في قضيه التنوير يجب ان
نفرق بين ثلاثه مواقف علي المستوي الفكري والثقافي هناك فرق بين التفاعل
الثقافي.. والنقل الثقافي.. والغزو الثقافي ان التفاعل الثقافي حوار بين
ثقافتين علي ارض واحده واهم ما في هذا الحوار ان يكون متكافئا من حيث التاثير
والتاثر بحيث لا يستبيح احدهما الاخر او يجور عليه.. اما النقل الثقافي.. ان
اجلس امام الاخر لكي يلقنني ما يريد ابتداء بالسياسه وانتهاء بالفكر مرورا علي
النقل الاعمي لكل مظاهر السلوك دون وعي او اختيار او تفكير. اما الغزو
الثقافي.. فهو ان يكون الهدف الوحيد للرساله الثقافيه هدفا سياسيا صريحا وواضحا
ولا خلاف عليه حتي وان تخفي في ثياب ثقافيه مبهره.. ان المشكله الاساسيه الان ان
هذه المواقف الثلاثه تتداخل احيانا في بعضها بحيث يصعب الفصل بينها.. ولكن في ظل
ارتفاع درجه الوعي الفكري والسياسي لا ينبغي ابدا ان تغيب عنا هذه الوجوه لان
المسافه بينها بعيده جدا وان كانت احيانا تبدو قريبه. ان التفاعل بين ثقافتين
هو ارقي درجات الحوار بين الحضارات الانسانيه.. وهناك ثقافات استطاعت ان تعيش وان
تستوعب الاخر وتتاثر به وتوثر فيه.. ولعل النموذج الواضح في التاريخ هو فتره
الحكم الاسلامي للاندلس وذلك التقارب الذي شهدته هذه المنطقه من العالم بين الثقافه
العربيه الاسلاميه والثقافه اللاتينيه في اوروبا. لقد اثمر هذا التفاعل الخلاق
صوره جديده للحضاره الانسانيه في الطب والعلوم والاداب والفنون.. وكانت جميعها
شواهد حيه علي ان الثقافات يمكن ان تشارك في دعم مسيره الانسان وان اختلفت
منابعها.. هناك تجربه اخري رائعه شهدتها الهند وهي دوله لها جذورها الحضاريه
والثقافيه والانسانيه ولكنها استطاعت ان تحافظ علي خصوصيتها. ولعل افكار غاندي
التي كانت يوما ما اول مسمار في نعش الامبراطوريه الانجليزيه كانت تاكيدا حيا لمعني
الهويه.. شعب يمتنع تماما عن استخدام اي شيء من صنع المحتل.. وكان هذا اكبر
اضراب في تاريخ الانسانيه يقوم به شعب كامل ضد دوله مستعمره. عندما حصل طاغور
شاعر الهند العظيم علي جائزه نوبل في الاداب في عام1913 علي رائعته الشعريه
جيتنجالي شهد العالم مناظره بين طاغور واينشتين هزت العالم كله.. كانت المناظره
بين روح الهند ممثله في شاعرها.. وماديه الغرب ممثله في ابرز واكبر علمائها..
يومها قال طاغور لاينشتين.. ان الحضاره الماديه سوف تخسر كل شيء اذا فقدت روحها
وان البشريه كلها ستصبح مهدده بالفناء في ظل جسد بلا روح وعندما تصبح الحضاره بلا
قلب فانها تفقد اهم مقومات الحياه. وهذه الروح هي التي بقيت في الشعب الهندي
رغم كل الانجازات العلميه والحضاريه التي استوعبها.. مازالت السينما والموسيقي
والعادات والعبادات هنديه رغم عشرات القنابل النوويه التي تنام في اعماق الاراضي
الهنديه.. هذا هو التفاعل الحقيقي بين الثقافات منذ بقيت الهند بعقائدها
وتراثها ودياناتها رغم انها الان من اكثر بلاد العالم انتاجا للتكنولوجيا الحديثه
بالتعاون مع الغرب. ولكن البعض يتصور ان النقل الثقافي يكفينا وان ترجمه روايه
او كتاب او نشر قصه جنسيه هو افضل وسائل التنوير.. والمشكله ان دورنا حتي الان
مازال مقصورا علي استخدام وسائل الحضاره دون ان نشارك في صنعها.. عندما انبهرت
اجيال سبقت بفكر جان جاك روسو وفوليتر حول قضايا الحريه وحقوق الانسان واراده
الشعوب كان ذلك انبهارا ايجابيا واعيا وكان تنويرا حقيقيا لانه حرك العقول واثار
الافكار والمشاعر. وعندما انبهرت هذه الاجيال بمدارس جديده في النقد الادبي
كما حدث مع طه حسين.. او في الفن التشكيلي كما حدث مع مختار.. او في فن جديد
اسمه المسرح مع توفيق الحكيم.. او فن وليد اسمه الروايه مع هيكل باشا ونجيب
محفوظ.. او في دخول فنون جديده مثل السينما.. كان هذا ايضا تنويرا حقيقيا..
فقد كتب هولاء مسرحا مصريا.. وقدموا سينما مصريه.. وتماثيل تحمل سمات الوطن
الذي عاشوا فيه. ولكن عندما يتصور البعض ان التنوير الان هو الكتابه بلغه
الجسد كما يسميها اصحابها او الاعتداء علي قدسيه العقائد واهانتها والتطاول علي
الخالق سبحانه.. او ترويج نماذج سلوكيه ساقطه او السخريه من رموزنا او رص نثر
هزيل قبيح يطلقون عليه قصيده النثر.. او استخدام كل اساليب العجاجه والاسفاف في
الكتابه تحت دعوي الابداع.. او اعطاء جوائز الدوله لنكرات لاتستحقها وحجبها عن
رموز الثقافه الحقيقيه او التشكيك في كل جذورنا الثقافيه والفكريه والحضاريه
وامتهانها.. ان هذا خطا في فهم معني كلمه تنوير ان امتهان القيم الحقيقيه للثقافه
العربيه تحت دعاوي التنوير اكبر خطيئه في حق التنوير نفسه. وهنا يمكن ان نقترب
من اسوا انواع العلاقات بين الثقافات وهو الغزو الثقافي لانه يحمل في حقيقته مطامع
سياسيه ويعود بنا الي عصور مضت حاولت السياسه ان تخفي وجهها الحقيقي خلف مطامع
ومصالح كانت هي الهدف والغايه وان تخفت في الثقافه والفكر. ولهذا فان اسوا
مايمكن ان تتعرض له ثقافات الشعوب الان هو تلك اللعبه التي تحمل اسم التنوير..
وتخفي اغراضا سياسيه مشبوهه او تصبح ادوات هدم وتخريب لمقومات الشعوب في الفكر
والسلوك والعقائد.. ورغم ان الاتحاد السوفيتي رحل في ظروف غامضه.. ورغم ان
الحرب البارده بين القطبين الكبيرين قد انتهت الي هيمنه امريكيه كامله علي شئون
العالم.. فان بقيه الدول مازالت تبحث عن مصالحها وادوارها حتي في ظل وجود القوه
الكبري.. ولان القوه الكبري وجه بلا ثقافه فان دول الثقافات التقليديه في العالم
تحاول ان تجد لنفسها دورا سياسيا تحت مظله الثقافه.. هذا ماتفعله فرنسا من خلال
اللوبي الفرانكفوني.. وماتفعله انجلترا من خلال بيوت الثقافه الانجليزيه.. وهو
ايضا ماتفعله ايطاليا تحت مسميات كثيره ابتداء بترميم الاثار وانتهاء بالفنون وربما
كانت ماساه اللغه العربيه في الجزائر اكبر ازمه عاشتها دوله بسبب التداخل الشديد
بين الغزو السياسي والغزو الثقافي. ولاشك ان هذه الدول تحمي مصالحها فمازالت
فرنسا علي سبيل المثال تحاول حمايه اللغه الفرنسيه علي ارض الجزائر وهي حريصه علي
ذلك وهذا هدف سياسي يتخفي في وجه ثقافي.. وان كان من حق الجزائر بل من واجبها ان
تحمي هويتها الثقافيه ممثله في لغتها وثقافتها ودينها. ولهذا يجب ان نكون علي
وعي بهذا كله.. والا نفرط بسهوله في مقوماتنا الفكريه والثقافيه لانها اخر مابقي
لنا.. ويجب ايضا ان نكون علي وعي بكل جوانب اللعبه علي مستواها السياسي والثقافي
معا.. اذا كانت رساله التنوير هدفها التفاعل والحوار بين ثقافتين فهذا يتطلب
اولا ان ننمي قدراتنا علي الحوار.. وان نوفر مناخ الحريه في الفكر والسياسه بما
يضمن لنا النديه في المشاركه من حيث التاثير والتاثر في وقت واحد.. وهذا يتطلب
ايضا ان نحمي جذورنا وتاريخنا ومقومات وجودنا فاذا كان الحوار مع الاخر مطلوبا فان
النقل مرفوض.. والغزو الان لا ياتي بالجيوش ولكنه ياتي مع الهواء والماء والدواء
والساندوتشات وبنطلونات الجينز وكتابات الجسد واغاني مادونا وافلام ستالوني ومايكل
جاكسون وناطحات السحاب القبيحه والابراج المشوهه.. ومجموعه من المروجين الذين
تخصصوا في بيع السلع الرديئه من حمله الاقلام والمباخر ان ما يحدث عندنا الان باسم
الابداع والتنوير امتهان بكل مقومات الابداع.. واعتداء علي كل رساله نبيله يسعي
اليها التنوير. اننا نريد تنوير رفاعه الطهطاوي وطه حسين والحكيم وهيكل ولطفي
السيد ومختار وعبدالوهاب وسلامه موسي.. وقاسم امين ولويس عوض حتي وان اختلفنا
احيانا مع جوانب الشطط عند بعضهم.. ان اخطر ما في هذا الجيل انه يمثل مرحله
الانبهار الواعي بقضيه التنوير.. وكانت ثقافه هذا الجيل واستيعابه لتاريخه وجذور
حضارته اكبر من ان نتركه فريسه سهله للانبهار الاعمي.. ولهذا كانت انجازات هذا
الجيل اكبر اضافه للحياه الثقافيه والسياسيه في عالمنا العربي وليس في مصر
وحدها.. ولكن مواكب التنوير الان لم تستوعب تراث امتها.. ولم تدرك عمق
جذورها الحقيقيه لانها طحالب هشه تسلقت علي وجه الارض دون ان يكون لها امتداد في
عمق هذا الوطن.. انها نباتات مستنسخه في علب بلوريه لم تحرقها حراره الشمس..
ولم تلفحها نسمات الصيف الحارقه ولم تشرب مياه النيل. انها لمبات فوسفوريه
سرعان ما تضيء وتخبو.. من هنا يمكن ان نضع اقدامنا علي الطريق الذي نريد..
ان قضيه التنوير غايه في الاهميه لانها تعني المستقبل.. وتعني التطور في الفكر
والروي.. وتعني ايضا حريه الابداع وحقوق الانسان.. لقد ارتبطت في جوانبها
السياسيه والثقافيه باشياء عظيمه في تاريخ البشر.. ونحن احوج مانكون لجوانبها
الايجابيه. نريد التنوير الذي يشعر الانسان بادميته وحقه في الحياه الكريمه
وان يفكر دون خوف من سلطان او رقيب.. نريد الحريه السياسيه التي تتمثل في
ديمقراطيه حقيقيه للشعب يكون فيها صاحب الكلمه والقرار. نريد ان نحمي جذورنا
وتاريخنا وهويتنا بحيث ناخذ من الاخر ما يناسبنا ويكون من حقنا ان نرفضه اذا تخفي
وراء قناع مزيف سواء كان سياسيا او ايدلوجيا او حتي تكنولوجيا. ومن هنا فاننا
وبنفس درجه حماسنا للتنوير.. نرفضه رفضا كاملا اذا كان هدفه تغييب وعينا..
وتدمير هويتنا.. وتشويه مقوماتنا ومقدساتنا.. فاهلا بمواكب التنوير الواعي
الامين.. والف لا.. لمواكب التنويرالاعمي المغرض. ولا ينبغي ان تتحول قضيه
التنوير الي معارك وتصفيات فكريه لان اهم ما يميز رواد التنوير الحقيقي هو رحابه
الفكر واتساع الروي وشموليتها واحترام لغه الحوار.. وحينما تفقد مواكب التنوير
هذه السمات فانها تتحول الي مواكب صخب وضجيج فارغ بل انها تصبح نوعا من الارهاب
الاعمي باسم الفكر. اننا في حاجه الي دعاه التنوير الحقيقي.. ولسنا في حاجه
الي سماسره الافكار المبرمجه.. وكتائب الاستقطاب السياسي من اصحاب المصالح..
وليكن التنوير هدفا ورساله سعيا الي تاكيد الهويه.. وتاصيل الجذور.. وزياده
الوعي والتفاعل البناء مع الثقافات الاخري تاثرا وتاثيرا.