ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

مجنون الطبل

محمد دمق - تونس

 

     - سيجارة .. أريد سيجارة ..

تردّد الشاب لحظات، أربكه الوجه الشاحب الغريب، فاجأه إيقاع الطبل سريعا قويا .. فتش في جيبه بسرعة ثم تذكّر أنّه لم يدخن منذ أسابيع .. الشاب مازال ينتظر يده تمتدّ متردّدة، مرتجفة، لحيته الشعثاء تغطي بقايا وسامة بددتها قساوة الأيام، عيناه تائهتان في أحزان المساء ...

الأفكار تتسارع تتواتر أمسكته من يده، أزحت الكرسي وطلبت منه الجلوس ثم أسرعت نحو الكشك القريب وأتيت له بعلبة سجائر لا أدري لماذا ؟ كنت في حاجة إلى هذا الغريب.. منذ زمن بعيد كنت اتمنى أن أجلس إلى مجنون .. أن أنصت إلى مجنون .. أقتحم عالمه الغريب .. ربما ..؟ لكني كنت كذلك في حاجة إلى شخص ما .. كنت أبحث عمّن ينصت إليّ للحظات .. إلى إنسان قادر على استيعاب كلامي.. إلى من بإمكانه أن يتتبع كل تفاصيل حكايتي دون أن يضحك ساخرا، دون أن تعلو قسماته علامات الإستغراب ثم يقوم مسرعا ويتركني .. لن أدعه يرحل سأطلب له ما يشاء سأمنحه كلّ ما يريد ، المهم هو أن يبقى حتّى إن لم يفهم ،لا يهم..

      الشاب أمامي مرتبك مد لي علبة السجائر وقال لي في هدوء:

- تفضّل، هل نشرب قهوة ؟ هل تريد طعاما..؟

منذ متى لم يكلمني أحد بهذا الأسلوب المؤدب ؟ منذ متى غابت عن مسمعي هذه الكلمات العذبة و الابتساماتاللطيفة ؟ ربما لم يعرفني..؟ ربما ؟ كان غريبا عن هذه المدينة، لا يعرف "بوطبل".

هممت بالقيام لكنه ألح بأدب. ماذا يريد مني ؟ عيناه تطلبان شيئا ما ؟ لا أدري ما هو..؟ ربما يريد أن يضحك من تبعثر كلماتي في صخب المدينة ..؟ لست متأكدا بدت عباراته جادة ..

      لا يهم حتّى إن لم يتكلم .. حتّى إن غاب في صمته المطبق.. حتى إن كان مجنونا.. حتى لو تبعثرت المعاني في شتات لفظه وهام في بحر الكلام.. لا يهم سأكلمه أنا.. سأحكي له حكايتي.. سأروي له قصة موتي وجنوني .. سأحكي له .. لن يقول إنّي مجنون أو إنّ بي بعض الخبل، كما قالوا .. سأروي له كلّ شيء.. مللت الصمت .. كم

مضى من الزمن ..؟ منذ ذلك اليوم لم أتكلم.. منذ أن وقفت بينهم.. كانت ضحكاتهم تزف الخبر، وشوشاتهم ونظراتهم المشفقة.. كدت أظنّ أني غدوت كذلك فعلا.. غادرتهم ونذرت نفسي للصمت وهمت أبحث في جنون المدينة عن عقلي.. عن غربتي.. أنا مجنون؟ ماذا قلت ..؟ ماذا فعلت ؟ كان الأمر عاديا في نظري، كلّ ما في الأمر أني كرهت حياتهم .. كرهت حياتي بينهم .. كرهت الإنصات إلى رصاصهم يثقب آذاني.. هل كان علي أن أكون مثلكم..؟ اللعنة!

      فاجأني السؤال، صفعتني غرابته .. حاولت ألاّ أسمعه لكنه صفعني .. ثلاث سنوات احمل طبلي وأقرع غضبي .. أبدد سكون المدينة .. أمحو صورة صمتها .. أدور في الأنهج، في الشوارع .. أقرع جدار الصمت الحزين، أزرع صراخي في قبور الموتى : أدق .. أدق ولا تكل يدي وأشعر أني سعيد وأني أنتقم أجمل انتقام.. سؤاله يعود ثانية يخترق الصخب والفوضى ليكتسح أسوار نسياني، ليوقظ آلام الماضي البعيد، ليبعث الحياة في ذكريات دفنتها في قلعة المجانين.. خلف أسوارها الشائكة.. أية لعنة هذه التي رمتك أمامي؟ أي حظ عاثر هذا الذي دفعك إلى طريقي ! لتسألني : "هل أنت مجنون؟" أنا مجنون حقا .. بعد أن اقتنعت أني مجنون.. وأن قرع الطبل ليس سوى علامة جنوني الفعلي .. مجنون أنا .. سجلوا ذلك في دفاترهم، المدينة كلها تعلم ذلك .. سعيد بجنوني مدين له بهذه الحرية التي لم يمنحها لي العقل .. سعيد لأنه شرّع لي كل شيء، دقّ الطبل وإزعاج المدينة ليل نهار، التبول على واجهات البنوك ووكالات الأسفار، سبّ رجال البوليس، إخافة الفتيات الجميلات، أشعر أني الأقوى، أن المدينة في قبضتي، ماذا تريد؟ أن تعيد إلي أحزاني، أن تسلبني لذة النسيان وأحلام الجنون ..؟

      همّ بالقيام لكني أمسكته ظل صامتا لمدة طويلة يرنو بجثته الهامدة نحو أفق ما. هل أخطأت ؟ ما كان علي أن أتسرع وأباغته بسؤال كهذا ؟ عاد وقف بسرعة واضطراب، عدل وضع طبله وبدأ يقرعه بعنف شديد. كنت أبحث عن معنى لضرباته، عن تناغم إيقاعه العنيف، ثم فجأة أطلق أنينا حادا حزينا .. لاح قلبه المنهك يراقص أوتار ألمه الدفين .. أنا لست مجنونا .. أنا أعقل من في المدينة .. لمحت دمعته تنحدر، ثم صاح صيحة مدوية فاندفع الجالسون من حولنا فزعا، مخلفين كراسيهم مبللة ..

عاد يقرع طبله في نفس الإيقاع وغادر المقهى ..

... سمعت صوته يطاردني

- يا هذا علبة السجائر .. لقد نسيت دخانك ..

وقع أقدامه تتسارع خلفي، التفت إليه صحت به أردت أن أخفيه، حاولت أن أطرده لكنه لم يبتعد، عدوت خلفه لكنه ظل ملازما مكانه ينظر إلي بحب وإشفاق :

- أنا لا أخافك .. أنت لست مجنونا ..! لست مجنونا..!

      هاجمني أحاطت يداه رقبتي .. كانت أصابعه ترتجف والدمع ينحدر يبلل لحيته .. كان حملا وديعا، جاء صوته لعثمته حشرجة البكاء :

- اللعنة .. اغرب عن وجهي يا ابن .. أنا مجنون اغرب عني حالا وإلا قتلتك.

هربت .. جريت بسرعة، حاولت أن أختفي لكنه كان خلفي يرافقني كظلي يحاصرني كالماضي الّذي انفجر فجأة ليفيض علي من جديد بحزنه وشجونه ..

كنت أجلس على العشب اتكئ على السور القديم وأقرع طبلي بصوت خافت .. انتهت المسرحية الطويلة .. بهت القناع .. وعادت الوجوه المنهكة .. عادت ذكراها تغمرني .. ذكرى ذلك اليوم اللعين حين تركتني لتضع خاتمة المآسي .. لاحت صورتها من جديد، من شظايا ذاكرتي .. كنت أعلل نفسي ببسمتها، كانت تمحو همومي وتصنع معي أشيائي الصغيرة، تنصت إلى أصابعي تداعب الناي، تراقص صفيري الحزين وتعشقني وتمنحني دفأها وسحر الحياة .. ثم تركتني .. هكذا بدون سبب .. تركت نايي الحزين ورحلت تبحث عن السهرات الصاخبة والعلب الليلية، والسيارات الفخمة .. تبعثرت عقارب بوصلتي وتهت في امتداد المدينة، في جنونه .. أريد أن اصرخ، أن أدمر كل من حولي، أن أحتج، لكني كنت عاجزا .. كسرت نايي وتحصنت ببيتي .. ثم كان الطبل .. أدور في الحديقة وأدقه بعنف وأظل أصرخ حتى يكاد يغمى علي .. لا أدري كان ذلك مؤلما بل ممتعا أشعر أني أفجر غيظي .. أبوح بصمتي المطبق .. كنت سعيدا بذلك.. لكنهم حطموا آخر الأسوار التي كنت أرممها .. كانت أعينهم تراقبني من خلف الطوابي وضحكاتهم المجنونة تحاصر وحدتي .. غدوت مهرجا أسكب حزني لأسليهم لأضحك أفواههم القذرة .. رميتهم بالطوب ..

في اليوم التالي كان البيت محاصرا بأعوان الصحة حاولت أن أدافع عن نفسي أن أقنعهم أني سليم .. لكنّهم أخذوني .. ثم غدوت مجنونا، أثبتوا ذلك في سجلات المستشفى.. حملت طبلي وهاجمت مدينتهم اللعينة.. لم يجرؤوا على صدّي.. كنت مجنونا ..

مسح دمعة، أشعل سيجارة جديدة وعاد يراقب المارة وينقر بأصابعه الطبل ..

وقف تقدم نحوي ثم انحنى ومد يده بحزمة من الأوراق النقدية

- خذ مالي .. خذ كل ما لدي وامنحني طبلك وجنونك..

      نظر إلى يدي ممتدة مرتجفة، رماني بنظرة حادة ثم أطلق ضحكة وقام، حمل طبله ومضى وبقيت أراقب قامته تختفي بعيدا، يداه تقرعان الطبل وإيقاعه يعلو ويشتد ..

     مضى دون أن يروي لي قصته.. رحل قبل أن ينصت إلى حكايتي..

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا