![]() |
شعر مترجم |
نعمان إسماعيل عبد القادر - المغرب
توجه بعضهم إلى بيته مساء يوم الجمعة، وكان لديهم ثمة رجاءٌ في وساطتهم .. وهم يأملون أن تنجح في التخفيف من أعباء الديون على "إبراهيم الدوّار".. هذا الذي يعمل في مصنع للحلويات في "رمات جان"، وأملوا أن تقلل زيارتهم هذه من الفائدة المتراكمة عليه، وتنقذ الأسرة من التهجير والبيت من الضياع سيما الزوجة والأولاد. ولمّا لم يجدوه في منـزله، اتصلتْ به زوجته التي خرجت لتوها إليهم وهي تمسك بيد ولدها الصغير الحافي، هاتفيًّا، وطلبت منه مغادرة الحفلة والحضور إلى بيته ضروريًا. فحضر مع أحد رجاله المسخّرين بسيارة الجيب الفخمة اللامعة، ذات الدواليب الضخمة، والمقاعد المغلفة بالنايلون الذي وضعته الشركة ولمّا يتم إزالته بعد.. إذْ ذاك أرادوا أن يجربوا، فليجربوا! ولم يكن ثمة مانع من العدول عن التجربة.. لربما قد تنجح جهودهم وتأتي بنتائج مرضية. وما داموا لا يخسرون شيئًا فليحاولوا. وليس في الأمر أي عيب. وهم رجال إصلاح. والمحاولات إنْ لم تنفعْ فإنها قد لا تضرُّ أبدًا. ولكل مشكلة يوجد حل، ولو كان مؤقتًا. سرعان ما كُسفتِ الأضواء في وجوههم وانكسفوا وليست النتائج كما كانوا يظنون. وإصرار "أبي القمر" على رأيه هو الذي كسفهم وأبى ثم أبى وبالحرف الواحد إلا أن يحصل على الفائدة التي حددها الاتفاق كاملةً عدًّا ونقدًا وفي خلال شهرٍ من الآن. قالوا له إن الربا حرام يا رجل! فأظهر لهم عدم اهتمامه لا بالحرام ولا بالحلال. وأسمعهم كلمات لاسعةٍ لسعًا خفيفًا لا ضوضاء له ولا ضجيج. وما يهمه الآن هو أن يأخذ حقه كاملا دون أن ينقص منه فلس.. هذا شغل! والشغل مش عيب ولا حرام. والحرام هو الاعتداء على حقوق الغير. وهذا الأمر مرفوض. وليش أسيادنا الشيوخ حراس الدين فاتحين حسابات توفير في البنوك وبيوخذوا فائدة؟ كانت هيئته في يوم من الأيام توحي للخلق أنه من أبناء الفقر المتحذلقين .. وتهامسوا: "إن الفقير إذا تحذلق أثار في النفس ضغينةً، وحرك في القلب حقدًا، وأنبت في أرضه مشاعر الكراهية، وأصبح مارقًا..". وليس بالضرورة أن يتزوج الفقر أمه ليصنع منها ولدًا فقيرًا ممارسًا. وليس بالضرورة أن يعيش حياة الفقراء ويتمرغ فيها طمعًا في دنياهم. وهؤلاء صناع القرار "المتمنطقون" وخصوصًا إذا ذاقوا طعم الفقر بأطراف أصابعهم ولعقوه بألسنتهم انتقموا من الناس جميعًا. وصبوا جام نقمتهم في آذان الفقراء وفي فوهات قلوبهم. وانشغلوا في إرضاء أرباب الجيوب المنتفخة. أما مشيته.. ملابسه.. شعره.. وكله كان طيشًا في طيش.. ولكن فلسفته كانت أكثر طيشًا. وقال عنه الناس إنه من "سخام القدر وشحارير الزمان وسناج فقر ومن ظَهْرِ خادم". ودائمًا يقول بثقةٍ تامّةٍ يقظةٍ :" إذا أُعطيتُ الإمكانيات اللازمة فلسوف أٌقوم ببناء المراكز العلمية ومن ثم أطير إلى القمر بسهولة. ولذلك أخذوا ينادونه "أبو القمر". كثيرًا ما أثار في نفوسهم الغضب والحسد حين تفاخر أمامهم بنسبة ذكائه العالية التي حددها العالم النفساني حين حضر إلى المدرسة وفحص بعضًا من طلابها بناء على طلب خاص من قسم التربية والتعليم في المجلس المحلي.. قال له أحد المعلمين عشية توزيع الشهادات على الطلاب في المدرسة: " أنت مستقبلك باهرٌ، وبإمكانك أن تصبح معلمًا" " معلم! لا قدّر الله.. كاد المعلم أن يكون قتيلا!.." لم يكن ليهتم بطعامه قدر اهتمامه بقراءة الكتب والجرائد.. ولا بملابسه قدر اهتمامه بمذكراته.. ولا بالفوضى السائدة في غرفته قدر اهتمامه بتطور مجتمعه.. الملاحظات التي كان يبديها للناس لم يلقوا لها بالا، وأحيانًا كانت تجلب له بعض المشاكل أو يتلقى الانتقادات اللاذعة..كان يؤمن أن الأفكار والمشاعر البشرية لا تنتقل بالوراثة. إنما تتأثر بتأثير البيئة وظروفها. وأن الله قد خلق الدماغ من أجل تشغيله لا من أجل تخزينه وتعطيله. والدماغ فيه خلايا تسمى الخلايا الإبداعية إذا اشتغلت كما يجب وفي الوقت المناسب، ولّدت إبداعًا وأظهرت إنتاجًا. فعلى الإنسان أن يقرأ ويعي ما يقرأ. وأن الإنسان المنتج ينال رضى الآخرين في الدنيا ورضى الرب في الآخرة. ومهما كانت عقيدته يبقى إنسانًا يحس ويتألم ويفكر. ولو وضع الدين جانبًا واستخدم العقل أيما استخدام لوفقت البشرية وعاشت أسعد حياتها وأهنأ أيامها. ومات الفقر ميتته الأبدية الكبرى. واختفى وباء الجوع من الوجود، وسطع النور الإلهي على الأرض الطيبة... والدين هو أحد السبل التي ابتكرت قديمًا من أجل إسعاد البشر، وإذا صار الدين عقبة في تحقيق السعادة وجب التخلّي عنه وأصبح من الواجب البحث عن وسيلة أخرى لتحقيق هذه الغاية الشريفة. وقف مرةً أمام عمال من العرب يشتغلون في تنظيف القمامة، وجمع الأوساخ في حاويات كبيرة، في أحد الشوارع في تل أبيب، وعلى ما يبدو تدل ملامحهم على أنهم جاءوا من الضفة الغربية أو من قطاع غزة.. ملابسهم الرثة تزينت فرصِّعَتْ بفسيفساء من بقع الأوساخ الكبيرة، أذقانهم التي لم تلمسها شفرات الحلاقة منذ أسبوع تقريبًا بدت كأنها مغروزة بإبرٍ حادة.. إذا ما هبط عليها الذباب هبوطًا عفويًا أو اضطراريًا سرعان ما يندم ويفر مذعورًا من رائحة عرقهم الخانقة.. يطرن قبل أن يرفع أحدهم يده ليذبَّها عن وجهه.. وبدت أجسادهم، الهزيلةُ كل الهزل، كالعنزات المحبوسة التي لم يقدم لها الطعام منذ فترة طويلة.. تأملهم بعض الشيء ثم وقف فيهم خطيبًا واعظًا في صوت ينم عن تعاطفه مع مرارتهم التي يذوقون طعمها كل يوم: " يا للتعساء!! أين أنت يا هذا! مكان عملك يجب أن يكون في مكتب المحاماة تجلس على كرسي مبطنٍ وترتدي الملابس السوداء وتدافع عن المنكوبين التعساء والمظلومين..وأنت يا هذا! عليك أن تكون مهندسًا تضع الخطط اللازمة لِلْبُنَى التحتية وتشرف على بناء العمارات الضخمة وتجهيزها لتكون مأوى للفقراء والمساكين. أما هذا فالطب هو المجال الوحيد الذي سينجح فيه وسيخفف من آلام هذا الشعب. صدقوني إنكم خير مما تظنون وتستطيعون أن تثبتوا هذا بتفكيركم واجتهادكم، تحرروا من الجهل ومن الخوف ولا تترددوا! تحرروا من عاداتكم وتقاليدكم!! ومن عبوديتكم للجهل والفقر! وكونوا من المتحررين!!". وكان في شبابه قد أحب ابنة الدكتور "مظفر الشامي". كان يراقبها في غدوها إلى مدرستها ورواحها منها.. يتظاهر أنه منشغل في قراءة الجريدة أثناء جلوسه في شرفة بيته. ينظر من وراء صحيفته بعينين متقدتين.. وقد رأى فيها كل الكمال الذي فاق كل الاعتبارات.. وهذا هو الذي كان ينشده والذي طالما تمناه وافتخر به أمام بعض زملائه.. جمال جذّاب.. قوة شخصية.. وذكاء.. ولم تستطع واحدة من "الواساطات" الثلاث اللاتي كلفها بمهمة خطبتها له إقناعها أو إقناع والديها بالموافقة على الزواج. وقالت لعمته ساعتها بصوت أنثويٍ ناعم، رقيقٍ منغم، مشبعٍ بأصوات من الدلال: - " أنا.."سوسن" ابنة الدكتور "مظفر الشامي".. تريدون مني أن أتزوج من إنسان مثل هذا! فقير يتيم "كحتوت" لا يوجد فوقه ولا تحته أي شيء! ماذا ستقول عني زميلاتي! ماذا سيقول عني زملائي الطلاب عندما أدخل الجامعة؟ أنا لا أفكر في الزواج الآن. تعليمي أهم من كل شيء".. انتقلت تلك العبارات بانفعالاتها من بيت إلى بيت مع قليل من الزيادة الطبيعية التي تصاحب نقل أخبار الخطبة والزواج..ألسن النساء تناقلتها في كل مجلس وناد.. في العيادات العامة.. دكاكين البقالة والخضار.. ومجالس عتبات البيوت.. وكانت تصل التقارير له أولا بأول.. واستمع إليها استماع الخاشع في صلاته متأملا كل كلمة رُددت وفُسرت وعلِّقَ عليها.. فَكَشْخَرَ كشخرةً قاسيةً وأقسم يمينًا غليظًا على أن يستمدّ من ذاته "قوة ذاته"؛ ليتمكن أن يُطلّق الفقر ثلاثًا.. طلاقًا أزليًا لا رجعة فيه.. وأن يبدله بالغِنى بشتى الوسائل والطرق.. وأن يثبت لهذه المحروسة صاحبة الظل الطويل أنه يستطيع أن يسبح في بحر من المال دون أن يغرق فيه. والتلاعب بالمال ليس أمرًا في غاية الصعوبة.. وبإمكانه أن يتزوج فتاة أخرى أجمل منها.. تعرّف على الصرّاف "موشيهْ" في مقهى من مقاهي "تل أبيب" والذي يشتغل في تبديل العملات الأجنبية وصرافة الشيكات. أخذ يراقب عمله حتى أتقنه في مدة قصيرة، ثم قويت العلاقة فصار العمل بينهما مشتركًا. ثم اتسع المال فأخذ يقرض الناس بالتقسيط المريح المرتبط بالفائدة التي يتم الاتفاق عليها مسبقًا. ليلة زفافه أحرق أمام عروسه خمس أوراق من فئة المائة دولار بقشة كبريت واحدة.. تدفأ عليها ثم عفر رمادها على رأسها ومسح به وجهها ويديها في انتشاء وغبطةٍ.. ثم تمعن فيها تمعنًا غريبًا أثار فيها الشك وجعلها تحس بالخوف من مجهول ينتظرها. تذكر "سوسن" التي نعتته بكلمات جارحة ودمغته بـ"الكحتوت"..لا ولن ينساها طوال حياته، وتصورها تقف أمامه بحلة جلوتها البيضاء الملكية يقدم لها باقة من الزهور الملونة، ويناولها علبةً مليئةً بالذهب والجواهر ويلبسها عقدًا من مصنوعًا من لآلئ البحر الأحمر. وقال في نفسه:" ليتها تعرف من أنا الآن.. أنا لم أعد "كحتوتًا" ضعيفًا ولا فقيرًا بائسًا يا ابنة "أبو مظيفر" أفندي. استيقظ حين آذن الفجر على الرحيل. ومع انبلاج الصبح، حزم أمتعة السفر وأخذ عروسه الجديدة وطار بها إلى أستانبول لقضاء شهر العسل، الذي كان يتمناه، وكان قد وعدها به من قبل وخطط له جيدًا.حين اتسعت به الدنيا اشترى أرض "عزبة الضباع" من أصحابها الذين حين عرضوها للبيع، والتي دفعوا لهم فيها مائة ألفٍ من الورق الأخضر.. ولكن أبا القمر سارع إلى إضافة عشرة آلاف دولار أخرى وخرجت من نصيبه. وبنى عليها عمارة سكنيةً تتألف من عشر شقق، باعها وجنى من ورائها ربحًا كبيرًا.. ثم بنى بجانبها بيتًا كبيرًا شبيهًا ببيوت الملوك.. خرج القوم من قصره مكسوفين مخذولين، وقد شعروا أن دالتهم لم تجدِ نفعًا.. وآنئذ ٍغشيتهم الدهشة وخالطهم إحساس بالاستياء والغضب والفشل. وارتفعت حرارة أجسامهم التي فاقت حرارة ليل تموز، وهم لا يدرون ماذا يفعلون. وأثناء توجههم إلى الجامع المجاور، انتظارًا لأداء صلاة العشاء، غمغم يونس بصوته المخنوق "المخنخن"، وهو يشعل سيجاره الذي لم يتوهج طرفه إلا بعد إشعال قشة كبريت ثانيةٍ قائلا: _" يا الله! قديش المال بعمي البشر، وقديش بخلّي الإنسان يجحد!! ليش بحكي معانا هيك؟ كل الحق على إبراهيم الدوار. وأنا متعجب مِنُّه هذا الزلمي كيف أخذ هذا القرض مع إنُّه بيعرف إنُّه الربا حرام في حرام على الطرفين: الرابي والمرابي". بعد أن أسكتهم الصمت القاهر لإرادتهم، دقيقةً واحدةً، هتف أبو راضي في ترحُّمٍ قائلا: -" يا أبو فؤاد قديش قلنالك الزلمي غِلِطْ غَلَطْ إكْبيرْ، بَسْ كان محتاج كثير.. لا البنك قِبِل يعطيه ولا الناس شفقوا عليه وأعطوه، وهالمسكين بدو يجوِّز بنته. يعني شو يعمل؟ وتجهيز العروس اليوم بكلّف إكثير. والناس صاروا محكومين للعادات والتقاليد وللنسوان اللي ما بترحم". -" من كان يصدق إنُّهْ هذا الشيء بصير في بلد مثل "أم المقاهي"؟! أنا في تصوري، لازم نجمع تبرعات من الناس ونبحث عن متبرعين من أهل الخير وعلى الأقل ننقذ البيت المرهون من الضياع. وبهذي الطريقة بنقدر ننقذ العيلة كلها من التشريد، وإن شاء الله ربنا بِعِينّا". وضعت اللجنة أجندتها الأساسية في اجتماعها الأول.. وتجنّدت للعمل المباشر.. أبوابٌ وأبواب طُرِقَتْ، ولم يلبث خطباء الجمعة من على منابرهم في المساجد فتشمّروا للوعظ والإرشاد. وجعلوا يحذّرون من عاقبة ارتكاب الكبائر والموبقات التي حرّمها الله على الناس ضاربين المثل تلو المثل، والحديث تلو الحديث، والآية تلو الآية. واندفعوا في خواتيم خطبهم يحثون المصلين على التبرع بسخاء لإنقاذ "العائلة المستورة". لجنة الزكاة قدمت ما استطاعت أن تقدم. ولما يمضِ أسبوعان، حتى جُمعت ثلاثة أرباع المبلغ الذي اشترطه "أبو القمر" على ضيوفه، كي يتنازل لهم أمام المحامي، عن بيت "الدوار" وأملاكه التي رُهنت حين أُخذ القرض. والربع الآخر المتبقي تبرع به "عبد الكريم" صاحب السوبر ماركت الكبير- القريب من "دوّار العين"- على أن يسددوا له نصفه بالتقسيط المريح. وضع المال أمامه على طاولة مستديرةٍ وأحضر المشروب البارد.. وحين عدّه قال لهم: -" يا جماعة! إنتو بتعرفوا اليوم إنُّهْ أهم شيء في الدنيا هو المصاري. وصاحبك هو جيبتك.. واللي معُهْ فلس الناس بتصفقلُهْ واللي ما في معُهْ الناس بتطقعلُهْ.. وهيك هِيِّهْ الحياهْ إشو أعمل إلكم؟"
|
|
|
![]() |
![]() |
|