ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

هويدا صالح - مصر

سبعة مقاطع من يوميات شجرة عارية
هويدا صالح - مصر

1. أغنية للجسد


كنتَ ما تزال تغزل الحلم اليوتوبي عصافير ملونة وأوراق.. وتطيرها في فضاءات متخيلة.. لمن تهدي قصائدك وأحلامك.. كنت أقبع هناك منسحقة أسفل رجل يداوم على التفنن في تعذيبي.. ليس لشيء سوى أنني رددت اسمك مرة.. مرتين.. ثلاث.. لم أعرف كيف أنتزعك من تحت جلدي... كثيرة هي المرات التي أتهمتك بالخيانة... فقط حتى أكرهك.. كنت تغني لحلم سقط على البوابة الشرقية.. وأنا فقط أتحايل حتى أتجنب عذابات الروح والجسد.. كل تعاويذ روحي لم تفلح في جعلي أتحمل جسده الثقيل... ولم تفلح في إقصاءك من زاوية الروح، كنت أشعر أن روحي شاخت.. ظللت تنتصب في الروح.. وظل هو يعذب جسدي.. ترى من جاء بك الليلة إلى حلمي.. رأيتك اليوم طائراً أبيض جميلاً.. يقترب مني.. يلمس جوارحي ويطير.. ويعاود الرجوع إليّ.. من جاء بك إلى حلمي.. عيونك حزينة.. تراك تحزن على أي حلم ضاع منك بعدي... أعرف أن روحك تناديني... حين ودعتك علي الجسر الصغير خارج مدينتي.. وعدتك ألا أنساك.. ووعدتني أن تهدهد حلمي المغزول بأناملك.
 

- 2 -


نزلت من القطار المتجه جنوبا، اتجهت بخطوات متوترة إلى السلم الخشبي الذي يفضي إلى خارج المحطة، تنظر في عيون الصاعدين، تبحث عن وجوه كانت مألوفة.. استوقفها ولد صغير.. تمتد يده بكيس المناديل... عيونه الصغيرة فيها توسل... ابتسمت ودست في يده النقود... أحصى النقود بعينيه الصغيرتين.. وقفز درجات السلم عائداً لأمه الجالسة على الرصيف تعيد ترتيب بضاعتها.. نظرت الأم حيث أشار الصغير وابتسمت بدورها...
واصلت درجات السلم بقلب واجف... اتجهت إلى الشارع المقابل للمحطة، تتلفت حواليها تبحث عن لافتة تحمل اسم الشارع، فلم تجد. سنوات مرت منذ أن افترقت عن كل شيء... عاودت النظر... كانت هناك لافتة تحمل اسم شارع قديم، حين قررت أن تعود إلى مدينتها التي لم تفارق وجدانها رغم مرور السنين، فرحت وكأنها ستعود إلى ذاتها التي انفلتت منها وضاعت في غبار العاصمة وقسوتها، أخرجت من محفظتها صورة صغيرة مرسوم في ناحية منها شجرة عارية من الأوراق تتساقط عليها الثلوج والناحية الأخرى نتيجة العام بحثت في شهر ديسمبر لتتأكد من الأيام الباقية على السفر.. حين يهل العام تحرص على أن تنام شجرتها العارية في محفظتها.. وتغيرها في العام القادم... لا تلقي بأشجارها العارية بعد مروره.. فقط تضعها علي نتائجها المنقضية في درج مكتبها.. وفي نهاية ديسمبر من كل عام.. تحصي أشجارها العارية.. وعمرها المنفلت هكذا مثل مياه تسربت داخل رمال صحراء عطشي.
 

- 3 -


حبيبتي أنتِ شجرة عارية وحيدة تقفين منتصبة في الروح
هل أنتِ قادرة حبيبتي علي مقايضة أحلامنا ببيت يكون لك وحدك؟
هل أنتِ قادرة علي الفرار؟
ظللت تنسجين بخيوط واهية رهيفة أحلامنا
ثم تركتني واقفاً هكذا لا أقبض على شيء
إلا بقايا لمستك في محطة وداعك الأخيرة
فررت من غابة حزني
قلتِ لا أقدر على محاربتهم، أنا اليتمة الضعيفة
قلتُ لكِ سنتقوي بحلمنا.. ولكنك فررت
لم تقدري علي تحويله لحلم واقعي
لم تقدري على تحمل نيراني المقدسة
هل أنا بقادر علي نسيانك
حزني صار بعضاً مني
فلمن تهدين عطر روحك
أحاول المرور من فتحات الروح، فتضيق
لا أجد إلا أحلام البسطاء تعوضني عن حلمي الضائع
ليلي بارد إلا من دفء بعض الأصدقاء القدامى
كل شيء كما تركته يوم استبحتي دمي... فقط فررتِ
 

- 4 -


حين خرجت من باب المحطة لم تستطع مقاومة رغبتها في الذهاب إلى مكانها المفضل، مقهي سافواي، مازالت واقفة في مكانها تبحث عن اسم الشارع في الذاكرة، همّت أن تسأل أحد المارة، لكنه قفز فجأة إلى ذاكرتها فهمست شارع المحطة.
المطعم الصغير الذي داومت علي تناول طعامها فيه تغير تماما، المرايا الملصقة على الجانبين تعكس شحوب وجهها، اختارت مائدة مواجهة للمقهي، ترغب في أن تكون قريبة من حلمها... المقهى صاخب قبل ساعة الغروب.. شمس ديسمبر الضعيفة لم تدفئ ارتعاشة يديها.. فركتهما وعادت برأسها للوراء. الصداع عاودها مرة أخرى. بأصابع متشنجة تخرج من حقيبتها علبة الحبوب المهدئة وتتناول حبة وتضع الزجاجة الصغيرة أمامها، ثم تمد يدها وتتناول حبة أخرى رغم تحذير الطبيب. الألم بدأ يزول، جلست تراقب الجالسين على المقهى.. كانت قريبة بالقدر الذي مكنها من رؤية الشاهد على كل أحلامها الضائعة.. مكانها المفضل... وصوت ضربات الطاولة يأتيها واضحاً.. تحاول الإنصات، ولكنه يغطي على تعليقات اللاعبين. صوت ضحكاتهم المرتفعة يعيد إليها لحظاتها التي كانت دافئة. كانت تتضايق من صخب المكان وتحاول أن تغير مكان لقائهما ولكنه كان يخبرها بعشقه له وحبه لدقائقه، يبالغ في وصف سريالية الحوائط وبقع الشمس المتسربة من بين أوراق العنب.. تضحك ولا تتعاطف مع صوره التشكيلية التي يصورها.. ولكنها تواصل المجيء معه.. لتعايش دقائق أشيائه التي تفرحها.
 

- 5 -


حبيبتي انظري لخيوط الشمس المنفلتة من بين أوراق تكعيبة العنب
ترسم دوائر من الضوء اللامع..
رائحة الأرضية الخشب، الحوائط المطلية بالجير المتكلس الذي تساقط بعضه
تصنع سريالية جميلة..
ها أنت تري الجمال حتى في الجير المتكلس
سرياليتك متخيلة
إن هي إلا قطع من جير متهرأة
لا تحزن.. لا بأس حبيبي... أحلامك تفرحني
رؤيتك للأشياء فقط مختلفة ومدهشة
صخب روحك يربكني
لكنني لا أقوى على محاربتهم دونك
وأنت فقط تحيا لتحلم
الحلم حلو ولكنه لا يرد اتهامات الأهل.
لا أقوى على التحليق بأجنحة متخيلة.
تبتسم لأشيائه الجميلة المفرحة وتظل تحضر معه إلى مكانه المفضل، وتجلس بين أصحابه تشاركهم صخبهم ومرحهم وآرائهم الثورية، وتهمس له:
ابتسامتك تملأ فضاء روحي.. فيقبل كفها دون الخوف أو الخجل من الجالسين.. يطيل النظر في عيونها ولا يخشي الرجل الذي يغير له نار الشيشة.. تنظر إلى الرجل الذي يداري ابتسامة واهية... تسحب كفها وتعنفه على جرأته.. يتواطئ معه الأصدقاء في الضحك.. فينصرف الرجل.. وتنزوي هي في خجلها كدودة خرجت من التو من شرنقة تخنقها.. ترفع عيونها خجلة وتمسك بالنعناع الأخضر تغمسه في الشاي.. ينصرف هو إلى الطاولة... وهي تتلذذ بوقع شفاهه علي كفها.. وفي الليل يرتعش قلبها كلما تذكرت هذه الجرأة التي تأسرها.. تشعر الآن بأصابعه وهي تقبض علي أصابعها ودموع محبوسة في عيونه ساعة الوداع حين تركها واتجه إلي شارع الحسيني. ساعتها تسمرت في مكانها وكأن أوتاداً عظيمة ثبتت أعضاءها للأرض. لم تستطع المقاومة.
صرخات خالتها أرجعت الكلام إلى حلقها مرة أخري.. لا تفهم كيف ستجلب لها العار إن هي رفضت رجلا تقدم لخطبتها، لما وجدتها تبكي حد التشنج تلطفت معها في الحديث، ذكرتها أكثر من مرة أن زوجها فعل الكثير من أجل تربيتها، عددت لها مزايا رجل يكبرها بعشرين عاما علي الأقل، لم تجد اليتيمة الضعيفة إلا الموافقة.
لقد تلذذ كثيرا بألمها وصراخها.. عرف بعد زواجهما بقليل من أحد أصدقائه بعلاقتها السابقة بخالد. ولما زاد الضغط عليها لجأت للطبيب النفسي.. لم تستطع جلساته الكثيرة أن تمحو آثار عذابه عن روحها.. أدويته تدخلها في متاهة ولا تزيل آثار التشويه عن جسدها، البقع السوداء والحروق.. تحفر لنفسها جيدا.. تغوص الحفر حتي العظام.. لم ينقذها من هذا العذاب إلا موته الدراماتيكي، بعد مرضه الذي أضاف إلى معاناتها فصلا جديدا، مات وحيدا ومتألما في غرفة باردة في معهد الأورام. لم يجد بجانبه أحداً غيرها. حين كانت تراه متألما وضعيفا لا تصدق أن هذا الرجل هو الذي كان يقيدها ويظل يضربها حتى تغيب عن الوعي، بعدها يغتصبها. موته كان بمثابة الخلاص لروحها. وضع حدا لآلامها النفسية رغم أنها ما زالت تذهب لطبيبها ليرفع عنها عبء الكوابيس والأحلام المرعبة.. ترى نفسها في حلم يتكرر.. تغتصب أمام حبيبها وهو واقف يراقبها ويبكي، ولكنه لا يقدر علي تحطيم الحاجز الزجاجي الشفاف، فيرقبها فقط ويبكي. كانت تهمس باسمه في أحلامها، فيغضب زوجها ويزداد تعذيبا لها. لم يستطع أن يقهر توغله داخلها. وهي تقسم له أنها نسيته تماما ولكنه لم يصدقها يوما.
 

- 6 -


المقهى يزداد صخبا.. بعد غروب الشمس.. يهل عليه الأصدقاء القدامى.. مازالت تراقب الجالسين يلعبون ويضحكون. سقطت دمعة على كفيها المتكورتين أسفل ذقنها. انتبهت إلى الفتى الذي أحضر طعامها وهو يرقبها في فضول. أطالت النظر إلى عينيه العسليتين، فارتبك وأحضر لها فاتورة الحساب، لفت نظره مظهرها ولهجتها سألها في خجل:
- حضرتك من المنيا؟
قالت في تلقائية:
- من عزبة الخشابة.
قال في ود:
- خليها علينا حضرتك
وأعاد إليها النقود، ولكنها أصرت على ترك النقود على الطاولة، وخرجت.
كورت كفيها في جيوب المعطف الجلدي واتجهت إلى المقهى. دخلت من الباب الجانبي. تذوب شوقا ولهفة إليه، إلى كل الأشياء كأنها تركتها منذ قليل.. كأنها لم ترص في درج مكتبها عشر ة نتائج لأشجار عارية وحيدة يساقط عليها الثلوج... الشرفة الخشبية، تكعيبة العنب، الشجيرات الصغيرة المنبثقة من الحوائط الحجرية البيضاء.. كان يصف لها شجاعة وقدرة هذه الأشجار الصغيرة المحاربة التي تتحدي قوانين الطبيعة وتنبت من بين أحجار بيضاء لحوائط قديمة... المقاعد الخيزران وكوب الشاي بالنعناع من يد عم حسين. دخلت لم يلحظها أحد، كانوا متحلقين حول مائدته وهو يلاعب أحدهم الشطرنج. الرجل الجالس أمامه منهمك في تحريك القطعة السوداء. العيون معلقة بيده. حين حركها امتدت يد خالد بسرعة وحرك قطعة الحصان البيضاء. عاد إلى الوراء برأسه وقال في هدوء وثقة قائد معركة أدارها بمهارة.. كش ملك، مات يا جميل.. يضج الجالسين بالضحك.. يشيح صديقه بيده ويعنف الجالسين، لأنهم أربكوه بتعليقاتهم ومزاحهم... يقول أحدهم:
- إيه يا سيدي هتتهرب من دفع الحساب؟
ويرد آخر:
- ده اتفاق رجالة.. أنت خسرت وهتشيل الليلة.. يا عم حسين.. هات حسابك..
يضحك خالد ويقول:
- بالراحة يا جماعة أحسن هيعيط.. خلاص يا سيدي كفاية عليك الغلب وأنا هشيل الحساب..
- بس اعترف يا خلود إن الدور كان لي من الأول بس ولاد الهرمة دول لخبطوني.
لم يلتفت إلى وجودها، لم يشم عطرها المميز.. نسي جدالهما الكثير حين يشتري لها " أزارو" ويقنعها أن "رومبا" شعبي ولا يليق بأميرة مثلها.. هي الآن تفوح منها رائحة عطرها المفضل لديه.. وهو لا يشمه. لم ترقص روحه حين دبت بقدميها على الأرضية الخشب. انسحبت إلى الشرفة، وجلست في ركن مظلم تراقبه، وتراقب جديته الشديدة في مناقشة أوضاع البلد التي لا ترضي أحد. اكتسي وجهه بالصرامة والأسى بعد بهجة اللعب والضحكات الصاخبة. قادر هو مازال علي الجدل والنقاش. لم يلتفت إليها أحد إلا النجيمات البعيدة التي تبص عليها وتلحظ انسحاقها. سمعت صوت أقدامهم ينصرفون. قامت لتنظر إليه نظرة أخيرة. تراه بينهم خيالا مرتعشا في الضوء الباهت المنسرب من باب المقهي. في لحظة حاولت أن تنادي عليه أو تلفت نظره لوجودها، ولكنها لم تستطع إخراج الكلمات من فمها فخرجت، وفي الطريق قررت أن تعود غداً، لتراه عله ينقذها من كوابيسها التي صارت تلازمها مثل جلدها، موت زوجها أنهى عذابها، ولكنه لم يحطم الحاجز النفسي الذي يغرقها بكوابيسه.....

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا