يثور غاضباً في وجه سحنته المُتجعِّدة
أمام المرآة ،
تكاد
سباته المعقوفة إلى الجهة اليمنى أن
تلامس أنفه :
أنا من
أنا ، أقف عاجزاً لحد
الهزء بين حُثالة هؤلاء القرويين
.
يَرتدُّ إليه صوته
المنحبس في جوف محاصر بحموضة مقززة ، كم نصحته زوجته بقلع أسنانه
:
هذه الرائحة الكريهة ، لن
تزول إلا بتغيير الفم المُسوَّس حتى ضرس العقل
.
في
المدرسة الابتدائية التي
ودعها غير آسفٍ على طرده لغير رجعة , لقّنوه مفردات
الكرامة والعزة والإباء
وما جاورها , فظل يربطها بهذا الأنف اللعين ، تحسَّسه
،
لم يشعر بأدنى أسف على
تضييعه لتلك القيم منذ تولَّى رئاسة المجلس
البلدي بالاسم ، حتى
الحزب الذي زكَّى ترشيحه باسم شعارات أدبياته ، لم يعُدْ
يقبل العمل بها في الواقع
، لمس حرج
الإخوان من التعرُّض لما
كان يُسَمَّى إلى حين ، بالمبادئ الحزبية في أوَّل لقاءٍ بالزعيم القائد
.
غطَّتْ
بدانته أمام اللوحة
الزجاجية على ما خلفه ، فلم يلمح وقوفها مشدوهةً تعاين
الرجل مُكلِّما نفسه ،
للمرة الثانية ، تضبطه في حالة تلبُّس ، لن تحاول
إيقاظه من غفْوته ، سوف
يتهمها بالتوهم :
ـ إنما يتهيأ لكِ أنني
أُكَلِّم نفسي ، انسحبتْ وهي تلعن هذه الانتخابات التي تُوَسِّخ بني آدم
لهذه الدرجة
.
استعاد
تثبيت هيأته أمام تماوج
جسد تحركه الأضواء الباهتة ، مصطنعاً وقار الناس الكبار ، تذكّر نداءِ
زوجته للالتحاق بالعشاء ،
فانتابه شعور بالطمأنينة من عدم متابعتها لحواره
الأطرش
،
مازال يتساءل عن رأيها
الحقيقي فيه
، ماذا كان سيكون
تعليقها لو حضرت تلك
الجلسة المغلقة ؟ وهو يخطب بصوته الجهوري في زبانيته،
علَّهُ يُحَمِّسهم
لمساندته المطلقة ، في قرار طرد السكان من ضاحية
المدينة
، استوقفتْهُ العبارةُ
السحرية التي أوعز له بها شريك كان رفيقه قبل قلب المعطف : إنما يتعلَّق
الأمرُ من قبل و من بعد بالصَّالح العام ، ابتسمَ
،
نفس العبارة قالها السيد
الوزير في معرض تبريره لانتزاع أكبر مساحة خضراء من الجماعة ، سوى أن
الوزير تحدث عن المصلحة العليا لهذا الوطن ،
تحسَّس قطرة دافئة من
الخجل تتسلَّل عبر عموده الفقريّ إلى مؤخرته، حدة التصفيقات التي أعقبتْ
خطبته العصماء، زادت من تعميق شعوره بمرارة الانتكاس ، هل نسي أنه كان في
يوم جمعة ؟ قادته قدماه إلى الحانة المعهودة ، شرب حتى سكر ، ثم أخذ في لعن
كل الذين سلبوه آخر ذرة حياء من نفسه ، فقد أُلْحِقَت
الأرض
بالمدار الحضريّ , قبل أن تمرر للاكتراء
أربعين عاما بثمن رمزي ، و كاتما غيظه على أهل العاصمة ، يصفق كغيره
للوزير.
تناديه زوجته للعشاء
ثانية
، كم تمنى لو أنها تصطنع رِقَّةً
و
لِيناً في ندائها عليه ، قال
لصديقه وهو حالة انفلات : لا يحسب سامعها إلا أنها عريقة في تدخين الكيف ،
صوتُها الأجشُّ أبعد ما يكون عن نغمات كاتبتي
الخاصة , تُخيِّرني بين
القهوة والشاي , قبل الانسحاب تاركةً
وراءها خيالاتِ امرأةٍ
تثير الحسرة على ضياع الشباب .
حين استيقظ هذا الصباح ، تحاشى التقاء عينيهما , ما زال
يؤرقه الافتضاح بين يديْها , هل صدقت أسطوانة العجْز المؤقت ، حين برر لها
الطبيب حالتي بانشغال الذهن في متاهة مسؤولية هؤلاء الرعاع ؟ لعلها تشكو
حظها من الحرمان ، ثم يراوده إحساس بالخوف من إقدامها على اختيار طريق
جارتها ، يباغتها ممسكة
بضفيرتيْها المُسدَلَتيْن
على كتفيْن بارديْن ، يمتعض ، بعد عشر سنوات ، لم يعرف البيت صراخ وليد
، تبّاً لخالها المتفنن
في الإقناع بالإغراءات ، رغم رفض الزواج منه بِعلَّة كِبَر سنِّه ، مملوحاً
بدموع الحسرة على يتمها المبكر، سقطت في بركة الخجل البارد في عزِّ
الحرّ
.
ـ ليْتكِِ تدْعين لي
بالنجاح غداً في إقناع السكان بالرحيل، تصوَّري، لم ينفعْ معهم التهديدُ
باستعمال القوة العمومية والخصوصية.
استقام في جلسته حول
المائدة ، كأنه يملأ فراغاتِ الصمت المعلَّق بينهما
ببهرجة جسده الخشبي .
تمنَّتْ
لو أنه كان يُفكِّر فيها
بقدر ما يفكر في تلك الأرض , يصدُّها بعنفٍ عن
الاستمرار في الدفاع عن
هؤلاء البسطاء ، كلما فاتحته في الظلم الذي سيلحق
بهم
، ودونما نطقها بكلمة ،
قال كأنه يرد عليها :
ـ ستقولين مثلهم ، لا
يُعقل ترحيلُنا ثانية بدعوى اختراق الطريق
السيَّار للتجمع السكاني
بالضاحية ، ألم يفرضوا عليهم الارتحال عن الأرض
الفلاحية بدعوى إقامة
منطقة خضراء ؟
قرَّبتْ إليه الصحن ، نظر
إلى
تربُّع فخِذَي الحمامة التي
أحضرها الخادم ، استرق نظرة خاطِفة إليها
،
لعلها هي الأخرى سمعتْ من
جارتها كما سمع ، بأن
في الحمام ما يقوى و يعيد
الفتوة
.
بسْمل ومدّ يده، وهو يحمد
الله أنه الآن لا يرى وجهه في المرآة.
******
--
م.م.س