![]() |
شعر مترجم |
إعلان سياحيّ عن أمّ الدنيا (نص تسجيلي) سلام عبود - العراق
1 أما زالت مصر أم الدنيا؟ هذا السؤال ظل يُمسك بخناق السيد صاد طوال فترة الرحلة من ستوكهولم الى مصر. بين السيد صاد ومصر أكثر من ثلاثة عقود عاصفة، جرت فيها أمواه كثيرة في نيل مصر، وجرت مياه باردة وساخنة، مالحة ومرّة في نهر حياته المضطرب. مصر التي زارها، للمرة الأخيرة، قبل أكثر من ثلاثة عقود، كانت تحتفظ ببعض بريق الناصرية، وهو لم يزل حينذاك مشحونا بيسارية الشرق الغامضة ومشاعر من ينظر الى الخلف بغضب. يعرف السيد صاد أنه ومصر لم يعودا كما كانا؛ ويدرك أنه، وهو على أعتاب الشيخوخة، أخذ يحنّ الى ما كان يرغب عنه: إشراقة الروح القومية المسالمة، الشرق بثوبه الأسطوري، الحضارة بمكوناتها المتداخلة الصافية، العدالة المثاليّة، السلام الداخلي للفرد والمجتمع. يساريته المتطرفة فقدها منذ زمن طويل في خضّم معاركه ضد اليسار، إلا أنه اقترب كثيرا من معنى الحياة وجوهرها الأبدي الغامض، فازداد ميله الى الإنسان بثوبيه الفردي والاجتماعي. ولكن، ماذا عن مصر؟ من المحال، بعد تلك السنوات المدمّرة، أن تظل كما عهدها حبلى أبدية، تلبس ثوب الأم الكبيرة: أم الدنيا. وإذا كانت مصر قد تخلت عن أمومتها الأسطورية تلك، أم من هي الآن؟ 2 الحافلة (الباص) التي أقّلّت السيد صاد وزوجته وابنه الصبي توفيق، من الغردقة الى القاهرة كانت مفاجأة لهم. فهي لا تقل جودة عن السيارات السياحية التي ركبوها في تركيا واسبانيا واليونان. كانت على عكس ما قرأوه في كتيبات السياحة باللغات الأجنبية، التي بالغت في تحقير شأن أغلب ما هو مصري. هذا الانتصار القومي الصغير أنعش نفوسهم، ومنحهم شيئا من الرضا والفخر والإحساس بالمساواة مع من يحاولون دائما إيصال رسائل التعالي والتصغير المعتادة في منفاهم الأوروبي البعيد. مرّ السائق على الركاب مرورا سريعا في جولة التحية والتعارف والمؤانسة المعتادة، التي يحرص على أدائها قبل أن يبدأ رحلته اليومية الطويلة الشاقة. المؤانسة قبل السفر طقس يومي ثابت وصارم يتفاءل به، ويرغم نفسه بواسطته على تحمل مسؤولية خاصة، أبوية، تجاه الذين يجلسون خلفه برعايته. اقترب سائق الحافلة منّهم وقال، وهو ينظر الى وجه توفيق المهموم والمشغول بمعالجة لعبته الالكترونية المعقدة، التي تلازمه في كل مكان: - "ليه مبوّز بكرة تتجوز!" ضحك عدد من الركاب بصوت عال. انتبه توفيق الى أن السائق المرح قال شيئا أضحك الآخرين عليه. نظر توفيق بخجل الى أبيه، الذي بادر قائلا، ليمتصّ بعض خجل ابنه: - هل فهمت ما قاله السائق؟ - لا. ولا كلمة. - قال لك: ليه مبوز بكرة تتجوز. مبوز تعني حزين أو مهموم، وتتجوز تعني تتزوج. ردّ توفيق مستفهما: - وماذا تعني العبارة كلها؟ - هذه مصيبة وجودية يطول شرحها. أجابه السيد صاد، ثم أضاف لكي لا يفسد جو المرح: هذا مجرد مزاح عفوي، الشعب المصري يحبّ المزاح. - ولكني لا أعرفه، وهو لا يعرفني! كيف يسمح لنفسه بممازحتي؟ - نعم، أنت لا تعرفه، لكنه يعرفك. أنت عنده أحد أبناء أمّه: الدنيا الكبيرة. 3 تكررت نوبات الكرم التي قام بها السائق. منح ثلاثا من علب الطعام، التي توزعها شركة النقل على المسافرين، الى جنود الحراسة في نقطة التفتيش، ومنح علبة رابعة الى شخص ما عند توقف الحافلة في إحدى المحطات. - هل رأيتِ سائقنا المرح كيف يرشي عساكر الحكومة! همس السيد صاد لزوجته، التي شاركته في تأكيد ملاحظته الذكيّة بتقطيبة وجه عجيبة، مركبّة، لم يدرك من رسائلها المتشعبّة سوى رسالة تأييدها التام له. 4 في الطريق الى القاهرة انمحت تعابير الدهشة من وجه توفيق جراء كثرة ما شاهد من مغامرات السيّاقة البهلوانيّة. لكن أبلغ المغامرات حدثت حينما تباطأت الحافلة ذات الثمانين راكبا الى سرعة ثمانين كيلومترا، لكي تلحق بها شاحنة حمولة طويلة كانت تسبقها ثم تخلفت وراءها. وحينما التصقت السيارتان ببعضهما مدّ سائق الحافلة المرح يده وناول مساعد سائق الشاحنة علبتين من علب الأكل. كانت حركة بارعة بحق. بارعة في فنيتها وبارعة في حجم المسؤولية العاطفية الأبوية التي تشي بها. قال توفيق: - لا تقل لي يا أبي إن سائق الشاحنة ابن أمّه أيضا! كانت لفتة الكرم الأبوية الخاطفة تلك، الصادقة أو الزائفة، كفيلة بسحق أكثر من ثمانين كائنا وتحويلهم الى كتل مهروسة من اللحم، لولا تدخل القدر وصواب وسرعة ردود فعل سائق السيارة "الملاكي" القادمة من الطريق المعاكس، الذي خرج من مساره جانبا، وهو ينظر مع أفراد عائلته الصغيرة الى موتهم المؤجل، برعب وذهول تامين. كانت علامات الرضا بادية تماما على قسمات سائق سيارة النقل، أمّا الركاب الثمانون فكانوا يحسّون دغدغة روحية وجسدية لا مثيل لها، وهم يجدون أنفسهم فجأة وهبوا حياة جديدة، وفي أقل تقدير مُنحوا عمرا إضافيا. 5 في تقاطع قريب من مدخل القاهرة توقفت الحافلة. أخرج السائق ثلاث علب طعام من صندوق السيارة وفتح باب السيارة القريب منه، بينما كانت عجوز ملتفعة بالسواد تتقدم صوبه. مد يده ووضع العلب في يديها. وضعت المرأة البائسة العلبَ على صدرها ونظرت نظرة عرفان الى وجه السائق وقالت: - لا أعرف كيف أجازيك؟ - دعاؤك يا والدة. رفعت الوالدة رأسها نحو السماء، بينما كان السائق ينطلق بالسيارة بحركة بارعة الى قلب الشارع وهو يحيي الشبح الأسود، الذي ظل يبتعد عنهم، واقفا على حافة طريق يقود الى عاصمة مفتوحة الفم، تنظر الى الدنيا العجيبة والمتقلبة بأربعين مليون عين. تساءلت زوجة السيد صاد: - يرشي من هذه المرة؟ لم يردّ عليها خشية أن تغضب، أو أن تذهب هباء تقطيبة وجهها الجديدة. كان السائق، كما يحسب هو، يرشي واحدا من إثنين: الله أو فطرته الطيّبة. 6 هم الآن في قلب القاهرة، في ميدان التحرير.شرع الركاب يغادرون الحافلة. رن الهاتف النقّال الخاص بالسائق رنينا طربيّا. ضغط على الزر وراح يخوض نقاشا عصبيّا حادّا مع صوت مستفِزّ مجهول. حينما مرّوا قربه كان قد فرغ من مكالمته الموجزة وهو يزفر بغضب. دنا السيد صاد من السائق وقال بصوت أنيس: - "ليه مبّوز بكرة تتجوز!" نظر السائق الى توفيق بإشفاق وأبوّة وقال: - "يقطع الزواج وسنينه!" 7 سخرية السائق اللاذعة من توفيق جعلته يصمم على انهاء كتاب باللغة السويدية استعاره من "مكتبة" الفندق. المكتبة! قد تبدو هذه الكلمة غريبة في رحلة سياحيّة، لكنها عادة اسكندنافيّة وربما أوروبيّة مثيرة وجدوا ما يشابهها في عدد كبير من البلدان السياحيّة: تونس، المغرب، تركيا، اليونان. ففي كل مكان يحلّ فيه السائحون يخلّفون وراءهم بعض الكتب، التي تتراكم شيئا فشيئا لتكوّن نواة مكتبات صغيرة لكتب التسلية في الغالب. ربما تكون ظاهرة إهداء الكتب صفة أوروبية قديمة، فمثل هذه الملاحظات سجلها همنغواي أيضا في مذكراته عن فترة الحياة في باريس في بدء نشاطه الأدبي. الكتاب الأول الذي قرأه توفيق أغراه على أن يستعير كتابا ثانيا لمؤلف أفغاني يعيش في أميركا يتحدث فيه عن الحقبة الأميركية في أفغانستان. أمّا أم توفيق فتعرفت لأول مرة، وهي خارج السويد، على الكاتبة السويدية موّا مارتينسون، وأدهشتها مقدرة موّا على وصف بيئة البؤس التي عاشها المجتمع السويدي في بداية القرن الماضي. أخبرها السيد صاد أن موّا زوجة هاري مارتينسون، الحائز على جائزة نوبل، فازداد إعجابها بها، وتعاضمت شكوكها في سلامة مقدرات كتابنا وحكامنا العقلية، كبشر طبيعيين، لا كقادة رأي ومجتمع فحسب. لكنه أخفى عنها أن موّا كانت عاملا حاسما في صعود هاري الأدبي، ذي الموهبه القوية الساطعة طبعاً. 8 - يا ”عم عبده”، تعيش معك زوجة هنا تحت "بير السلّم"، وأخرى في القرية، وثالثة لا يعلم حتى الله أين! كيف تستطيع أن تطعم كل هذه الأفواه المفتوحة؟ يبتسم عبده البواب للسيد صاد ويقول وهو ينظر الى السماء: - ربك لا ينسى عباده، يخلق المخلوق ومعه رزقه. 9 فجأة، بحركة بهلوانية ماهرة ، اقتربت سيارة الأجرة التي تستقلهم من سيارة أجرة تسير بمحاذاتهم في الشارع المزدحم. ابتسم سائقهم للسائق المجاور وقال: - هل أجد عندك قليلا من الماء. - تفضل. مدّ السائق قنينة ماء نصف مملوءة، تناول منها سائقهم جرعة وهمّ بأن يعيدها، لكن السائق الأول تجاوز سيارتهم وهو يقول: - يا أخي، ابقها معك. الدنيا مزدحمة وملتهبة! نظر السيد صاد الى وجه ابنه فوجد آلافا من علامات الدهشة ترتسم على "بوزه" المعروق. قال له: - هل أدهشتك حركة السائق البهلوانيّة؟ - نعم، لكن ما أدهشني أكثر هو أن يتبادل أخوان الماء في شارع مزدحم مثل هذا. - وكيف عرفت أنهما أخوان؟ - أولا قال له يا أخي، ثانيا انه يشبهه تماما، ثالثا طلب منه الماء مباشرة، رابعا شرب من القنينة المستعملة، وخامسا لم يعدها اليه. كان السائق يستمع باندهاش الى سلسلة طويلة من الأفعال والدوافع التي اعتاد ممارستها دون أن يكلف نفسه يوما مهمة تفسيرها، أو التفكير في تفاصيلها الصغيرة المألوفة. ظل يستمع الى الحوار وهو يبتسم متصنعا الانشغال بتغيير أغنية الدلع الفاجرة المنطلقة من جهاز التسجيل الموضوع تحت المصحف المغلّف بالساتان الأخضر. 10 بطاقة الائتمان التي وقّّّع سائق الحافلة عقدها مع تلك الأمّ الكسيرة البائسة، هي وثيقة الأمان الاجتماعي والنفسي، التي يوازن بها أفعاله، ويرسم بها خططه وهجماته المضادّة في معركة الحياة والموت اليومية. هل كانت عقد ثقة أم عقد شك في قوانين الثقة؟ من المحال أن يظل عابث مثله في انتظار جزائه المفترض، الذي سينثال عليه من السماء، حينما تقف هذه الأم الحائرة، المعذبة، بين أيادي الله لأداء الصلاة هذا المساء! هو واثق تماما أن تلك المرأة الكسيرة لم تكن سوى شاهد حي، يعزز صواب أفعاله ويوثقها، حتى لا يتم إنكارها من قبل محتال أو مسوّف، مهما كان حجم وغرض هذا الناكر ودوره في لعبة الحياة. هي شاهده الحسي، العادل، في مواجهة أية محاولة للغدر أو التناكر. إنه عقد شرف دائم، في دنيا زائلة، مليئة بالوقيعة والغادرين، مليئة باللصوص والمزوّرين. قال السيد صاد لزوجته: - أتعرفين من أنقذنا من الموت المحتّم قرب العين السخنة؟ - لا، من؟ - هو ذاته، الذي قرر أن يرزق تلك المرأة البائسة علب الطعام. تخيلي لو أننا متنا في الطريق، على سبيل الافتراض، لما وصلت هذه العلب الى المرأة الواقفة في نهاية الرحلة الخطيرة المزدوجة: رحلة السير من الغردقة الى القاهرة، ورحلة السير في دروب المصير. لو أننا متنا لما حدث تطابق بين الرحلتين، لانقطع ترتيب القدر وأختّلت بوصلة الدنيا. هناك أرزاق، وهناك من يقرر سبل توزيعها، وهناك سعاة يقومون بالتوزيع وأياد تقوم بالاستلام. هذه هي الخطة العامة؛ أما ما هو خاص فيها فهو سبل تنفيذ قوانين التوزيع: أن يمد المرء يده، رجله، ضميره، عضوه، لا يهم؛ أن نستلم العطايا بأيدينا، بأفواهنا، بجوارحنا، بأسلحتنا، بسلطتنا، هذا مجرد أسلوب لإدارة كيفيّات التلقي؛ تلك تفصيلات فنيّة صغيرة في لوحة القدر الثابتة، المقررة سلفا، تفصيلات عابرة، لكنها قد تكون حاسمة في المشهد اليومي، الحياتي، الماثل على الأرض، على الرغم من أنها لا ترتبط ارتباطا أكيداً ومعللاً بالقرار التقويمي المكتوب في اللّوح السرمدي، العلوي. لأن الكون خالق ومخلوق، أرض وسماء، يوم عابر وحياة أزليّة، جنّة ونار، عقاب وثواب، خطيئة ومغفرة، أغنياء وفقراء، حاكمون ومحكومون، روح وجسد، تذكّر ونسيان، موت وحياة، مركبة للّيل وأخرى للنهار، ويوم لك ويوم عليك. وبين النقيضين، بين أن نكون أو لا نكون، في المساحة الواقعة بين التذكر والنسيان، بين الخطأ والصواب، بين العقاب والثواب، بين الطاعة والمعصية، بين الانتقام والمغفرة، بين الولادة والموت، بين الجدّ والهزل نتقافز نحن مثل الجنادب، نبحث عن معنى يفسر لنا أسرار دبيبنا اليومي، نبحث عن أسماء لأبنائنا لكي نميزهم عن أفراد القطيع، ونبحث عن أصباغ لوجوهنا لكي نمعن في تمايزنا؛ نبحث نهارا، في الواقع، عن تفسيرات صادقة أو كاذبة تبرر أحلامنا وكوابيسنا الليليّة، ونبحث ليلا، في الأحلام والكوابيس، عن فراديس سحريّة تبرر لنا سر انغلاق سجن الواقع على أرواحنا؛ نبحث، مثل النمل، عن أبواب وطرقات ومسالك تعيدنا الى بيوتنا كل يوم؛ وبعد الغروب ننضو عنّا ثيابنا، ونمحو أسماءنا، ونمسح أصباغ وجوهنا، ثم نستقلّ مركبة الليل، ذاهبين الى أزمان بلا مسافات أو خرائط. - هل تعرفين أن أعظم الأخطاء التي ارتكبها العراقيون والمصريون القدماء هي أن العراقيين كتبوا عقودهم على رُقم طينيّة، أمّا المصريون فكتبوها على صحائف البردي، وكلا الصفحتين لا تملكان صلابة الحجر الحسيّة، أو قوة الغيب الأسطورية. هذا التأرجح المضطرب كان وسيظل مصدر خشيتنا وقلقنا القاتل. نطق السيد صاد كلماته ثم أغلق نوافذ كيانه المطلة على الآخرين واستغرق في التفكير. ربما لهذا السبب أطلقت ملحمة جلجامش على الدنيا تسمية عقد لا يدوم. ولهذا السبب أيضا كانت الأهرام بهذا الحجم الخيالي، يحرسها كائن أسطوري مصنوع من حجر غامض الهوية. ربما آن الأوان الآن أن يعيدوا النظر في وسائل كتابة عقودهم ومواثيقهم! 11 رفع السيد صاد كيس الخبز الخاص بمرضى السكّري وقال للبائع: - بكم هذا؟ رفع شخصان رأسيهما في الوقت عينه. رجل عجوز مهموم كان مشغولا بترتيب بضاعة على رفّ قريب، وآخر، شاب، كان يقدم بضاعة الى الزبائن في متجر البقالة الضيق، المزدحم بالبضاعة. قال العجوز: - بجنيهين وربع. لكن الشاب صاح بصوت أعلى: - خذ منه جنيهين بس يا جرجس! نطق ذلك وهو ينظر الى رجل يجلس خلف جهاز حساب العملة، ثم أشار اليه مبتسما: "جنيهين بس". وضع السيد صاد جنيهين في يد جرجس، لكن جرجس أعادهما اليه معترضا وهو يقول بنبرة جافّة: - ناقص نصف جنيه. - يا جرجس أنت تقول جنيهين ونصف، والرجل "الكبّارة" يقول جنيهين وربع، وذلك الشاب يقول جنيهين، كلام من أسمع؟ همهم جرجس بصوت خفيض، كما لو كان يخاطب نفسه: "فاكرنا أيه يا أخينا، فاكرنا حرامية؟"، ثم أضاف بصوت عال: - لا تجبني على سؤالي، أنا أجيبك: نعم، نحن حرامية، حرامية بحق، ولكننا والله حرامية طيبون! نطق ذلك بجد مخلوط بالسخرية والود وهو يعيد اليه ربع جنيه. - لا تسمع كلام أحد. نحن الثلاثة على خطأ. سعر خبز مرضى السكري جنيهان إلا ربع. ما رأيك؟ - يا جرجس إذا لم تكن مصر أم الدنيا، ترى، أم من هي؟ - أهو! خلصّنا من فزورات "أبو الهول" طلعت لنا أنت بفزورة جديدة؟ - اعتبرها كذلك، ولكن هل تعرف حلّها؟ لم يعد السيد صاد يعرف إن كان جرجس سمع كلامه كله وتجاهله لغرابة السؤال، أم أنه غرق فعلا في ملاطفة الزبون الذي جاء بعده، والذي أجابه نيابة عن جرجس، مستنكرا: - "أم أيه، وبتاع أيه!" الدنيا ليس لها أم ثانية، ليس لها سوى مصر. 12 مرة أخرى تصاعدت أصوات المعارك والضحك الهستيري وصوت الغناء القبيح والضربات على الجدران من شقتي الشبّان الخليجيين المجاورتين لشقتهم. كانوا يتبادلون العطايا والهدايا وغنائم رحلة الصيد اليومية المعتادة. قرر السيد صاد بغضب أن يضع حدّا لهذا التعذيب اليومي، الذي يبدأ بعد منتصف الليل ولا يهدأ إلا في مطلع الفجر. ليس هناك من يحلّ المشكلة سوى ”عم عبده”. لبس ملابسه على عجل وخرج من الشقة، لكنه فوجئ بفتاة تجلس على عتبة السلم الأخيرة. شابة نحيفة بوجه صغير محمّل بألوان عجيبة من تعابير الألم والانكسار والعناد والغضب والحزن والاستسلام المموه بالمكابرة. كومة مرعبة من الانفعالات غير المتجانسة والمترابطة. كانت ثائرة، مستفَزة، قلقة، جريحة الروح، باكية الوجه، تتصنع التماسك والعناد وهي تخفي خوفا دفينا تخشى أن ينفجر في وجهها دفعة واحد. كانت مشعثّة الشعر، على وجهها كدمات أو بقع لا يُعرف أهي من أثر الزينة المفرطة أم من أثر ضربات تعرضت لها. وقبل أن يضغط السيد صاد على زر المصعد سمع صوتا رجاليا يخاطب الفتاة بلهجة يمتزج فيها التهديد بالترغيب: - اسمعي يا بنت! هذا العبوس والعناد لا ينفعك ولا ينفعهم، كوني لطيفة معهم يكرموك، وإذا لم تسمعي كلامي هذه المرة لن أسمح لك بالمجيء مرة ثانية. "أنت عارفه، البنات على قفا من يشيل". عاد الى شقته، بينما ظل صوت الـ ”عم عبده” المتوعد يجلد كيانه مثل سوط من نار. 13 - أنتم من العراق!؟ تساءل سائق سيارة الأجرة بأعجاب مشوب بالاحترام والدهشة، فرد عليه السيد صاد مازحا: - لا تقل لي أنك كنت في العراق أيضا. فأنا لم أقابل سائق سيارة أجرة في منطقة الصعيد كلها لم يقل لي هذه العبارة، نصف عمال الفنادق قالوها أيضا. - ولماذا نمنعهم من قولها إذا كانوا حقا في العراق يوما ما. أما أنا فلم أتشرف بزيارة العراق الحبيب. نطق السائق ذلك وسكت. لم يسترسل ويثرثر عن الحرب وصدام والشعب العراقي كالآخرين. أحس هو كما لو أنه صدم السائق أو جرح مشاعره، وربما أفسد خططه. فآخر سائق تفاخر بتمجيد العراق وافق على قبول خمسة عشر جنيها على مضض مقابل نقلهم من الدهّار حتى شارع الشيراتون، علما أن المبلغ المعتاد عشرة جنيهات. ناوله السائق ما تبقى من ورقة الخمسين جنيها وهو يقول: حيّا الله العراق. وحينما عدّ السيد صاد المبلغ اكتشف أن السائق أعاد له ثلاثين جنيها حسب. توقفت السيارة مقابل مسجد السيدة زينب تماما. المسجد والميدان يشعّان بالأنوار. فجأة تختلط الأشياء في وعي السيد صاد. أمام الأنوار المتلألئة فوق القبور تختلط في كيانه الاتجاهات والأزمان، تتشقق واقعية الحياة وتغدو مزقا من الألغاز المحيرة. مشهد مثل هذا وبالاسم نفسه رآه في دمشق. السيدة زينب وأخوها الحسين يتميّزان بعظم الفاجعة وتعدد الأضرحة. أبوهما الإمام علي مثلهما يملك غير قبر: الأول في النجف والثاني في مزار الشريف. في أي مزار هو الآن؟ فكّر باضطراب. قطع السائق شروده حينما قال له بخجل وأدب جمّ: - هل تريدون أن أعبر بكم الى الجهة الثانية من الشارع، لكي تكونوا بجوار أم هاشم تماما؟ أجابه السيد صاد من دون تركيز وهو يناوله مبلغ الأجرة: - لا، شكرا، سنعبر الشارع بأنفسنا. نظر السائق اليه بحزن وقال: - خليها علينا. - شكرا، أنت أصيل! نطق الكلمات بإصرار واضح، وحثّ السائق على أخذ المبلغ. استعاد سيطرته على مشاعره. الآن هو واثق تماما أن السائق يتعمد الاستغراق في مشهد التعاطف، لكي يصل الى هدفه بيسر. هو خبير ممتاز بهذا الصنف من اللصوص المهرة! لم يمدّ السائق يده، وبدلا من ذلك قال: - أنا لا أجاملك، أنا لا أستطيع أخذها منك. وقبل أن يمد يده ليضع النقود في يد السائق عنوة ويقطع حبل المساومة الفاشلة، أضاف السائق: - أنتم ضيوف عندنا، أنتم تشرفونا. بودي لو أنكم تأتون عندنا ولو للعشاء، والدي وزوجتي وأولادي سيفرحون بكم، قسماً بالله سيفرحون حينما يرون عراقيا يشرفهم في بيتهم، ستحل علينا البركة علينا بكم. لم يتمكن هو من شكر السائق، كانت عيناه تمتلئان بالدموع. لم ينطق شيئا وهو يصافحه ويضع المبلغ قسرا في كفه الحانية، المترددة. كانت مشاعره تصرخ به، كما لو أنها قادمة من كائن آخر، خفي، ذبيح، يقيم في روحه: ليس من أجلنا فحسب، ولكن من أجل هذه اليد النقيّة لا بد أن يعود العراق الى أهله، أهله كلهم. عبروا الشارع باتجاه السيدة. خطا هو بتثاقل مثل تائه في برية الأنوار والألوان. كانت المزارات المضيئة تختلط مجددا في روحه، تختلط إختلاطا لا فكاك فيه. 14 قال ”عم عبده” وهو ينهض مسرعا ويأخذ الحقيبة من السيد صاد، ويحثّ ابنه الصغير على حمل الحقيبة الثانية، التي كان توفيق يجرها خلفه: - " ليه، ما كنا كويسين!" أجابه السيد صاد بجفاء: - أنت تعرف لماذا. - "يا بيه، الرزق يحبّ الخفيّّة." - أنا وأنت نعرف هذا يا ”عم عبده”، نعرف؛ ولكن هل تعتقد أن الذي رزقك كل هذه الأفواه، يُحب الخفيّة أيضا؟ - "يا بيه ربك غفور رحيم." - وهل يحق لنا أن نستغفل إلهاً على هذا القدر من الرحمة والمغفرة؟ هزّ ”عم عبده” رأسه وكتفيه مندهشا، كما لو أنه يقول: لا أفهم ماذا تعني. - ربما لا تفهم ما أعني، ولكنه يفهم. - من؟ - ذلك. أشار السيد صاد الى السماء وغادروا العمارة مخلّفين وراءهم ”عم عبده” واقفا مثل عود يابس فقد لونه وشكله ومعناه. 15 هدر صوت المحرك. وقبل أن يتحرك المركب في النيل، هبّ الفتى الوسيم الجالس بين أمه وأخته قائما وهو يقول: " "تحركت المركب!"، ثم بادر من فوره الى الانتصاب في منتصف المركب، وشرع يستعرض مقدرته الفذّة على أداء الرقص الشرقي. بدا الشاب للسيد صاد، للحظات، مثل كائن مبرمج، تم ضبطه وشحنه، ثم أطلق في وسط المركب ليقوم بحركات مدونة سلفا ومحفوظة في حاسوبه الجسدي. نسي الراكبون اللحظة الممتعة، المنتظرة، لحظة القلوع والتهادي بين أضواء المراكب القادمة. مزيج من الخجل والانبهار سرى مثل البرق في نفوس الراكبين جميعا، وهم يرون تقسيمات جسد الفتى الراقص تستفز أحاسيسهم لميوعتها ودقة ملازمتها للأغنية الصاخبة، الملتوية الإيقاعات. حتى أخته الصبيّة الجميلة، وضعت يدها على فمها إعجابا وحياء ودهشة. حينما توقف العرض البلاغي الراقص ساد صمت مفاجئ، مريب، إجباري، فرضته عليهم قوى غامضة، مطاعة. لحظات الصمت الثقيلة بدت كما لو أنها استراحة إجبارية قررتها قوى مجهولة، تأبي أن تختلط الصفحات ببعضها. قوى جبارة مدت يدها في أرواحهم ووضعت نقطة كونية كبيرة في نهاية سطر من كتاب الزمن. الصمت المفاجيء بحر السيد صاد الشخصي، بحره الأبدي العميق، الذي يُغرق فيه صفحات أيامه الممزقة والمحترقة. انتهت استراحة ما بعد العرض الجسدي، واستأنف الراكبون فتح صفحات جديدة، بينما ظلّ السيد صاد غارقا في لجّة صور أكثر إثارة ما انفكت تنثال على مخيلته. - الشرط الوحيد لقبولها مجددا هو أن تأتي هذه الوقحة، الخائسة، مستسلمة. مُسـ تَســــــــ لِمَة. نطق الشاب الخليجي وهو ينزع عن وجهه نظارته الشمسية الغليظة السوداء، كاشفا عن ملامح متعجرفة، ابتزازية، فردّ ”عم عبده” مسرعا: - "ومالو، تجي مستسلمة، يعني هيّ تخسر أيه لو قالت أنا آسفة ومستسلمة". - لا يا ”عم عبده”، لا. لا أريد أقوالا، أريد أفعالا. - "يعني أيه يا بيه؟" - يعني بالعربي الفصيح يجب أن ترفع علمها الأبيض الذي تلبسه بين فخذيها على رأسها، فوق الحجاب. فهمت يا ”عم عبده” معنى الاستسلام . هذه دعوة للاستسلام وليست مساومة بين أصدقاء. استسلااااااااااام! على الرغم من لباقته، واستعداده الفطري للرد على أي موقف بمهارة مدهشة، إلا أن ”عم عبده” ظل جامدا، ينظر بعينين فارغتين تماما، كما لو أن الشاب انتزع منه فجأة كل صفاته البشرية وجعله مثل عود يابس فقد روحه ومعناه وصفاته. "دعوة للاستسلام" العبارة الأخيرة، بتفاصيلها اللاأخلاقية المقززة، أنست السيد صاد صورا شنيعة مماثلة مرت على خاطره، وأعادته فجأة الى ذلك اليوم التموزي الأسود من عام 2006. كانوا حينذاك في اليونان، على السطح العلوي لسفينة سياحيّة ذاهبة الى إحدى الجزر. - سأدلكم على شيء جميل. قالت لهم الفتاة اليونانية، اليسارية الجميلة المشاكسة، التي ظلت تعتقد جازمة أن الانفصال بين لبنان والعراق ومصر وغيرها من الدول العربية يشبه الاختلافات بين القبارصة الأتراك واليونانيين، مؤقتة وزائلة؛ ولم تمنحهم، لفرط استبدادها الروحي وطغيانها الانثوي العنيد، الحق في تعديل أو تصحيح الصورة البهيجة والضبابية الراسخة في خيالها. كانت صغيرة الحجم، يهفهف قميصها الأبيض في الريح مثل سرب عصافير بيض مرفرفة. كانت ناعمة بشكل خيالي، حتى أن السيد صاد خشى أن تجرفها الريح وتأخذها معها الى سماوات بعيدة. أشارت بإصبعها الناعم، الدقيق، الذي ينتهى ببقعة حمراء قانية الى شيء ما في الأفق. ذكرته الصبغة الحمراء بعلامة "الحارق خارق" وعلامة "التنوير"، التي توضع على أغلفة رصاصات البنادق، لتمييزها عن غيرها. هل حقا توجد مثل هذه العلامات! أم أنها جزء من أوهام ذاكرته الجريحة؟ من أين أتت هذه الفكرة الغريبة؟ ثبتت اليونانية المرفرفة إصبعها في نقطة محددة من العدم الفسيح الممتد أمامهم وقالت مبتهجة: - هنا لبنان، لبنانكم الجميل! في النقطة اللامرئية، التي انغرز فيها الظفر المدبب الأحمر، كان السيد صاد يرى وجوه أصدقاء له، ربما هم، في هذه اللحظة، يستيقظون كسالى، متعبين من أرق الليلة الماضية، المليئة بالجدل والعراك الساخن حول الغالب والمغلوب في معركة السياسة اللبنانية اليومية المملة في تفاصيلها، والمسفّة في تشعباتها، والجنونيّة في مراميها المدركة وغير المدركة. في تلك البقعة الضئيلة، اللامرئية، كانت الطائرات الإسرائيلية المغيرة تقلب البيوت على رؤوس ساكنيها. في ذلك اليوم، وقبل أن تصحو البشرية من هول الصدمة، وضع أحد مواقع الانترنيت الصادرة في لندن على رأس موضوعاته وفي أعلى ترويسته مقالا اسمه : "دعوة للاستسلام"، يطالب فيه اللبنانيين والعرب جميعا بالخروج من ورطة الهزيمة المحتّمة رافعين، فورا ومن دون تردد، ملابس الأمة الداخلية على أعلامهم. لماذا هذه العجالة في الاستسلام؟ متى كُتب المقال؟ أيهما كان جاهزا قبل الآخر: كتابة مقال الاستسلام أم اتخاذ قرار الاستسلام؟ في أية لحظة من لحظات الصمت الإرغامي، التي تعقب افتاض بكارة الروح، كُتبت سطور الاستسلام تلك، وأعلنت في صفحة القدر المرتّب؟ ما حيّره في المقال أن كاتبه لم ينس في نهايته أن يؤكد بثقة تامة قائلا: إنه يعرف بأنه سيُتهم وصاحب الموقع "ظلما" بميول صهيونية معادية لمشاعر العرب المضللين. أراد هو أن يكتب شيئا يؤكد ذلك الظن، لكنه وجد من هم أجدر منه وأسمى يسبقونه ويكتبون بطرقهم الخاصة، بدمهم العنيد، جوابا عمليا، غير قابل للانكار، نشروه علنا على صفحات الأيام. مضى الحدث، ولم تُرفع أكفان الاستسلام المشتهاة. نظر السيد صاد الى وجه ”عم عبده” ووجه الشاب الفخور بعجرفته وساديته، فرآهما يختلطان بوجه الفتى الراقص، الفخور بتقسيماته الجسدية المنغّمة، وأحس، بالضبط، كما أحس لحظة قراءة مقال الاستسلام: وضاعة مطلقة، وصلف دونيّ لا حدود له، يثيران الاشمئزاز. ما الحدود التي تفصل بين الثقافة والرقص الشرقي؟ من أي ثقب نزل فريق" الكوماندوز" الإسرائيلي ليردي القادة الفلسطينيين قتلى في أسرتهم، وهم نيام في مقر إقامتهم التونسيّ الآمن!؟ لا يعرف السيد صاد لماذا تخطر هذه التساؤلات الغامضة والمريبة على باله في هذه اللحظة! هل هناك منطق ما، نفسي، وليس جغرافيا أو قوميا، يجمع بين فلسطين وتونس ولندن ومصر والعراق ولبنان؟ لماذا تختلط الأشياء والمسافات والحدود في خرائطه الذهنيّة؟ ومن يقدر على إعادة تركيب أجزاء الصورة المبعثرة في عالم الفوضى الروحية الشاملة التي تطوق حياته؟ لكنّ ما هو مؤكد تماما في عقله الآن هو أن الحرب لم تسرق أرواح اللبنانيين وممتلكاتهم حسب؛ حتى هم، الذين يمخرون في بحر هادىء بعيد، سرقت منهم الحرب مدخرات عام كامل وأيام إجازة جمعوها يوما يوما، وادخروها بشقّ الأنفس، لكي تعينهم على تحّمل عام قادم من العمل المدمّر للروح في منفاهم القصيّ، البارد. كيف له أن يستسلم وهو مطوّق بكل هذه الشهوة الاستسلامية، شهوة حروب الامتهان، التي تسرق أيامه وأكفانه، وحتى منافيه! ولمن يستسلم، لأي راقص، مبتكَر، أحمق؟ "هدية ببلاش. مش عاوز!؟ هوا راح تخسر شيء من جيبكّ. يا عم أنت الخسران! دا باين عليه وجه فقر!" صوت ممغنط، دبق، رجالي وربما نسائي، ينطق خلفهم؛ صوت يشبه خشخشة نشارة الحديد الصدئة المخلوطة بالملح وهي تُرش على جرح مفتوح. 16 اقترب الشاب المهذّب، المهذار منهم. اقترب أكثر فأكثر. سار الى جوارهم هامسا بكلمات لا تنقطع، ثم أخذ يقترب ويقترب حتى أطبق عليهم. إنه الكائن الممغنط. من أماكن غير مرئية ينسلّ الكائن الممغنط الى جوف المارّة، مثل حبرّ سرّيّ، ويعرض عليهم هدية من مصر، أم الدنيا. مصر التي يحبونها تعرض عليهم هدية متواضعة. صحيح أنها متواضعة، لكنها كبيرة المعنى، لأنها هدية من شعب مصر. هدية يضعونها في بيوتهم، في مكاتبهم، لكي تكون دعاية كونية للبلد الذي أحبهم وأحبوه. ماذا تخسر لو مددت يدك لاستلامها! الى أية جهة تقلبه يعود الكائن الممغنط الى الوقوف على قدمية. تقذفه الى اليمين، الى اليسار، تقلبه رأسا على عقب، لكنه يعود الى وضع الوقوف على القدمين. هذه اللعبة الطريفة المضحكة، التي كان السيد صاد يتسلّى بها في طفولته، يراها أمامه في كل مكان، في هيئة شابة جميلة محجّبة أو شاب حسن الهيئة، يعلنون عن مبيعات أو مشاريع خيالية أو سلع صغيرة حقيقية أو وهمية، لا هدف لهم سوى جرّك الى سحر معدنهم الجاذب. - "خذ! مد ايدك بس، أنا ما أدفعش من جيبي الشخصي، إحنا شركة حكومية بتمثل مصر، هدفها ترويج وتحبيب مصر. أنت بتحب مصر وإللا لا! طيب دي هدية من مصر. ليه تكون بخيل بعواطفك؟ مصر ملهاش قيمة عنك؟ أنت مش مغترب؟ أنت سفيرنا يا بيه عند الآخرين. آ، سفيرنا، وليه لا، أنت شوية؟ آ. بس كدة! ". هم جاهزون لكل سؤال ولكل احتمال. بعضهم يعرض بضاعة محددة، ومنهم من يعرض كل ما يوجد بين الأرض والسماء. قواهم المغناطيسيّة تستطلع صفات الماشين، تستنفر عناصرهم الخيّرة والشريرة، كما لو أنها تفتح تاريخ أعماقهم وصفحات ذواتهم المنسيّة، تهاجم خلاياهم النائمة، تستنفر كل ما فيهم من طاقة للحب أو الكره، من طمع أو قناعة، من مغامرة أو دعة، من إثارة أو هدوء حالم، من ضعف وقوة. خلال ثوان معدودات يجد المرء كهوف ذاته المظلمة قد أنيرت، وقواقع دفائنه المتحجّرة قد تفتحت. وحينما يحدث ذلك يعرف حينذاك، بالغريزة، أنه يتقافز مضطربا، مأسورا مثل سمكة على وشك الاختناق، حبيسا في شبكة الكائن الممغنط. لم يتمكن الرجل الممغنط من جذبهم. تركوه خلفهم يستعد لجذب كائن آخر الى معدنه اللاصق، المريب. نشوة انتصارهم الكبير على الشاب الممغنط لم تدم طويلا. ففي عصر اليوم ذاته، بغتة، من دون توقع أو استعداد، وجدوا أنفسنا يسحبون من أعماقهم نحو مجهول لا يعرفونه؛ مجهول يدركون زيفه وأخطاره، لكنهم لا يستطيعون تقدير حجم الخطأ الذاتي والاجتماعي الكامن فيه. خطؤك، الناتج من سوء التقدير الشخصي، وخطأ الآخر الناتج من سوء التدبير الاجتماعي لا أكثر تبرير دفاعي، لا أكثر من وهم ذاتي، لا يمكن القبول به من دون تحقق. كم يشبه هذا الأمر المنطقي لغز صعود أحجار الأهرام الى ذلك الارتفاع الشاهق مقارنة بملمس الحجر الأصم، الثقيل، ذاته. معادلة دقيقة، لكنها أقرب الى المعركة منها الى معادلة الخطأ والصواب. لأنها معركة تتعلق بشعرة واحدة: الموازنة بين الخير والشر، التسامح والقسوة، الحياء والوقاحة. كم هي واضحة وبسيطة ثنائيات الذات والمجتمع ككلمات! ولكن، كم هي بالغة الصعوبة عندما يضعون - من هم؟- جسدك وروحك لصق قوى التنافر والتجاذب، السالبة والموجة المستبدّة. قالت الفتاة الجميلة المحجبة، الممغنطة: - أنتم غير مصدقين كلامي، وهذا حقكم، لو كنت مكانكم لفعلت الأمر نفسه. أنا أعرف بماذا تفكرون. عملية نصب. ولكن تعالوا معي دقيقة واحدة "بس"، دقيقة لا أكثر، هنا، لا تدخلوا، قفوا في مدخل المجمع "بس" وانظروا. نطقت كلماتها بثقة تامة وهي تشير الى مجمع تجاري، ذي بوابة كبيرة، مفتوحة، يرى المرء منها عددا كبيرا من المحلات التجارية العصرية لبيع الملابس والسلع المنزلية، تتوسطها ساحة واسعة مليئة بالناس والحركة. مشت أمامهم. ساورا خلفها بوجل. توقفت أمام منضدة واسعة تكدست فوقها كتيبات سياحية وأوراق محاسبة وفواتير وسجلات أنيقة. فتاتان شابتان، محجبتان جلستا خلف المنضدة وعلى محاياهما ابتسامة واسعة، مغرية ومرحبة. نظرت الفتاتان اليهم ثم عاودتا الانشغال بعمليهما المشترك. أمام المنضدة رُصّ عدد من الكراسي الوثيرة، ذوات الطراز القديم، والى جوارها إعلان سياحي كبير عن مصر. - هذا مكتبنا، في وسط أرقى المحلات التجارية، نحن نعمل في النور، لأننا نمثل مصر رسميا. انظروا هناك، هناك بعض مكاتبنا. نطقت الفتاة ذلك وهي تشير الى ممر منزو، يقع بين محلين تجاريين. وفي اللحظة ذاتها أشارت الى شاب كان يسير قرب الممر، وقالت بصوت عال: - يا منير! ممكن أن تأتي الى هنا، تسلم على الجماعة؟ أجاب الشاب، بدماثة عالية: - مرحبا بهم، سأتي حالا، بعد أفرغ من معاملة زبون مستعجل، سائح من سويسرا. نظرت الفتاة اليهم بثقة أكبر وابتسامة أعرض، وقالت وهي تشير الى الكراسي الفارغة: - هؤلاء نحن، تفضلوا. جلسوا. وحالما رفعت الفتاتان المبتسمتان رأسيهما نحوهم غادرت الفتاة الأولى المكان على عجل. 17 دفعوا عشرين جنيها لفتاتي شركة الرسالة للسياحة، وحددوا موعدا لمعرفة التفاصل وتوقيع العقد عصرا. تجاوزوا الفتاة الممغنطة، التي عادت الى مكانها السابق في الشارع تنظر بيقظة تامة الى وجوه السائرين، بثيابها المحتشمة، المتناسقة الألوان، والمبهرة. أسرعت اليهم حالما رأتهم خارجين وقالت: - نسيت أن أخبركم شيئا مهما جدا جدا جدا. ربما سيعرض عليكم آخرون عروضا مماثلة، هناك شركات متنافسة كثيرة، ولكن هناك بعض النصابين أيضا. خذوا حذركم! نطقت الكلمات على عجل وعادت الى موقعها. كان اللون الأخضر الفاتح لحجابها وتنورتها الطويلة يكسران خمول لون قميصها الأصفر، ويمنحان قوامها ألفة محببة، تشبة الطمأنينة والاسترخاء. كان وجهها الجميل أليفا الى حد لا يصدق، كان يستلقي وسط طوق من أوراق أشجار الخريف المحاطة ببعض بقايا عشب الربيع. على بعد خطوات فحسب اصطدمت بهم فتاة شابة مسرعة، التفّت من خلفهم ووقفت أمامهم في الشارع المزدحم. نظرت اليهم بارتباك. وجه دقيق الملامح، مضطرب، فيه اندفاع وعدم ثقة، شعر كستنائي يصل حتى الكتفين، وعينان حادّتان. وجه جميل، لكنه يعلن بكل تفاصيله أنه خارج توا من معركة خاسرة، وأنه مقدم على معركة خسارتها مؤكدة تماما. - أنتم عرب طبعا! نطقت بثقة بيّنة الاصطناع، فرد السيد صاد عليها: - نعم، وقد اتفقنا للتو مع شركة الرسالة وانتهى الأمر... - ليس لدي شركة، ولا أعرض شيئا للبيع أو للشراء. أنا صحافية. مدت يدها في حقيبتها اليدوية وأخرجت بطاقة شخصيّة وأضافت: - تأكدوا من اسمي وعملي وصورتي. هل أستطيع أن أقطع من وقتكم بضع دقائق؟ بضع دقائق! - بضع دقائق "بس"! نستطيع أن نجلس، هنا، في هذا المطعم، هو مكيف الهواء، وفيه مشروبات باردة، مشروباتكم أنا أدفعها، ما رأيكم؟ لم يترددوا كثيرا. ساورا بمرافقتها الى المطعم. جلسوا قرب واجهة زجاجية تفصلهم عن الشارع المزدحم، الصاخب، الملتهب الحرارة. على الرغم من غموض الموقف، إلا أنهم أحسوا أن مجيئهم كان استراحة ضرورية. أمدهم هذا الإحساس ببعض الراحة، خفف بعض قلقهم، لكنه زاد من حجم فضولهم. بيد أن الفتاة لم تمهلهم كثيرا ولم تدعهم يغرقون في التفكير. عاجلتهم قائلة: - أنا كما قلت صحافية أعمل في قسم التحقيقات، كما رأيتم في بطاقتي الصحفية. وأنا في نفس الوقت أعمل لحسابي الخاص، يعني بعض التحقيقات الصحافية التي لا تنشرها صحيفتي بسهولة، أنشرها في مواقع أكثر جرأة. ردّت زوجة السيد صاد، وهي تنظر الى كل اتجاه: - ربما الكاميرا الخفية؟ - لا لست من هذا النوع، أنا صحافية جادة، جادة جدا، ولا أهتمّ بالتسالي. وما يهمني الآن، وأنا أظن أنكم غير خليجيين وأنكم ربما قادمون من أوروبا، أنني استطيع أن أطلب منكم خدمة، هذ خدمة خاصة لي بحكم مهنتي، ونافعة لكم لأنها ستحميكم. - تحمينا! نطق السيد صاد، مندهشا وأضاف: ممن؟ - سأوضح لكم الأمر بدون لف أو دوران. أنا أشك في صدق مثل هذه الشركات الوهمية التي قابلتكم. ولكنني لا أملك دليلا قاطعا على ذلك، كما أني لا أستطيع التحقق من ذلك بنفسي، لكني أستطيع فعل ذلك معكم، فأنتم لا تختلفون عني في الشكل، وأنا أستطيع أن أحضر اللقاء ومناقشة تفصيلات العقد معكم باعتباري واحدة من أسرتكم، وربما سألتقط بعض الصور الضرورية، فما رأيكم؟ - أنا قلت الكاميرا الخفية. نطقت الزوجة وراحت تنظر مجددا الى كل اتجاه، لكن الصحافية طمأنتها مجددا: - أنا لست من هؤلاء. تستطيعون تأجيل الموعد الذي اتفقتم به مع الشركة وستذهبون معي الى مكتب الصحيفة، وحتى الى بيتنا. نعم لماذا لا، الى بيتنا. بيتنا متواضع، لكنني سأعرفكم على أبي وأمي وعلى أخواني وأخواتي، وستعرفونني على حقيقتي، إذا كنتم غير مطمئنين، ولا أنصحكم بالذهاب مع أحد الغرباء الى مكان مجهول. - هم قالوا لنا مثل هذا الكلام. - هذا جزء من اللعبة. - لعبة من؟ إنهم ليسوا غرباء، هم يشتغلون علنا، في مكان عام، وسط مجمع مزدحم بالناس، ويوزعون بطاقات شخصية فيها أرقام هواتف وأسماء وعناوين. - وفيها عشرات الأمور غير الدقيقة والمريبة، التي لا تُرى من الوهلة الأولى في حديث سريع، أمور مصممة تصميما مسرحيا دقيقا، جرى التمرين عليها مرارا وتكرارا. نظر السيد صاد الى وجه زوجته، التي قابلته بنظرة ممائلة، محملة بالريبة والتردد. ومن أنت؟ فكر السيد صاد وزوجته. - أما أنا، فأنا صحافية وقد عرضت عليكم زيارة عملي وحتى بيتي ومقابلة عائلتي. ستقولون أنكم أمام خيارين غامضين. وأنا أقول: نعم. أنتم في هذا الموضوع. - لقد حذرتنا الفتاة من الشركات... - المنافسة. أنا لست شركة، ولست منافسة. - ولكننا غير ملزمين بأن نختار، نستطيع أن نرفض الطرفين. - نعم، تستطيعون هذا. ولكنكم دفعتم جزءا من المبلغ. - ما دفعناه كان تافها، لا يستحق المطالبة. - حتى هذا المبلغ أستطيع أنا، لو ذهبتم برفقتي، استعادته لكم. فقط دعوني أرافقكم. ما رأيكم؟ فكّر السيد صاد بأنه مرغم على استخدام فراسته، رغم أنه لم يعد واثقا من شيء. فكر في تغيير سير الحوار، لكي يعرف الى اي اتجاه تسير الأمور، وكيف يرتب الخطوة القادمة على مهل. - وكيف تطمئنين أنتِ الى أشخاص غرباء، هكذا من الشارع الى البيت؟ - هذه مغامرة. بعض أجزائها أتحكم أنا بها من خلال إطلاع رئيس القسم الذي أعمل فيه وبعض الزملاء، لكن الباقي يكون حسب الحظ. مغامرة، كما قلت. - لكنك لا تبدين مغامرة. تبدين متحمسة، ولكن... - غير واثقة. - هل أنت حقا غير واثقة؟ - نعم، هذا صحيح، لأنني لا أعرف نتائج ما أفعله، ولا توجد ضمانات بنجاح كل ما أفعله. يعني لعبة حظ. لكني أملك بعض الحسابات الخاصة، فأنتم عائلة، معكم ولد، وأنتم في بلدي، وهذه أمور مشجعة لي. لكن كل شيء مرهون بالحظ، كما قلت. - نأمل أن تكون لعبة الحظ ناجحة هذه المرة. نحن مغامرون مثلك، ولكن كيف تم اختيارنا؟ نحن على وجه التحديد؟ - ببساطة؟ حدث كل شيء بالمصادفة. فأنا كنت أقف قرب بائع الكتب والجرائد على الرصيف في مدخل المجمع الذي ذهبتم اليه بصحبة فتاة الشركة السياحة. أنا أيضا كنت أمارس دور الصياد. رأيتك تشتري كتبا للأطفال ومجلة الثقافة الجديدة وكتاب مذكرات جورج تينت. أنت عراقي إذاَ، مضبوط؟ - مضبوط. - طبعا الجزء العراقي تأكدت منه حينما سمعتك تتحدث مع الفتاة. - أنت تصلحين شرطية تحريات. - كولومبو! ضحكت بثقة عالية. مصر تستعيد رونقها البهيج حينما تكون واثقة، قوية، والسيد صاد يستعيد أوهامه حينما تستلم مجساته الخربة نبضات قادمة من أعماق نائية تستفز روحه المثارة. - هل تعرف أننا حقيقة نشبه المخبرين في طبيعة عملنا، لكننا مخبرون لا نحظى بثقة السلطة. أنتم لا تستطيعون أن تتخيلوا كم مرة حاولت أن أجد من يوصلني الى هذه الشركات وفشلت لأسباب تتعلق بالثقة، الناس يثقون بالنصابين أكثر من ثقتهم بصحافي. - تطور مهارات النصابين لها دور في ذلك أيضا. إنهم أكثر حرفيّة منكم، أو لنقل إن مؤسسة النصب ومهنة النصب تاريخيا تملك عمقا وخبرات لا تقارن بخبرة الصحافة والصحافيين. - مقارنة طريفة! كم أود أن أعمل تحقيقا تسجيلا عن ألاعيب سواق سيارات الأجرة وموظفي السياحة، ليس لأنها مثيرة وتهم الرأي العام فحسب، لكن لأنها قضية وطنية بكل معنى الكلمة، تمس سمعة الوطن وتمس مستقبل اقتصاده. السياحة ركن أساسي من أركان الاقتصاد المصري، والسائق وبائع المتجر والمطعم وعامل السياحة وجه البلد أمام السائح الأجنبي. المسألة تتعلق بالصورة التي يرسمها الآخر عنّا. ولكن لا أحد يفهم هذا. المشكلة الأكبرهي أننا نقول إن هؤلاء "غلابة" لماذا لا نبحث عن القطط السمان ونترك "الغلابة " في حالهم. وهناك من يعتقد أن "الفهلوة" والاحتيال العلني فولكلور. تصوروا! أبي يحذرني يوميا من جريمة تصيد "الغلابة": يا بنت فكري بالذين يجلسون في الأعلى. ولكن كيف يرى الآخرون مصر؟ قالت زوجة السيد صاد، وهي تنظر اليه: - ما رأيك لو نضيفها الى أسرتنا بحق؟ التفتت الى الصحافية وقالت: رغم أننا نسكن في مجمع سياحي، تستطيعين أن تأتي معنا حتى الى الغردقة لو شئت، ستتعرفين على خفايا عجيبة. هتفت الصحافية من هول المفاجأة مثل طفلة: - خذوني معكم. ولكن، ماذا تفعلون هنا إذا كنتم تسكنون في الغردقة؟ - هربنا من السجن السياحي. نطق السيد صاد كلماته الساخرة، مستعيدا لغة أدمنها يوما ما، وركنها في جزء خفي من أعماقه المتعبة. لكن كلماته القليلة سرت مثل شحنة حاسمة من الطاقة الحبيسة، فصارت ايذانا بانقلاب المعادلات، التي انعكست فجأة على مزاج الصحافية أيضا. - ستكون ضربة الحظ التي حلمت بها. بالمناسبة أنا لدي أقرباء في الغردقة. اتفقنا. لم يتفقوا على شيء. كانت الأشياء تجرّ بعضها، مثل قاطرة متعددة المقطورات، ذاتية الحركة. بدأت بمصادفة على ناصية شارع. مصادفة رتبتها أياد ماهرة. فجأة تحولوا الى ساحة للصراع، مادة لمعركة شرسة طرفاها غامضان: صحافية مغامرة تسعى الى تحقيق ذاتها وسط غابة كثيفة الأشجار، وباعة أخيلة مهرة يتكسبون من ممارسة بيع القصور في الهواء. أضحت خطتهم على النحو التالي: سترافقهم علياء، الصحافية، باعتبارها ابنتهم، شريطة أن لا تتكلم أبدا. اتفقوا على أنها ستمثل دور الخرساء. مثلت أمامهم بعض المشاهد الصامتة فكشفت أنها ممثلة موهبوبة في تأدية دور الخرس. أصرّت على أخذهم الى بيتها المتواضع في الدقي، ربما لكي تعزز الثقة في نفوسهم، أو لتعزز الثقة في نفسها. عرفتهم على عائلتها: الحاجة أم علياء، والأب أحمد مرسي الموظف المتقاعد المصاب بالشلل النصفي، والأخوة الأصغر: بنتان وولد. لم يروا أكبر الأولاد، الأصغر من علياء سنا، لأنه غادر كعادته البيت ولم يعد منذ يومين. 18 سلّمتهم الفتاة الممغنطة الجميلة، ذات الحجاب الإلهي الناعم الى مجموعة من الفتيات الممغنطات. التقطتهم "أفكار"، المحجّبة السابعة، ذات الحجاب السماوي. جذبتهم نحو غرفة اسمتها غرفة العرض السياحي. سلمتهم اليها المحجّبة السادسة، ذات الحجاب الأخضر، التي اختفت بلمح البصر في زاوية من زوايا شركة "الرسالة للتنمية والخدمات الاجتماعية"، بعد أن وضعت أمامهم وثائق وعقود توقيع صفقة شراء أسهم سياحية "شرعية وقانونية"، مملوكة للدولة المصرية، في محميّة الهواء الطبيعيّة، المبنيّة في ركن خفي، ساحر وخالب، من أركان أم الدنيا. فكّر السيد صاد: كم من الأشياء - الاجتماعية والسياسية والشخصية- تُسلب وتُسرق من حياتنا يوميا من دون أن نعي ذلك؟ أيهما أقوى الخير أم الشر؟ الجمال أم البشاعة؟ العقل أم ضعف الإرادة؟ القوى الممغنطة سرقت منا، رغما عنّا- لم يرغمنا أحد!- الزمن المخصص للذهاب الى دار الأوبرا. الأوبرا! أي عرض ستقدم هذا المساء؟ كم بدت له هذه الكلمة مصطنعة، هشّة، مقحمة، نابية، وفوقيّة! في مجرى الشارع المكتظ بالمركبات علقت أمرأة عجوز بين السيارات المندفعة بجنون وأنانية، بعد أن عبر أبناؤها الشارع بسلام وهم يتقافزون كالجنادب، تاركينها خلفهم خائفة، صارخة، مصابة بالذهول. كانت مصرية خالصة، مصرية تماما كطمي النيل. كانت جزءا أصيلا من المشهد، جزءا خاليا من الصنعة ومن الإقحام والهشاشة والنبو والفوقية؛ كانت أمّاً ولوداً من أمهات الدنيا. الأبناء الحقيقيّون لا يتركون أمهاتهم نهباً للعواصف. ربما هي ليست أمهم! أتكون أمي! فكّر السيد صاد وهو يختبئ في تابوت ذاته. أتكون أمي! أمي التي تركها ورائي هناك، قبل خمسة وثلاثين عاما، تركتها عالقة في زحام الحروب والمآسي، حينما هربت لأنجو بجلدي باحثا عن أصالتي المصطنعة، الهشة، المقحمة، النابية، الفوقية!؟ 19 قال موظف الفندق للسيد صاد بود: - لا أظن أنكم ستحتملون عذاب الزحام الخانق والحر الشديد، أنا أقترح أن تستأجروا سيارة الفندق، سعرها مناسب، لا يزيد كثيرا على سعر سيارة الأجرة العادية، وستبقى معكم طوال زيارتكم للجيزة، والأهم من هذا كله أن لويس، سائقها، شخص مهذب، على خلق عال، وهو طراز نادر من المثقفين، ستمتعكم ثقافته. الأهرام وأبو الهول كانت هدفهم الأول، لأن ابنه توفيق لا يعرف من مصر سواها. أمّا مصر بكل اتساعها وعمقها فلا تعني لدى ابنه سوى هرم من حجر لا يعرف كيف تم رفعه بأيد عارية الى هذا العلو فوق الرمال. المعارف البسيطة التي يمتلكها الإبن عن مصر جاءت جلّها مما تعلمه في المدرسة وشاهده في بعض أفلام المغامرة. لكن الدرس الأكبر جاء من الرواية البوليسية "لغز المصريات"، لآرثور فيليبس، أي لغزعلم دراسة التاريخ المصري، التي كتبت عنها إحدى دور النشرقائلة: "تجربة قرائية لامعة، معمار ثقافي، متاهة مظلمة، تسلية عنيفة، ثعلبيّة ( مخاتلة)، ملتوية، وحفر في طبقات الأرض"، ووصفتها إحدى كبريات صحف السويد قائلة: " حكاية هائلة، هائلة حرفيّا، تُبتلع صفحة بعد صفحة"؛ وكلمة تبتلع هنا تعني أيضا تُقرأ على نحو سريع. بيد أنه لم يتمكن من ابتلاع سوى عشر صفحات منها بعسر بالغ. أمّا ابنه توفيق فثابر على تتبع ألغازها. لذلك كان الابن كمن يريد أن يتأكد من حقيقة وجود الأهرام في الواقع، لكي يتأكد من صواب وسلامة كلمات اللغز؛ كما لو أن اللغز، كأحجية، ككلمات، كإبداع خيالي محض، أقوى من الواقع الذي صنع اللغز والخيال. فضول الابن اللامتناهي يدفعه الى تحسس الحجر الأصم ليتحقق به، بواسطته، من صدق فكرة الحجر الموجودة في وعيه، وفق منطق غريب، لا يفهمه السيد صاد شخصيا، يقول: إن الوجود انعكاس للوعي، أو بعض امتداداته الخارجية، المتحجّرة. حينما كان صبيّا، في مثل عمر ابنه، لم يكن يجيد الفصل بين الأحجار والأفكار. كانت المعتقدات والأمكنة، الأشخاص والمفاهيم، التراب والهواء والأخيلة تختلط في أعماقه: سواد عباءة أمه يختلط بسحر الأئمة المعصومين، ومتاهة بساطة أبيه المعقدة تختلط بتاريخ خرافي عن أماكن وأزمنة ذائعة الشهرة، لكنها غامضة الهوية، مطموسة الملامح. كان الوجود والوعي شيئا واحدا عنده، مثل وحدة الجد والهزل، الألغاز والحقائق، الماضي والحاضر، الثورة والاستسلام، الأخذ والعطاء في حياة المصريين. - أجرة السيارة زهيد جدا، لا أكثر من مئة وثمانين جنيها "بس". - بما أننا سندفع هذا المبلغ فإننا نفضل سيارة ذات تكييف هوائي. - لا يا باشا، الوضع اختلف في هذه الحالة، السيارة المكيّفة تختلف. صمت الموظف ثم أضاف: تختلف قليلا جداً جداً: تستطيعون استئجارها بمئتين وعشرين جنيها. ولا تنسوا: معكم سائق مثقف وأصيل، اكرموه بأنفسكم على مقدار جهوده. 20 توفيق وعلياء أضحيا متنافسين وخصمين دائميين في أمور التصوير، خاصة التصوير المتحرك. أخذت علياء تصحح له دائما منظور اللقطة باعتبارها صحافية، وكان هو يزداد عنادا، لأنه يريد أن يثبت تفوقه الأوروبي، ودرايته بالآلة، كمنتوج غربي. لكن صبر علياء نفد حينما استوقفتهم مرة، بعد أن أدركت عدم مبالاتهم بنصائحها الفنية التعليمية القيمة. حينما انفردت علياء بهما، بغياب توفيق قالت: - اسمعوا يا جماعة، أنا أريد أن أقول لكما شيئا، أرجو أن لا يفاجئكما. - الله يستر! نطقت الزوجة، أما السيد صاد فاستعد لايقاظ الجزء النائم، أو المنوم، من قلقه الدائم، الذي تخلى عنه مؤقتا، وهو يراقب سلوك علياء المثير للشجن. علياء التي تشبهه شبها مطلقا، حينما كان صحفيا مبتدئا في سنها، والتي يرى فيها الآن جزءا حبيبا من نفسه يعاد أمامه، متلبسا روح وشكل كائن آخر. استعدّا للصدمة بوقار المندحرين، المخذولين: - أنا لا أريد أن أخفي عنكم شيئا، لأنني أثق بكم تماما، وما سأقوله لا يعرفه أحد حتى أمي، يعرفه شخص واحد هو الحاج أحمد مرسي، أبي، لأنني أثق به ثقة مطلقة، ولا أريد أن أفعل شيئا ضارا لأسرتي من دون معرفته. ولهذا أعتبركما بمنزلة أبي الآن. عاد الاطمئنان اليهما، لكن الفضول أصبح بحرا متلاطما. - أنا أعمل صحافية هذا صحيح تماما، لكنني الى جانب ذلك أعمل صحافية توثيقية بالصورة، من جماعة ما يعرف بالمدونين المجهولين، المختصّين بصور الانترنيت المجهولة. الصور السياسية والاجتماعية الحادة والمثيرة، التي لا تنشرها المواقع المعروفة، والتي تتطلب أقصى السرية. قالت الزوجة بخوف: - مثلا؟ - مشاهد التعذيب، الرشوة، قمع الاحتجاجات، السمسرة، الى آخره. - الكاميرا الخفية! قالت الزوجة ضاحكة، ولكن برهبة، فرد السيد صاد باسما: - نعم الكاميرا الخفية، لكنها الكاميرة الأخرى المحظورة بقوة قانون التخلف والإرهاب الحكومي والاجتماعي. هل تعرفين يا علياء أنني لو كنت ولدت زمانكم هذا، لكنت سلكت الطريق نفسه. - هل أنتم راضون عني؟ - إذا كان الحاج أحمد مرسي راضيا، فنحن راضون أيضا. لقد قبلناك على أن تكوني ابنتنا تمثيلا قبل يومين، لكننا الآن نطلب من الحاج مرسي أن يوافق على أن تكوني ابنة حقيقية لنا. قفزت مثل طفلة وشرعت تغرقهما في القبل. كان توفيق ينظر الى المشهد بخصام مطلق. حينما انتهت من التقبيل نظرت الى توفيق بثقة وقالت: - قبل أن تلتقط الصورة ادرس المشهد جيدا: الصوت ، الضوء، الزاوية، المادة الرئيسة، المادة الثانوية والفرعية، الاحتمالات المفاجئة والممكنة. فهمت الدرس؟ لبثت علياء تمارس هواياتها السرية على توفيق. أحس السيد صاد بارتياح تام، أن علياء شرعت تمارس الآن هوايتها علنا وتستمتع بهذه الحرية الصغيرة، التي اصطنعتها لنفسها. 21 الفتيات المحجبات اللواتي أردن إغراءهم واقناعهم بشراء أسهم بيت سياحي ذي خمس نجوم، مشيد على طراز معماري فريد، في إحدى المجرّات الكونيّة المجهولة، فشلن في مسعاهن. لم يُستدرجوا للوقوع في الفخ، ولم يقبضن منهم سوى مبلغ عشرين جنيها، قمن بـ "لطشه" على أنه تأمين سيعاد بعد الصفقة. صفقة الشراء لم تتم لأن الفتيات اللبقات البارعات لم يتمكنّ من إثبات أن شركة "رسالة للتنمية والخدمات السياحية" تابعة حقاً للدولة المصرية، وأنها حقا جزء من وزارة السياحة المصرية، والأهم أنها مخوّلة ببيع أسهم حكومية. حدث ذلك في وضح النهار، في منتصف شارع جامعة الدول العربية، بجوار الأسواق الحرة، بالمهندسين. قالت الفتاة ذات الحجاب السماوي، التي اسمها "أفكار": - لو وقّّعتم العقد الآن ودفعتم ثلث المبلغ "بس"، يعني ألف يورو "بس"، لحصلتم على خصم قدره أكثر من ثلاثين بالمئة. ولكن لماذا تكتفي ابنتك بالابتسام والتصوير؟ دنا السيد صاد منها وهمس في أذنها: - ألم تخبرك صديقتك بأنها خرساء؟ انقبض وجه "أفكار" لحظات، لكنها تغالبت على مشاعر الضيق وعادت الى حماسها التجاري. حاول هو أن يفصل بين "أفكار" ككائن، كأنثى، كإنسان، كبائع، وبين أفكارها، كمشروع للبيع، كخيال. لكنها كانت تفلت من شباكه، تتملص بليونة خارقة مثل سمكة عنيدة بارعة. أدهشه أن "أفكار" تركز تركيزا خاصا على كلمة "بس"، وتنطقها بهمس فريد، يشبه الدعاء. - أكثر من ثلاثين بالمئة من ماذا؟ - من قيمة البيت السياحي ذي الخمس نجوم. - هل تعرفين أن كلمة "بس" بفتح الباء تعني الطرد، وبالضم والكسر تستخدم لزجر الإبل في العربية الفصحى؟ - لا، لا أعرف. - وهل تعرفين أنها تعني حسب في أغلب العاميات العربية؟ كيف حدث هذا؟ كيف عبرت هذه الكلمة الى العراق وفلسطين وسوريا واليمن ومصر ولم تدرج ضمن الفصيح؟ أيهما الفصيح: الورق أم الحياة؟ الحجر أم الخيال؟ الأفكار أم لبس الحجاب؟ بس أم فقط أم حسب؟ - أنا لا أفهم في علوم اللغة ومتاهاتها. - أية يد تمسك مفتاح الحياة يا "أفكار"؟ ولماذا هو مائل دائما كحظوظ الفقراء؟ لم تجب. تعاظمت أمارات الحيّرة والاضطراب في عينيها المطمئنتين، اللتين فقدتا فجأة آخر ذرة من ذرات الثقة والأمان. هزّت رأسها وقالت: - لا أفهم شيئا مما تقول. - إذاً نحن متعادلان في معارفنا. أنا أيضا لا أفهم في علوم البيوت السياحية المبنية في الهواء ومتاهاتها. أيتها المحجّبة بوشاح يشبه السماء في ألقه! لو أن هذه المواهب والمخيّلات والإرادات الفذّة وُظفت في عمل تجاري أو إجتماعي أو علمي أو فني حقيقيّ لأثمرت أضعاف أضعاف ما تنتجه عمليات ارتزاق تافهة، ولكن معقدة ومملة وطويلة، وغير مثمرة إجتماعيا وأخلاقيا. بانكسار تام نظرت "أفكار" الي السيد صاد ، ثمّ حولت بصرها، بلمحة خاطفة، الى عينيّ الشاب، الذي ادعى أنه مدير شركة الأسهم، والذي ما انفك ينتظر بفارغ الصبر ظهور ابتسامة توقيع العقد على شفتي "أفكار" الناعمتين، الواشيتين. وقبل أن تعود عيناها القلقتان نحو السيد صاد مجددا، لمحت "أفكار" خيبة كبيرة مرسومة على وجه مديرها، الذي تأكد أن السماء لن تمطر هذه المرة. "أفكار" يا "أفكار" إنّ الحظّ عاثر! 22 ليومين لم يتمكن توفيق من عبور شوارع وسط القاهرة إلا بالارغام: لا مناطق لعبور المشاة تُحترم، إشارات ضوئية لا تعمل أو لا يعترف أحد بوجودها إذا كانت صالحة للعمل، لا إشارات للاتجاه ولتحديد السرعة، شتائم وأبواق سيارات مزعجة وضوضاء منفلتة من عقالها. أي قانون ينظم هذه الفوضى العارمة؟ قال توفيق: - هذه غابة مطرية وليست مدينة! غابة خطيرة. كل شيء هنا يُعاقب عليه القانون: السرعة، حزام الأمان، منطقة العبور، منبّه السيارة، التجاوز، عدم احترام حق المشاة، الخروج من المسار، الانعطاف المفاجىء، الوقوف الاعتباطي، تجاهل الإشارة الضوئية، أولوية المشاة... أين القانون؟ أجابه السيد صاد: - هل تعني أننا يجب معاقبة المجتمع كلّه، من الرئيس حتى بواب العمارة؟ رد توفيق بثقة أكيدة: - هل لديك شكّ أو اعتراض؟ 23 - ما الذي جعلكَ تطمئنّ الينا؟ هذا سؤال شخصي، نسأله دائما كنوع من استطلاع الرأي. نطقت إحدى الفتيات المحجبّات اللائي عرضن عليهم شراء أسهم بيت سياحي في الهواء. على الرغم من أن ذلك السؤال الحاذق كان حركة نفسية بارعة هدفها منحهم المزيد من جرعات الأمان، إلا أن السيد صاد أجابها بصدق وهو يرى وجهها الجميل يجمع في وحدة لا مثيل لها بين محاولة احتراف المكر وشدة تغلغل البراءة الفطرية في أعماقها البعيدة: - سأسأل ابنتي، ربما هي التي ستجيبك عن هذا السؤال. التفت السيد صاد الى علياء، التي كانت تتظاهر بشرب الماء- كانت قد حذرتهم من تناول أي مشروب يقدم اليهم- وراح يصنع يحدثها إشاريا بلغة الخرس مع بعض الكلمات باللغة السويدية، التي لا تفهمها. ضحكت علياء ورسمت إشارت حول وجهها ثم أشارت الى السقف، فالتفت السيد صاد الى "أفكار" وقال: - تقول ابنتي علياء: حجابك، حجابك ذو اللون السماوي يا "أفكار" . 24 ربما لم تعد مصر أم الدنيا. لكن السيد صاد على ثقة تامة أن مصر هي أم البنات، أم النساء، نساء الدنيا كلها. لا يوجد شيء في مصر أعظم وأجمل وألطف من النساء. نسوة مصر أمهات الدنيا كلها. السيد صاد يعني بالنساء كل النساء. من أين يأتين بكل هذا المرح والود والألفة والفيض اللامحدود من الحنان والسحر والأناقة؟ حينما يتحدث السيد صاد عن النساء يعني دائما النساء أجمع: الفلاحة في الحقل، والعاملة في المصنع، والزوجة في البيت، والموظفة، والمثقفة العاملة في غابة الفوضى التي تطوق الأرواح والأبدان، وأم حمادة أيضا، أم حمادة المكافحة الباسلة، عاملة تنظيف الفندق، التي تعيل خمسة أطفال، بوجه حزين، لكنه قادر على الإبتسام وقادر على مواساة الآخر المكروب وتخفيف أحزانه بأمثالها الساخرة العجيبة. حتى الفتيات المحجّبات، في شركة السياحة والاستثمار الوهمية، لم يزل يحس بطعم الود والعذوبة اللفظية الكاذبة، ولكن الممتعة، التي يتحلين بها. حتى تلك النمرة الجريحة، التي رآها تبكي على سلم العمارة، كانت تبيع نفسها وهي تحلم أن تكون إحدى أمهات الدنيا المحترمات. ترى: من أم الدنيا؟ مصر أم المرأة المصرية؟ لماذا تولّت ايزيس مهمة تجميع أشلاء الرجل، بينما اكتفى الرجل بأداء دوريّ القاتل والقتيل؟ 25 في اليوم الثالث أضحى توفيق أمهرهم في عبور الشوارع المزدحمة. قال السيد صاد له: - ألم تزل القاهرة غابة خطيرة في نظرك؟ أجابه: - بكل تأكيد،غابة خطيرة ومثيرة. القانون الوحيد الصحيح فيها هو حق ممارسة الخطأ بدون عقاب أو تأنيب ضمير. 26 كان لويس كما وصفه موظف الفندق. بيد أن قيمته تضاعفت في أعينهم حينما أدار مفتاح التكييف وهبّت في وجوههم نسمة باردة في زحام القاهرة القاتل. وحينما قال لهم: إن السيارة هذه سيارته الشخصية، تعاظم تعاطفهم معه، وودوا أن يكون مبلغ الأجرة كلّه من نصيبه. لكن لويس لم يلبث أن انعطف بهم انعطافة عاطفية مفاجئة حينما راح يتحدث لهم عن تناقضات الشخصية المصرية الراهنة، التي حلّت بعد تلك السنوات الذهبية الغامضة والملتبسة، الآيلة الى السقوط في ليل النسيان. حدثهم عن التطرف الديني والمذهبي، عن فساد بُنى المجتمع المدني، وعن سوء علاقة الفرد بالدولة والدولة بالفرد، وحقوق الإنسان، وآفاق التطور، والزيادة في النسل، والصدام بين الأديان، ومستقبل المنطقة وروابط مصر القومية الهشة والمضطربة. كان لويس ينتقل بدراية واحتراف من موضوع الى آخر. ومن فرجات خفيّة في غابة التفاصيل أخذت تلتمع في أحاسيسهم كلمات قريبة من عواطفهم المطمورة، كلمات قادمة من سماء لم يرها السيد صاد منذ ثلاثة عقود ونصف العقد: أبو نؤاس، المنصور، الرشيد، كهرمانة، بابل، المربد، السعدون، العامرية... بيد أن لويس ظل حذرا كلمّا مرّ بالأرض العراقية، خاصة حينما عرف أن توفيق مولود في السويد قبل أربعة عشر عاما. وازدادت حيطته، حتى كاد العراق يختفي من قاموسه، حينما عرف أنه يتحدث الى رجل لم ير العراق منذ خمسة وثلاثين عاما. لم يعد السيد صاد يعرف طبيعة الصورة التي كونها لويس عنه. كابوس ما يقف حائلا بينه وبين وطنه، بينه وبين ذاكرة لويس اليقظة، ولكن المعتقلة. حاول أن يخفف بعض متاعب لويس ومتاعبه وييسّر عليهما حساباتهما فحشر في أحد تعقيباته عبارة : الاحتلال الأميركي البغيض. لكن هذه الالتفاته الباذخة لم تكن كافية لفتح الطريق الى العراق من دون حذر. هل كانت الطرقات طويلة، ملتوية، ومليئة بالتوابيت الى هذا الحد؟ - يا أبا توفيق كل هذه التناقضات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية أضحت قانونا يوميّا يسّير الفرد والمجتمع. إنه مأزق تاريخي قاتل. - كيف يستطيع المجتمع الخروج من هذا المأزق يا لويس؟ نطق السيد صاد بلهجة المستجدي، لا بلهجة السائل والمحاور، فأجابه لويس جوابا حسب أن لويس ربما ردده كثيرا من قبل حتى ملّ من وقعه: - لا أمل. - لا أمل! لماذا؟ هناك دائما حلول، ربما تكون صعبة المنال وطويلة، لكنها موجودة. - لا أظن ذلك. أجاب لويس بيأس قاتل، وحينما وجد أنهم لا يتعاطفون مع كلماته أضاف: المشكلة لا تكمن " بس" في أن الناس أصبحوا متناقضين، يحملون مفاهيم وقيما متناقضة؛ يساري في ثوب يميني، مستغل في ثوب مصلح إجتماعي، محرر في ثوب إرهابي، لص في ثوب ورع، راقصة في ثوب محجّبة. إنه الإزدواج التام. لم يعقّب السيد صاد، قرر أن يعتصر من لويس آخر ما يمكن أن يلخّص جوهر القضية. فهم لويس الأمر بلمّاحية وقال: الأدهى والأمرّ من كل شيء هو أن هذا التناقض المخيف والمميت لا يقتصر على تناقض من يدّعي العدل وهو ظالم، ومن يدّعي الطهر وهو فاسق، ومن يدّعي الخير وهو شرير، هذا أمر "ماشي" أيضا، لكنّ الطامة الكبرى هي أن جميع أولئك يدركون إدراكا تاما أنهم كاذبون ومتناقضون وزائفون ويصرّون على ممارسة زيفهم علنا برضا الجميع، كما لو أن الزيف أضحى قانونا طبيعيا معترفا به. من أين يأتي الحل إذاً؟ 27 قال السيد صاد: - يا لويس، من أين يأتي ”عم عبده” البواب بمصاريف هذا العدد الغفير من الأبناء والزوجات؟ - هذا هو التناقض الذي حدثتك عنه. أنت تضع يدك على الجرح. 28 - جرح! أي جرح يا لويس، أي جرح؟ جرحي أم جرحك أم جرحه أم جرحها؟ جرح من؟ هذا القادم من مكة يطلب من الفتاة الكسيرة أن تضع ملابسها الداخلية على رأسها بدلا من حجابها. هل يمكن أن يكون هذا الفاجر السادي الرخيص أكثر "واقعية" و"منطقية" مني ومنك ومنها ومن منطق ال”عم عبده”؟ أنحن مجرد لعبة في واقعية السقوط هذه؟ هل أصبح الاستسلام المذّل هو الواقع الوحيد المسيّر لمنطق حياتنا؟ أنحن سجناء في قوقعة لا مرئية تسوّر وجداننا وضمائرنا وسلوكنا اسمها الواقع؟ من فرض علينا هذا الواقع اللاواقعي؟ 29 - انظروا! الأهرام قريبة! هتف توفيق، لكن لويس عاجله بضحكة وهو يقول: - يا توفيق هل تعرف كبر حجم الأهرام الحقيقي؟ الهرم الأكبر أعلى من بناية بثلاثين طابقا، لذلك تبدو لنا قريبة. - اسمع كلام عمك واحفظه! عقبّ السيد صاد لابنه وفكر في أمر غريب: هل كانت الأهرام بالارتفاع ذاته حينما زرتها قبل ثلاثة عقود؟ هل تكبر الأهرام كلما تقدّمت في العمر؟ ما الذي يكبر فيها: حجمها أم اسمها أم ألغازها وأوهامها، أم تاريخها وصورها الدعائيّة؟ توقفت السيارة عند مربض مهمل ووسخ، قرب بناية واطئة، تحيط بها جمال وخيول وعربات تجرها الخيول. - أمامكم ثلاثة خيارات جميلة: الجمل أو الحصان أو العربة، وأنا لا أفضل الخيار الثالث. - حتى لو وافقنا على عرضك الجميل يا لويس، فكيف ستركب هذه المسكينة على جمل أو حصان! نطق ذلك وهو يشير الى زوجته التي أرعبها منظر الجمال الراغية واستبدت بها الرائحة غير المستحبة للمكان. - إذاً عربة بحصان. بعد عرض مسرحي ماهر في فن المساومة عرض عليهم عدة أشخاص بالتتابع عروضا وأسعارا مختلفة. كان كل واحد يقدّم دوره وحينما يفرغ منه يصله بالذي يمثل الدور القادم، حتى وصلوا في النهاية الى مربط الفرس. ثلاثمائة وخمسون جنيها هو سعر العربة (الحنطور). قال توفيق: - لماذا هذا التبذير! الأهرام وراءنا، أكاد أراها. لكن لويس المنقذ عاجلهم بضحكة ساخرة: - أنسيت يا توفيق علم المسافات بهذه السرعة! يبدو أن أوروبا أنستك لعنة الفراعنة. أنت الآن في الصحراء، والأهرام منتصبة فوق رمال تشوي الأقدام وتحت سماء تحرق الرؤوس. - نأخذ العربة مهما كان الثمنّ! اسمع يا ولد، لا أريد أن أعود بك الى السويد بضربة شمس! حسمت زوجة السيد صاد العرض، فعقّب لويس قائلا: - اسمع كلام ماما يا توفيق، من يكبرك بيوم يفوقك عقلا بأعوام. أما موضوع المبلغ فسأحسمه أنا بنفسي مع هؤلاء. بعد مشاورات وحوارات لم يسمعوا منها شيئا عاد لويس هاشّا وقال: - لا تدفعوا أكثر من مئتين وخمسين جنيها مهما أصرّ هؤلاء على رفع الثمن. أما صاحب العربة فقد هرع اليهم راكضا قبل أن يسمع عرضهم، وقال: - موافق من أجل هذا الرجل الطيب. ولكن أرجو أن لا تنسوا إكرام سائق العربة. سأختار لكم أفضل وأظرف وأشطر دليل في مصر كلها، وأجرته على حسابكم طبعا. سكت الرجل ثم أضاف ضاحكا: - يعني ألف أو حتى مليون جنيه ليست خسارة في حقه، ولكن أنتم تدفعونها له مباشرة طبعا. نطق الرجل كلماته من دون أن يعبأ بردود أفعالهم، فبدا لهم كما لو أنه كان يسلّي نفسه. رفع الرجل طرف ثوبه الأزرق الفضفاض واستدار مسرعا في اتجاه حيواناته المسترخية وضحكته المنغّمة تحيط بثوبه مثل هالة صوتية، أو مثل إطار موسيقي يغّلف هيكله الخرافي. 30 رافقتهم علياء في رحلة تبضع الى وسط المدينة. كانت يقظة مثل صياد يبحث عن فريسة، لكنها كانت في أقصى درجات المرح. كانت مرافقة ومستمعة وممثلة بارعة. الإعلان الكبير الموضوع في واجهة محل بيع النظارات جذب اهتمامهم: "اشتر منّا نظارة تحصل على فحص فوري بنصف السعر". أما نسمة الهواء الباردة التي تتسرب من باب المحل فكانت هبة مجانية فاخرة وسحرا يخلب الأبدان والأرواح. همس السيد صاد في أذن علياء: - أشم رائحة صيد هنا، هل تشمين شيئا؟ - لا أظن. لا، يجوز، لأننا نختلف في أنوع الطرائد التي نبحث عنها. قد تجد أنت طريدة ما هنا، أما أنا فلا أظن. تسربوا واحدا بعد الآخر الى جوف المحل الضيق، البارد، والمضيء. أمور كثيرة استلفتت نظرهم في محل النظارات الصغير: خلو المحل من المحجبات، انعدام أية بارقة أمل للخوض في حديث عن الحرب معهم، على الرغم من طول فترة مكوثهم وكثرة تجريبهم للإطارات، بمساعدة البائعة الرئيسة "سميحة"، التي كانت أقلهن جمالا، لكنها أوفرهن رقة ولباقة ومهارة في الإقناع. كانت "سميحة" كتلة بهيّة من النشاط والود والعسل. بدت علياء ضجرة. ربما لم يكن هناك ما يثيرها، أو يجلب اهتمامها. اشتروا نظارتين للقراءة، وأغري توفيق، ذو العينين السليمتين، على شراء نظارة شمسية فاخرة غالية الثمن، أضحت الخامسة في قائمة نظاراته الشمسيّة. دفعوا المبلغ وسألوا عن الفحص فجاءهم الجواب: الفحص يُعمل فورا عند طبيب قريب جدا جدا من هنا، "شارعين بس". وهذا هو العنوان. رحلة البحث عن الطبيب وانتظاره دامت ساعات عديدة، مملة، خانقة. بحثوا عن عيادة جرجس ميلاد في الطوابق كلها صعودا ونزولا. كان الطبيب ثاني جرجس بعد جرجس الأول محاسب متجر البقالة. حضر الطبيب متأخرا عن موعده بتسعين دقيقة. لكن الشعور بالتذمر والتعب زال فورا حالما سمعوا نصائحه القيّمة، ولمسوا دماثته، وتأكد لهم أنه لا يقل براعة في التشخيص عن طبيهم السويدي. تم الفحص واستلموا الايصال. فجأة تبدلت أطوار علياء. مرح جنوني حلّ فيها مثل صاعقة. أخرجت آلة التصوير الصغيرة، وهتفت بصوت طفولي: - انظروا واراءكم. أشارت علياء الى لوحة إعلانات معلقة على باب طبيب العيون تقول:" افحص لدينا تحصل على خصم خمسين بالمئة من سعر شراء النظارة". شرعت علياء بالتصويروهي تختلق حوار سريعا مع السيد صاد: - كم كان سعر الفحص؟ وكم كان سعر الخصم على الفحص يا سيد جواد؟ - سعر الفحص مئة جنيه، دفعنا نصفه، خمسين جنيها. - شكرا لك يا سيد جواد، ولكن هل لك أن تخبرني عن سعر النظارات وكم كان مقدار الخصم الذي حصلتم عليه؟ - سعر النظارات ألف وأربعمئة جنيها، دفعناه كاملا، بلا خصم. قالت زوجة السيد صاد، لكي تخدع نفسها، أو ربما لكي تخدع زوجها: - لا تصوري كلامي أرجوك. بيني وبينك لم نخسر كثيرا، بالعكس ربحنا فرق العملة، فسعر النظارتين في ستوكهولم ضعف هذا المبلغ. - وأنا ربحت موضوعا. سأعود الى محل النظارات مجددا لتصوير الإعلان الخاص بالتخفيضات على سعر الفحص. هنا مصر، أم الدنيا، مع ألف سلامة، نلتقيكم في المقلب القادم! قال السيد صاد مودعا: - أنا سعيد لأنك اقتنصت موضوعا. الإحساس غير المتوقع بنصر كاذب أنسى السيد صاد تعبه وملله وقرفه، وجعله يستقبل ما تبقى من جولة هذا اليوم بحيوية روحيّة عالية، روحيّة المنتصر على عدو وهمي، مجهول الهوية والدوافع. 31 في مطعم الفندق اعتادوا أن يلتقوه. لم يكن مسؤولا عن نفسه وحدها، كانت مصر كلها، بشوارعها وسياراتها، بناسها وطقسها، بماضيها وحاضرها في عهدته، يحملها على كتفيه، وتلتمع خفاياها وأسرارها في بريق عينيه الخبيرتين، الأموميتين. قال الأستاذ حجازي، لكي يوفر على السيد صاد مشقة الاحتفاظ بتساؤل مكدّر، يتعلق بشخصه. ربما أحسّ بخبرته الوظيفيّة أن بقاء هذا السؤال متلجلجا في صدور مستمعيه قد يثلم شيئا من أصالته المصرية: - لدي عشرات، بل آلاف الأقارب والأصدقاء في القاهرة، لكنني أفضل المبيت في هذا الفندق، لأنني أشعر كما لو أنني في الخدمة، على رأس عملي، ولست في إجازة لهو، وأنا قادم لأنجز بعض المعاملات الرسمية. طبعا إضافة الى كوني أسكن قريبا جدا من موقع العمل الذي أقوم بزيارته. من هنا، من النافذة أرى أصدقائي القدامى يسيرون الى مواقع عملهم، كما لو أني أشاهد فيلما شاهدته من قبل وقررت إعادة عرضه وتعديل بعض تفاصيله. - ألا تعقّد شوارع وسط القاهرة عملية السير وتطيل المسافات لأنها تسير في اتجاه واحد؟ وجّه السيد صاد سؤاله الى الأستاذ حجازي، الرجل الودود، الذي يصر على تناول وجبة الفطور بكامل بدلته مع رباط عنق خانق، ولكنه زاه. تكررت مقابلتهم له على مائدة الطعام في الفندق. جاء من "قنا" لغرض حكومي. سبق له أن عمل في القاهرة، يثير أشواقه مرأى زملائه السابقين الذاهبين الى عملهم في المصارف القريبة. يتحدث بفخر على أنه سبق له أن قاد سيارته القديمة هنا في هذا الزحام، وأنه يقود الآن أكثر مئة وخمسين موظفا في مؤسسته الحكوميّة، وأنه خبير في طباع البشر وفي شؤون السير في الزحام؛ رد الاستاذ حجازي بنبرة واثقة: - لا، على العكس، إنها تسهّل إنسياب الحركة، خاصة أن القاهرة تفتقد الى مواقف السيارات العصرية والأنفاق. - قد يكون طول المسافات مصدر رزق لسائق سيارة الأجرة، لكنه مصدر عذاب للراكب ولصاحب السيارة الملاكي. - هذا غير صحيح أيضا، انظر أمامك! انظر الى الشارع وراقب كيف ينتقل السائقون من فجوة الى فجوة في مجرى الشارع، مكتشفين وشاقّين أنفاقا ضيقة بين زحام السيارات. لو كان الشارع بطريقين متعاكسين لحدثت مجازر مروّعة في كل دقيقة. السير في اتجاه واحد يشبه السيرفي طريق "الأوتوستراد". - ولكن السير في "الأوتوستراد" يمنع على السائق التنقل من فجوة الى فجوة كما تقول؛ أما الانتقال غير المبرر والمفاجئ، من خط سير الى آخر، فمحفوف بالمخاطر والكوارث المحتّمة. - ولكنه مأمون عندنا، كما ترى، الجميع يتصرف على ضوء سلوك الجميع، إنها حاسة الجماعة. - والقانون؟ وضوابط السلامة وشروطها؟ - موجودة، موجودة هنا. نطق الأستاذ حجازي وهو يشير الى صدغه. - لم أفهم جيداً يا أستاذ حجازي. القانون ضابط قيمي محايد لا صلة له برأسي ورأسك. - هذا هو قانوننا، كل واحد يضع قدمه في المكان الذي يخليه الآخر طوعا أو كرها أو اغتصابا. نظر السيد صاد الى الشارع، الى الغابة العصرية! الغابة الحجرية تحيط بهم بأسوارها العالية، وحيواناتها الآلية تتقافز وسط طرقات ضيقة، راكضة مثل قطيع هائج، يدفع بعضه بعضا. في اندفاعة القطيع المرعبة يحس الجميع بالأمان، على الرغم من كارثيّة الخطأ؛ يحس الجميع بنشوة التزاحم، نشوة البقاء الجماعي على قيد الحياة، ونشوة الخروج من معركة الموت الجماعية منتصرين كأفراد، وفي النهاية الخروج منتصرين كجماعة تمكنت من الحفاظ على كيانها الأعظم حيّا، على الرغم من أنها خرجت بكيان مملوء بالكدمات والكسور، وبالاستعداد الدائم لجولة جديدة من جولات تدافع القطعان المستفَزّة. 32 نساء مصر كافة لا يدخلن ساحات الحروب دخولا مباشرا كالرجال. ربما هي حكمة نسوية خالصة. أهي الخشية من الحرب ذاتها كمصير عائلي واجتماعي مدمّر؟ ربما تكون فطرة الطيبة الأصيلة، النابعة من غريزة الأمومة وقوانين حفظ البقاء، هي التي تدفعهن الى التردد في نكء جرح محتمل أو الشروع في فتح غطاء قبر منسيّ! هو لا يعرف سببا جديا معللا لإحجام وتردد نساء مصر، طليقات الألسن، "العِشريات"، في المبادرة بالحديث عن الحرب مقارنة بالرجال، المبادرين دائما الى تحويل المآسي الى صور مجردة وحروف متراكمة. السبب الذي وجده أقرب الى عقله يقول إن النسوة أقل زيفا من الرجال، لهذا لا يستخدمن مادة مأسوية كالحرب للدعاية أو لمجرد الاستهلاك الرخيص وتزجية الوقت. لكنهن ينفجرن بعاطفة حارّة حالما تُفتح الأبواب وتنثال الصور، فتنقلب الصور، بطرفة عين، من كلمات وخيالات الى مجسّمات حيّة، نابضة الدماء. ربما لأن الحرب في مصر أو في العراق أو في أية بقعة من الأرض هي جرح النساء القاتل. الرجال يذهبون الى الحروب ويدفنون فيها أو يعودون منها معطوبين ومعاقين جسديا أو روحيا، لكن النساء يدفعن ضريبة الحرب كاملة نفسيا وجسديا، رمزيا وماديا، شخصيا واجتماعيا. قابلتهم السيدة سعاد، مشرفة الفندق، حينما رأتهم في أحد أروقة الفندق. ابتسمت من بعيد ابتسامة عريضة فازداد وجهها المائل للسمرة حمرة وألقاً: "شكو، ما كو يابا!"، نطقت ضاحكة فشاركوها في عدوى الضحك. همّ السيد صاد بأن يقول لزوجته مندهشا: "اسمعي كيف تنطق الكلمات، بالضبط كما نفعل! تخيلي حجم الأذى الذي ألحقه الاحتلال وأحدثته الحرب الطائفية والعرقية. المهاجرون العراقيون وصلوا حتى هنا، وبدأت تأثيراتهم اللهجيّة تصل الى اللسان المصري!" لكنها لم تمهلهم، صافحتهم بحرارة وعاطفة فيّاضة وهي تقول: - لا تندهشوا عيوني! زوجي كان في العراق وعاد أثناء حرب الخليج الثانية اللعينة! سعاد هي المرأة المصرية الأولى التي تدخل ساحة الحرب مباشرة، ربما لأنها كانت جزءا عضويا منها، جزءا مباشرا من آلام ومخاوف الحرب كأم وزوجة، حالها كحال أية أمّ وزوجة عراقية جريحة. 33 اندفعت العربة (الحنطور) بهم نحو السيار بعنف، صاحبتها سلسلة من الشتائم من السيارات القادمة من جهة اليمين، وحالما استقرت العربة في مجرى الشارع الضيق زفر الحصان"رامبو" زفرة من يوشك على الهلاك؛ أما صابر فابتسم ابتسامة المنتصرين العظام، ابتسامة تؤكد لهم بالإدلة القاطعة أنهم أوفر البشر حظاً في هذه اللحظة، فهم لا يزالون على قيد الحياة. حبس السيد صاد أنفاسه وأغمض عينيه بقوة ثم فتحتهما. الحياة أمامه نابضة، نابضة. وللمرة الأولى في حياته يدرك أن للحياة معنى ملموسا، معنى واقعيا، يمكن للمرء أن يراه بعينيه المجردتين. 34 كتاب " رجوع الشيخ الى صباه"، الذي يباع في أزقة المغرب بما يساوي خمسة جنيهات، تمت إعادة تأهيله سياحيّا من قبل دار نشر اسمها "ابداع"، وجرى عرضه على أرصفة الكتب، على طول مصر وعرضها. تم نفخ الكتاب لترتفع صفحاته المئة والعشرون الى أربعمئة وستين صفحة بغلاف تراثي معبّر! وزن الكتاب ارتفع من مئة وعشرة غرامات في طبعته الشعبية الى سبعمئة غرام في طبعته السياحية، أما سعره فأضحى بين ستين وأربعين جنيها، حسب الشطارة. مباشرة، تحت قدمي الكتاب المنتفخ، استلقى كتاب آخر، صغير الحجم، انثوي الجسد. للحظات خيّل للسيد صاد أن الكتاب الصغير الناعم، المخفيّ تحت ضخامة " رجوع الشيخ الى صباه" أضحى لسانا شهوانيا، ضامئا، شرها، يمتد بفظاظة خالية من الحياء، ليسرق لحسات نهمة من الكيان الكبير المستلقي فوقه! قال البائع بفخر، وهو يشير الى الكتاب الصغير، متحسسا نعومة غلافه، مبرزا اسم مؤلفته: - أما هذا فلن تجده في مصر كلها! منظر الكتاب، وهو مستلق على الأرصفة، مغلفاً بالنايلون الشفاف، يقول للناظر: إن الذروة العليا للإبداع تكمن في تجديد فن النكاح، من طريق تحديث شكله وتأصيل محتواه ببعد تراثي وشعبي. فنّانو مصر الشعبيون ما انفكوا يجاهدون للخروج من ورطة التوازن بين الإبداع والشطارة، التوازن بين النكاح كعملية للانجاب، كفعل يجسد ديمومة الحياة وما يصاحبها من لذة ساحرة تعادل في عمقها معنى الولادة، وبين النكاح كمعارك تعويضية تستر خفايا الهزائم العقلية والاجتماعية والروحية. حرب النكاح هي السر الذي جعل رسومهم على البردي، الجميلة منها وحتى القبيحة، مادة للتداول السياحي الرخيص والبليد. في متاجر اللوحات، في مناطق الغردقة الفاخرة، لم يجد السيد صاد إلا نادرا، صور مصر الشعبية - الأزقة والأسواق- المرسومة على البردي. قال له أحد الباعة بخجل: "لا أحد يسأل عنها هنا". لماذا يسألون عنها في أمة قرر شيوخها أن يعودوا الى صباهم! في هذا الزحام الخانق يرى السيد صاد أمامه ملايين الصبية الأبرياء يعيشون على حافة الهاوية، منتظرين، بخوف وتمزق، أن ينقضّ على أرواحهم مستقبل مجهول، مطموس الهوية، ذو أنياب مسنونة. 35 هل الدولة سيطرة طبقة على أخرى وسيطرة تحالف طبقي معين ضد تحالف آخر، كما قال لينين، أم هي نتاج لعلاقات الانتاج، كما قال أنجلز وأكده ماركس، أم هي نتاج لعلاقات السوق، كما يقول فيبر؟ وما خصوصيّة الدولة الشرقية؟ في ذروة الزحام المرعب، الذي يشبه الكُفر بالنواميس العلمية والطبيعيّة والإلهيّة، في شارع عماد الدين، يستطيع أي سائق سيارة أجرة مصري أن يصل بيسر تام الى تعريف كامل، مجسّم، وموثّق، ومجرّب لمفهوم الدولة العربية. تساءل توفيق: - لديه عدّاد لحساب الأجرة حديث الصنع، لماذا لا يستخدمه؟ رد السائق مبتسما: - الجواب عن هذا السؤال ينقسم الى قسمين. الأول يتعلق بالعدّاد نفسه. هذا الجهاز إجباري، لا يمكن لسيارة أجرة أن تُجاز ما لم يقدم صاحبها كشفا لإثبات وجود العداد. هذا شرط الدولة الإلزامي للحصول على رخصة سيارة أجرة. أما لماذا لا يعمل؟ لأن الدولة لا تشترط أن يعمل. قال السيد صاد للسائق منفعلا: - ولماذا لا تلغي الدولة هذا الجهاز الميّت وتعفي الناس من شرّه؟ - ستخسر ضريبة العداد. - لتحترم نفسها إذاً وتشرف على تطبيقه، والاستفادة من وجوده. - ستخسر أيضا. التطبيق يحتاج الى قانون ومراقبين ومتابعين ودولة. هذا ما يخص الدولة. أما ما يخصني أنا شخصيا هو أن العداد لم يعد يساير ارتفاع أسعار البنزين. - لكن سائق السيارة التي أوصلتنا توا قال شيئا مغايرا تماما، قال إنه شخصيا لا يفضل استخدام أو رفع بداية العداد لأن ذلك سيلحق ضررا بليغا بالمواطن البسيط، غير المقتدر. ربما لن يشعر السائح بذلك، لكن المواطن البسيط سيكون هو الضحية. - ربما يكون كلامه صحيحا، لكن الدولة لها رأي آخر. - الدولة! ماذا تعني الدولة في نظرك؟ - الدولة هي هذا العداد الالزامي، الذي لا يعمل، والذي ترعى هي بنفسها مبادىء إيقاف عمله ، فهي الجهة التي فرضته على الناس قسراً، من دون أن تجد سبلا واقعية للافادة منه. كما لو أنها لا تتقن سوى إهانة وتحقير مخلوقاتها، والعبث بهم. سكت السائق، مكتفيا بما قاله، تاركا للسيد صاد حرية التفسير والتأويل. ربما كان يعني فعالية العداد كجهاز ضابط ومنظم للفعل والتعامل بين الأفراد، أي كأداة لضبط المسافات والأسعار، وما يصاحب هذا الفعل من قيم عقلية وأخلاقية وسلوكية تنشأ جراء سوء أو حسن استخدامه. السيد صاد لا يعرف إذا كان الرجل يعني ذلك حقا، أم أن وعيه هو الذي يؤول ويحرّف ما يقوله الرجل ويفسره على هواه. هذه هي الدولة إذاً! عدّاد إجباري بقوة القانون، وفي الوقت عينه جهاز ميت بقوة إهمال القانون. حماسة الرجل في توضيح جوهر الدولة على ضوء خبراته الشخصية وسكوته المفاجئ، بدا للسيد صاد مثل ضربة قوية، وحيدة، مفردة، على طبل عملاق، يعقبها اهتزاز عاصف في ستارة الصمت. تساءل مع نفسه، وهو يتابع عصف الصمت، الذي يخترق ضجيج المكان: هل نحن بعض مخلوقات الدولة؟ من يصنع هذا العبث؟ هل يصنع العبثيون الدولةَ الغرائبيّة، أم أن الدولة الغرائبيّة هي التي تصنع وعي الناس العبثي؟ لماذا تحمل كلمة "دولة" صيغة التأنيث، في الوقت الذي تجمع في جوهرها كل هذا الشر والحمق والعبث والجبروت؟ - هل تفرض الدولة عندكم في السويد على السائقين شراء المثلث الأحمر وحقيبة الاسعافات الأوليّة؟ - المثلث نعم، أما الحقيبة فلا. ما رأيك أنت؟ - أؤيد حكومة السويد. لثوان بدا الرجل للسيد صاد مثل كائنين: رجل ينطق وآخر ينفعل. فقبل أن يربط السيد صاد بين جواب السائق وبين تعابير وجهه ظنه مازحا؛ لكن الرجل كان جادا الى أقصى درجات الجد. سكت الرجل قليلا ثم أضاف: المبررات التي ساقتها الحكومة لإقناع الناس بالحقيبة تتطلب من السائق عدم الاكتفاء باقتناء حقيبة إسعافات أولية فحسب، وإنما تستوجب منه أيضا أن يشتري معها كفناً، للطوارىء. فجأة ضاع الخط الفاصل بين الجد والهزل. أحيانا يشعر السيد صاد بالعجز عند تتبع حدّة الانتقالات اللامرئية بين الجد والهزل. المزاج الجماعي، الميّال الى المرح الدائم، يعبر، مثل ومضات خاطفة، قافزا من قطب الى قطب. كل شيء هنا يبدو مزيجا من دعابة جادة وجدّ ساخر لا يقبل الفصل، خليطاً خياليّاً من اللامبالاة العبثية والإخلاص للواقع الى درجة العبودية. توقفت السيارة قرب باب المتحف المصري، غمز السائق مشيرا الى بناية المتحف، وثم نطق هامسا، مبتسما: - في الداخل، هنا، تجدون نسخة ثانية، ولكن محنّطة ومؤدبة، من هذا الشيء الذي اسمه الدولة. كم ودّ السيد صاد أن يكون انجلس أو لينين أو ماكس فيبر معه وهو يحاور حسنين، الصعيدي، الخبير بالحياة والنقد والسخرية، الذي وصل بتجربته الحسيّة الى ما عجز هو عن الوصول اليه بأبحاثه وكتبه وتشدقاته العقلية. 36 شرطة المطار كانوا لطفاء ومرحين، وشرطي فحص تذاكر الدخول الى الأهرام رحب بهم بحفاوة حينما عرف أنهم عراقيون، عراقيون أصلاء، أي غيرمزيفين، أو بتعبير أدق"غير مضروبين". الشرطي رأفت، الذي يحرس المجمّع السياحي، تطوع لمساعدتهم في الحصول يوميا على صحيفتي الأهرام وأخبار اليوم. تعهد بأن يشتريهما من البائع، الذي يمر به كل صباح، ويودعمها لدى استعلامات المجمّع. على الرغم من مبادرة الشرطي رأفت الوديّة، إلا أن السيد صاد لا يستطيع التخلص من الشعور الدفين والكريه بأن كلمة شرطي، أينما وجدت، لا يمكن أن تكون محايدة! التحول من مراقبة الأشخاص والأجساد الى وسيط ثقافي كان انقلابا جديّا في وظيفة رأفت، أبهج رأفت وحيّر تفكير السيد صاد وزوجته. لا يستطيع السيد صاد أن يخمّن دوافع رأفت الحقيقيّة. ربما قبل المهمة تفاديا للإحراج الذي وضعه فيه موظف الاستعلامات، حينما طلب منه أن يساعدهم على شراء صحف تعبّر عن صوت الدولة والوطن. فالأهرام والأخبار المتواضعتان فكريا وفنيا، المحشوتان الى حد التخمة بالدعايات التجارية والسياسية الرخيصة، هما الرمزان الكتابيان الثقافيان الوطنيان الوحيدان اللذان يعرفهما رأفت، وهما القاسم الإعلامي المشترك الذي يوحد مصادر الأخبار المعدّة للنشراليومي، ويحدد القسط المعترف به حكوميا من معارف البشر الآنية في هذه الدنيا الكبيرة، المترامية الأطراف، الممتدة من سواحل البحر الأبيض المتوسط حتى الحدود السودانيّة. ففي اللحظة ذاتها، التي يسلم الشرطي رأفت الصحيفتين لهم، تشترك معهم ملايين العقول في توريقهما وتفحصّهما والاغتراف من معينهما. وربما تكون عوامل أخرى مجهول دفعته الى ذلك، عوامل غامضة، خفيّة، كالرغبة في التخلص من ورطة مراقبة الأجساد العارية، وربما التعاطف، أو ربما الطمع في إكراميّة بسيطة يستحقها بجدارة. 37 سارت بهم العربة (الحنطور) في أزقة متربة مليئة بالحفر والسواقي والبيوت العتيقة. مروا بدكاكين لحدادين ونجارين من طراز القرون الماضية. الارتجاجات العنيفة تسببت في إصابتهم بكدمات قوية في الظهور والأرجل. قالت زوجة السيد صاد: - الأهرام بعيدة حقا، لكن هذه الاهتزازات العنيفة مؤذية، أوشك أن أستفرغ. ردّ دليلهم صابر وهو يشير الى الحصان الضامر: - أنتم محظوظون، لو لم تكونوا معي، بمعية "رامبو"، لرأيتم الويل. عبارات صابر المخاتلة جعلت السيد صاد يفكر في "رامبو"، لكي يُنسي نفسي شدة الاهتزاز والشعور بالقيء، فراعه ما رأى. كان الحصان يزفر بقوة وهو يجر العربة، ومن بين المواضع التي يتلامس فيها جسمه بالسرج وبحبال الجر رأى خيوطا من الدم تسيل من كدمات سابقة، بعضها متيبّس بلون قان مزرقّ، والبعض الآخر ندي ينضح منه الدم. رأوا الأهرام. قبل دقائق معدودات كانت أمامهم، لكنهم لم يصلوا اليها. قال السيد صاد لنفسه: أنحن أمام لغز من ألغاز التاريخ المصري. قالت زوجة السيد صاد: - أنا أفضل النزول والسير مشيا. لكن صابرا اعترض قائلا: - هل أزعجكم الطريق؟ سأسير بكم في الطريق المسفلت إذا كان هذا الطريق لا يعجبكم. ومن غير توقع انعطف تاركا أزقة البؤس متجها نحو الطريق السريع، فرأوا الأهرام تتباعد خلفهم. - قف! قال السيد صاد بحزم وأضاف: - سننزل هنا! اذهب أنت واجلب لنا السائق. - لا تغضبوا، دقيقة واحدة ونصل. - لا. نطق السيد صاد بحزم وهمّ بالنزول، لكن صابرا أوقف العربة، ثم أدارها بحركة مفاجئة، معترضا خط سير المركبات المسرعة، وحشر العربة في شق ضيّق يقود الى الاتجاه المعاكس وسط شتائم وأبواق السيارات المعترضة. - دقيقة واحدة، دقيقة بس. بعد دقيقتين وجدوا أنفسهم في مواجهة الأهرام مجدداً. - هذه مصر أمامكم، سنزور الهرم الأكبر أولا، وفي طريق العودة نزور "أبو الهول". 38 قال السيد صاد: - ما سر هذا الغلو الديني الذي تشهده مصر، ولماذا تصاعدت حدة الصراع بين الأديان يا لويس؟ - الخارج. - من تعني بالخارج ؟ - إيران طبعاً. - ولكنك تعرف أن إيران ربما تؤثر في العراق لأسباب مذهبية وجغرافية وسياسية، ولكن كيف تؤثر في مصر كل هذا التأثير العظيم؟ - دول أخرى. - مثلا؟ - السعودية. - لها كل هذا التأثير؟ - بالضبط كما يحدث في العراق. - على العكس يا صديقي، في العراق جرى تسييس منظّم للطائفية والنزعات العرقيّة أسهمت فيه منذ زمن طويل قوى داخلية وخارجية. هناك معاهد أبحاث ومؤسسات دولية، وفي غير دولة أسست مراكز "إثنية" لدراسة احتمالات إعادة التكوين العرقي للعراق. الأميركان يضعون تسييس الطائفة في أعلى سلم اهتماماتهم، ولا يهمهم هنا من يتم توظيفه بشكل مباشر أو غير مباشر، الزرقاوي، اليماني، "أبو طبر" أو أبو ريشة! ولكن حالما يفقد المتزمتون شارعا، تخيّل! شارعا وليس مجتمعا كاملا! يعود الشارع الى ممارسة حياته الطبيعية نازعا عنه ثوب التعصب الديني والمذهبي. وهذا الأمر لا يحدث في مصر. فمن يقود ويسيّر التأثير الداخلي والخارجي؟ وإذا كانت السعودية وإيران تؤثران على المسلمين خارجيا، فمن يؤثر على الطرف الآخر؟ إن الصراع الاجتماعي تفاعل داخلي متبادل حتى لو تمت تغذيته خارجيا، أليس كذك؟ - ربما؟ - لو قارنّا مصر بالعراق سنصل الى كارثة سياسية. ففي مصر لا تسيطر الأحزاب الطائفية على السلطة ولا تديرها، كما يحدث في العراق، سواء في الجزء الذي تبسط السلطة الرسمية عليه سيطرتها أو في مناطق الميليشيات الدينية السنيّة والشيعيّة. في مصر توجد سلطة غير دينيّة تبسط سيطرتها على الحياة وتديرها. فمن يخلق هذا التأثير العظيم الذي جعل الراقصة تختفي تحت ثوب الحاجّة، كما تقول أنت؟ - أنا لا أنكر هذا، ربما يكون كلامك صحيحا بعض الشيء. - هناك من يرى أن إطلاق الإشارات الأساسية للتطرف الديني كان فعلا حكوميّا اخترعته ونظّمته الدولة الساداتيّة كمشروع سياسي تاريخي متكامل للوقوف في مواجهة إرث تاريخي كامل، لكنه انقلب على الجميع، كما حدث مع حركة طالبان، التي كانت بعضا من خلايا السي آي أيه لسنوات طويلة. بعض الحكام يلعبون بالنار، بالتاريخ، بمصائر شعوبهم، لأنهم حمقى وجهلة بامتياز. - ربما أنت تفهم تفاصيل السياسية أفضل مني، كلامك جائز. أنا أتحدث عن العموميات. - وهل يمكن فصل العام عن الخاص يا لويس؟ - لا طبعا، ولكن... انظر يا توفيق، انظر! قلعة صلاح الدين تنتصب شاهقة أمامنا. 39 حلقات ترتبط بحلقات. سلسلة متتابعة، مترابطة من الحلقات غير المرئية تصل بعضها ببعض لتخلق سبل السير في الشوارع، وسبل كسب الزبائن، وحتى سبل كسب العشاق والأحبّة. إنها رحلة البحث اليومية والأبدية عن ممرات الوجود السريّة، الدفينة. قانون فريد للحفر في النفق الصخري، الذي اسمه الدنيا. ذات الحجاب الأصفر سلّمتهم الى ذات الحجاب الأخضر، وتلك سلمتهم الى ذات الحجاب المتعدد الألوان، وصولا حتى آخر حلقات السلسلة: الفتاة المضيئة، ذات الحجاب السماوي، التي تنطق كلمة بس، بالخشوع ذاته الذي تُنطق به كلمات القرآن والإنجيل. ضربات المعاول، التي حفر بها سائق سيارة الأجرة نفقه الوجودي، وهو يقفز من فجوة الى فجوة في شوارع وسط القاهرة، هي الضربات ذاتها التي أوصلتهم الى أبي الهول، والى طبيب العيون جرجس ميلاد. قال صاحب متجر الملابس، بعامية مصرية أحدثت رنينا مميزا، يشبه جرس إنذار خفي انطلق من بقعة بعيدة في بريّة روح السيد صاد الشائخة: - لا تهتم بمسألة طول السراويل، نحن نرتبها عندنا، هنا، بدقيقتين بس. إدفع واترك الباقي لنا. دفع المبلغ. أشار الرجل اليهم أن يتبعوه. لكنه بعد خطوة واحدة عدّل مساره والتفت الى أصغر أبنائه الموجودين في المتجر وقال له: - يا ياسر نطّ مع عمك الى الخياط. نطق ذلك والتفت اليّهم قائلا: - لا تقلقوا، التعديل على حسابنا، والمكان خلف متجرنا مباشرة، نطّة واحدة بس. ساروا خلف الصبي ياسر، الذي كان مسرعا ينتقل من منعطف الى منعطف. في المنعطف الثالث نادى ياسر على شاب مهلهل، رث الهيئة وقال له: - بابا يقول لك خذ الجماعة عند بيومي لكي يقصر لهم البنطلونات. توقف ياسر عن المسير ثم التفت اليهم قائلا: - هذا أحد عمالنا سيوصلكم الى الخياط. فجأة اختفت الواجهات المضيئة والصاخبة. بلمح البصر انطفأ عالم وانفتحت دهاليز عالم آخر لا يربطه رابط بالعالم الذي يجاوره. سار بهم العامل في زقاق وسخ، محشور خلف مسجد، ثم توجه نحو خربة مظلمة، تشبه خرائب أفلام الرعب، تختفي خلف بناية كبيرة. دخل مسرعا وحالما وضع قدمه على السلّم الخشبي انطلق صرير اهتزاز السلم وشاهدوا تأرجح العوارض الخشبيّة. التفت العامل اليهم وقال: - لا تخافوا، ثلاثة أو أربعة سلالم! نطّة، نطّتين ونصل. قرر السيد صاد فجأة أن يقطع سلسلة القدر الأرعن. مرة أخرى تنزع حياة السيد صاد غشاءها اللفظي، وتلبس ثوبها المادي، فيراها وجودا حسيّا وليست مغزى ورمزا فحسب، يراها تنطّ أمام ناظريه مثل قطّة أشعلت النيران في ذنبها. استداروا عائدين، بينما عاد العامل خلفهم راكضا مستسمحا، متوسلا. لم يأبهوا لتوسلاته، لكنهم قاموا باستغلاله لغرض إرشادهم الى طريق العودة. تهلل وجه صاحب المحل فرحا حينما رآهم وقال: - ألم أقل لكم دقيقة واحدة "بس". رمى السيد صاد السراويل في وجه البائع وقال غاضبا: - هل تعرف أن كلمة بس، التي نطقتها هي ذاتها كلمة بس السورية والعراقية والفلسطينية واليمنية والجزائرية؟ وقف الرجل أمامه حائرا، لا يعرف كيف يجيب. - وهل تعرف أنني سمعتها، باللكنة ذاتها التي تنطق بها الآن، سمعتها قرب نهر البارد، في يوم كالح كهذا، حينما كنت استجمع آخر رمق في نفسي وأنا أجرجر أقدامي شبرا شبرا، حافيا، جريح القدمين والروح؟ - شو صار يا زلمة، ما أحنا أخوان وأهل؟ نطق بلكنة فلسطينية صافية، بينما كان ياسر يتوارى خجلا في ركن معتم، مستترا بظلمة ليل القاهرة. كانت الساعة آنذالك تتجاوزالحادية عشرة ليلا حينما قرر السيد صاد، لسبب خفيّ، أن يقفز مثل الآخرين قفزة حيوان البراري المتوحش، ليقطع حلقة ما من حلقات القدر المريب، غير المتوقع. 40 موظفو بنك مصر يذهبون الى عملهم بأربطة عنق وببدلات كاملة في درجة حرارة تزيد على أربعين درجة مئوية. منظر الموظف المتأنق النازل من موقف قطار الأنفاق " المترو" القريب من نافذة مطعم الفندق أدهشه، بالقدر نفسه الذي فتن الأستاذ حجازي. يتحلّق الموظفون المتأنقون حول بائع الفول والطعمية الموجود في ركن خفي من الشارع، يأخذ بعضهم قضمات سريعة خجولة، حذرة، ويتفنن الموظفون الأكثر حذرا وترفعا في سبل إخفاء "لفّة الطعميّة" في حقيبة اليد الفاخرة. السويديون يعلّمون أطفالهم منذ الصغر قانونا أساسيا من قوانين الحياة؛ وهو قانون صحي وأخلاقي وقانون للفعالية العقلية أيضا، يقولون لهم: لا يوجد طقس جيد أو طقس سيىء، توجد ملابس ملائمة أو غير ملائمة. لقد تخلى الموظف الاستعماري " البراغماتي" أو " التجريبي" عن طقمه الرسمي في بلاده ذاتها، لكن موظفي "بنك" الهند و"بنك" القاهرة ومعلمي أهوار ميسان العراقية لا يجرؤون على الاعتداء على قدسية ربطة العنق والبدلة الخانقة حتى في أشهر الحرّ الدبقة. ما الذي يصنع محركات المجتمع الداخلية؟ كيف تسير عجلة الحياة وهي تفتقد وجود طاقة محركة أخلاقية وذوقية وثقافية وسياسية واقتصادية نابعة من جوهر الظاهرة الاجتماعية، وليس من خارجها. من يصنع لنا مفردات لغتنا وربطات أعناقنا وسياسيينا وحكامنا؟ عن أي جرح تتحدث يا لويس! عن أي جرح 41 كانت "أفكار" حزينة في حجابها السماوي الخالب. عيناها الشاردتان تفيضان بالأسى والخيبة. قال لها السيد صاد في لحظة ود عالية، شديدة الخصوصية، اسعدت علياء وجعلتها تبالغ في جرعة مرحها الأخرس: - يا "أفكار" نحن مثل أهلك، هل نستطيع أن نتحدث كبشر وأحبة من دون صفقات، إذا لم تكوني مشغولة طبعا؟ ردت "أفكار" بصوت خافت وهي تنظر بحذر الى ما حولها: - لو أنني رجل لهاجرت الى السويد. - ولكنك لست رجلا يا "أفكار"، فما حاجتك بالهجرة الى السويد أو غيرها؟ فجأة، كما لو كانت تنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، انفجرت "أفكار" بنوبة انفعالية مكبوتة تشرح ضائقتها العائلية والوظيفية وتستفيض في التفاصيل. لم يتمكنوا من متابعة شروحها وتعليلاتها الهامسة الخائفة. ظلوا ينظرون اليها وهم يغرقون في بحر عينيها المتوجعتين. لكن الصدمة الكبرى التي تلقاها السيد صاد، وكادت أن تحطم تجلده وتخرج علياء من دور الخرساء جاءت متأخرة جدا. جلسوا مثل مصعوقين في مواجهة أسى صوتها وعينيها وشفتيها وأصابعها المرتجفة. آخر الكلمات التي نطقتها "أفكار"، فهموا منها أن أسمها ليس " أفكار غانم"، كما قالت وكتبت على الورقة؛ وإنما هي في حقيقة أمرها "أفكار جورج غانم"! قررت طوعا حذف اسم أبيها، لأنه لا لزوم له في عدة الشغل، ولا يتلاءم مع مقتضيات المهنة، ولا ينسجم مع " الديكور" السياحي لشركة الرسالة. 42 في شقة عائلة أبي علياء أرتهم علياء جزءا ممنتجا على عجل من اللقطات التي صورتها سرا في شركة الرسالة، إضافة الى لقطات من الشارع تصور عملية اصطياد سائح من قبل أحد صيادي شركات بيع العقارات الوهمية، وصور إعلان شراء النظارات وتخفيضات الفحص. ودعوا أحمد مرسي وأم علياء بحرارة الأصدقاء القدامى، لكن علياء أصرت على مرافقتهم حتى ميدان التحرير، حيث يوجد موقف سيارات النقل الذاهبة الى الغردقة. كانت علياء مرحة، أكثر مما هو معتاد، لا يكاد يمر موقف من دون أن تدخل عليه، لغة أو حركة، بعض التعابير الساخرة أو إشارات الخرس. - أخشى أن يكون دور الخرساء قد أعجبك ولم تعودي قادرة على التخلي عنه! ضحكت علياء وغطت وجهها بكفيها. وحينما مدت يدها لوداعهم، كشفت عن سر مبالغاتها الساخرة: دموع سريعة انبثقت من عينيها وخرت مسرعة على خدها، لتسقط على الأرض محدثة رنينا موجعا. مسحت أثر الدموع وقالت مبتسمة: - أنا هكذا، يعني هبلة قليلا. أحس السيد صاد أنه يقترب من لحظة فقد جديد. الأحداث المحببة التي تهرب من حياته تبدأ دائما من لحظة شجن خرساء، تعلن عن نفسها بكبرياء عاطفي مكتوم، ثم تتحول الى خسارة مضافة، تُحال الى ملف الذكريات المشحون بالصور والأخيلة الموجعة. - أنتِ لست في حاجة الى شرح عواطفك يا علياء، نحن نراها. - كنت أتمنى أن تقبل الصحيفة سفري معكم الى الغردقة، لكي أحصل على فرصة تصوير المكان الذي وعدتكم شركة الرسالة به هناك، ولكنهم لم يوافقوا، لأن حجتي لم تكن مقنعة. فقد عملت الصحيفة عدة تحقيقات عن السياحة في الغردقة منذ مدة قصيرة. قال توفيق: - لا تخافي، أنا سأكمل المهمة. ردت علياء بدهشة: - أي مهمة؟ أجابها توفيق وهو يقلد حركاتها حينما كانت تمثل دور الخرساء: - أنا أعرف كل شيء، كما إنني حفظت الدرس: الصوت ، الضوء، الزاوية، المادة الرئيسة، المادة الثانوية والفرعية، الاحتمالات المفاجئة والممكنة. عادت علياء الى طبيعتها المرحة مجددا: - غير معقول، لم أكن أعرف أنك تفهم العربية جيدا، وتجيد التنصّت أيضا. أجابها توفيق: - أنا أفهم أربع لغات، إضافة الى لغة الخرسان. بدأت السيارة تستعد للحركة. قطع السيد صاد سلسلة الحوار قائلا: - اتصلي بنا، لو جدّ جديد. - لو عدتم الى القاهرة سأكون بانتظاركم، وبانتظار صور توفيق السريّة، الموضوع يتوقف عليك الآن يا توفيق. اختفت علياء فجاة، مسرعة، كما ظهرت أول مرة، لكنها تركت وراءها رسالة غامضة، كغموض أحلامها وأفلامها السرية ودمعتها المدفونه تحت طبقات السخرية المرّة. 43 كان طريق العودة مملا. شعور بالفراغ يملأ أحاسيسهم، على الرغم من كثرة التوقعات المخيفة الغافية والمكبوتة، المرتبطة بمفاجآت ومخاطر الطريق. فراغ بلون الرمل، بلون الأرض الصحراوية القاحلة الممتدة أمامهم لمئات الأميال. لكن ما يعزّي النفس هنا، في هذا التيه الوجودي الواسع، هو الإحساس الخفي بأن خلف تلك الرمال توجد حياة نابضة، وتحتها وجدت يوما ما حياة أكثر صفاء وسحراً. في الرحلة الى الأقصر قالوا لهم إنه من الأفضل أن يذهبوا مع الأجانب، بواسطة الشركات السياحية المعروفة والغالية طبعا، طلبا للأمان. فهذه الشركات تسير ليلا في قوافل جيدة الحراسة. على الرغم من إغراءات الأمان أبى شيء ما في أعماقهم فكرة الذهاب مستخفّين تحت عباءة الليل. ما أبشع أن يسير المرء في قافلة محميّة بالبنادق والأجانب، في أرض طالما اعتبرها أرضه، وبين بشر لم يخطر في باله قط لحظة واحدة أنهم ليسوا أهله! - تخيلوا ما سيحدث؟ إرهابي أحمق سيختطفنا! والله أنا على استعداد تام لأن أكون مختطفا، في سبيل أمر واحد لا غير: أن أرى وجه هذا الإرهابي الحمار الذي يخطف حافلة مدنية تضم عشرين راكبا، ليأخذ منها رهائن هاربين من جحيم الفلوجة! هذا ليس إرهابا تكفيريا، هذا كفر حتى بقوانين الإرهاب. في نصوص القرآن يبدو له الله في مواضع عدّة متسلحا بالسخرية وحتى الدعابة. لكن تكفيريي القرن الواحد والعشرين مجردون تماما من أية صلة تربطهم بالخيط الذي ينظم عقد البشر، البشر ككائنات قادرة على الابتسام والضحك والدعابة. حتى الدعابة السوداء مطموسة الأثر في أحاسيسهم؛ ربما لأنهم مجرد انفجارات ملتبسة، مصنوعة، دخيلة، مبهمة الأعماق والدوافع، تعيش وجودا لا يختلف كثيرا عن الدعابة السوداء ذاتها، الدعابة السوداء المبكية. هل الدعابة فن نفسي اخترعه الإنسان ليواجه به مخاوفه وضعفه وقلّة حيلته؟ ضجر الطريق دفع السيد صاد الى مشاهدة فيلم لعادل إمام اسمه مرجان أحمد مرجان، بثته الشاشتان المعلقتان في مدخل ووسط الحافلة. قبل أيام قرأ السيد صاد في مجلة مصرية نقدا شديدا موجهاً لعادل إمام، الذي بدأ يتعالى على جمهوره، كما يقول كاتب المقال. لكن الفيلم الذي رآه السيد صاد أقنعنه أن عادل إمام لم يفارق جمهوره في مادة تناوله ونقده. أحس السيد صاد أن عادل إمام لم يزل قريبا من الناس في روحه، رغم التزاحم والتباعد الرهيب الذي تفرضه حياة الغابة. الخوف الوحيد الذي يجعله الآن يشك في مقدرته على الحكم ينبع من ظاهرة أسماها يوما: استئناس الشر، وتأبيد الخطيئة. وهي مرحلة عاشها وطنه العراق، حينما بدأت عملية استعراض التوابيت في الشوارع في مرحلة الحصار، بعد أن ظلت السلطة ذاتها، لسنوات عديدة، تقوم بإرغام عوائل قتلى الحرب العراقية الإيرانية على عدم إظهار أدنى مشاعر الحزن. ربما يكون من المبكر الآن الظن أن مصر وصلت فعلا الى مرحلة استئناس الأخطاء والأخطار وتدجينها، كما تدجّن الحيوانات البريّة. فكر السيد صاد: على النقد أن لا يقع في فخ تأمّل مسيرة الشر، وأن لا يكتفي بعرض الأخطار، بل عليه أن يذهب أبعد من هذا، ولا بأس من أن يمد رجله لـ "كعبلة" الشر وعرقلة اندفاعه، لأن الشر مخلوق عجول، ميت الضمير، واثق الخطى دائما، لا تسهل عملية اللحاق به! هل كان رعب الطريق وشدة الملل وضيق المقعد هي السبب في أعجاب السيد صاد بفيلم عادل إمام، أم أن عادل إمام كان حقا قريبا من الناس والنفس كما عهدوه؟ هذا أمر لا يستطيع السيد صاد التحقق منه الآن وهو في ذروة عجزه الروحي، وربما لن يتمكن من هذا لاحقا أيضا، فهو ينتمي الى عصر لايطيق أبناؤه رؤية فيلم أكثر من مرة، إلا إذا كان من بطولة اسماعيل ياسين. 44 حيّره مفهوم الدولة. وقف السيد صاد مرارا عند تعريفيّ انجلس ولينين للدولة، وكذلك عند تعريف ماكس فيبر، الذي بدأ نجمه يلمع عاليا في سماء اليساريين العرب المتأمركين. فكر في نقاط التشابه والاختلاف. ما هي الدولة؟ وعلى وجه التحديد ما هي الدولة الشرقية؟ المرأة التي تركها أبناؤها خلفهم في غابة المركبات الهائجة يوم أمس كانت أمه. بعد مراجعة حسابات الأمس ألفى نفسه الآن واثقا من هذا تماما. هي أمه. سواء كانت مصرية أو سورية أو لبنانيّة أو يمنية أو مغربيّة هي أمه. هي أمه ليس لأنه في جوع قاتل للأمومة فحسب، بل لأنه أيضا في جوع مزمن لمعرفة حقيقة وجوده كإنسان ينبت في رحم تدّعي زورا أنها عذراء، رحم ذاتية التخصيب، هي رحم الدولة الكليّة، التي غطّت سماواته مثل غيمة من غبار، وجعلت منه ابناً غير شرعي لها، ابناً لقيطا، يجهل حتى اسم أبيه. كان السيد صاد وحيدا مثل لقيط تائه في بحر الأجساد العارية حينما رأته أسرار. ركضت أسرار نحوه، ثم قفزت لكي تصل الى كفّه، لتهزها مثل سعفة: - فين أمك؟ سألته أسرار، لؤلؤة المجمع السياحي الأبنوسيّة، ذات الثلاثة أعوام. باغته سؤالها. كان السيد صاد منشغلا بمراقبة خالتها، التي كانت تضع لمساتها الإفريقّيّة الساحرة على رأس إحدى الفتيات الشقر. خالة أسرار وأمها هما الفتاتان المصريتان الوحيدتان في هذا المجمع الواسع، المليء بذكور، يستحيل على السائح إحصاء عددهم. هما تعملان أمام غرفة صغيرة واقعة بين حوض السباحة الكبير والشاطىء المزدحم بالأجساد الأوروبيّة العارية. كان بالكاد يميّز بين الأختين لشدة تشابههما وتقارب عمريهما؛ لكنه أخذ يميّز أم أسرار من مشيتها الثقيلة ودورها الدفاعي والرقابي، الأمومي، الذي تمارسه على أختها الصغرى. ومن لا يرى بطن أم أسرار المنتفخ يظن أنها لا تتعدى الخامسة عشرة من العمر، ولا يصدق أنها تجاوزت عامها التاسع عشر منذ شهور. أما أسرار فكانت دمية المكان الأثيرة، الحيّة، التي تتنقل بين النساء العاريات من يد الى يد، ومن حضن الى حضن، ومن شفة الى شفة. لو أنها سكنت لحظة واحدة، وهذا أمر مستحيل، لحسبها المرء دمية حقيقيّة، بسبب صغر حجمها، ونضارة ودقة تقاطيع وجهها الرقيقة الأبنوسية اللون. نوبيون هم، يمتهنون ضفر الشعور. حينما تمر أسرار تتلاقفها أياد بيض، وصدور ملتهبة الحمرة، وأحضان حليبيّة. كانت مثل حزمة ضوء سوداء مشرّبة بحمرة قانية تتنقل من صدر الى صدر في مملكة الألوان. هي ملكة المكان من دون منازع، ملكة تم تتويجها هنا، على عرش الساحل، قبل أن تكمل عامها الثالث. قبل أيّام اشترت لها زوجة السيد صاد لعبة قماشيّة، في هيئة طفلة بيضاء ذات ضفيرتين شقراوين، وأهدتها اليها. خطرت فكرة شراء اللعبة على بالهما وهما يريان الجميع يعامل أسرار مثل لعبة. فكّرا معا: كيف ستستقبل هذه اللعبّة البشرية لعبتها الصناعيّة؟ قالت لها أمها: قولي شكرا يا أسرار، فقالت: "متشكرة"، واحتضنت اللعبة بقوة وقبلتها في وجهها، ثم راحت تمرر أصابعها على شعر اللعبة، متحسسة نعومة ضفيرتيها الذهبيتين! لكنهما لم يرياها بعد تلك اللحظة تمسك لعبتها. ربما هي تستعذب أن تظل مستغرقة ومستمتعة تماما في دورها، الذي رسمه لها الآخرون: أن تكون هي اللعبة. هزّت أطراف أصابعه مجددا وقالت: - قلت فين أمك؟ ماذا يجيب يا شهقة الأبنوس الحي! يا سرّا ليليّا ساحرا ينفجر كل صباح! فكّر السيد صاد: تركتها هناك في الغابة البعيدة، غابة المركبات المجنونة وغابة الحروب الأشد جنونا؛ تركتها مرتعشة، وحيدة، مقهورة، وجئت الى هنا، بحثا ً عن لحظات مسروقة استهلك فيها استسلامي المضمر. - اخرسي يا بنت! صاحت أمها، والتفتت اليه: لا تدعها تتكلم كما يحلو لها، لأنها لن تعتقك! نظر السيد صاد الى وميض الأبنوس المشتعل على وجه أم أسرار وهي تمارس، بتحد واصرار، دورها الأمومي المحفوظ عن ظهر قلب منذ الولادة؛ وجهها الذي تجتمع الأعمار والأقدار والألوان كلها، ينتصب في مواجهة كتل الأجساد البيض العارية، المسترخية. نظر السيد صاد الى لون المساء المليء بالعناد، ثم الى لون بشرته المنافق، الكاذب. أحس كما لو أنه ظِل سائل باهت اللون يندلق من جسدها ويسيح على الرمل، حيث تنتصب، بلا مبالاة استعراضية، أشجارُ الغابة الكونية، بسيقانها ونهودها وأردافها الملونة، العارية وشبه العارية. تساءل مع نفسه: تقول لن تعتقني! متى كنتُُ عتيقا؟ 45 سأل السيدُ صاد موظفَ الاستعلامات عن الشرطي الصابر، المجاهد "رأفت"، الذي يحرس مدخل المجمّع السياحي ويمنح رواد المجمّع الأمان الروحي والجسدي. فللمرة الأولى يراه غائبا. ربما ذهب في إجازة بعد هذا العناء الكبير! كان عناؤه ممتعا، لكنه عناء قاتل في الوقت عينه: لذّة مجانيّة باذخة تفوق أقسى أنواع العقاب الروحي. كان رأفت مرغما على رؤية مئات الأجساد العارية وشبه العارية عند دخولها وخروجها من المسابح الداخلية والخارجية، من أذان الفجر حتى ما بعد منتصف الليل. الفتيات والنسوة القادمات من مخلّفات الاتحاد السوفيتي يبالغن كثيرا في استعراض أجسادهن، بسبب عقدة منافسة الغرب الأصيل، الواثق، المستقر، الذي ترك لهن حرية الاكتفاء بتقليد التطرف الشكلي والخارجي القشري والاستهلاكي. كانت مهمّة رأفت الأساسيّة هي أن يدقق النظر في معاصم الداخلين والخارجين، وأن "يبصّ" الى أساور ترخيص الدخول المربوطة في أعالي كفوف الزائرين، في المنطقة المحاذية تماما لنقطة تلاقي الفخذين. كان واجبه العسكري يرغمه، بأمر القانون، على تركيز بصره في تلك البقعة الكافرة، المملوءة بالإثم واللذة والشهوة والغواية. المنحوتات اللحميّة، الثائرة على قوانين تدجين وترويض الأفاعي السامّة، تمرّ على بعد قدم واحدة من طرف أنفه ومحجريّ عينيّه، تستعرض عصيانها الجسدي المسلّح، تهاجم بعدوانيتها الغادرة حواسه كلها، حتى يكاد هيجان خمائر ألوانها وروائحها المدوّخ والمهلك أن يصيبه بالصمم والعمى. كان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند مرور مُركّبّات الجمر النسويّ المشاغبة، باذخة الاستفزاز والعطاء، المترعة بالضجيج والعويل والأبخرة الفتّاكة. - عسكري شهم، يستحق إجازة بعد هذا العناء النفسي الحاد. هل ذهب الى عائلته في الصعيد؟ -لا، تم نقله الى وحدة بعيدة في الصحراء. 46 كيف تؤنس رمالُ الصحراء ذرّاتِها المتشابهةَ؟ وكيف تستر الرمالُ عريها الربّانّي، الأزلي؟ من يسامر من؟ النجمة المتلألئة في الأعالي أم بساط الدنيا الرمليّ، المستلقي عاريا تحت الضياء السرمدي للصحراء؟ وهو ينظر الى الفراغ العظيم الذي يطوقه من الداخل والخارج تصرّ ذاكرة السيد صاد على العودة مجددا الى مرحلة استعراض التوابيت في شوارع بغداد، مرحلة استئناس الشر، والتطبيع معه. أحد كتّاب الحرب، على ما يذكر، هاجم القنابل واتهمها بالإجرام والخبث والهمجيّة، وطالب بان تُعتقل وتوضع في أقفاص تشبه السجون! كانت القنابل - عنده- هي التي تدير شؤون الحياة والعباد وترسم سياسة الدولة وخطط الحزب، أما القادة والوزراء والمثقفون فكانوا مجرد جنود تمّ سوقهم قسرا للخدمة الإلزامية في فيلق القنابل الشريرة. كم يحمل تاريخ الشرّ المخزي من دعابات سود! هل يشبه فنُ تدجين الشر فنَّ الدعابة، الدعابة كسلاح للمستضعفين في مواجهة أقدار غاشمة، والشر كسلاح للأقوياء في مواجه بشر مغلوبين على أمرهم؟ أيجمع عادل إمام في مرحلته الراهنة بين الفنين؟ لا يعرف السيد صاد إذا كان عادل إمام يعي تماما أنه حشر كلمة "الرئيس" غير مرة في فيلمه " مرجان" حشرا. كان ينطقها بطريقة لا تخلو من مشاعر الإحساس بالإثم؛ لكنه، على الرغم من ذلك، كان يبتلع ريقه وينطقها كما لو أنه يقف بين يدي الرئيس عاريا، متناسيا، وهو في أوج انفعاله الرئاسي، أنه يقف بكامل عريه أمام شاشات تجيد لعبة الوشاية، يراها ملايين المغلوبين على أمرهم، ملايين الماهرين الى حد اللعنة في فن الدعابة! ما الذي يجعل الإذكياء ينسون مهارة الذكاء التي يتحلون بها، والتي يتميزون بها عن غيرهم ؟ 47 في المجمع السياحي في الغردقة أراهم " أبو كوران"، الكردي العراقي الذي ذهب قبلهم الى القاهرة، بعض الصور التي التقطها في الجيزة: الهرم نفسه الذي قاموا بزيارته، العربة ذاتها، الحصان الضامر المسمى "رامبو". - تصوروا، كلفتنا الرحلة كلها من القاهرة مع أجرة العربة والعودة الى وسط القاهرة ثمانين جنيها "بس"، يا بلاش! رد السيد صاد مداعبا: - لكنك لم تُصّور لويس، ولم تتعرف على"عم عبده"، لقد رأيت "رامبو" لكنك لم تر صابرا؟ - من لويس؟ ومن الـ”عم عبده” وصابر؟ - الأجزاء الناقصة في صورك، عناصر الصورة الأساسيّة، التي نسيت أن تلتقطها. قال أبو كوران، مندهشا: - لا أفهم ماذا تعني! - أنا أفهمك: أنت ذهبت لزيارة مصر، أليس كذك؟ - بالتأكيد. - أما أنا فذهبت الى مصر أم الدنيا. لقد صورت أنت مصر، لكنك نسيت أن تصور ابنتها الأسطورية: دنيا. - لماذا أنتم العرب تحبّون البلاغة كثيرا؟ - ببساطة تامة: لأننا عرب. ضحكا معا، أبو كوران على نكتته، والسيد صاد على خيباته. 48 كان شرطي المطار ودودا ودمثا ومرحا. سأل كالعادة عن جنسية السيد صاد الحقيقيّة، فقال له: لك أن تختار"عراقي مزوّر، أو سويدي مغشوش"، وأراه اسم المدينة العراقية التي ولد فيها مكتوبة في جواز سفره السويدي وعلى استمارة الخروج؛ لكن الشرطي أضاف اسم أبيه على استمارة ابنه توفيق، حاشرا الكلمة بين الاسم واللقب، فأضحى اسم الابن رباعيا، لا يتطابق مع الاسم الموجود في جواز السفر. رفع الشرطي رأسه مبتسما غامزا بود، كمن يكشف لطفل قطعة حلوى صغيرة سرقها الطفل وأخفاها في جيب سرواله. قال السيد صاد للشرطي، لكي يصحح مسار تصوارته المسبقة عنه وعن أمثاله الواقعين بين نارين: نار الدقّّة الغربية الصارمة عند كتابة الوثائق الرسمية ونار التأويل الحدسي الشرقي، القائم على الظنون والمخاوف المفتعلة، غير الممحصة من قبل عقل راجح: - هذه الكلمة غير موجودة في الجواز، لذلك لا نكتبها، لأنها تُعدّ إضافة تخلّ بتطابق البيانات مع الوثيقة الرسمية السويدية. - مع هذا، كتابتها لا تضرّ، أليس كذلك؟ طيبة رجل الجوازات أغرته على أن يسأله مازحا: - لماذا لم تسأل العائلة التي كانت قبلنا عن جنسيتهم الأصليّة؟ - ولماذا أفعل، دققت جوازاتهم السويديّة. - ومن قال لك إنهم سويدو الأصل؟ نظر رجل الجوازات الى السيد صاد بإشفاق وقال: - هذا شغلي. - ما رأيك لو قلت لك إنهم ليتوانيون، وإن نصف الواقفين في الطابور الآن، ممن يحملون الجنسيّة السويدية، هم من غير السويديين: روس وصرب وألبان ومن البلطيق. - هل تريد أن تعلمني شغلي؟ نطق الشرطي ذلك وهو يسرع أكثر في ختم وتدقيق الجوازات. - زرنا أوروبا كلها تقريبا، من شمال فنلندا حتى اليونان جنوبا والبرتغال غربا، ولم يسألنا أحد عن أصولنا، لكنني ووجهت بهذا السؤال في تونس والمغرب وسوريا والإمارات العربية، وسُئلت مرة عن اسم أمي: لماذا؟ - الى أي شيء تريد أن تصل ؟ - لا تزعل مني، فأنا أمزح معك، لأنك رجل طيب وكريم، وربما لن أجد من هو أصدق منك ليجيبني عن أسئلة حيّرتني وجعلتني أظن أنني وأمثالي وحدنا شغلكم الوحيد! - أتعني أن الشرطة ليس لها شغل ولا مشغلة سواك! - سأوافقك على إنكارك، ولكن بشرط أن تكفّ عن سؤالي في المرة القادمة عن بلدي الأصلي، أو أن توجه هذا السؤال الى جميع المسافرين من دون استثناء. - لدي اقتراح أفضل من هذا سأقوله لك بعد أن أقول لك شرفتنا يا بيه. قال كلماته مبتسما بترفع وهو يناول السيد صاد جوازات سفرهم، ثم أضاف: ما رأيك لو تجلس هنا، في مكاني، وتحكم أم الدنيا بدلاً منا؟ أجابه السيد صاد بود ممزوج بالكدر، وهو يودع مصر: - شرفتنا يا بيه! 49 في رحلة العودة لاحظ السيد صاد أمرا غريباً، مصادفة تكاد أن تفوق الخيال: رأى السيد صاد أنهم جميعا، بدءا من المعقد الخامس والعشرين حتى مراحيض الطائرة الخلفيّة، عبارة عن خليط من الأكراد والعرب والإيرانيين والأتراك وبعض الروس والجيورجيين. قال لزوجته، التي كانت تتأمل التقسيم الطبقي والعرقي للطائرة بصمت وحيرة وشرود: - ما هي الدولة؟ أجابت كما لو أنها استفاقت من نومها: - أية دولة؟ - التي تشتري الحاسوب وتستخدمه كما تستخدم المحراث اليدوي، والتي تستورد عداد الأجرة وترغم مواطنيها على احتقاره، والتي تضع في تقاطع الطرقات أجهزة ضوئية الكترونية للنفاق الحضاري والتباهي البليد، ترفعها عاليا، كما لو أنها شعار أبدي للتخلف العقلي وموت القيم والاستسلام. أسألك سؤالا تافها آخر: لماذا أتعب شرطي المطار الطيب نفسه حاشرا اسم أبي في بيانات توفيق، علما أن الاسم موجود في الحاسوب أصلا؟ - اسمع! لماذا لا تواصل كتابة القصة التي بدأتها عن مصر بدلا من هذه الأسئلة الفارغة. 50 وهو جالس على ارتفاع ثلاثة آلاف قدم، في جزء الطائرة المشكوك في أصالة أوروبيّته، خيّل اليه أنهم مقدمون يوما ما على ثورات عاصفة، ثورات لا تشارك فيها الشعوب وحدها فحسب، بل ستثور معها عدادات السيارات المضطهدة، وأجهزة الحاسوب المستعبدة، وإشارت الضوء المذلة المهانة، وربما حتى ضحايا التقسيم العرقي للطائرات، ومادة المغناطيس، ومعدو ومخرجو وممثلو"كوميديا" الحياة اليومية، البشعة، السوقيّة، المعادة، الصفراء. 51 أن تغادر مصر، عائدا الى منفاك البعيد يشبه، الى حد مرعب، أن يلطمك أحد على وجهك، وأنت تنظر اليه بعينيك الصغيرتين المستنكرتين البريئتين، عينيّ الرضيع، المهموم بالتقام حلمة نهد أمّه. يد غليظة، خالية من الرحمة تقصيك، بكفخة غادرة، مبعدة شفتيك الضامئتين العاشقتين عن حليب الروح الدافىء، الشاخب في جوف فمك وفي أعماق روحك. في الليلة الكابوسيّة، التي أعقبت الوصول الى المنفى، تكررت الصور الحلميّة المفزعة ذاتها غير مرّة. قرار الاستسلام أضحى جاهزا. المرء يستسلم مرة واحدة والى الأبد. أن تستسلم يعني لا أكثر من أن تمسح بضع كلمات من قاموسك. كلمات مجردة، بعضها مدرك وبعضها مجهول وغامض، بعضها صادق وكثير منها مشكوك في صدقه؛ أي بمعنى آخر أن تضع حدّاً لهذه الرحلة العنكبوتيّة، الثعلبية، المضنية، والملتبسة. ولكن، في كل مرة يتّخذ فيها قرار الاستسلام، يفيق السيد صاد مذعورا، مبلبلا، حائرا، خائر القوى، لأنه لا يعرف لمن يتوجب عليه تقديم أوراق استسلامه! ملايين البشر يسيرون من حوله ذاهبين الى غير اتجاه. في كل نوبة يغفو فيها يجد نفسه أمسى كائنا ممغنطا، يلتصق بالمارة التصاقا حشريا، قائلا لهم بصوت دبق، يشبه خشخشة نشارة الحديد الصدئة المخلوطة بالملح وهي تُرش على جرح مفتوح: "هدية تذكارية! هدية محترمة ببلاش، واللهي محترمة! هوّا راح تخسر شيء من جيبك! يا عم أنت الخسران! ايه، ايه، ايه؟ مش عاوز؟ أنت باين عليك وجه فقر!"
|
|
|
![]() |
![]() |
|