أحمد زكريا فتحي - مصر
كانت تراه من بين شقوق الكتل الأسمنتية العملاقة ..
تلك التي قالوا إنها ستحميها فلم تصدق هي ذلك
لو استقبلت الآن دانة مدفع لدكت حصنها بما فيه
تخرج رأسها من الفرجة وتنظر
الرجل الجميل ذو
البزة العسكرية ينطلق على غير قدمين
قدماه
المقطوعتان يسيل منهما الدم مدرارًا ويسري حاملاً سلاحه
الآلي بيد واليد الأخرى مدلاة بجانبه
جميل
في كل شيئ لولا القدمين !
يندفع إلي ما خلف
البنايات البعيدة ..
تسمع صوت قرع رصاص .. ثم
صمت
ومن خلف البنايات رأته يصعد وقد
اكتملت قدماه .. يتناثر منه الريش ويستحيل طائرًا غير
مألوف ..فور تحوله يهوي سلاحه من علٍ وسط الريش السابح في
الهواء لأسفل
تلتفت برأسها للخلف
كان المزيد من الرجال قادمين ..جميعهم إما مقطوع القدمين
أو الذراعين ..
.. يتقدمون إلي ما خلف
البنايات .. تستقبلهم زخات الرصاص ويتحولون في الهواء
طيورًا تحلق إلى أعلى
يسَّاقط منهم الريش
الأبيض غزيرًا ليتلوث بدمائهم علي الأرض ..
أخرجت جسدها الراجف كله من المخبأ ..و راحت تجري للخلف
وتتعثر ..
اتجهت لتلك المدرسة الإبتدائية
الرابضة هناك
بيضاءَ نظيفةً جديدةً تماما
كأنما شيدوها الآن ..
وفي المدرسة كانت
الدراسة تستمر علي قدم وساق ..وهدير صوت الطالبات يأتي من
أعلي وهن يغنين نصوصهن المقررة ..
في
الفناء كانت الفتيات الصغيرات يلعبن وقد تلوثت أيديهن
وأفواهههن بالدم الأحمر القاني .. يلوثن به بعضهن بعضًا
وضحكاتهن صافيه رقراقة تنطلق!
بينما أحداهن
قد أخذت تجمل شفتي صديقتها بالدم .. والأخرى واقفة مفغورة
الفاه تنظر ..
حين اكتمل الصبغ قبلتها علي
شفتيها فاحمرت الشفتان !
تصعد جريًا إلي
اعلي ناظرة في ساعة معصمها , فحصتها ستبدأ الآن !
كانت الطالبات يجلسن علي المقاعد ساكناتٍ وقد فقدت بعضهن
أذرعتهن أو أرجلهن أو عضوًا منهن آخر !
والإبتسامة الصافية علي وجوههن لا تزال كما هي !
التقطت ريشة ملقاة علي الأرض وغمستها في الفراغ الموجود
مكان عين أحداهن وكتبت علي السُبورة :
" لا
تصالح
على الدم .. حتى بدم !
لا تصالح ! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس
سواءٌ ؟ ... "من نافذة الغرفة لمحت بطرف عينها الطيور تصعد
للسماء .. الريش يتناثر منهم ليكون علي الأرض المصبوغة
بالدم ..سدًا أبيضًا من ريش ..
أقلب الغريب
كقلب أخيك ؟!
يندفع نهر من دم منسابا من
خلف البنايات .. لكنه لا يعبر ..
يمتصُّه
نصف سد الريش فيحمر ...
لكن النصف الآخر يظل
ابيضًا كما هو صامدًا !
"أعيناه ... عينا
أخيك ؟!
وهل تتساوى يدٌ .. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك ؟!"
من خلف
البنايات تخرج بذلات بلا جنود .. بذلات قد انكبست علي
الهواء وخوذات معلقة علي الهواء ومن امامها تمتد مدافع
كثيرة !
وأمام السد .
يتوقفون .
"ولو توَّجوك بتاج
الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ ..؟
وكيف تصير المليكَ ..
على أوجهِ البهجة
المستعارة ؟ "
تلحظ فتاةً تنظر
بجانب عينيها المقتلعتين من الشباك لترقب ..
فتصرخ فيها غرَّة
"قومي لتعربي يا فتاه "
" لا .. تصالح "
لا .. لا الناهية
حكمها مختلف فيه بين كثيرين من العرب ..
قومي
علي (لا قدميكِ) لتعربي هذا
و"تصالح "
منهي عنه .. مجزوم !
"لِمَ لَمْ تحفظي اغنيتك
المقررة ها ؟!"
بجانب عينيها تلمح دفعة
القادمة من الرجال .. من خلف البنايات والكمائن
(.....) يشير للرجال إشارة بلا معنى فيتحركون
الرصاص يرسم خطوطًا في الهواء بينهم
وتصعد
طيورهم ويزيد ريشهم الساقط سمك السد الأبيض .. هذه المره
.. كان الدم غزيرًا
" سوف يجيئك من ألف خلف "
لم يبق من حاجز الريش سوي القليل ..
سينهار
دم آخر وسينهار السد ..
"لا ..... "
انتهي المداد من الريشة ..
تلمح الجنود
يقفون فلا تدر بم تفعل .. قد انتقص عددهم بشدة ..
كم بقي من بذات الجنود القاتلة ؟
سد الريش
..لن يبق للأبد ..
خرجت إلي خارج الفصل
لتضغط الجرس
. خرجت الطالبات يمشين
الهوينا .. لا أحد يجري ..
يلوثن الممر
بالأحمر .!
اندفعت لخارج المسأله إلي مخبأها
الأول
تنسل من ذات الشق فتحمل جثثًا عرفت من
سكونها موتها
وارتها الطين الأحمر ثم لفَّت
إلي خلف الساتر ..
فوجدته يقف هناك
رأته هذه المره متكاملَ الجسد .. جميلُه
ذراعاه الجميلتان المفتولتان في أحدهما يحمل السلاح وقدماه
علي الأرض راكزتان ..
بلا رأس !
بل رقبته مالت للخلف كمن ينظر للسماء
تحسرت علي رأسه ..
لَكَم - وتلكم المرة
الأخيرة - تمنت تقبيله علي شفتيه
مره
واحدة .. أولى .. وأخيره ...
هيهات ..
تقدمت منه
" أريد سلاحًا"
ارتفع حاجباه .. دهشةَ!
ستحاربين ؟
فحملها ما تيسر لها من أدوات موت فحملته
.................
ثم قبلته علي جانب عنقه
المقطوع ..فانبجست دماء الخجل من عنقه تلوث ثيابها
تعود للمدرسة .. الفتيات يلعبن مازلن ..
وقفت
وأمسكت بمكبر الصوت وصرخت فيهن
أن تعالين
لترين الله ..الآن .
حملن سلاحهن كأنه من
ورق .
تتحرك في صفهن مستقيما كما هو .. ليست
إحداهن خائفة .. كن يضحكن بصفاء .. ويتمازحن .
تتقدم صفوفهم بغير ان يطلقن الرصاص ..
الوصية الأخيرة الآن هي "
أنت (فارسة ) هذا
الزمان الوحيدة
وسواك " الرجال "!
لم يطلقن الرصاص ..
انهال عليهن القذف من
جانب واحد وقفت معهن بلا أن تسدَّدَ فيها طلقة ...
وقفت سالمة .
بينما الصغيرات يسقطن ..
يعلون ..
تتصاعد طيورهن الصغيره .. تحلق
وقد اختفي الدم منها ,,
يتساقط الريش بغزارة
شديدة.
يكون علي الأرض تلك المرة سداً من
الريش الأبيضِ سميك ..
َّوبينما اختفت
طالباتها في الأفق ..بينما كانو يتقدمون إلى
لكنهم وقفوا أمام ذاك السد الريشي لا يعبرونه .
متحيرين