![]() |
شعر مترجم |
الطريـق...!
مراد بوكرزازا - الجزائر
وأنت تسقط مديدا إلى الأرض...كنتُ أسرع الخطى لأتلقَّفك... كنتَ المشروع الوحيد الذي كان يمكن أن يتلقَّفني لحظة السقوط الكبير... لكنك كنت مستعجلا جدا... !! تراك كنت تركض لأفق تبدَّى لك فضاءً للأمان... أم أنك اكتشفت أخيرا النافذة التي طالما انتظرت انفتاحها... أم تراك ككل الموتى... !! الذين سبقوك... حملت سرَّك العظيم ومضيت... كم تحدث الناس عن موتك...
كنت تحتاج التفاتة بسيطة منهم... حين كنت حيا... لماذا لم تحاول الموت قبل اليوم... أكاد أجزم أنك كنت سترتاح قليلا... حدث كل هذا في لحظة خاطفة واحدة... كنت تخرج علبة الثقاب... وتحضّر سيجارة لاحتراق آخر... لم تقل شيئا ذاك المساء...وصمتك الجبار القاهر الذي لن أنساه كان مكابرا كما العادة، هل كان ذنبي أن أنصت إليك بهذا الشكل...؟! هل كان ذنبك أن صمتك ثرثار لهذا الحد...؟! من منا... كان المذنب... أيها الموت الذي اختطفت أحدنا... وتركت آخرنا للأسئلة...؟!!
في الليالي التي كانت المدينة تنام فيها ملء الجفون... وتحلم بصباح عاهر... كنت تقف عند مفترق الطرق... مشرعا صدرك للطلقات الغادرة... مسرجا قلبك للخناجر التي قد تخرج من جوف العتمة... رغم ذلك... كم كنتَ تحب الليل... وكم كنتُ أعشقه...!!
طفلين كنا... نركض بكل الصدق، بكل الانبهار الأول...مع أن صوت الصراصير، ونقيق الضفادع كان يزرع في النفس فراشا حائرا لخريف مباغت... في اللحظات التي كنا نسقط فيها إلى عمق القرارات السحيقة، كنا نحتمي بالأماني... خيباتي لا تنتهي، كلما قلت هنا سأحط الرحال، هنا سأرتاح، يطلق القطار صفيره، كي أبدأ رحلة همجية جديدة، قلت لي ذات ليلة شتوية ماطرة... أحيانا يخيل إليَّ... أن الألم خلقه الله لبعض النماذج وكفى... أجبتك، كم مرة فاجأنا المطر... كم مرة أدركنا الصباح ونحن نستسلم للتبغ الرديء، والحكايا التي لم تكن تنتهي...
دونما شعور أجدُني أحيانا عند عتبة البدايات... يوم تعارفنا، يوم التقينا للمرة الأولى... أحسست وكأنا سقطنا من سنة قديمة معتقة... "كنتُ أحبها جدا... وما زلت... على مقاعد الدراسة علموني... كيف أغني لها... لعيونها: تورطت فيها، صرت أنبض لأجلها، وفي المحطات العسيرة... كنت أقول في نفسي... يكفيني حضورها الكبير كي أستمر"
قلت لي... ولم أكن أختلف عنك كثيرا، كانت أجملهم على الإطلاق وفي الصيف العظيم الذي كانت ستروي فيه للبحر حكاية الرمل والبحارة... الذين عادوا محملين بسيرة الأسفار البعيدة... تعثرتْ... سقطتْ الجرة من على كتفها... كم كان موجعا ذاك المساء... لم تبكِ...! لكنها حين وحدها مع وحدها بكت طويلا، كما لو أنها تودع عزيزا...!! كنت أعتقد أنها مع أول الخريف... تبيح للطيبين فاكهة الأرض... لكنها الطعنات كانت تجيء من كل نافذة... هل جربت يا صديقي طعنة النوافذ.
يبدأ الموت هناك... بإغراء ماكر... وينتهي بمفترق طرق تقود كل الجهات فيه إلى الجحيم...! أرأيت كم توجع مفترقات الطرق...؟!
هل رحلت حقا...؟! هل صرت من سكان العالم الآخر...؟! يؤلمني الأمر جدا... حين أذكرك... أذكر الأشياء التي لم أقل لك أم أنك ككل المفاجآت الجميلة...تجيء متأخرا وترحل على عجل...! ألم يكن ممكنا أن تمنحني بعضا من وقتك كي أصل إلى منتصف الحكاية... ثم أجرؤ على الاعتذار للراوي...لأن النهار أدرك تدفق التفاصيل...! أكاد أجزم أن الراحل يقدم توطئة وداعه الكبير قبل أن يمضي...
ما معنى أن تحب الموسيقى بكل هذا الهوس... والرقص، لـمَ كنت تمارسه طقسا محببا إليك... في ليالي الراحة... كنت تسرع لأول شريط راقص...تشعل الدنيا بالغناء والصخب... لتقول أن الكرنفال في القلب بدأ... وأن طبول البدايات تقرع الآن كما لو أن كل الكون يحتفل.... كنت ترقص حتى يهدك التعب... وحين تتهالك على سريرك... تغرق في تأمل موخز...
وحدها لفافة التبغ – كانت تعرف: أينه الرماد الآن...كي أسأله عن رجل كان يقف على الرصيف... يشير للعابرين بدهشته فلا يعود إليه غير صدى حيرة ذاهلة...!!
في المساءات التي أعقبت سفرك إلى سماء بعيدة... بعيدة... كنت تكتب كثيرا من الرسائل... تذكرت القريبين جميعا... كتبت إليهم واحدا، واحدا... وكنت تقرأ لي بعض المقاطع... يظل الشاعر شاعرا...!
قلت لي وأنت تصف لي، لها... لهم... ما فعلته المحطات بمسافر اقتطع تذكرة للنسيان... وقف في مهب الريح... البرد... والانتظار... أ رأيت كم هو قاس الانتظار، مع أنه الخيط الوحيد الذي يربط بعض الناس بالكون...!!
كنت تختبئ خلف شجرة علَّك تنقذ آخر عود ثقاب... وحين اشتعال سيجارتك... جذبت نفسا عميقا... ألقيته في الهواء زفرة احتجاج ولحظة النفس الثاني... كان الرصاص يجتاح المكان... لم أختف كنت أبحث عنك.. وفجأة تراءى شبحك المترنح... "يدك اليسرى التي لن أنساها" كانت تتحسس قلبك...واليمنى رأيتها مشلولة... كنت تسرع الخطى إلى صدري (الميت...!!) غرقت في حضني، كان الدم ينزف منك...حارا متدفقا... لم أقوَ على حملك... تهالكتُ على الأرض... حملتُ رأسك بين يدي... وبكيتُ في (سري)،... - لا تخف إنه جرح بسيط...!! قلت لك لكنك ابتسمت بحرارة (بيتم...!!) - إني ذاهب إلى هناك...! قلتَ...! إلى ذلك النور... هل تراه... هناك... نعم... هناك...! ثم صمتَّ... لم تغلق عينيك كانت نظرتك إليَّ... وفي لحظة وجدتني وحيدا... معزولا...!! كان صوتك يملأ الأرجاء... "تراها تذكرني... نعم أحبها... الحلم... الربيع... الشمس... الأصدقاء... ذاهب... النور..." !
1995
|
|
|
![]() |
![]() |
|