![]() |
شعر مترجم |
إبراهيم درغوثي - تونس
سمعت دقا خفيفا على الباب ، فخرجت من الدار استقبل القادم . رأيت رجلا يبتعد ، ورأيت تحت الباب رسالة ... تركت الرجل يذهب والتقطت الرسالة . قرأت سطورها فلم أفهم شيئا . أعدت قراءتها مرة ومرات ، فاستعصى علي فك رموزها . وضعتها فوق طاولة صغيرة بجانب السرير ، وخرجت من البيت ... قررت الذهاب إلى البحر . في منتصف الطريق عدت وأنا أكاد أجري . خفت أم يصل حامد قبلي إلى البيت ويقرأ الرسالة . وحامد صديقي . يقاسمني نفس البيت ، ولا أخفي عنه حتى خلجات قلبي . لكنني لا أريده أن يقرأ هذه الرسالة . هذه الرسالة جرح أريد أن أزرعه في قلبي ، ولن يشاركني ألمه أحد .
***** عندما دفعت باب المنزل ، خبطتني رائحة القهوة التركية ، واستقبلني حامد بكأس يصاعد منها البخار . وضعت الكأس فوق الطاولة الصغيرة ، قرب السرير ومددت يدي نحو الرسالة . قال حامد : - مبروك . أخبار سارة إن شاء الله ؟ وضحك . فوخزتني سكين حادة في قلبي . قلت له : - شكرا . وخرجت . قال : - اشرب قهوتك .إنها ستبرد . قلت : - لا يهم . هل لديك وصية لأهلك ، رسالة أو نقود . إنني عائد إلى البلد . قال : - لا . لا وخزتني كطرف السكين الحاد . وقام يغلق في وجهي الأبواب . قلت : - اتركني يا حامد . فما عاد لي متسع من الوقت أضيعه فقال : - هل أخذت مستحقاتك من مؤجرك ؟ قلت : - سأعود . لن أبقى طويلا في الوطن . سأقضي شأنا خاصا ، وسأعود بسرعة . قال ، وهو يكاد يبكي : - لن تعود . قلت وأنا أطبطب على كتفه بحنان : - مع السلامة يا صاحبي قال ، وهو يمسح دمعة نزلت على خده - لا تترك الرسالة تقتلك . قلت ، وقد صار شكي يقينا : - و هل قرأتها ؟ فقال : - الرسائل لا تقرأ على الورق . إنها مكتوبة على جبينك يا صاحبي . وخرجت . فخرج ورائي .
*****
ذهبت إلى محطة سيارات الأجرة ... والرسالة في جيبي ... والكلب ينبح داخلها ... كنت أسمع نباحه الأجش ، فأرتعش ، وتصيبني رعدة . وأقول وصراخي يخرج من كهوف الروح : من يوصلني إلى البلد فأدفع له مقابل السفرة روحي . ولا مجيب . إلى أن جاء حامد إلى المحطة .ناولته الرسالة فردها إلى جيبي وهو يقول : - عد معي الآن إلى البيت . تركته يسوقني ، وأغلقت فمي بالمفتاح . وعدنا ... ونباح الكلب لم يسكت . كان يهر ويشخر ويعصر قلبي عصرا . عندما وصلنا إلى البيت ، قصدت المطبخ واخترت سكينا حادة وأخرجت الرسالة من جيبي وأخرجت حورية من بين سطور الرسالة ، فذبحتها . ذبحتها من الوريد إلى الوريد
*****
هل تعرفون حورية ؟ سأحدثكم عنها قليلا ولن أخجل . هي ابنة عمي الكبرى . وها ابنة العم تخون الماء والملح وتعشق كلبا . وها معشوقها يعقر قلبي ، ويستوطنني داء بين الضلوع . رأيت الدم يقطر على الأرض . ورأيت الكلب – كلبها – يخرج من الورقة التي غطت بها سوأتها حين لدغتها السكين . تشمم الكلب الدم المسكوب فوق البلاط ، وهر داخل قلبي . ضربته بالسكين بين عينيه ، وقلت لحامد وهو يدفع الباب بكتفيه دفعا قويا : - لا تحاول ، فوراء الباب مزلاج كبير . قال مستعطفا : - وأنت ، لماذا لا تخرج ؟ قلت : - حتى أنتهي من قتل حورية والكلب . قال : - وهل هانت عليك ابنة عمك إلى هذا الحد ؟ وابتعد عن الباب ... فعادت حورية تسكن أسطر الرسالة . وعاد الكلب يهر داخل جيبي .
***** هذا الكلب الذي يهر الآن داخل جيبي هذا الكلب الأبيض كالثلج – كلبها – وجدته ذات يوم في البرية . لقيته جروا أعمى ، تركته قافلة في طريقها ، وارتحلت إلى الشمال . قافلة تسير * في بلاد الخير . سيري أيتها القوافل ، ولا تتوقفي . سيري أيتها القوافل ، قوافل الجمال وقوافل سيارات الأندروفر برجالك البيض السمان ، الملثمين بالكوفية العربية . سيري أيتها القوافل ولا تتوقفي . واتركي لنا في طريقك مما شئت : بعر الجمال والعوازل الجنسية وحبوب منع الحمل ومرض الإيدز والكلاب .
*****
هذا الكلب السمين الذي يهر الآن في جيبي ربيته مع أولادي في البيت . نام معهم في فراش واحد . وأكل مما يأكلون . وكبر حتى صار كالأسد . قلت لحورية وأنا أغادرها والبيت والأولاد والأحلام التي لم تتحقق ، وأقتفي أثر قوافل الجمال المحملة بالملح والخرز وجلود الخرفان المدبوغة : - تركت لك رجلا يحرسك ، فلا تخافي . وربت على ظهر الكلب . ردت وكأنها تترقب إقراري هذا : - لن نخاف مادام معنا بوبي هكذا أسمت الكلب . وراحت تثني على شمائله وكأنها تتغزل بحبيب ، وأنا أعد حقائب السفر . وذهبت ، وبقي بوبي في الدار يحرس النعاج وقن الدجاج ، وينبح السحاب المار فوق سماء البيت ، وينام في الليل متوسدا ذراع الباب . حتى جاء الرجل الغريب ودفع بالرسالة تحت بابي . وذاب ... هتك الغريب أسراري هناك ، وجاءني غماما أسود حط فوق القلب المثخن بالجراح : زوجتك تخونك مع الكلب في بيت نومك .
*****
أغلقت أبواب السماوات السبع وفتحت باب المطبخ بهدوء حتى لا يسمعني حامد . ورجعت إلى سريري . ولم أشعل نور الكهرباء . تحسست بيدي الغطاء ، وتمددت على السرير . جعلت الرسالة تحت الحشية ، وتمددت بكامل ثيابي فوق الفراش البارد . سمعت طرقا خفيفا على الباب . أغمضت عيني وقلت : - ادخل يا حامد قال الطارق : - باسم الله مرساها ولفحت وجهي نسمة خفيفة . وسمعت أزيزا وصريرا يشبه احتكاك عجلات طائرة بأرض المطار . وأصابتني رعدة شديدة ، فناديت : - دثرني يا حامد ... زملني يا حامد ... فرد على استغاثتي صوت نسائي أعرفه جيدا : أنا حورية يا أيها المزمل . قم وانظر في عيني إن استطعت . ورميتها بالرسالة ، فقالت - آه ... الكلب ؟ ألم توصني به خيرا وأنت تعد حقائب السفر ؟ . ألم تقل إنه أحفظ للود من بني البشر ؟ فصحت : - إذن فعلتها ؟ فقالت : - ألم تقل إنه رجل البيت بعدك . فكيف لا أطيعه إذا دعاني ؟ وجلست على حافة السرير . التفت يمنة ويسرة ، فرأيت أمامي صورة معلقة على الجدار . في الصورة ، فدائي يحمل رشاشا و ... ثورة ثورة ... حتى النصر . غمزته بعيني فأعطاني الرشاش ، فصوبت نحو رأس حورية وأطلقت النار . رأيتها تتخبط في دمها . وجاء حامد يجري . قال : - فعلتها ... ، إنها لن تموت بطلقة واحدة . وخرج . أرجعت للفدائي رشاشه ، فرفع في وجهي علامة النصر معكوسة إلى الأسفل . وأعدت صورته ّإلى الجدار فغطى وجهه بالكوفية ، وبكى نشيجا متواصلا ، لا ينتهي ... قلت له : حطم بلور الصورة ، وتعال عندي أحررك وتحررني . وسكت ، فسكت .
*****
ودفع حامد من جديد باب الدار ، ودخل ، فدخل وراءه كلب . قلت : هذا كلبنا ، فمن جاء به إلى هنا ؟ رد حامد مرتبكا : - وجدته في صندوق البريد مع الرسائل . وتشمم الكلب حورية ، فأفاقت . قال حامد ، وفي عينيه إصرار غريب على الانتصار : - ألم أقل إنها لن تموت بطلقة واحدة . وأقعى الكلب بجانب حورية ، فدست رأسها بين قائمتيه الخلفيتين ومصت ذكرة . فسال لعابه و عوى وحرك ذنبه يمنة ويسرة . أصابني القرف وهي تتعرى أمامي وتغازل الكلب ، تحت صورة الفدائي ، فهممت بهما لكن الكلب كشر عن أنيابه ونبح بصوت راعد . أخافني النباح ، فناديت حامدا لكنه قال لي : - أنت وشأنك يا صاحبي . هذه قضية داخلية لا ناقة لي فيها ولا جمل . فرددت عليه محزونا : - دعنا من النوق والجمال يا أخي ، وتعال نتعاون على هذا الكلب الذي أكل المرأة وسيأكلنا بعدها لا محالة . قال ، وهو يهز كتفيه : - أكلها بإرادتها : والبندقية فوق رأسك . بحثت عن الصورة ، وناديت الفدائي . قلت عله يساعدني في هذه الساعة العصيبة . قال ، مستسلما لقدره : أنا كما ترى يا سيدي ، صورة معلقة في الجدار للزينة فقط للزينة لا غير ، فأغمضت له عينيه حتى لايرى المرأة والكلب . وذهبت إلى المحطة . جلست في المقعد الخلفي في سيارة الأجرة الراجعة إلى البلد . دفعت لصاحب السيارة معلوم مقعدين ومددت رجلي محاولا النوم ، فدست على لحم سخن ، طري . كانت حورية بجانبي تجلس في المقعد الخالي ، وتتألم بصوت مرتفع جعل السائق يلتفت وراءه ويسألني إن كنت أحمل في داخلي إمرأة ؟ لم أرد على إهانته ، فشجعها سكوتي ، ومدت لي لسانها ، وعرت عن فخذ سمين . قلت ، مستسلما لمشيئتها : لماذا تتعهرين في هذا المكان العمومي ؟ ودست على فخذها بحذائي الملوث بالطين ، فكنت كمن يدوس على ظل . وجاء الكلب وهي تتعطر . جلس بيني وبينها وجعل يتشممها ، ثم عضها من خصرها عضا لطيفا . وهم بها . قلت : أرى الكلب يتغزل بك ؟ قالت : أتغار من كلب ؟ قلت : بعد العودة ، سأجعلك والكلب في خازوق واحد ، وأبيع صوركما إلى مجلة ( بلاي بوي ) لتجعلها حدث الموسم . قالت : ستزيدني شهرة حتى لكأني بريجيت باردو ، ولن أخسر سوى سراويلك . ووضعت كعبها في أسفل بطني وقالت : - عقولكم هنا يا أولاد القحاب ، يا عرب آخر الزمان . يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا . وأفقت وسائق سيارة الأجرة يسب ويشتم سائق شاحنة كادت تدهسنا . قلت : هل وصلنا ؟ رد بنرفزة : إلى جهنم وبئس المصير إن شاء الله . وأوقف السيارة لإصلاح عجلة انفلق إطارها . ونزلت أعاونه فقال : عد إلى مكانك يا رجل ، فأنت أكثر من نجاسة . قلت " لماذا ؟ قال : لأن رائحة بول الكلاب ترشح من أثوابك . فعدت إلى جوار حورية وكلبها فسألتني : لماذا عدت ولم تساعد الرجل ؟ قلت لها أنني نجس ، وتفوح مني رائحة بول الكلاب . قالت : حقا لقد سكنك الكلب يا صاحبي . قلت : أي من الكلاب تعنين فهم أكثر من العد . قالت : أنا الآن أعني كلب الرسالة التي في جيبك . أما بقية الكلاب فلم تعد تعنيني . ووضعت يدها في مكان القلب ، فسكت إلى أن عاد السائق التفت الرجل إلى الوراء ورفع يده يسد بها أنفه وهو يردد : ما أنتن هذه الرائحة . فقال بقية الركاب الذين ظلوا صامتين طيلة الرحلة : هي رائحة بول الكلاب . ونزلوا من السيارة . وتركوني وحدي ، فأخرجت الكلب من جيبي ، وبدأنا في النباح .
*****
جاء حامد يجري . دفع باب الدار كالمجنون ، ووضع يده على فمي حتى كاد يقطع أنفاسي . هززت جسمي هزا عنيفا فوق السرير ، وفتحت عيني . قال : مالك تنبح هكذا أيها المجنون هل تحولت إلى كلب ؟ أدرت وجهي جهة الحائط ، وعدت أنبح من جديد . كنت يقضا هذه المرة .
dargouthibahi@yahoo.fr www.arab-ewriters.com/darghothi/
|
|
|
![]() |
![]() |
|