هذا الحوار الذي بداته
منذ اربعه اشهر حول ايقاع الشعر ولا ازال اواصله حتي اليوم, ربما استغربه بعض
القراء, وربطوا بينه وبين قصيده النثر التي كانت مدخلي اليه, وفهموه في حدودها
الضيقه فبدا لهم قليل الخطر, واعتبروه انشغالا بمساله شكليه. والحقيقه ان
الحوار حول ايقاع الشعر حوار حول الشعر, وما يمثله في حياتنا الادبيه والثقافيه
والروحيه بشكل عام. والحوار حول الشعر وايقاعاته واوزانه حوار قديم وان تجدد في
كل جيل. وهو ليس مرتبطا بقصيده النثر وحدها او محصورا فيها, فقصيده النثر لم
تظهر كشكل ادبي الا في هذه المرحله الاخيره, وان كان النثر الشعري قديما, اما
الحوار حول ايقاع الشعر فقد بدا مع بدايه التاريخ الادبي المكتوب. صحيح ان اوزان
الشعر وايقاعاته كانت مساله بديهيه, لا يجادل احد في اهميتها او جدواها, ولكن
الناس كانوا ولايزالون يناقشون طبيعه هذه الاوزان, وطرق استخدامها, والحريه
الممنوحه للشعراء في تجديدها, والتصرف فيها, والاضافه اليها.
اريد ان
اقول ان قصيده النثر لم تعد موضوعي, وانما الشعر وايقاعاته واوزانه هي الموضوع
الذي نناقشه كما ناقشه الناس دائما في الماضي والحاضر, لان ايقاع الشعر يتغير
ويتطور, لكنه يظل ركنا من اركان هذا الفن, وعلينا اذن ان نجد الصيغ التي تمكننا
من استخدامه بحريه. لقد كان افلاطون متشددا جدا في التمييز بين الاوزان
المسموح للشعراء باستخدامها في جمهوريته, لانها تحض علي الفضيله وتربي الناس علي
الشجاعه والاعتدال, والاوزان الممنوعه لانها تعبر عن الوضاعه او العنف او الخوف
او الجنون!
اما ارسطو فيميز في فن الشعر بين دور الايقاع في الشعر الغنائي
ودوره في الشعر المسرحي, فيقول ان القصيده الغنائيه تعتمد علي الوزن والغناء
والايقاع معا, اما القصيده الدراميه فتستخدم هذه العناصر مفرقه لا مجتمعه. ثم
يتحدث عن البحور او الاعاريض الشعريه المختلفه, فيميز بين الرباعي والسداسي
والايامبي, ويقول عن هذا الاخير انه اليق الاعاريض بالحوار, ودليله علي ذلك انه
كثيرا ما يتفق لنا اي لليونانيين القدماء في احاديثنا كلام موزون علي العروض
الايامبي, في حين ان الوزن السداسي لا يتفق الا في الندره. وهو يصف الشعر
التراجيدي, بانه كلام ممتع ويشرح هذه العباره فيقول واعني بالكلام الممتع ذلك
الكلام الذي يتضمن وزنا وايقاعا وغناء. الذي نجد عند افلاطون وارسطو
واليونانيين القدماء نجده عند هوراس والرومان القدماء. وكان هوراس شاعرا غنائيا
عاش في القرن السابق علي ميلاد المسيح, وعاصر فرجيل وشارك في المعارك التي اشتعلت
بين انصار القديم وانصار الحديث الشعراء في عصره حول علاقتهم باليونانيين,
ومايباح للشاعر ان يصرح به في قصائد الهجاء ومايجب ان يمسك عن ذكره, وحول الدور
الذي يلعبه الوزن في الشعر, الي اخر هذه القضايا التي راي هوراس ان يقدم فيها
خلاصه تجاربه, فنظم قصيدته الشهيره فن الشعر التي يقول فيها ان هوميروس هو الذي
دل الشعراء علي الوزن الذي ينظمون فيه ماثر الملوك واعمال القاده ووقائع الحرب
المفجعه, لكن الذين جاءوا بعده ادخلوا الاوزان المولفه من الصحيح ومجزوئه في
المراثي. وهوراس يتحدث عن البحور المختلفه حديث العالم الخبير, فيقول في المقطع
الثامن عشر من قصيدته فن الشعر! ان المقطع الطويل المسبوق بمقطع قصير يدعي
ايامبوس, وهو تفعيله سريعه, وبسبب هذه السرعه سميت البحور الايامبيه البحور
الثلاثيه, مع ان هذه الاخيره ترجع ست ضربات كلها متشابهات من الاولي الي الاخيره
ومنذ وقت غير بعيد سمحت التفعيله الايامبيه للتفاعيل السبونديه ال وقور تفعيله
ذات مقطعين طويلين بان تشاركها حقوقها الموروثه لتصل الاشعار الي الاذان اكثر توده
وبطئا ثم يواصل هوراس في المقطع التالي قائلا: ليس كل ناقد قادرا علي ان يلحظ
الاضطراب في اوزان الشعر, ولذا فقد اعطي الشعراء الرومان رخصه غير مستحقه, فهل
لي اذن ان اجول كما اشاء وان اتهاون في الكتابه؟.. قد تقولون ان اجدادكم الاقدمين
مدحوا افلاوطوس لانه لم يحترم قواعد العروض واثنوا علي ملحه, ولكنهم كانوا يعجبون
به عن تساهل زائد ان لم اقل عن غباوه. وهذا واضح اذا كنا جميعا نستطيع تمييز
الفكاهه الرفيعه من النكات السوقيه, واذا كانت اسماعنا قد مرنت علي ملاحظه الوزن
الصحيح, ودربت اصابعنا علي متابعه التوقيع المنتظم. ولقد كان بعض الشعراء
العرب القدماء يخرجون هم ايضا علي قوانين العروض فيتعرضون للوم النقاد كما حدث
للنابغه الذي كان يقع في الاقواء وهو من عيوب القافيه, ولعبيد بن الابرص الذي كان
احساسه بالايقاع ضعيفا علي مايبدو فاضطرب الوزن في بعض قصائده. ومما يروي عن ابي
العتاهيه انه لم يكن يحصر نفسه في الاوزان الموروثه, بل كان يسعي لاكتشاف اوزان
جديده يحاكي بها ايقاعات العمل اليدوي في اسواق البصره, ومن ذلك قوله في محاكاه
ضربات احد الصباغين! للمنون دائرات يدرن صرفها ثم ينتقيننا واحدا فواحدا
وقد قيل له: قد خرجت علي العروض, فقال: انا اكبر من العروض!
والحوار
اذن حول ايقاع الشعر قديم جدا. والذي نقوله عن ايقاع الشعر يقوله الاخرون, سواء
كانوا من المدافعين عنه او من الخارجين عليه, وان كانت حجه هولاء ضعيفه, لانها
في معظمها كلام نظري معقول عن الحريه والتطور, لكنه يظل بغير شاهد عملي يستند
اليه كما يفعل المدافعون عن الايقاع الذين يستندون الي تراث ضخم تحفل به كل
العصور. وقد راينا في رساله الاستاذ محمود امين العالم ان الناقد الكبير يصف
ايقاع الشعر العربي بالبطء والجمود والنمطيه, ويرد هذه الصفات المعيبه الي طبيعه
الحياه الصحراويه وايقاعها البطيء النمطي الجامد.
وقد فندت في مقالتي
السابقه هذا الراي, وينت ان الاوزان لا تتالف من خطي الابل وانما تتالف من اصوات
اللغه. فاذا كان في الشعر العربي القديم مايمكن رميه بالجمود والنمطيه والبطء
فهذه صفات تعود الي القصيده التقليديه الموروثه عن القصيده الجاهليه التي كانت في
حقيقتها نصا شعائريا طقسيا يلتزم فيه الشاعر بالتقاليد الموروثه, وربما اسهم في
نظمه اكثر من شاعر كما كان يحدث كثيرا في الثقافات القديمه الشفاهيه, وكما يحدث
حتي الان في بعض صور التاليف الجماعي. وقد تحرر الشعر العربي من هذه التقاليد منذ
قرون عديده حين اصبحت الثقافه العربيه ثقافه مكتوبه وصار الشعر صناعه افراد
موهوبين, وليس فنا مرتجلا يعبر عن حياه الجماعه, ويشارك فيه كل من يستطيع.
وهذا هو معني العباره التي قلت فيها وانا اناقش الاستاذ العالم ان البطء والنمطيه
وسواهما من العيوب التي ينسبها لايقاع الشعر العربي ليست عيوب ايقاع, وانما هي
عيوب نوع محدد من التاليف, فليس من الصواب اطلاق التهمه علي ايقاع الشعر العربي
وتعميمها كما فعل الاستاذ العالم في رسالته. ولست اظن مع ذلك ان اليونانيين او
الرومان كانوا اقل تحفظا من العرب او اكثر تحررا منهم. بل نحن نري ان الصفه التي
يجعلها الاستاذ العالم عيبا من عيوب الايقاع الشعري العربي يجعلها هو ارس ميزه
مستحبه, وذلك في حديثه عن التفاعيل السبونديه الوقور Spondaique التي تجعل
الاشعار اكثر توده وبطئا وقد راينا كيف نسب افلاطون للاوزان المختلفه مانسبه لها من
الفضائل والرزائل, وكيف حدد علي هذا الاساس المسموح باستخدامه من هذه الاوزان في
جمهوريته الفاضله, والممنوع من الاستخدام
اما كلام العالم عن النمطيه
فالنمطيه ليست دائما عيبا, لان النمط هو القاعده او النموذج او الشكل الذي يجب ان
يلتزم الشعراء بمقوماته الاساسيه وهذا ليس عيبا الا اذا خرجوا من هذا الالتزام
الخلاق الي المحاكاه المباشره. والمحاكاه عيب في المحاكي وليس في القاعده او
الشكل الذي يكتب في اطاره. وقد راينا الاوزان اللاتينيه تبلغ مستوي من الصنعه لا
يسلم فيه الشاعر من الوقوع في الخطا, ولا يسلم الناقد هو ايضا من ان يختلط عليه
الامر فيعجز عن التميز بين المكسور والموزون. وليس لاحدنا ان يقول ان هذه
القوانين التي نجدها عند افلاطون وارسطواوهوراس قوانين
قديمه تحرر منها المعاصرون فالواقع ان هذه القوانين ظلت سائده عند الاوروبيين الذين
ورثوا عن اليونان والرومان تراثهم كله بما فيه فن الشعر, وقوانين العروض التي
التزموا بها جيلا بعد جيل وحافظوا عليها طوال القرون الماضيه فلم تبدا محاولاتهم
للتحرر منها الا مع بودلير, ولم تنتج هذه المحاولات الا اعمالا محدوده لايستطيع
احد ان ينكر مالها من قيمه في ذاتها لكن احدا لا يستطيع من ناحيه اخري ان يقنعنا او
يقنع غيرنا بان الشعر المنثور خير من الشعر المنظوم, او بان الشعر يستطيع ان
يستغني عن الوزن ويظل محتفظا بقيمته التي يحققها بالاوزان.
وقد اصاب
ايليوت كما تقول اليزابيث درو في كتابها الشعر كيف نفهمه ونتذوقه اصاب حين قال ان
تسميه الشعر الحر تسميه خاطئه, ذلك لانه ما من شعر يمكن ان يكون حرا لدي من يريد
ان يحقق فيه الاتقان. وقد اعلن ايليوت ان الحريه لن تكون ابدا هروبا من الوزن في
الشعر, وانما هي السيطره عليه واتقانه. وعبر عن ذلك بقوله: وراء الشعر الاكثر
تحررا يجب ان يكمن شبح وزن بسيط, اذا غفونا عنه برز نحونا متوعدا, واذا صحونا
اختفي. ولا تكون حريتنا حقيقيه او ذات موضوع الا بازاء القيود المصطنعه والوزن
ليس من هذه القيود المصطنعه.
اما الشاعر الامريكي روبرت فروست, فقد بسط هذه الفكره قائلا الحريه هي الاحساس
بالراحه داخل اسار القيود المرسومه واعلن ساخرا في الختام: سارضي بان اكتب الشعر
الحر حين يخطر لي انني استطيع ان العب التنس بلا شبكه.