![]() |
شعر مترجم |
ألاعيب الذاكرة محمود جلبوط - سورية
كان يمشي عشواء على رصيف شارع من شوارع المنفى يعبر الدقائق القليلة الفاصلة ما بين السنة الماضية و القادمة عندما دوى فجأة انفجار شيء كاد يلامس وجهه ، نظر بحركة غريزية سريعة إلى الأعلى يلاحق الشيء الذي كاد أن يصطدم رأسه فرأى السماء تمتليء أنوارا ملونة كتلك التي تحدثها الألعاب النارية ، وانتبه من سروده أن الشارع الذي أغراه للتمشي على رصيفه يمتليء هرجا ومرجا وعربدة اصطدام زجاجات الخمر بأحجاره ، فأدرك لتوه أن السنة التي كانت للتو تلاعب ذاكرته قد رحلت : هاهي سنة أخرى تزيد في المنفى. في البدء أفزعه الانفجار المفاجيء و قد سهت الدقائق التي تصل السنة الماضية من السنة الآتية عن ألاعيب ذاكرته ، ثم هاقد عادت الذاكرة تواصل البحث عن شيء من دم ولحم لكنه متناثر بفعل قصف حقيقي لطائرات متعددة الأنواع ، حوامات و ف1 ولا تنتهي عند ف16 ، فتتناثر بهجة المكان الصاخبة بصور الذاكرة المتدافعة لدخان كثيف وحطام منازل وألعاب أطفال مردومة بانت أجزاء منها بالقرب من أشلاء بشرية ، يد هناك و رأس هنا ، قدم في إحدى الزوايا ، وفي زاوية أخرى ألبسة تحولت أسمالا وأغطية فراش وأسرة ، ولا يهم في لعبة الذاكرة أسماء الأمكنة ، فسيان إن كانت في لبنان أو فلسطين أو العراق أو باكستان أو أفغانستان ، مخيما في الشمال أم في الجنوب أم في الوسط ، في غزة أم في الضفة ، أم هي ناقورة1 ، 2 ، 3 ، أم معدلة ، مدينة كالفالوجة ، أم صيدا أم بيروت ، أم غزة ، فالدم واللحم هو دمنا والقاتل واحد ، إسرائيل وأمريكا ، أمريكا وإسرائيل . لا يدري إن كان قد ضاق ذرعا من ألاعيب الذاكرة أم من دوي الانفجارات ، أم من صياح الناس وعربدتهم ، ما يدريه أن كثافة النيران تسبب له ضيقا في تنفسه الضيق أصلا ، ولا تعود مشاعر الفرح العارم التي تسيطر على المكان حوله في هذا اليوم الإستثنائي من كل سنة بقادرة على أن تنطبق على ما أصاب روحه ، فهو ومنذ زمن طال لم تعد أروقة الفرح تتأهب لمؤازرته رغم كل ما بذل ، ولم تجد نفعا محاولات اقتفاء الأثر ، بل يشعر أن روحه قد تجعدت للدرجة التي لم يعد يجدي معها كل محاولات تسويتها بأي تسوية ولا حتى على حرارة المشاعر التي يحاولها معه من يحيط به من الذين يحرصون على استعادة لياقته وابتسامته. ما الذي حصل ؟ سأل نفسه . تهرب منه تفاصيل الأشياء ، لماذا لم يعد يذكر تراتب الأحداث ؟ „ألأن العهر يسود كل نشاط السياسيين حوله والكتبة؟ „أم أن الردة قد قتلتنا ؟أم „الأسرلة“ ؟ وأي „أسرلة“ هذه التي ندعي المعاناة منها ؟“ لا يذكر بالضبط متى بدأ انهيار الذاكرة ولا بأي أروقة تاهت ، كل ما يذكره أنه كانت هناك ذاكرة تداخلت حتى راحت تسد الرؤية. „لا ترمقيني أمي هكذا بعتاب ، أعذريني فلم يتبقى لنا من الذكريات ما ندافع به عن حاضرنا ، أن نستحضر أصالتنا ضد ما يحاولون „لأسرلة „وأمركة وعينا ، لقد قتلوا يا أبي ذاكرتنا ، مزقوها وعبثوا في محتوياتها وأعادوا تشكيلها بما ينسجم مع عولمتنا ، ولم يعد هناك فيها صورة أصلية لنا نصوغ من وحيها مستقبلنا“ . يتدثر معطفه بكلتا يديه ليتقي قشعريرة ألمت به في هذا الطقس الزمهريري ، أي ريح تثيرها تلك الريح به فتمزقه . تهب فجأة في وجهه نار ، وترتجف نفايات الألعاب النارية المتساقطة من السماء تحت قدميه . „كيف وجد الألم مكانا له فيك إلى هذا الحد يا ولدي والصدر قد ضاق بألمه إلى أضيق مما يتسع لكل هذا القهر؟“ تمتم في سره بينه وبين نفسه كيف أن جسد صديقه الذي مات على الضفة الأخرى من المنفى قد رق للدرجة التي لم يعد له حق بالعذاب . شعر بتعب شديد يسري في جميع أنحاء جسمه ، اتخذ له مجلسا على أحد المقاعد المنتشرة في محطة انتظار الترام ، يستلقي على المقعد علّ بعض من الوجع في ظهره يغادره : „ربما تهب عاصفة ثلجية تنزل في صدرك ألما ، أتعبت إلى هذه الدرجة يا بني ؟ نم فلعل مداعبة الغفا وحدها تهدؤك ، وانسى قليلا ، ودع العاصفة تمر . نم يا حبيبي ولا تخف فأنا سأسهر عند رأسك لأزكي الذاكرة فيك ، وأطرد الليل من حولك ، سأجلس على حافة أحلامك ، أسكن الألم فيك الذي لا يهدأ ، سألتحفك حتى الصباح . استرح يا بني وكفاك ما خسرت من روحك في خضم المآسي حتى شاب شعرك ، نم يا حبيبي فأنا سأجلس بين أنينك ووجعي حتى يطلع فجرك“.
محمود جلبوط
Comments 发表评论
Commentaires تعليقات |
|
|
![]() |
![]() |
|