لا .. لا يمكنني تصور ذلك ... فأنا لم أُوذِ حشرة !
-
لا تبالغ أرجوك .. قل
بقصد، فأنت لم تأت فعلتك هذه بقصد .. أنا متأكد
-
ولا هذا أيضا .. الآن أنت تريد إقناعي
.. بأن هذه جريمة هي بالأصل سلوك .. أي أن الإنسان
محتفظ بهذا السلوك ؟؟ أمر طبيعي، فطري ؟؟ !! .. يا
إلهي !!.. وتعتقد بأننا نعاني لأننا نقاوم رغباتنا ...
سلوكياتنا الأصلية !!!!
-
أجل، فهم هذا ليس عصيّاً، .. عندما تهرس سيارة شخصاً
وأنت حاضر .. شخص لا تربطك به أية مصلحة أو علاقة ..
ما هو شعورك الحقيقي وأنت ترى جثته .. قل لي دون
مواربة ودون تصحيف اجتماعي .. شعورك كما هو ...
-
شعوري سيكون ....... يفكر طويلاً ..
-
لا تحاول تلطيفه .. فقط أخبرني ..
-
أسفاً .. ولكنه شعور غير مريح في
المحصلة ...
-
لماذا يكون غير مريح .. ما هو الشيء
الأقرب لحقيقة مشاعرك ؟؟
- أتأسف
كثيراً .. وأمضي متكدراً لبعض الوقت
-
لا .. ليس هذا .. ما تقوله الآن هو
صبغة اجتماعية لا أكثر .. أنا أريد أن أعرف ما هو
شعورك كمخلوق له إدراكه الدوني .. إدراكه لذاته الذكية
..
-
أنا أفهم ما تعنيه .. ولكن اللغة التي
أملكها ... تفرض تفكيرها ..
-
ولهذا طلبت منك أن تعبر عن حقيقة
مشاعرك دون تصحيف .. فلنتفق على قولتك .. ستتأسف، ولا
يهم إن كان أسفاً طويلا أم قصيرا .. ما هو مصدر هذا
الأسف في رأيك ؟
-
لأنه مات ..
-
وكان يمكن له أن يعيش ؟؟
-
ربما ..
-
فلنفترض إذاً .. أنه كان بطريقة ما،
هناك خيارات .. مثلاً .. إما أن تدهس السيارة هذا
الشخص أو شخصاً قريباً منك .. شخصا لك معه مصلحة ..
ولو بسيطة .. ما سيكون اختيارك .. دون تصحيفات ؟؟
-
أنا لا أتمنى أن يُدهس أحداً ..
بالطبع، ولكن إن كان ولا بد .. فهذا بديهي جداً ..
-
تقصد الشخص البعيد .. الأبعد والأبعد
..
-
نعم ..
-
ولكن هذا الذي حدث ممكن أن يحدث لأي
شخص آخر .. أنا أو أنت أو أي شخص قريب ..
-
ممكن طبعاً ..
-
هل تعتبر أن الشخص الذي دهسته السيارة
.. إذاً كبشاً ؟؟
-
ماذا ؟ هل تود القول بأننا ضحينا به من
أجل سلامتنا ؟؟!!
-
بالتأكيد، بما أننا افترضنا حتمية
الحادث، وفي حالة تخيرنا .. سنختاره بلا شك ..
-
ولكننا لا نختار على الأغلب ..
-
ولكننا سنفعل ذلك بتعبيرات أخرى ..
وكثيرا ما نفعل ... وسأتكلم لك بصراحة عن نفسي .. أنا
سأقول وهذا طبيعي : لو لم يك هو، لكنت أنا .. وهكذا،
الأمر يتطلب الشجاعة وليس الرياء ..
-
ولكن هنالك أشخاص يدفعون حياتهم، من
أجل خدمة الآخرين، كيف تستطيع مواجهة هذه الحقيقة ..
لن تصمد فكرتك أمام هذه الحقيقة، ألا ترى ما يفعله
المتطوعون في فلسطين مثلا .. العراق، والتاريخ شاهد
أيضاً على ما يسقط إدعاءاتك ...
-
سمهم مرضى .. مكبوتون .. معبئون .. إلخ
..
-
لماذا لا تفسر الأمر .. على نحو إنساني
.. مثالي ..
-
المثالية التي تتحدث عنها ليست لها علاقة بمثالية
الحياة .. واقع الحال يمكننا تصنيف أولئك في خانات
المرض والكبت .. أو التعبئة والخداع ..
-
ولكنهم يمضون إلى الموت وهم واثقون
...
-
لأنهم موعودون .. في
الغالب بفضاءات أخرى وربوعا أجمل ..
-
وكيف تفسر .. لو كان الشخص الذي ستدهسه
السيارة ابنا لك .. هل ستختاره أم ستكون كبشاً ؟؟
-
كان بذهني أن أثير هذه النقطة ..
ولكنها شديدة التعقيد لذا أرجأتها ...
-
والآن ..
-
الآن .. سأوضح لك تصوراتي .. بالنسبة
لي .. هنالك عناصر عديدة ومنها المثل النخبوية أو
التصحيفات التي رافقتنا لمئات الحقب .. ستفرض عليّ أن
أختار التضحية بنفسي .. ولكن هل يمكننا التساؤل ..
ماذا عن اللحظة الفعلية .. اللحظة التي هي أقل من
الزمن لكي أنقذ نفسي بواسطة ابني .. هل ستختلف إجابتنا
.. أم سأكون سعيدا وراضياً ..
-
في الحقيقة لا أعلم ...
-
ولا أنا .. ولا أحد يعلم ... لذا هنالك
سلوكيات قطعت معنا الزمن الغابر واستطاعت المحافظة على
طابعها بالمواربة .. تحدثنا من حين إلى حين ولكنها
تتلاشى بسبب العقل المنتخب للأشياء .. كان يمكننا
فهمها لو لم ننكر طبيعتها .. لكن للأسف لم نفعل .. إذا
لا تبتئس، خصوصا إذا كنت تعتقد بعنصر التضحية .. نحن
نضحي بك من أجل مجتمع صحي .. أي أنك ذو قيمة كبيرة مثل
قيمة سقراط تماماً.
-
إذا لم يقترف أحد بعدي ذات الجريمة ..
فسيكون ذلك من دواعي سروري .. بلا شك .. ولكن ذلك لا
يمكن للأسف !
-
دعني أسألك شيئاً .. أنت غير متزوج ..
وتجاوزت الأربعين .. فهل كان ذلك مقلقاً ..
-
لبعض الأحايين .. نعم .. وبالذات
حالياً
-
لماذا ؟ ألا تفكر بأنك لو كنت متزوجا
ولديك أبناء .. ستتسبب في حزنهم وبؤسهم ؟
-
لم تك تلك الفكرة الأقوى في نظري ..
ولكني لو كنت متزوجا بالفعل ولدي أبناء .. لكانت ظروفي
مختلفة .. ولم ..
-
أتستبعد حينها وقوعك في مثل هذه الورطة
؟
-
نعم .. وإن بدا ذلك
غير منطقي .. فأنا فعلت ما فعلت بعد أن قذفتُ بسرعة
غير متوقعة .. وحرضتني إهاناتها إلى دفعها بعنف .. لو
كنت متزوجاً .. لما حدث ذلك كله .. وللتنبيه فقط،
أعجبني تعبيرك "ورطة"
وكان علي أن أقول
"طزّ مجرّد إعدام".
-
هل تود القول بأنك متأسف على عدم زواجك
.. لأن زواجك كان سيجنبك أو ينقذك ؟
-
لا أعلم .. ولكن على أية حال لا جدوى
من هذا الآن ..
-
لو عُرضت عليك فكرة أن تتزوج هذه
الليلة .. وكنتَ ضمنت بأنها ستحبل منك .. هل توافق ؟
-
نعم ولا طبعاً ..
-
لم أفهم ..
-
حيث بي رغبة لأن لا أموت هباءاً دون
خلف .. ولكني أخشى بؤسهما بعدي كما أسلفت قبل قليل.
-
لا .. لو ضمن لك أمر إعالتهم مدى
الحياة .. هل ستروقك الفكرة ؟؟
-
لا
أعلم .. ولكن لا أستطيع تخيل الأمر .. يا سيدي أنت
تخاطب إنسانا يعيش في العدّ التنازلي، واعتقد في مثل
هذه اللحظات لا يحضر أي مستقبل .. بل يختصر الماضي إلى
لحظات خاطفة .. لذا إجاباتي لن تفيدك في بحثك ..
-
لا عليك، علي انجاز ما يمكننا، نحن
أصبحنا أصدقاء وواجبك أن تساهم معي في هذا البحث ..
إذاً، هناك ضرورة تعتقدها ومفادها البقاء من خلال
الآخر .. أو النسل ؟
-
صحيح، ولكني غير هادئ بالمستوى الذي
أجيبك بمصداقية ..
-
أكرر لا عليك، هذا من اختصاصي ..
((البقاء)) ما يعني لك وأنت في هذه اللحظات ؟
-
أنا شخص مؤمن بالعدالة الإلهية وبورقة
العمر التي تسقط كما يُروى.. وهذا ما يريحني ..
-
نعم، نعم، .. ولكن هل يعني هذا أنك لا
تفكر في عفوٍ أو تغيير الحكم .. لسبب ما ؟
-
لا .. ذلك شاهدته في السينما فقط وحدث
في الأفلام حصراً..
-
هل ترغب في مشاهدة فيلمٍ فيه شيء من
هذه الأفكار .. الآن ؟
-
فكرة جيدة، ولكني بالقدر الذي يقودني
حديثك بعيدا عن فكرة الموت .. إلا أنني بدأت أحس
بالوقت أكثر ... أحتاج لأن أختلي بنفسي واستلقي ..
لكني لا أرغب في النوم ..
-
حسناً .. سأكتفي بسؤالين فقط .. إذا
تسمح ؟
-
تفضل ...
-
هل تريد أن تشاركني سيجارة ..
-
أرجوك دعني ,, أرجوك
-
هل تريدني أن أدعك حقاً
ولم يجب على هذا السؤال الأخير، ولم يتكلم إطلاقا
بعدها، حتى حين طلب منه أن يتشهد، أغمض عينيه فقط ...
Thamer Mahdi