي في انتظار
خطوتها الأخيرة نحو الموت الجميل، قالت:
"إشهدي أيتها الأشجار أنّي
لن أرى ثانيةً تحتَ الظلالِ
ها أنا أمضي فلا تبكي لحزني
لا يعذّبكِ اكتآبي وابتهالي".