![]() |
شعر مترجم |
مصطفى نصر - مصر
عندما يأتي لزيارة أهله ، تضاء أنوار المنزل كلها ؛حتى الجيران يحتفلون بقدومه.أتذكر حينذاك فيلم " سي عمر" لنجيب الريحاني . عندما جاء شبيهه إلى القصر فأعاد البسمة إلى قلوب أهله. وعبر المخرج عن ذلك بمشهد رائع ، فقد أضاء كل أنوار القصر التي كانت مظلمة قبل أن يأتي . هكذا كان هو ، يأتي كل عدة أسابيع من المدينة التي يعمل بها ويقيم فيها ؛ فتبتهج أمه ، وتأتي أخته وأولادها من بيتها القريب ، ويأتي أهل زوجته الذين يسكنون في نفس الشارع ، ويأتي أخوته ، كل واحد معه زوجته وأولاده . تجلس الأم في الردهة الواسعة أمام التليفزيون ، تضحك – أورثت أبنها خفة الدم – هي تمزح طوال الوقت وتضحك في حياء أنثوي. لكن لا شيء يظل كما هو ، لقد تغير الحال ، تزوجت آخر بنتين لدى الأم ، وبقيت وحدها في الشقة . أبنها الذي كان يبهج الأسرة بحضوره ؛ لم يعد يأتي كثيرا كما كان ، أعباؤه زادت فيأتي الآن في المناسبات : خطوبة ابنة من بنات أخوته ، أو زواج ابن أخته أو في الأعياد . والأم تجلس في مكانها وحدها . الأولاد بعيدون عنها ، سكنوا أماكن بعيدة : سيدي بشر وباكوس والعجمي . وكذلك البنات ابتعدن عنها ، لم يتبق لها سوى الابنة الكبرى ، هي حقا تسكن قريبا منها، لكنها مشغولة بأولادها وبناتها ، مشاكلهم كثيرة جدا ، خاصة بعد موت الزوج ، هي الآن الأم والأب معا . والأم تجلس في مكانها ، حتى التليفزيون ما عادت ترى فيه شيئا ، تصلى فوق كنبتها المفضلة . حتى عندما جاء الابن الكبير لم تحس الأم بما كانت تحس به زمان . مر اليوم ولم يأت أحد من أخوته . في اليوم التالي جاء أخوه الذي يليه في العمر والذي تربى معه ولعبا معا ، فالفرق بين عمريهما عام واحد وشهور قليلة. لم تأت زوجته وأولاده . الدنيا تغيرت يا ناس . جاء شقيق زوجة ابنها وهو ابن أخوها في نفس الوقت . أرسله ابنها لشراء بعض الأشياء . مر من أمامها . بعد أن جاء بما كلفه ابنها بشرائه ؛ مر ثانية فلم تجد " بوكا" كانت تضعه بجوار التليفزيون . "البوك" فيه كل ما قبضته من معاش زوجها ، لم تنفق منه سوى القليل . هي تعرف أن الولد يسرق . فشل في دراسته وعمل نقاشا . كلما ذهب إلى شقة ليدهنها ؛ يسرقها ويطارده أصحابها ، يأتون إلى أمه ، يسبون ويتشاجرون . أمه طيبة وليس لها في المشاكل . تبكى المرأة وتطيب خاطرهم ، لكن معظمهم يبلغون الشرطة التي تطارده وتطاردهم ، يبحثون عنه في الحجرات وتحت غطاء السرير العالي ذي العمدان السوداء . ويقبضون عليه ، لكنه يخرج بعد أيام ، " فالحرامي وشيلته " وهو لم يضبطوه يسرق ولم يجدوا معه شيئا مما سرق، ينفق كل ما معه أولا بأول . قالت المرأة لأبنها: - حمدي سرق " البوك" . - لا أظنه يفعلها معك ، ابحثي عن "بوكك" جيدا . - بحثت ولم أجده ، هو الذي فعلها . يصادق الولد – في هذه الأيام – أولادا خطرين ، طوروا طريقته في السرقة ، علموه كيف يصعد المواسير، جعلوه يسرق من أماكن بعيدة بعد أن أمتنع معارفه عن طلبه لدهان شققهم بالبوية ، فهو سيسرقها بعد أن يدهنها . بحثوا عن حمدي لم يجدوه ، هذه طريقته ، بعد أن يسرق يختفي ، يذهب لإنفاق الأموال في ليلتها ، ولو كان مبلغا كبيرا فبعد عدة أيام . قال ابنها الآخر : هذا الولد مصيره يقتلك ، ليسرق ذهبك . هي لديها ذهب كثير جدا ، يمكن أن يزنوه بالكيلو، جمعته أيام كانت تعمل خياطة لتساعد زوجها على تربية الأولاد الكثيرين جدا . كسبت كثيرا من الخياطة ، كان كل ما توفره تشترى به ذهب، تلبس بعضه الآن ، والأكثر تخفيه ، تجعله للزمن . كل الأسرة تعرف هذا، وحمدي ابن أخيها يعرف أيضا. ، وقد يأتي لسرقتها . هي الآن في أمان . فابنها الكبير معها . وأخوه معها ، والجيران يأتون لمقابلة الابن العائد من السفر والجلوس معه ، وكذلك أصدقائه ، لكن بعد أن يذهب ابنها ؛ ستعود إلى وحدتها. هي التي كانت تكثر من المزاح والسخرية من كل شيء ؛ أصبحت مهمومة . تخاف أن يمشي أبنها فتقتلها الوحدة ، أو يقتلها الولد حمدي من أجل الذهب الكثير الذي تمتلكه . فكرت في بيع الذهب ، وأن تعلن أمام الجميع عن ذلك ، فيعرف الولد فيبتعد عنها ، لكنه سيأتي لسرقة ثمنه . ظلت مهمومة طوال الوقت ، في الغد سيعود ابنها إلى مدينته التي يعمل بها وسيطول غيابه كالعادة .سيأتي بعد عدة شهور ، تكون هي قد قتلت إما بالوحدة أو بيد حمدي . وبالفعل ذهب أبنها ، رأى وجهها مكدودا وبريق عينيها قد انطفأ . لم تضحك وتمزح وتسخر كعادتها . قال لها :
أرادت أن تبتسم ، لا تدري إن كانت الابتسامة وضحت على وجهها أم لا .وعاد الابن الآخر إلى بيته ، وظلت وحدها .قامت بعد أن أطمأنت إلى أن الأبواب مغلقة ، ستتصل بابنها لكي يأتي بالنجار لعمل " عين سحرية " فوق الباب ، فإذا دقه أحد نظرت من "العين السحرية" لتعرف من الطارق . لماذا لم تفكر في هذا من قبل ، مع أن معظم الجيران وضعوها فوق أبوابهم. اطمأنت على وجود الذهب في مكانه ، وتحسست الموجود في ذراعيها وعلى صدرها. وأضاءت مصابيح الغرف كلها رغم أنها في عز النهار . لكنها أطفأتها ثانية ، وأطفأت التليفزيون ، يجب أن توحي للجميع بأن الشقة خالية وأنها لدى ابنتها ، لكن قد يكون هذا مشجعا لسرقتها . دق الباب ، أرتعد قلبها داخلها وارتعشت .أحست بأن شعر رأسها يقف ، ارتبكت ، لن تفتح الباب، ستقف في الشرفة وتصرخ لينقذوها من حمدي ابن أخيها ، لكن قد يكون الطارق آخر غيره . اقتربت من الباب ، وضعت أذنها على خشبه وصاحت:
ترددت قليلا ثم فتحت الباب ، كان ابنها الذي يسكن العجمي .علم بأن أخاه الكبير جاء؛ فأراد مقابلته والجلوس معه ، لكن مشاغله عطلته عن الحضور بالأمس.وقد جاء الآن على أمل أن يلحقه قبل أن يسافر . قالت : إنها في حاجة إلى " عين سحرية" لتعرف من الطارق.قال : سأتحدث مع النجار في هذا . طلبت منه أن يبقي معها قليلا ، لكنه أعتذر فزوجته المدرسة تنتظره في مدرستها ، ليعودا معا إلى العجمي قبل عودة ابنتهما من المدرسة . بقيت في الشقة وحدها ، فتحت باب الشرفة ، وضعت مقعدا بها وجلست ، تابعت المارة في الشارع، شاهدت الولد حمدي يقف وسط أقرانه .صاح ولوح لها: - عمتي ، تريدين شيئا؟ ارتعدت وخافت ،هاهو قد رآها وعرف أنها وحدها في الشقة. سيأتي بعد قليل.عادة ما يأتي ومعه زملائه – اللصوص- ، أو قد يرسلهم ويبقي في انتظارهم حتى لا يتعرف عليه أحد . أغلقت باب الشرفة ، ارتدت ملابسها، ستذهب إلي ابنتها ،هي لا ترتاح عندها فابنها يرفع صوت التسجيل ، ويختلف مع أخته في ذلك ويتشاجران؛ لكن ما باليد حيلة سواها .تفضل أن يسرقوا ذهبها وتكون خارج الشقة حتى لا يقتلوها .أحست ابنتها بأن أمها مريضة . لون وجهها مخطوف وباهت ، السمار الذي كان رائقا وجميلا ؛ صار أزرقا الآن .
ضحك ابن أبنتها ، وضحكت البنات ساخرات : " كيف يقتلك وأنت عمته ؟ ، قالت : نحن في زمن يقتل الابن أمه من أجل المال . كان لابد أن تعرض علي الطبيب ، فقد شحب لونها وامتنعت عن تناول الطعام وأرتفع ضغط الدم ، وزادت دقات القلب . أدخلوها المستشفي . من الممكن أن يغتنم الولد حمدي الفرصة ويسرق الذهب ، ليته يفعلها لترتاح . نظرت حولها وجدت ابنة من بناتها قريبة منها ، أمسكت يدها وقالت :
ضحكت البنت وضحك الموجودون من قولها ، ظنوها تهذي من أثر المرض. جاء حمدي لزيارتها ، كان يرتدي ملابس جديدة غالية الثمن ، ووضع بجوارها علبة شيكولاتة من النوع الراقي الثمين . أبتسم الجميع فهذا معناه أنه سرق سرقة كبيرة ومازال باقيا من ثمنها شيئا. قالت لنفسها:" ربما سرق الذهب" كانت حالتها تزداد سوءا .أرسلوا إلى ابنها في المدينة التي يعمل بها ،جاء بعد عدة أيام ، قال لها :
همست الابنة الكبيرة إلى أخيها :
جاءت الأخبار بأن حمدي قد قبض عليه وهو يسرق شقة في دمنهور . لكن المرأة قد ماتت قبل أن تسمع الخبر .
|
|
|
![]() |
![]() |
|