أثر
ابن عربي في المحروسة
ندوة - هونج كونج
متابعة وتصوير: أسامة فاروق
زار الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي مصر مرتين
الأولي سنة 598ه/1201م والثانية بعدها بسبع
سنوات، ولم يدم بقاؤه طويلا في المرتين: ففي
الأولي دخل الشيخ في وقت المجاعة الشهيرة وفقد أحد
أخلص أصدقائه، أما في الثانية فثار ضده بعض
الفقهاء بسبب آرائه وكلامه وطالبوا برأسه واتهموه
بالبدعة. لكن هذا كله لم يمنع الشيخ الأكبر من
التجول في مصر وزيارة أوليائها وشيوخها الأقطاب
الأوائل للصوفية، اعترافا بفضلهم الكبير عليه
وعلي العالم الإسلامي بشكل عام.
وقبل بدء مؤتمر "ابن عربي في مصر..ملتقي الشرق
والغرب" نظمت "أخبار الأدب" بالتعاون مع دار
الكتب والوثائق القومية جولة للمشاركين لزيارة
الأماكن التي زارها الشيخ الأكبر عندما جاء إلي
مصر. قام الكاتب والروائي جمال الغيطاني بدور
المرشد في الرحلة التي استغرقت أكثر من 4 ساعات
تجول المشاركون خلالها في أماكن يرونها للمرة
الأولي، فوجئنا بتعلق بعضهم الشديد بالأولياء..
تمسٌحوا بالأستار وابتهلوا بالدعاء وانهمرت
دموعهم أمام أضرحة "ذي النون، وعمر بن الفارض،
وابن عطاء الله السكندري، وخلوة السيدة نفسية".
وأكدوا في نهاية الجولة أن تلك الرحلة لن تمحي من
ذاكرتهم إلي الأبد.
تحركت الجولة في العاشرة صباحا وحاول الغيطاني في
بدايتها توضيح مسيرتها ومدي اختلافها قال أنها لن
تكون كأي زيارة عادية، ليس فقط لأهمية الشيخ
الذي نتتبع خطاه ولكن لأنها ستكون رحلة روحية
بالأساس، "فالمنطقة التي سنزورها ليست منطقة
سياحية، لكنها مميزة جدا ومختلفة جدا في الوقت
نفسه.. غير معروفه للعامة، يعرفها الخاصة فقط
أولئك المجذوبون بالصوفية والباحثين عن أقطابها"
من هنا انطلق الغيطاني لرصد علاقة المصريين
بالصوفية والتصوف بشكل عام، فالكثير من المفكرين
اختلفوا حول مفهوم التصوف فمنهم من يصر علي انه
دخيل علي الإسلام جاء إليه من الديانات الشرقية
حينما بدأ الإسلام بالانتشار خارج الجزيرة العربية،
ومنهم من يؤكد علي انه شئ من صميم الإسلام بدأ
منذ بزوغ فجره.
واختلف الناس أيضا حول أصل كلمة تصوف ومدلولها
فمنهم من قال أن أصلها من لبس الصوف أو من أهل
الصفة، ومنهم من قال إنها من الصفاء أو الاصطفاء،
لكن وحسبما قال الغيطاني فان العلاقة بين
المصريين والتصوف كانت أكثر مرونة فبعد فترة من
دخول الإسلام مصر "أصبح إسلام خاص جدا" كذلك
المسيحية وبني المصريون علاقة خاصة من الدين..أحب
المصريين آل البيت واتخذوا من الحسين المركز
والرمز ثم تفرعوا وانتشروا في مصر كلها فإذا نظرنا
إلي الجنوب سنجد مجموعة من الأولياء الذين التف
الناس حولهم ولازالوا يقيمون لهم "الموالد" حتي
الآن منهم "سيدي عبد الرحيم" القنائي في قنا
و"سيدي فرغلي" في أسيوط وفي الإسكندرية سنجد "سيدي
أحمد البدوي" و"سيدي أبو العباس المرسي"، والملاحظ
أن جميع الأقطاب الكبار في مصر جاءوا من المغرب أو
الأندلس ربما يكون لذلك الأمر علاقة بالتراث
الصوفي الذي يشير دائما إلي قدوم الشيخ من بعيد.
وعلاقة المصريين بالتصوف لا تتوقف فقط عند زيارة
أضرحة الأولياء وإقامة الموالد، ولكن سنجد أنهم
ابتكروا شيئا خطيرا جدا وهو ما يعرف ب "مشهد
الرؤيا" وهي الفكرة التي تقوم علي أمر يتلقاه
أحد الأشخاص في المنام ببناء مقام لولي معين فينفذ
فورا، من هنا سنجد أن جميع آل البيت لهم مقامات
في مصر رغم أن بعضهم لم يأت إليها أصلا.
المحطة الأولي.. ذو النون
قبل التوقف عند المحطة الأولي قال الغيطاني "أدعوكم
لتخيل شكل الأماكن التي سنزورها في الوقت التي
زارها فيها الشيخ الأكبر..حيث لم يكن سوي
الفراغ الفسيح والصحراء، تخيلوا كيف قطع
المسافة منفردا فقط ليقرأ الفاتحة علي مقابر هؤلاء
الأقطاب العظماء".
فالشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي المولود ليلة
الاثنين في السابع عشر من شهر رمضان سنه 560
ه/ 1165 م كان دائم التنقل والارتحال، ولد
في مدينة مرسية شرقي الأندلس ثم انتقل إلي اشبيلية
سنه 568 1172 /فأقام بها حوالي عشرين عاما ذهب
خلالها إلي المغرب وتونس عدة مرات، وأقام هناك
لفترات متقطعة ثم ارتحل إلي المشرق للحج سنة
598ه/1201 م ولم يعد بعدها إلي الأندلس. وفي
المشرق أقام في مصر ثم دخل مكة وعكف علي العبادة
والتدريس في المسجد الحرام حيث أفاض الله عليه
أسرارا وعلوما أودعها في كتابه الشهير "الفتوحات
المكية" ثم رحل إلي العراق فدخل بغداد والموصل
واجتمع برجالها ثم طاف في بلاد الروم فسكن فيها
مدة.
بعد ذلك قام الشيخ الأكبر برحلات عديدة بين
العراق ومصر وسوريا وفلسطين حتي استقر في دمشق إلي
أن وافته المنية ليلة الثاني والعشرين من شهر ربيع
الثاني سنة 638ه/1240م ودفن بسفح جبل قاسيون.
وخلال إقامته بمصر زار الشيخ الأكبر عددا من
الأولياء الكبار منهم مقبرة مؤسس علوم القول "ذو
النون المصري" والتي كانت أولي محطات زيارة وفد
المؤتمر.
والمقبرة تضم أيضا حسب اللوحة الرخامية المعلقة في
مواجه الداخل ضريح السيدة رابعة العدوية، وسيدي
محمد بن الحنفية، لكن الغيطاني أشار إلي أن
الثابت هو ضريح "ذو النون" استنادا إلي لوحه
أثرية محفورة إلي جوار الضريح، أما الضريحين
الأخريين فهما في الأغلب "ضريحين رؤيا"، أما
صاحب المقبرة فهو ثوبان بن إبراهيم، كنيته أبو
الفيض و لقبه "ذو النون".. متصوف و محدث و
فقيه. ولد في أخميم سنة 796 ميلادية و توفي
في الجيزة سنة 245 ه/ 859 م، و يقدر
أن عمره عندها كان تسعين سنة. روي الحديث الشريف
عن مالك بن أنس والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة.
ويعد "ذو النون" من أقطاب المتصوفين وله
منزله كبيرة، وينسب إليه أنه أول من تناول ترتيب
المقامات والأحوال، و يعده الصوفيون مؤسس
طريقتهم، درس علي علماء عديدين وسافر إلي سورية
والحجاز. كما عد وليٌ الأطباء في بدايات العصر
الإسلامي في مصر. وهو أول من عرف التوحيد
بالمعني الصوفي وأول من وضع تعريفات للوجد و
السماع. ويقال أنه كان عالما باللغة القبطية،
و تنسب إليه معرفة قراءة النقوش الهيروغليفية، اتهمه
معاصروه بالزندقة و حاولوا الإيقاع بينه و بين
الخليفة المتوكل ووصفوه بأنه "أحدث علما لم
تتكلم به الصحابة"، فاستجلبه المتوكل إليه في
بغداد سنة 829م، و يقال إنه لما دخل عليه
وعظه فبكي، فرده إلي مصر مكرما.
الملاحظة التي لفت إليها الغيطاني هي أن مبني
المقبرة والضريح بجني وجدد بالكامل بواسطة الأهالي
وهو ما ينطبق علي كل المزارات الأخري، وهذا يشير
للعلاقة الخاصة التي تربط المصريين بهؤلاء الأمة
الكبار.
المحطة الثانية.. ابن عطاء الله
ثاني محطات الزيارة كانت مسجد ومقام "سيدي
أحمد بن عطاء الله السكندري" وهنا تجدر الإشارة
إلي أن الوصول إلي تلك الأماكن ليس بالسهولة التي
كنا نتوقعها، فحتي نتمكن من الوصول لهذه المنطقة
سرنا علي طريق الأتوستراد المتجه للمعادي من أمام
المدابغ ثم الانحراف بعد "كوبري التونسي" بعدها
سرنا أسفل جبل المقطم إلي أن وجدنا أنفسنا في
مواجهة المسجد وأمامه مساحة صغيرة تشبه الميدان.
والمنطقة بالكامل تضم عددا من الأضرحة لكبار
الأولياء ومشايخ الصوفية لذلك قال الغيطاني انه يشعر
في هذه المنطقة ببعض نسمات الجنة. وابن عطاء
الله السكندري هو أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن
عبد الرحمن بن عيسي بن عطاء الله السكندري، أحد
أركّان الطريقة الطريقة الشاذلية الصوفية التي
أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي 1248م و خليفته
أبو العباس المرسي 1287م، وفد أجداده
المنسوبون إلي قّبيلة جذّام، إلي مصر بعد الفتح
الإسلامي واستوطنوا الإسكندرية حيث ولد ابن عطّاء
الله حوالي سنة 1260م و نشأ كجده لوالده الشيخ
أبي محمد عبد الْكريم بن عطّاء الله، فّقيها يشتغل
بالعلوم الشرعية.. تلقي منذ صباه العلوم الدينية
و الشرعية و اللغوية، و كان في هذا الطّور الأول
من حياته ينجكر علي الصوفية إنكارا شديدا تعصبا
منه لعلوم الفقهاء. فما أن صحب شيخه أبو العباس
المرسي 1286م و استمع إليه بالإسكندرية حتي أعجب
به إعجابا شديدا و أخذ عنه طريق الصوفية وأصبح
من أوائل مجريديه، تّدرج ابن عطّاء في منازل
العلم و المعرفة حتي تنبأ له الشيخ أبو العباس يوما
فقّال له: "إلزم، فو الله لئن لزمت لتكونن
مجفتيا في الْمذهبين" يقصد مذهب أهل الحقيقة و
أهل العلم الباطن.
توفي ابن عطاء ودفن بالقاهرة عام 1309م. وترك
الكثير من الكتب و أبرز ما بقي له:"لطّائف المنن،
في مناقب الشيخ أبي العباس و شيخه أبي الحسن"،
و"القصد المججرد في معرفة الاسم المجفرد" و"عنوان
التوفيق"، و" تّاج العروس الحاوي لتهذيب
النفوس"، و"مفتاح الفلاح، ومصباح الأرواح"،
و"الحكم العطّائية" وهي أهم ما كتبه وحظيت
بقبول و انتشار كبير و لا يزال بعضها يجدرس في
كليات جامعة الأزهر، وترجمت للانجليزية
والاسبانية.
خلوة السيدة نفيسة
المنطقة نفسها تضم أيضا "خلوة السيدة نفيسة" التي
كانت تقصدها للتعبد والتأمل وهنا أعاد الغيطاني
التذكير بضرورة تخيل شكل تلك المنطقة قبل 1200
سنة وتخيل مدي صعوبة أن تخرج إمرأه بمفردها في
هذا الخلاء الفسيح لتتعبد إلي ربها "لكن
الملاحظة الملفتة هنا أننا لم نجد في اي مصدر من
المصادر أنها تعرضت لمضايقات أو انتقدها احد، وهذا
هو الجوهر الحقيقي للدين الذي لا يفهمه
المتعصبون".
والخلوة عبارة عن محراب منخفض عن سطح الأرض لا يتعدي
عرضة المتر، جدده الأهالي ووضعوا حوله باب حديدي،
جاءت السيدة نفيسة إلي مصر هي وزوجها إسحاق
المؤتمن في رمضان عام 193 هجرية في عهد هارون
الرشيد، وهي ابنة الإمام الحسن بن زيد ابن
الإمام الحسن ابن الإمام علي بن أبي طالب. ولدت
في مكة المكرمة سنة 145ه في الحادي عشر من ربيع
الأول، نشأت هناك، حتي صحبها أبوها مع أمها
إلي المدينة المنورة: فكانت تذهب إلي المسجد
النبوي وتسمع إلي شيوخه، وتتلقي الحديث والفقه
من علمائه، حتي لقبها الناس بلقب " نفيسة
العلم" قبل أن تصل لسن الزواج. وعاشت في
المدينة لا تفارق الحرم النبوي، قارئة ذاكرة
وحجت أكثر من ثلاثين حجة أكثرها ماشية.
ووصلت السيدة نفيسة إلي القاهرة يوم السبت 26
رمضان 193 هجرية ونزلت بدار سيدة من المصريين
تجدعي "أم هانئ" وكانت دارا رحيبة، فأخذ يقبل
عليها الناس يلتمسون منها العلم، حتي ازدحم
وقتها، وكادت تنشغل عما اعتادت عليه من العبادات،
فخرجت علي الناس قائلة: "إني كنت قد اعتزمت
المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر
حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي،
وقد زاد حنيني إلي روضة جدي المصطفي" ففزع
الناس لقولها، وأبوا عليها رحيلها، حتي تدخل
الوالي وقال لها: "يا ابنة رسول الله إني كفيل
بإزالة ما تشكين منه" ووهبها دارا واسعة، ثم
حدد موعدا -يومين أسبوعيا- يزورها الناس فيهما
طلبا للعلم والنصيحة، لتتفرغ هي للعبادة بقية
الأسبوع، فرضيت وبقيت، واتخذت لنفسها خلوة
للتعبد. وبجوار خلوة السيدة نفيسة توجد أضرحة
لعدد من الأولياء وكبار شيوخ الصوفية منها مقام
"سيدي عبد الله بن أبي حمزة"، و"ومحمد بن سيد
الناس".
المحطة الثالثة.. ابن الفارض
لا نعرف الطريقة التي سافر بها ابن عربي إلي مصر،
وهل سافر برا علي الطريق المعروف المتبع من قبل
القافلات أم انه ركب البحر عن طريق السفن والقوارب
التي كانت تجوب ساحل المتوسط في ذلك الوقت، لكن
من المرجح انه قدم إلي مصر للمرة الأولي عن طريق
البحر وذلك لأنه لايذكرأي شئ في كتبه عن المدن
الكثيرة التي سيمر عليها لو انه قدم عن طريق البر،
وجاء ذكر الإسكندرية مرة واحدة بشكل عابر في
الفتوحات المكية ولا نعلم بالتحديد تاريخ زيارته
لها ولكن يبدو أن ذلك كان في أول دخوله إلي مصر.
في المحطة الثالثة والأخيرة توغلنا أكثر في حضن
جبل المقطم أسفل الطريق الصاعد لقلعة الجبل حيث
مسجد ومقام "سيدي عمر بن الفارض" أو عمر بن
علي بن مرشد الحموي-من حماة في سوريا- ويعرف
بسلطان العاشقين وهو من أشعر المتصوفين. قدم
والده من حماة وولد بمصر سنة 576 ه الموافق ل
1181م. ولما شب اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ
الحديث عن ابن عساكر. ثم سلك طريق الصوفية ومال
إلي الزهد. رحل إلي مكة، واعتزل في واد بعيد
عنها. وفي عزلته تلك نظم معظم أشعاره في الحب
الإلهي وألف ما يعرف بالتائيٌة الكبري وفي شعره
فلسفة تسمي وحدة الوجود. عاد إلي مصر بعد خمسة
عشر عاما، وتوفي سنة 632 ه الموافق ل1235
م. وتعتبر التائية الكبري من أهم ما كتب وتعلق
بها الشعب المصري وبرع الشيخ ياسين التهامي في
إنشادها.
أخبار
الأدب
|