![]() |
شعر مترجم |
خلوة رفيـعة عبده حقي - المغرب
من خلل السقف القصبي الواهن .. أصخت الى سعاله القديم ، يتسرب الى آذان المساء ، شبيها بخوار أيل جريح. قلت في نفسي وأنا أقلب أوراق كتاب مغبر ؛ كيف يجرؤ على هذا الانبعاث الفينقي وبهذا الصوت المكلوم .. مع أنه لم يحدث فيما أذكر أن نبس في وجهي يوما ما ؟ لقد كان كعهدي به بين الهضاب القفر والنجود الجرداء إلا من أحراش الشيح صموتا منتصبا كأي سارية عتيقة تساوعها الرياح المتوحشة في عزلة خلاء مطلق ويكمن في هيكلها هدير التاريخ ... والآن .. أتنصت الى كعب حذائه ، يطرق بحدة على سطيحة السقف الواهن .. في هذا البيت المعزول .. تحت أقدام الجبل الشاهق . أتسمع للازمته تدوي بايقاعها القتضب.. فاعلاتن .. فاعلاتن.. فاعلاتن... _ أتراه قد نهض في هذا الهزيع ليتابع سرد حكايته المحفوفة بالغرابة وخوارق الأزمنة القديمة... أجدني مرتبقا أكثر من ذي قبل الى أشيائه.. ظله .. زفراته .. إيماءاته المغمورة بهذيان الحكماء الذي يخيل الى جليسه كما لو أنه منعتق من شفتين تحللتا فجأة من أنشوطة عنيدة. أبعد كل هذه السنين يردم حيطان هذا التكتم الملغز ويفتح لي صندوقه القديم المرصع بالماس والمصوغات الفضية .. كنت ألفي طيفه يندس في كل التشكلات المرئية ، العابرة منها أو الرابضة مثل شجر العرعار هناك وهناك . شفتاه الرفيعتان ، عيناه الجمريتان اللتان كحلهما الامعان الطويل في لذغات العمر .. يده الكبيرة .. اليد الكبيرة المتششقة.. التي تبدو ساعة تعرقها رافلة في لألأة المعجزات... يجمل بك الآن أن تفصح عن انتفاضك في أغوار النفس ، ويجمل أيضا بطيفك أن يسمعني ملاحمه القديمة ؛ فقد يكون للطيف ذاك البوح الأبلغ من هتاف الجسد... أذكر.. كان يمرق مثل النيازك ، مقداما كما عهدته ، من عقال الجبل الشاهق .. حارس التضاريس المعزولة ،المتمنطقة بالاسبلة السريالية ، يعارك الشواهق العنيدة .. أعزل .. عليه دائما جوخه الصوفي الذي تفوح منه رائحة عرق المعارج المتربة ، وحذاؤه المخروم قد خبر الشعاب والفجاج حصاة حصاة حتى خمنا أن للحذاء عقيدة لا يدرك حكمتها سوى الجوالين الساهمين على حد الغواية وعلى شفير الحافات كان يحتبي .. واحتباؤه استراحة محارب أو مجدوب ضليل ..كيما يستغور عوالمه الباطنية أو يتلهى بذر الرماد على قروحه بالساق. انه ما يزال يتشمم رائحة الحرائق في غابة العرعار ويتسمع بمضاضة لشخير المناشير خلفه وهي توقع سمفونية الذبح على كمنجات الجذوع. على عتبة البوابة العريضة ذات الصخور الصقيلة التى دحرجتها الهزات في عصور التكوين .. كان يقف ليتملى المجاري المتفرعة وحوافر أعقاب العكازات وسنابك الخيول ؛ ثم يخترق عين السور العالي ، ومع ذلك لا أحد منا كان يعلم بمروقه المخفور الذي يشبه إسراء نسيم حثيث ، يدمدم بلغو مبهم قلما يشوبه كلام معلوم . كان يمرق وكنت أرقبه من بعيد ؛ يسكنني وهو شارد في تلك المسالك المفضية الى قمة الجبل السامق حيث يتثائب المدشر على الحيزوم مثل لوحة من لوحات دولاكروا... ولم أكن أعلم أنه كان يوزع أيامه تحت بحيرة أسطورية تستلقي على كتف الجبل العالي ؛ ولا مراء أنه كان أدرى بانوجاده هنا ك لأن العطش الذي كان يذكي جحيمه الجواني جعله مثل طائر البجع يهتدي الى الترعات المائية بالغريزة. لم يكن يعبؤ بغضب الانجرافات التي طمست غير ما مرة أحواض الشعير والذرة وعرصات اللوز والأراكة . لما كان الرعد يقصف ، كانوا يأوون الى الأدراج الجبلية أو يتسربون كالنمل الى المكامن الدفينة حتى لا تدهسهم عربات الجلاميد النافرة ، أما هو فقد كان يصعد مثل نبي ، يعب شرابه .. كأسه التي تبترد بها غلته..بانتشاء وازدراء بما يمكن أن يحدث ومتى شاء أن يحدث .. غير أن لاشيء من هذا حدث مذ وطئ هذا المدشر في نزوحه الغامض متدحرجا كحصاة لقيطة دون أن يستدير ولو مرة واحدة الى الوراء... ولم يكن عبور غريب هناك أمرا مألوفا على تخوم السفح الممتد الى أقدام المدينة ... حينما نزل هو بهذا المدشر مثل عابر سبيل في بداية الأمر أمسى وليمة لنميمة سرعان ماتناثرت كالنباتات المتوحشة ..و أمسى أيضا ملهاة لطي المسافات على صهوات الغدو والرواح ؛ ربما لأنه كانت تبدو عليه سيماء خبل المجاديب الملتحفين في أردية الصوف .. الذين كانو في عصر الانهيارات يضربون في أرض الله .. هائمون في مفاوز الشرود.. حفاة ..يبحثون عن قبس الكرامات وآلام المجاهدات ... ربما شبه لهم ولذا كانوا على الأقل يطعمونه تينا وشعيرا على نور اللمبات أو القناديل الزيتية ، متلمسين في تجاعيد محياه أسرار طالعهم ... كان يرتق الرحيل برحيل آخر ، لعل الهامة تسطع بشمس الاشراق وتلتئم أشلاء الجسد الذي نهشته رياح الشهوات ... ولاشك أن سهومه في أقصى ملاذات الخلوة كان اعلانا بذات الشكل عن حكاك ما ضدا على اندحار النفس و تحطيم مرآة الروح بمعاول اللذة ... لذا كان المفر حيث لا أحد ولا جحيم ضربا من ضروب الاحتجاج الروحي بتشريد الجسد الآبق . ترى ماذا خسر هناك ، خلف هذه الأطواد وبأية غواية أبحر الى أرخبيل هذه العزلة القاسية؟؟ متى فكر في أمره ، كان يحتد هذيانه فيلتف على نفسه بنفس الكلام ورجع الصدى .. يعب شرابه المقدس ويهمل السؤال. أذكر كان مساءا باردا ،قارسا و قاسيا جدا ،وكان نداؤه البعيد يستدرجني كالمتسرنم الى مأواه الرهيب هناك على حيزوم الجبل العالي... جعلت فجأة أنمق الكلام وأرجع لازمة بعناية الاطفال ، بدا لي مقتعدا في ظله صخرة صقيلة ؛ حين رفعت عيني رأيت سحابة قيد التشكل على هيأة حصان خرافي يحوم في زهو رائق بين قطعان الغيم النحاسي ؛ مرة أخرى وكما هي عادته لم يعبء بقدومي مثل صخرته كان ، لا تعبؤ هي أيضا بازميل الوقت ولا بتمسح أيادي السقاءات المتختمات بالأساور الوازنة . دلفت كأني ألج معبدا قديما .. فجأة رمقت وجهه .. نفس الأسارير والقسمات التي رسمتها في مخيالي ألسنة الأهالي... داهمني وقتئذ انتشاء عارم في انفراج محياه ولمست بعض هناءة ، فصرت أتردد بين افتتاح الكلام وبين التملي المنبهر في وجهه المجلل بالإناس وفك طلاسمه التي أمست لغتها تضج في أعماقي .. كنت أفكر وأنا منتصب أمامه في عزلته الرفيعة ، أسترق النظرة من خلفه الى مأواه المعتم .. مغارة على مقاس منفذ الجسد بالكاد ؛ كأنما نحتتها أصابعه التي تشبه ثمرات البلوط . ودون أن ينبس ناولني قدحا من شرابه المقدس .. هو خليط لبعض البهارات والاعشاب البرية . فعجبت لصنيعه الغريب شعرت بدم فائر يضخ في أعماقي ثم بتلاطم الكلام في زفراته وارتجاج صدره . كنت أنقل ناظري بين وجهه الملفوح وبين جوف المغارة .. فجأة لمحت تلألؤا يمور في مصوغات الصندوق القديم خلفه هنالك في عمق مغارته ..تلألؤا كان يزداد التماعا كلما أمعنت النظرفيه ، فساورتني رغبة في الدنو منه ؛ ثم رنوت اليه فيما يشبه الاستئذان فوجدته منشغلا في عد أيامه على أصابعه التي تشبه ثمرات البلوط .. وفي لحظة سهو مني توارى خلف صخرته وكأني بوقع قدميه تجلجلان في جوفها قلت : ؟ أتسمعني أيها الشيخ ، ما الفرق بين جوزة السر وتفاحة المعرفة ؟ فكلانا على سبيل الادراك تائه ... اثرئذ شممت رائحة دخان تلاها قرع طبول ودفوف في الدغل .. لمحته يظهر ويختفي بين أيك العرعار حاملا صندوقه على كتفيه العريضين الضامرين ويركض .. يركض .. وكان جسده يكبر .. يكبر .. يشتبك بالأشجار ، وبدا لي أخيرا أنه صار شجرة... عبده حقيفاس في4/4/2003
|
|
|
![]() |
![]() |
|