![]() |
شعر مترجم |
المــــدرس...!!! مراد بوكرزازا - الجزائر
بعد أيام... ربما سافرت روحي... إلى سماء سحيقة... إني أودع الناس... الدنيا... وأخرج من ساعات نهار... من توقيت ليل... إلى مدار بعيد...! كل صباح... أكتشف أني أذهب لضوء باهت... وأدخل نفقا طويلا... كالألم... - هل حانت ساعة الرحيل...! وأنت هنا... إلى جانبي... تدارين شهقة... ودمعة متحجرة... لم يعد كذبك –الجميل- ينطلي عليّ: - قريبا.... تقوم... حتى ملامحك... لم أعد أتبينها جيدا... بالكاد صرت أتعرف إليك... أتعرف لطيف حميم... يقف عند وسادتي... يمنحني جرعة أمل كاذب... أو يدثرني في ليالي الشتاء الباردة... أشعر بذنب فادح الآن... منذ كم سنة وأنت هنا... على سفوح اليأس... ترددين أغنية للوهم... قريبا تنطفئ المصابيح... يسدل الستار... وتدخل الحكاية... قلب النسيان... لن أنساك... سأحاول بكل ما أملك من قوة أن أذكرك... أن أذكر صغيرتنا الوحيدة: - بسمة...! لكما الله...!! * * * منذ عشرة أعوام... أو ربما أكثر التقينا... كنت قد أنهيت سنتي الثانية بالتدريس... وأدخل الثالثة... وكنت تدخلين للصف في عامك الأول... تحملين مجموعة كتب... وخجلا طفوليا باهرا: - لا أكاد أفرق بينك... وبين التلاميذ...! كانت جملتي الأولى...! - لها الرد ... أبدو صغيرة... كان ردُّك الأول...! ويوما بعد آخر... كنت تكبرين...! في عيون الأطفال الذين أحبوك... في قطع الطباشير التي كانت تملأ جيوبك... في الإرهاق الكبير... عند آخر النهار...! - أنت تجهدين نفسك زيادة عن اللزوم...! عاتبتك بحنو عند باب القسم...! - قليل من التعب يكفي... كي أدرك القمر...! ابتسمت... وأنت تسوين خصلة شعر... سقطت على جبينك...!!
وتزوجنا... - كان يجب أن أنتظر ثلاث سنوات كي ألتقيك...! قلتُ... - كنتَ أجمل تلميذ... وأجمل هدية في عامي الأول...! أجبتِ...! لكن الربيع ما عمر طويلا...! فجأة...! وجدتُنَـا... تحت المطر... في شتاء بائس... خمس سنوات... مضت... ونحن هنا... في بيت واسع... دون ضجيج... أو صراخ طفل. دون أن أدري تغيرتُ...! لم أعد العاشق... الذي يقصد عشه ملهوفا... صرت أمقت البيت... أسهر طويلا... في محاولة للفرار مني...: - كنت رفقة الأصدقاء...! كلما دخلت عند الفجر...! ولم تعودي... التلميذة... المدرِّسة... التي التقيت... من كتاب تهربين... إلى سرير منفرد... - بي رغبة جامحة في النوم...! تقرين... كلما التقت نظراتنا...!! * * * في نيسان الذي لن أنسى... عادت الشمس لنافذتنا... في المساء... الشاعر... المغاير... كنت... ألقي الجثة على الأريكة... وأتخلص من محفظة... ثقيلة... بالدروس والهموم...! كنتِ تقفين... بمحاذاتي... وتبتسمين...! نظرتُ إليك... وجدت شبها كبيرا... بينك وبين التلميذة الجديدة التي جاءت مدرستنا في اليوم الأول... صببت القهوة في فنجان... - ارتشف.... كي أسعدك بالنبأ الجميل... وأنت تناولينني... الفنجان... - حدسي يقول ... وأنا أشعل لفافة تبغ... - إني حامل ...! في لحظة... تراجعت الصحراء... تهاوى الصمت والخواء... ومن الجدران... طلعت حدائق كالجنة... فيها خضرة... فيها نافورة... وامرأة حبلى مني - أحبك...! سقط الفنجان... سقطت لفافة التبغ... قمت مسرعا... احتضنتك... كانت يداك تسبقني: - متى حدث الأمر...! قلت بلهفة... - يقول الطبيب إني في شهري الثاني... أجبتِ وأنتِ تحضنين بطنك... ركعت... وضعت رأسي... على ضفة الحلم... - أدعوك رسمياً لعشاء فاخر... خارج البيت...! وفي المطعم الذي احتضن قصة حبِّنا... قلت للشمعة: - إن كان ولدا... نسميه فاتح...! - وإن كانت بنتا... نسميها بسمة... قلت وأنتِ تخفين يدك بين يديّ...!!! * * * وجاءت بسمة...! انتظرتها طويلا... أرهقتني الليالي... وأنا أرقب صرختها... وجهها الصغير... شعرها الذهبي... بكاءها... - إنها تشبهني جدا... قلتُ - انظري إلى عينيها... استطردتُ... وكنتِ تضحكين...! كنت سعيدة... ببسمة... بسمة التي أحالت بيتنا إلى حلم... - إنها تعيد الحياة لقصتنا... قلتِ - وتوقيع وردة تدعى: غدا... استطردتِ...!! * * * فجأة...! هبت الريح من نافذة بعيدة...! - أنت مصاب بسرطان الحنجرة...! قال الطبيب وهو يعاين نتيجة التحاليل... خرجت...! لا أعرف... من أين... وإلى أين...؟! للمرة الأولى... أرى قسنطينة... غابات رعب ومنحدرات توحش... للمرة الأولى... أنحدر إلى قرارات سحيقة... إلى أرض لا أعرفها...! عند عتبة البيت... لم أجرؤ على الطرق... كانت يدي ثقيلة... كل الرغبات كانت مبتورة... لكني... دخلت... دخلت كي أصطدم بك... بوجه بسمة... بالجدران... بالسقف... بغرفتنا... بسريرنا... - هل ظهرت نتائج التحاليل؟ قلتِ - أنا... مصاب بسرطان الحنجرة... دون تردد... أجبتك وغرقت في نوبة بكاء حادة...!! لم ننم ليلتها...!!! كنتِ تتقلبين... على نار الأسئلة... وكنت أعلق مرارة وخيبة في اللامكان.. حاولت أكثر من مرة... أن أهرب من وجه بسمة... من يتمها الباكر... من دموعها التي ستفيض... وكنتِ صامتة... صامتة جدا...! لكني كنتُ أسمعك... وأرد على النار والرماد... بالكذب... والوهم... وعند الصباح كنتُ أعدُّ حقيبة –ربما كانت الأخيرة- وأغادر صوب المستشفى... تمنيت... أن أوصيك... أن أعدك... أن أطمئنك... لكني لم أفعل... لم أستدر... كي أرى وجهك الحاني... كي أمسح دموع بسمة التي بدت مضطربة –تراها عرفت مصيري...!
وغادرت...! في الطريق... بين البيت والمستشفى... كنت أنظر للأزقة والدنيا... كأني أودعها... قطعة... قطعة... لأن الذي يدخل لمواجهة السرطان... كأنه يواجه الموت: - تراني.... سأعيش...؟! * * * أكثر من ثمانية أسابيع... وأنا طريح هذا الفراش... لم أعد أحتمل أكثر...! مللت الحقن... وجوه الأطباء والممرضين... ليلا... يصير خوفي مضاعفا... عادة ما أتخيل شبحا فارغ الطول... يجيء بكل القسوة.. كي يهددني...: - هذه ساعة أخيرة...! فأقوم مفزوعا من سريري... أصرخ: - خلفي... أرملة... وطفلة رائعة: بسمة...!!
وكنتِ هنا... إلى جانبي... تجتهدين في إخفاء جفن منتفخ... في الوقوف في مهب السقوط والانهيار: - قريبا أغادر...! تقولين... ثم تمضين... ويعود الليل... كضيف ثقيل لا أحبه... كي أغرق في عتمته... في الغثيان... وفي هذا الألم القاهر الذي يمزّقني...! أكثر من ثمانية أسابيع... وأنا بالحجرة -2- أودع المرضى... على نجمة... على نفق... شَعري تساقط تبـاعا... شواربي لم تعد... بيد أني وقفـت يوما أمام المرآة فصـرخ الميت الحي –أنا-: - أنا لم أعد أشبهني على الإطلاق... * * * أنهيت فترة العلاج الأولى...! وعدت للبيت جنديا خسر كل معارك الدنيا... حين اجتزت عتبة غرفتنا... تهالكت على السرير... تقيأت كل المدن التي عبرتني... وكنت تحتضنين يدي: - بسمة... أريد أن تراك... ووقفتْ –بسمة- أمامي... فتحتُ ذراعيّ... كي أحتضنها... لكنها ظلت واجمة للحظة، ثم فرَّت: - هذا الرجل لا يشبه أبي...! قالت بسنواتها الثلاث... ثم بكت... ركضت صوبها... حملتها: - أنا بابا...! قلت وأنا أخنق بكاءً مريرا... - بابا بشوارب كبيرة... قالت منكمشة... - لقد حلقتها...! - وشعرك.... هل حلقته هو الآخر...! - نعم...! قلت مازحا –رغم القهر- ووجدتها... تميل على كتفي... تحتضن عنقي... - بابا... أحبك...! قالت...! وكنتِ تبكين... تبكين...! وفري دموعك... فغدا... صباح بائس... وليل عصيب... ؟! * * * أسبوع كامل... وأنا أدخل الغيبوبات العميقة... أسبوع كامل... وأنا أتقيأ سائلا أصفر... ثم أعود لوسادة... لم يعد بوسعي... أن أنتج سؤالا واحدا... لم يعد بوسعي... أن أعي الذي يحدث... وفي صباح صيفي حار... كنت أحمل حقيبة ثانية... وغصة –ربما كانت المليون- وأبدأ مرحلة العلاج الثانية * * * كرهت المستشفى... كرهت الدواء... كرهت الدنيا... لكنني... كنت أقاوم...! من أجل بسمة... ربما... من أجل أمها... ربما... من أجلنا جميعا... ربما... أيضا... * * * كل صباح... أترك الجثة لهم... أتمدد على طاولة حديدية... أغمض جفوني...كي تبدأ الأشعة الحمراء حريقها... فأرى بابا كبيرا... ونافذة... أهرب بينهما إليَّ... وعند المساء... أستفيق... فلا أتبين غير ملامحك... لا أحس إلا بأصابعك التي تمسح العرق على جبيني.
"منذ الطفولات الباكرة... وأنا أرد جور الثلج... أجتهد كي أدرس... منذ الطفولات الباكرة... وأنا عامر بالبرد والخوف..." قلت لك... ذات مساء...
"أبي... مات قبل الأوان... وزوج أمي ما كان يوما رحيما عليّ... انتظرت طويلا... حتى جئت... فهل تقبل أن تكون زوجي وأبي...؟!" أجابت... باكية...! مسحت دموعها... وعدتها... كان بودي أن أعوضها... أشعر أنها بالكاد... بدأت تتذوق طعم الأمان...!! * * * سنة تمضي الآن على الذي حدث... فقدت القدرة فيها على التحرك... على المشي... على الوقوف... لا أبارح سريرا نتنا... كلما دق جرس المدرسة... أسحب –بصعوبة بالغة- ستار النافذة... وأطل على الساحة... وأراهم الأطفال... يركضون... يتعاركون... يشاكسون...! هل يذكر الأطفال... أني كنت يوما هناك... في القسم... أحمل طبشورا... أرسم شجرة... برتقالة... وعصفورا: - هذه ملامح الربيع...! هل تذكر -قسنطينة- إن غادرت يوما... أني كنت أملأ شوارعها بالصخب... والنزق...! هل تذكر نساء قسنطينة... أني كنت مفتونا... بالشعر الطويل... والعيون الخضر... * * * غدا يكبر الأطفال... ويغادرون إلى جهة أخرى... غدا تكبر بسمة... وتدخل المدرسة... هل سأوقِّع دفترها... وأشتري هدية لعلامتها الكاملة في الحساب...! - إني... أحلم ... وأسفار لا تستثير أحدا...!! 10/1997
|
|
|
![]() |
![]() |
|