ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

تفاح الجنة

ابراهيم درغوثي / تونس

 

عصفور يخرج من أنفي

 

 لا تهتموا بي كثيرا . فأنا امرأة أخذت أكثر من حقها . عشت أربعين سنة بعد رحيل زوجي . ترقبت مدية ملك الموت وعريت لها الوريدين من الحد إلى الحد بلا خوف ولا وجل . قلت لعزرائيل في ليالي الشتاء الباردة وأنا أتوسد ذراعي : عندما تطأ أقدامك هذه الغرفة – فأنا متأكدة من أن لعزرائيل أكثر من قدمين – لا تمش على رؤوس أصابعك ، فأنا لا أخافك . حرك فوق رأسي جلجلا، أو فجر قنبلة إن شأت .أريد أن أراك وأنت تقبض روحي وتضعها في قفص صغير ، وتطير بها إلى حيث لا أدري .أريد يا سيدي أن أرى ذلك العصفور الصغير الذي قالوا انه يخرج من أنفي وأنا أفارق الحياة .

 ثم أتدثر وأنام إلى الأبد .

 وبقيت أترقب ، وأعري الوريدين كل ليلة .

 ولكنه لم يأت .

 قلت لكم قبل قليل لا تهتموا بي كثيرا أيها الأصدقاء ، فحكايتي لا تستحق منكم المتابعة لأنني في الحقيقة أحكيها لنفسي ، فقط لنفسي . ربما سيقول لكم الفاهم كلاما أقرب إلى الحقيقة مما قلته أنا ، وهذا شأنكم أنتم معه لأنني لن أحاكم أحدا هذه المرة ، ولن أطلب منكم أن تكونوا في صفي . فقط أرجوكم لا تقولوا إنني امرأة سكنها الخرف . فوالله إنني عاقلة ومظلومة ولا أستحق كل ما سلطه علي ابني الفاهم وكنتي منجية من عذاب . بالله عليكم لا تقولوا هذه عجوز مجنونة قبل أن تستمعوا إلى كل الحكاية ،ثم حكموا عقولكم وقلوبكم وانبشوا قبري وارموا بجثتي للكلاب إذا رأيتم أنني استحق ذلك ، أو أنصفوني من ابني وترحموا علي يرحمكم الله .

 غزالة في الشرك 

 عندما تغضب أمي مريم مني ، تسب الساعة التي نبت فيها في أحشائها كانت تفعل ذلك وأنا صغير . ولما كبرت ، امتنعت عن السن جهارا ولكنها واصلته في سرها . أنا متأكد من أنها ظلت تسبني إلى آخر رمق في حياتها ، وستظل تسبني وهي ميتة لا محالة .

 قالت لي مرة عندما سألتها عن أبي :

  • أبوك اندقت عنقه قبل أن يترك لك صورة في قعر الذاكرة ، يا ابن ستين كلب . تركني وحدي لهذه الدنيا القحبة وذهب في حال سبيله .

 فسكنت الأسواق ، عندما كانت المرأة تذبح إذا ضبطت وهي تنظر للشارع من وراء الأبواب . اشتريت الأقمشة الرخيصة وتاجرت فيها . بعتها للنساء المتحجبات داخل المنازل ، وغاليت في الأسعار . فأنا أقايض كرامتي بفرنكاتهن . وكنت لا أشبع .

  • أقسم لك بالله ألعلي القدير أن هذه القطعة من حرير الهند .

  • ولكن ثمنها مرتفع جدا يا مريم .

  • خذيها وادفعي الثمن بالتقسيط .

  • لا ، لن أقدر على ذلك ولو بالتقسيط ، فأنت تعرفين بخل زوجي وتقتيره علينا .

 وتقول لها أمي : لا يهمك سأتدبر الأمر .

 كنت أعرف ما تعنيه بسأتدبر الأمر ، ولكنني لم أكن لأهتم بذلك كثيرا .

أذهب إلى دكان العم الجيلاني لأقول له : أمي تقرؤك السلام وتخبرك بأن الغزالة وقعت في الشرك ، موعدنا الليلة بعد صلاة العشاء ، في سقيفة بني كلاب .

ويدفع عم الجيلاني للمرأة . وتدفع المرأة لأمي . وتدفع لي أمي ثمن الحلاوة الشامية . وتعود إلى الأسواق ، أسواق الرجال لتشتري زجاجات العطر الرخيصة ، والبخور ، وقراطيس الجاوي ، وقوارير العنبر ، والعلكة ، والسواك . وتطرق الأبواب ، أبواب الرجال الفحول والنساء الشريفات العفيفات . وأمي تبادلهن سلعها بسأتدبر الأمر . والموسرون لا يبخلون بالمال على اللحم الطري المدسوس وراء الأبواب المغلقة بسبعة مفاتيح . وأنا أفرق الحلاوة الشامية على أبناء النساء الموطوءات بتدبير أمي ؛ إلى أن صرت أفرق بين الحق والباطل فكفت أمي عن تكليفي بإيصال خبر الغزالة التي وقعت في الشرك إلى الرجال الذين يدفعون ويذهبون إلى السقائف بعد صلاة العشاء .

مريم تداوي العذارى

  • كم ستدفعين يا أم العروس ؟

  • مائة فرنك يا خالة ...

  • مائة مقدما ومائة عندما يلعلع البارود .

 وأقبض المائة . أدسها في الصندوق وأطلب من الزائرة أن تعود ليلا مع ابنتها .

 ما أحلى هذه البنت . إنها تساوي وزنها ذهبا ولن أعذبها كالأخريات . فقط سأفتح مابين فخذيها برفق ، وأضع إصبعي الوسطى في الباب الحرام . باب الجنة والنار . سأقيس الفتحة وأقول لها : من ذاق من عسيلتك يا صغيرتي ؟ من هد جدارك يا مسكينتي وترك باب دارك مشرعا للريح ؟

 يحمر التفاح على خدي البنت وتبكي .

- أطلب الستر يا عمتي . أنا يتيمة ، ووعدني بالزواج ، وأخلف الوعد .

وأفتعل الغضب ، فأحرك إصبعي في الفتحة الواسعة ، وأصرخ في وجهها :

  • لماذا تركته يفعل بك هذه الأفاعيل يا كلبتي الصغيرة ؟

  • وعدني خيرا يا عمتي . لحس عقلي . ذوبني في هواه ، وشربني . ولم يترك لي عنوانا .

ويجن جنون الأم فتضرب البنت المنهارة على فمها .تضربها على رأسها . تضربها على بطنها ، وتنتف لها شعرها ، وتدوس تفاح خديها . وتولول :

  • يا خراب بيتك يا علجية ستصبحين مضغة في الأفواه ...

ويتراءى لها مشهد في أزقة القرية – ابنتها راكبة على ظهر حمار، ووجهها ملطخ بالسخام ، والأطفال يصيحون وراءها ، والنساء الشريفات العفيفات يرمينها بالحجارة من وراء الأبواب ، والرجال الكرام يتفلون على الشرف المهدور – إلى أن تصل إلى المنزل الذي غادرته في العشية على أنغام الطبلة والمزمار .

  • أنا في عرضك يا أمي مريم ، استريني ، لا تكشفي حالي .

  • لا تخافي يا ابنتي سأتدبر الأمر .

وأودعها مع أمها لأحضر لها دواء العذارى المفضوضات البكارة : مزيج من دم الغزال المتيبس ، ومسحوق من زهر عرائس الجن المجلوب من أقاصي الصحراء ، والفاسخ والفاسوخ .

وأمشي معها إلى دارها الجديدة . أجلس على الزربية وأركنها إلى الزاوية البعيدة عن الأنوار .

ونظل نترقب العريس .

يصل المسكين مرتبكا . يدخل برجله اليمنى . يبسمل ويفتح الحجاب الذي يغطي وجه العروس فينبهر بالوجه الحسن ،وبرائحة العنبر الفائح من ثيابها ، و بزخارف الحناء علي يديها ورجليها .

وقبل أن أغادر، أطلب منها ، كما اتفقنا في العشية أن تتمنع حين يحاول فتح رجليها ، وأن تطلبني للمساعدة .

  • نادي أمي مريم يا سيدي لعلها تسكب في قلبي بعضا من بأسها .

ويمتثل الخائف من الفضيحة فيفتح الباب وينادني .

أدخل عليهما كرحمة السماء . وأنظر في عيني الرجل لأقول له :

  • لا تخف يا ابني فالأمر أبسط مما تتوقع .

وأغمز للعروس أن اطلبي مساعدة اليدين المجربتين . 

وتروق الفكرة للرجل فيدس عضوه – في العادة يكون نصف منتصب – بين فخذيها ، فأدس خلطتي السحرية معه . ويسيل دم الغزال . فأطلق زغاريدي ، و العروس تصيح من ألم الذبح المزعوم .

ويرمي العريس بقميص العفة للنساء المتحلقات أمام الباب ، فيختطفنه ليرقصن به في ساحة المنزل .

وتبكي أم العروس فرحا وهي تقبل القميص المضرج بالدم .

ويلعلع البارود فوق السطوح ، فأقبض مائة فرنك أخرى أدسها في صدري ، وأملا حضني بالحلوى وبالضحك المكتوم .

الجمر في سروالي

كنا صغارا . في الليل ، نجتمع في ساحة الحي . نجمع كدسا من الحطب لنشعل فيه النار. نشعل نارا عظيمة نرقص حولها ونحن نغني ، ثم عندما يهدأ اللهب نجلس قريبا من النار. يختلط الأولاد بالبنات والصغار بالكبار ليحكي لنا عزالدين عن الغيلان ، وعن أولاد السلاطين ، وعن الأعراس التي تدوم سبعة أيام وسبع ليال . وتحرض ياسمينة عائشة الصغيرة للذهاب إلى ركن مظلم في الساحة لتلحق بها بعد قليل لتعدها للعريس . تمشط شعرها وتسوي لها ضفيرتين ترمي بهما على صدرها الذي بدأ يعطي بواكيره ، وتبسط الرمل تحت ردفيها وتناديني أن تعال لتأكل من تفاح الجنة . وألبي النداء ، فتفتح لي زر سروالي وترقدني فوق عائشة على كدس الرمل . بعد قليل تضربني على مؤخرتي ، وتطلق زغرودة وتنادي عزالدين لينام مع العروس . وعزالدين مازال يحكي عن الغيلان و- لو لم يسبق سلامك كلامك لأكلت لحمك مع عظامك -، وعن علي بن السلطان الباحث عن التفاح الفواح الذي يعيد للشيوخ شبابهم . فترفض عائشة عزالدين . تخاف من غيلانه ومن أبناء سلاطينه لكن ياسمينة تهددها بفضح أمرها ، فتقبل العروس الصغيرة افتراء الشابة وتنام مع صاحب الغيلان وهي ترتجف .

وتصل أم العروس إلى الساحة . تراقب المشهد مدة ثم تنفخ في النار حتى تعيد لها الحياة . وتأخذ جمرتين . تضع واحدة داخل سروال عزالدين ، وواحدة داخل سروالي . ويهرب صاحب أبناء السلاطين من بين يديها ، وأقع أنا في قبضتها ، فتحك لي الفلفل الحار في عيني وتذهب لتشتكي ياسمينة لأمها وأنا في صياح مجنون :

  • سامحيني يا عمتي ، لن أنام مرة أخرى مع ابنتك .

وتهدد الأم ياسمينة بإخبار والدها ، فتبكي بين يديها وتقول لها :

  • كلمي أمي مريم لتبحث لي عن عريس . لقد تزوج كل أندادي ولم أجد سوى الصغار ألعب معهم لعبة الكبار .

ونكبر نحن الغار كما يكبر أطفال الخرافة . ولا نقدر على النساء فالدفع في المواخير مقدما، وجيوبنا فارغة ، فندهب للبراري نبحث عن الأتن السائبة نمارس معا الجنس شاهقين حد الانفجار .

لا ، ليس الآن يا عزرائيل 

قالوا لي ابنك ينكح الأتن السائبة في البراري ، فضربت أخماسي في أسداسي ومكنته من زوجة صالحة . وطلبت منه أن يملأ الدار صبيانا وبنات .

جاءت البنت الأولى ... والثانية ... وجاءت الخامسة ... ولم يأت الولد .

وجاء الولد الأول ومات بالحصبة . وجاء الثاني ومات بجريان الجوف . وتواصل هطول البنات حتى امتلأت بهن ساحة البيت .. وصارت أمهن كالجراد.

وعندما جاء الولد كنت قد كرهت الحياة ... صرت لا أقدر على الوقوف ولا على تدبير الرأس . كنت أترقب ابن الزنا هذا لأفرح به . كنت سأقيم له حفل ختان لم تر له البلدة مثيلا ، ولكنه تأخر كثيرا . عاند رغبتي وتأخر في المجيء .. ابن الكلب جاء وأنا أعري كل ليلة لملك الموت عنقي ، وأكشف له عن شراييني المتهتكة فماذا أفعل به ؟

كانت أمه قد أعطت هدايا لكل نساء القرية بمناسبة أفراح الختان ، بيضا وحليبا وشايا وسكرا ونقودا كثيرة سرقتها من خزانتي . كانت كل ليلة تحسب كم صار لها عند النساء من مكتسبات وماذا ستشتري بهذه المكاسب عندما تجمعها يوم الختان . وتحلم بالذهب في عنقها وفي يديها وبالتلفزيون الملون وبالثلاجة والمروحة الكهربائية .

ولكن عزرائيل الذي ترقبته من زمان ، ولم يأت خير أن يحل ركبه في دارنا ليلة الفرح . جاء عندما كنت عازفة عنه . جاء ، ولم يمهلني لحظة واحدة . هكذا كالجراح الماهر المتقن لعمله ، قبض روحي . رأيته يخرج العصفور الصغير من أنفي ويهم بوضعه في القفص ، فطلبت منه أن يمهلني أربعا وعشرين ساعة ، نهارا وليلة فقط لا غير . قلت له ، لا يهم الجسد . خذ روحي ولكن أترك القفص معلقا في سقف البيت . أريد أن أرى كيف ستبكيني العائلة . أحرجته بالإلحاح وببكاء الثكالى ، وبلثم أياديه الكثيرة ، فوافق على أن يعود في الغد .

وجاءت كنتي منجية . دخلت البيت تتفقد لحم الخروف المرصوص في قصعة في ركن من أركان البيت . ثم عن لها أن تكلمني ... نادتني فلم أرد على ندائها – بالطبع فأنا ميتة – وضعت يدها تتحسس جبيني فوجدته باردا ، ورأت عيني مشرعتين وجسمي يابسا . ضربت كفا بكف ، وخمشت خديها ، وعضت أصابعها ... ففرحت قلت المسكينة هزها موتي هزا شديدا. وامتلأت بالزهو والسرور لكن فرحتي لم تدم طويلا فقد سمعتها تقول :

  • ابنة الكلاب ، لم تجد متى تموت سوى في هذا اليوم . ماذا سأفعل ياربي .ضعت وضاعت نقودي . ضاع كل ما أهديته للنساء بمناسبة ختان أولادهن . ضعت يا منجية . أضاعتك هذه القحبة .

تيبس جسمي أكثر وأنا أسمعها تتحدث عني بهذا الكلام . وخافت روحي . التصقت أكثر بجدار القفص وهي ترتجف . وجاءتني الخواطر كما كانت تجيء وأنا في الدار الفانية . العاهرة . ابنة العاهرة مفضوضة البكارة . داويتها بيدي .رششت بين فخذيها دم الغزال وسترت حالها . قلت أن يتزوج هذه الكلبة خير له من الجري وراء الأتن الجرباء . ضبطتها أكثر من مرة مرفوعة الرجلين في السقائف ، ولم أقل شيئا لذلك الأبله . أعرف أن البنات بناتها وأن لا عين لابني فيهن ولا أنف . كسوتها وكسوت جراءها من مال الرجال الذين يدفعون بعد صلاة العشاء . وها هي الآن تتحسر لأنني مت قبل أن تجمع أموال الزنا الذي فرقته على مومسات هذه القرية الموبوءة .

رأيت منجية تدور في البيت لا تعرف ماذا تفعل ... وكانت أصوات الطبلة والمزمار تصلها حادة ... وكان ضرب أرجل الراقصات على الأرض يستفزها أكثر ، فيزداد هيجانها .

دارت ودارت في البيت ، ثم جثمت فوقي . اقتربت بوجهها من أنفي تتحسس أنفاسي وهي تردد ربما أخذتها سنة من النوم . ربما هي تتناوم قحبة القحاب وستفيق بعد قليل . لكنني ظللت كالخشبة اليابسة ، فزادت مني اقترابا ، وبدأت تناديني بصوت نحاسي ، وتحركني من كتفي بعنف حتى ارتطم رأسي بالأرض أكثر من مرة . ولما تأكدت من موتي ، حركت إصبعها الوسطى في وجهي وقالت : طز فيك أيتها العجوز النجسة . لن أفسد عرس ابني بسبب قردة رائحة إلى جهنم وبئس المصير .

ثم أغلقت باب الدار ، وذهبت ترقص في الحلقة الضاجة بالنساء .

تفاح الجنة

لم أدر بموت أمي إلا ليلا عندما طلبت من منجية أن تعطني عشاءها .

قالت :

  • أمك ماتت ..

  • ماذا قلت ؟ أمي ماتت ، متى كان ذلك ؟

  • في القائلة ..

  • ولماذا لم تخبريني بذلك ؟

  • هل تريد أن تفسد عرس ابني لأجل موت أمك  ؟

ولم أصدقها . جريت إلى بيتها فرأيتها نائمة على ظهرها ، وعيناها مفتوحتان ، والذباب الأخضر يحوم حولها .

من أخبر هذا الذباب اللعين بموت أمي . هششته عنها وبدأت أناديها :

  • أمي .. أمي .. أفيقي يا أمي ..

فلم ترد على ندائي .

جلست على ركبتي ووضعت أذني فوق صدرها أتسمع دقات قلبها ، فلم أسمع شيئا . رفعت يدها الثمها ثم تركتها فسقطت على الأرض كقطعة من خشب . أقعيت كالكلب المضروب ، وانتفخ قلبي حتى صار كالكرة المبلولة ، وانفجرت باكيا . بكيت كما كنت أفعل عندما رأيت أول مرة رجلا يأكلها بنهم . يأكل من صدرها ومن وجنتيها . يأكل من فمها ومن فخديها. يلاطفها ويلاعبها . يهارشها ويعنفها . وهي تتأوه وتطلب المزيد . ثم سمعت نهنهتها وبكاءها تحت ثقل الرجل ، فوقعت فوق الرجل أضربه بيدي الاثنتين . وهو لا يلتفت لضربي ، فعضضته من كتفه حتى التقت أسناني بعضها بعضا ، وأنا أبكي وأصيح . خار الرجل كالثور وانهد فوق أمي لحظة ثم قام يرفسني برجليه ويسبني بأقذع الألفاظ . فسقطت فوق فخذي أمي المبعثرة فوق الفراش . رأيتها من وراء الدموع تقوم بسرعة لتدفع بالرجل خارج البيت ، ثم تعود . احتضنتني في صدرها وقالت :

  • لماذا تبكي . اسكت لقد طردت الرجل من بيتنا ولن يعود هنا أبدا .

ولكن أمي ظلت تبكي تحت الرجل . وظللت أبكي في اليقضة والنوم .

بكيت وأنا صاح وبكيت في كوابيسي . وصارت نوبة البكاء تعاودني كلما رأيت صاحب أمي يدخل دارنا خفية مرة وفي وضح النهار مرات ... إلى أن اشترى سكوتي ذات ليلة بقطار من البلاستيك يجري فوق سكة حديد .

وكبرت ، فصرت أترك الدار لأمي وألتقي بعائشة وعزالدين الذي ظل يحكي لنا عن علي بن السلطان والتفاح الفواح والغيلان التي لا تشبع من لحم الآدميين . وعائشة تفتح أزرار سروالي وتقول :

  • اترك علي بن السلطان يبحث عن التفاح وهاك كل التفاح من فوق صدري .

فآكل من تفاحها ، وأشرب من لبنها ، والحس العسل المصفى من بين فخذيها .

ولا أشبع أبدا .كنت كلما اعتليتها أرفض النزول على أرض الناس ولا أخجل من سوأتي المعروضة للهواء . وعلي بن السلطان يجوب الصحاري ويسلم على الغيلان .- وسلامه يسبق دائما كلامه -. ولماذا يا أمي تموتين الآن ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ وماذا أفعل بلا تقل لهما أف ؟ والجنة تحت أقدام الأمهات . وبالمناسبة هل سيدخل عم الجيلاني الجنة يا أمي ؟ وأنا لا أدري ماذا أفعل ؟

وجدتها ورب البيت ، وجدتها . سأخرج إلى الجميع . الرجال والنساء . النساء الراقصات والرجال السكارى وزوجتي بينهم .سأقول لهم :

- يا جماعة الخير ، دام فرحكم . نحن أصحاب العرس ، نشكر لكم تلبيتكم لدعوتنا . ومع السلامة الآن . سلموا على أهلكم . اتركونا وشكرا .

ولكن قد يعربد السكارى ، وترفض الراقصات ترك الحلبة ، وتتهجم زوجتي على تدخلي في شؤونها ، فماذا أفعل ؟

هل أترجاهم من جديد ؟ زوجتي وجوقتها . أناديها وحدها وأقول لها :

  • أمي ماتت يا زوجتي العزيزة . والله العظيم ، أمي ماتت ، فلا تفضحيني أكثر في البلد .

ولكنني أعرف أنها بليدة ، ورأسها يابس كرأس البغل ، ولا تفهم بسهولة ، وكلبة ابنة كل كلاب العالم . فماذا أفعل إذا رفضت الانصياع لأمري ؟

آه . أشتكيها للبوليس ...

لكن البوليس سيقول هذه قضية عائلية ولا دخل لنا في هذه الأمور . سيتعلل بقضية عائلية ليرد لها بعضا من جمائلها التي لا تفتأ تقدمها لهم آناء الليل وأطراف النهار .

البوليس إذن قضية خاسرة ، سأشتكيها لأمها . أي والله ، سأشتكيها لأمها ...

ولكن حماتي تكره أمي كره المعافى للمرض . وستقول معها أنها ستخسر كل دراهمها التي دفعتها سلفا للنساء إذا تحول الفرح إلى مأتم .

آه ... أقول للمحتفلين : أمي ماتت والسلام .

كيف لم تخطر ببالي هذه الفكرة . من المؤكد أنهم سيتعاطفون معي .اللعنة .هكذا ننسى دائما الحلول السهلة ونتعب عقولنا بالعسير من الأمور.

ولكن الملعونة قد تقول لهن إنني سكرت وما عدت أعي ما أقول ، وتأمر بحبسي في إحدى الغرف . وستجد لا محالة من ينفذ أوامرها .

ماذا سأفعل يا أمي ؟ لقد ضاقت بي السبل .

عندما رفعت رأسي إلى السقف ، رأيت قفصا معلقا . كان في داخل القفص عصفور صغير لم أر له مثيلا من قبل . عصفور أكبر بقليل من النحلة . ألوانه لا تحصى ولا تعد .ألوان تعشي الأبصار وهي تتحول في كل آن وحين . مددت يدي أهم بالعصفور فلم أجده . وعدت أجلس على الأرض فعاد العصفور إلى مكانه في القفص المعلق قريبا من السقف . فارتبكت وظننت بنفسي الظنون إلى أن انفتح الباب ، فدخل عم الجيلاني يجر وراءه برنسه الحريري ويعطر يديه بماء الورد .

قلت : عم الجيلاني ...

وصرت أرتعش . لقد شاركت في دفن الرجل منذ سنوات خلت . اقترب مني تسبقه لحيته الحمراء المصبوغة بالحناء . كان كلما خطا خطوة نزل بي العمر عشر سنوات إلى أن صرت طفلا يلعب بقطار . ربت الرجل على شعري وقال :

  • قم يا ولدي . اذهب لتلعب بقطارك مع أصحابك في الشارع .

وضعت القطار تحت إبطي وخرجت ..

عندما التفت وأنا أغادر الدار رأيته يمد يده إلى القفص ، فيخرج منه العصفور الصغير . ورأيته يدس العصفور في أنف أمي . وأظلمت الدنيا في ناظري فما عدت أرى شيئا . صفقت الباب ورائي وهممت بالاندفاع خارج البيت إلا أن زوجتي أمسكتني من تلابيبي . وسمعتها تقول :

  • ماذا سنفعل الآن بأمك ؟

لم أرد على سؤالها فواصلت :

  • سوف تسكت حتى ننتهي من الأفراح ، فالوقت شتاء ، وجثتها لن تتعفن .

  • وأنت متى ستنتهين من جمع نقودك السائبة عند النساء ؟

  • غدا صباحا بأذن الله .

  • سأذهب أحفر القبر . سأحفره وحدي فلا تشغلي بالك بي .

وذهبت إلى الجبانة .

حفرت قبرا لأمي وقبرا لقطار عم الجيلاني . وحفرت قبرا ثالثا دفنت فيه ثيابي .

وهمت في الخلاء ... عريانا ... 

 

 

 

dargouthibahi@yahoo.fr

www.arab-ewriters.com/darghothi/

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا