ساتحدث في هذه المقاله عن جابر
عصفور, كناقد فحسب, بعيدا عن عمله في الجامعه, ووظيفته في المجلس الاعلي
للثقافه, لاني اناقش هنا الناقد فحسب, لا استاذ الجامعه, ولا امين المجلس,
وبعض الناس يخلطون بين الادوار التي يلعبونها في الحياه, فيظن الشاعر الذي اصبح
ناظر مدرسه ان قيمته الشعريه زادت بقدر ما زاد مرتبه, ويعتقد الكاتب الذي اصبح
مديرا او رئيس مجلس اداره ان مقالاته تحولت الي حقائق لا تنقض واوامر لا ترد.
وسوف يكون موسفا ان يقع جابر عصفور بوعي او بدون وعي, في هذا الخلط, فلا يفرق
بين لغه يخاطب بها الموظفين, ولغه يخاطب بها القراء والمثقفين ويناقش فيها قضايا
الشعر والنثر, كما فعل اخيرا وهو يتحدث مع مجله اخبار الادب حول ما اثرته في
الاهرام عن قصيده النثر, فاستخدم في ذلك لغه ملتويه خلط فيها بين وظائفه
المختلفه, وبين ارائه ومصالحه.
لقد اراد ان يرد علي ما قلته دون ان
ينسبه الي, او يواجهني باعتراضاته, فلجا الي التعميم, وحرر نفسه من كل ما يجب
التزامه في مناقشه جاده, فانتهي به الامر الي سلسله من التاكيدات المجانيه لا
يجوز ان تصدر عن ناقد مسئول.
خذ مثلا قوله ان الذوق الادبي المصري في مساله
الشعر ذوق محافظ, وامتحنه فلن تجد الا التعميم المجاني وعدم الشعور بالمسئوليه.
وهو يلح علي هذه الفكره الحاحا شديدا, كانه صاحب مصلحه في ان تكون مصر محافظه,
فيوكد مره اخري ان تقبل التجديد الشعري صعب في مصر, ويقارن بين مصر ولبنان,
فيعلن ان الاستعداد لقبول الجديد في لبنان كان اكثر منه في مصر, وان الذائقه
الادبيه في لبنان تقبل المغامره اكثر من مصر!
والموقف المصري المحافظ ليس
ظاهره جديده بالنسبه لجابر عصفور, وليس تيارا ضمن تيارات اخري, وانما هو خاصيه
مصريه دائمه تعود في رايه لطبيعه المجتمع المصري الثابته والساكنه!
وهو
يحاول ان يجد في التاريخ الادبي المصري دليلا علي صحه دعواه, فيقارن بين الطابع
المحافظ لمجله الشعر المصريه, التي كانت تصدر في اوائل الستينيات, والطابع
الثوري لمجله شعر البيروتيه التي صدرت قبلها, ويقارن بين موقف ميخائيل نعيمه
المتحرر من اللغه, وموقف عباس محمود العقاد المحافظ, الذي اخذ علي جبران خليل
جبران ركاكه بعض عباراته وعاميتها, كما في قوله في قصيده المواكب حسب روايه جابر
عصفور المحرفه هل تنسمت بعطر وتحممت بنور, وصحتها هل تحممت بعطر وتنشفت بنور,
وقد اخذ العقاد علي جبران استخدامه لفعل تحممت بمعني استحممت, وهو استخدام عامي
غير فصيح.
ولان الطبيعه المصريه في نظر جابر عصفور محافظه وساكنه, فقد تاخر
ازدهار قصيده النثر فيها بالقياس الي لبنان ففي نفس الوقت الذي كان يكتب فيه ادونيس
قصائده الجسوره, كان الماغوط, وانسي الحاج واخرون يكتبون قصائدهم النثريه
الجسوره؟!
ومع ان قصيده النثر ازدهرت متاخره في مصر, فقد اصبحت في راي
جابر عصفور هي القصيده السائده, لكن هذا لا ينفي ان معظم ما ينتجه المصريون في
قصيده النثر لا علاقه له بالشعر, او كما قال في عبارته المخلوطه بلغه الوظيفه
واظن انني صرحت اكثر من مره بان الكثير منها ليس شعرا حقيقيا, و90% مما اقروه
منها ليس قصيده نثر, فلماذا لم يحدثنا جابر عصفورعن قصيده النثر كيف يجب ان تكون
بدلا من تعميماته الخفيفه عن ذوقنا المحافظ وطبيعتنا الساكنه؟!
وكانت مجله
اخبار الادب قد رات ان تدخل في المناقشه التي بداتها في الاهرام حول قصيده النثر,
فخصصت من اعدادها الثلاثه الاخيره مساحات واسعه للرد علي صدرتها بعناوين صاخبه
جعلتني فيها مشعل حروب وداعيه تكفير, واخبار الادب تعلم قبل غيرها انني اخر من
يتهم في مصر باضطهاد الراي, او بالوقوف ضد حريه الابداع, انني فقط عدو للابتذال
والغوغائيه وادعاء الموهبه, ومادامت المجله قد جعلتني سلفيا فقد حجزت المعسكر
المقابل لنفسها, وللذين حشدتهم للرد علي, ومن ضمنهم جابر عصفور, الذي زاد فلم
يجعلني سلفيا وحدي, وانما عمم التهمه فجعل الذوق المصري محافظا, وجعل الطبيعه
المصريه ساكنه غير متحركه! وهي تهمه يتهرب بها جابر عصفورمن المناقشه الفنيه,
فنحن لا نتذوق قصيده النثر لاسباب فينا نحن وليس لاسباب فيها, نحن سلفيون وذوقنا
محافظ, وقصيده النثر قصيده متحرره, وعلينا في هذه الحاله ان نتحرر, وليس علي
جابر عصفور ان يقنعنا بوجود الشعر الذي نبحث عنه في قصيده النثر فلا نجده.
***
اما ان الذوق المصري في الشعر ذوق محافظ, فتحامل كريه سبق اليه بعض
الذين يروج لهم جابر عصفور بمناسبه وبدون مناسبه, ويتحدث عن ريادتهم المزعومه
وجسارتهم, ومنهم ادونيس الذي ينكر علي المصريين ما قدموه للثقافه العربيه
الحديثه, ويتهم الطهطاوي ومحمد عبده بالتوفيقيه والتلفيقيه, ويقول ان البارودي
له قيمه تاريخيه وليست فنيه, وشوقي صانع بلا شخصيه, وتنظيرات جماعه ابوللو اهم
من نتاجها الشعري, ويقارن بين الشعراء المصريين من ناحيه, والعراقيين
واللبنانيين فيبالغ في تقدير هولاء علي حساب اولئك.
وكما يقول ادونيس يقول
الماغوط, وتقول سلمي الخضراء الجيوسي التي زعمت في كتابها عن الشعر الحديث ان
التعليم في سوريا كان يتميز بروح المغامره والانفتاح اذا قورن بالتعليم في مصر,
وان كتاب سوريا ولبنان اكثر انفتاحا علي التيارات الثقافيه الخارجيه, فقد
استطاعوا بلوغ نجاح مرموق في تجاربهم لتحديث النثر, بينما لم يستطع كتاب النثر
المصريون بلوغ حساسيه اكثر حداثه الا عند اقتراب القرن من نهايته, وان النهضه
الادبيه الحديثه عند العرب قد بدات في سوريا ولبنان وليس في مصر... الي اخره!
والغريب ان يتبني جابر عصفور هذه الترهات والاكاذيب, ويرددها احيانا بنصها.
وانا لا انكر عليه, او علي غيره ان يتحدث عن الجوانب السلبيه في حياتنا, او عن
الجوانب الايجابيه في حياه الاخرين, بل انا اشارك في ذلك واحض عليه مادمنا نتحري
الدقه والموضوعيه, لكني انكر هذا الاطلاق الذي وجدناه في كلام ادونيس والجيوسي,
واستغربه, وانكره واستغربه اكثر حين يتبناه جابر عصفور ويردده كما يفعل الشواذ
المرضي المتلذذون بجلد الاخرين لهم!
لكني اعود فاتذكر ان هذا الموقف ليس
جديدا, وانما هو موقف قديم تصديت له من قبل حين ناقشت ادونيس والماغوط والجيوسي
هنا في هذه الصفحه, وحين كتبت عن العدد الذي خصصه جابر عصفور من مجله فصول حين
كان رئيسا لتحريرها للاحتفال بادونيس والاشاده بالافاق الادونيسيه!
والقول
بان مجتمعا من المجتمعات محافظ بصوره عامه, وساكن وثابت بطبيعته هراء, لا يصح
علي مصر او علي غيرها, لان المجتمع البشري ليس عنصرا واحدا او طبقه واحده, بل
هو عناصر وطبقات وتيارات, والمجتمعات تنفتح وتنغلق, وتحافظ علي تراثها
احيانا, وتتحرر منه احيانا, والذي يقال عن مصر في القرن الثامن عشر, لا يقال
عنها في القرن العشرين, والذي يصح عن شوقي او حافظ لا يصح عن العقاد او احمد زكي
ابوشادي, او لويس عوض, غير ان شوقي حين يكون تقليديا في مصر يكون اشهر من اي
تقليدي في اي بلد عربي, وحين يكون العقاد مجددا, او علي محمود طه, او
الشرقاوي يكون ايضا اشهر من زملائه في الاقطار الشقيقه, اريد ان اقول ان قوه اي
تيار في مصر محافظا كان او ثوريا, لا تاتي من طبيعه او جبله مصر, وانما تاتي من
وزن مصر ومن الدور العظيم الذي تلعبه في حياه العرب وفي حياه العالم.
وانا
انظر في حركات التجديد الشعريه, فاجد ان مصر نهضت فيها باوفي نصيب, حركه
الاحياء, وهي اساس لكل تجديد بدات في مصر, والحركه الرومانتيكيه بدات, فيها
حين ظهرت القصائد والمقالات الاولي لشكري والعقاد والمازني خلال العقدين الاولين من
القرن العشرين, فاشتعلت المعركه بينهم وبين التقليديين, وانتهت بانتصارهم
الحاسم الذي تمثل في ظهور جماعه ابوللو.
ودور مصر في حركه الشعر الحر هو
الدور المسروق, لان بعضهم يتناساه, ويتجاوزه عامدا متعمدا, وقبل ان يكتب
السياب ونازك الملائكه قصائدهما الجديده في اواخر الاربعينيات, ظهرت في مصر تجارب
ابوشادي, وباكثير, ولويس عوض, وعبدالرحمن الشرقاوي, واذا كان السياب,
ونازك, والبياتي قد سبقوا زملاءهم المصريين كصلاح عبدالصبور وكاتب هذه السطور
ببضع سنوات, فلقد سبقنا نحن ادونيس, والماغوط وسواهما ممن لم يظهروا الا مع
ظهور مجله شعر في بيروت سنه1957, وكان صلاح عبدالصبور قد اصبح في ذلك الوقت
مشهورا, وكانت قصائدي الاولي قد ظهرت قبل ذلك بعامين علي الاقل, ويستطيع جابر
عصفور ان يعود في ذلك الي شهاده واحد من اعضاء مجله شعر هو كمال خيربك في الدراسه
التي حصل بها علي درجه الدكتوراه من جامعه جنيف عن حركه الحداثه في الشعر العربي
المعاصر, فهو يذكر هذا السبق ويقول بالنص ان الشعراء اللبنانيين وجدوا انفسهم في
عام1957 وسط دهشتهم انفسهم, وقد تجاوزتهم الموجه الجديده في العراق وسوريا
ومصر.
يقول جابر عصفور ان مجله شعر التي ظهرت في بيروت في اواخر الخمسينيات,
كانت اكثر تحررا من مجله الشعر المصريه, التي ظهرت في اوائل الستينيات, نعم,
ولكن السبب ليس الذوق المصري, او الطبيعه المصريه, وانما هو بكل بساطه وزاره
الثقافه والاعلام المصريه, التي كانت تصدر مجله الشعر وكان يتولي الوزاره انذاك
الدكتور عبدالقادر حاتم, الذي كان اهتمامه بالدعايه والرقابه يفوق اهتمامه بالشعر
والنثر, علي حين كانت المجله البيروتيه منبرا مستقلا لجماعه طليعيه, هذا هو
التفسير, ايها الناقد النحرير, والنحرير هو الحاذق المجرب!
فاذا اردت
ان اوضح لك ايضا موقف العقاد من لغه جبران, فسوف احيلك اولا الي شهاده سوريه او
بالاحري فلسطينيه, هي شهاده احسان عباس ومحمد يوسف نجم في كتابهما الشعر العربي
في المهجر, فهما يلاحظان مع اعجابهما بجبران ان النظم لا يسعفه, وان قصيدته
المواكب قد اعتورها كثير من القصور في الاسلوب, حتي تراوح جبران فيها بين السمو
والركاكه. والعقاد بعد ذلك لا يعترض علي استخدام اللفظه العاميه الا اذا كان في
الفصحي ما يودي معناها ووظيفتها, وهو يشرح موقفه هذا بوضوح في مقدمته لكتاب
الغربال لميخائيل نعيمه, والعقاد اذن لا يعبر عن ذوق مصري محافظ, وانما عن خبره
بالكتابه لا تتاح لكل من هب ودب!
اما الدور الذي لعبه المصريون في تحديث
النثر العربي, فيكفي ان ننظر فيه الي هذا التراث الشامخ, الذي تركه امثال محمد
عبده, والمويلحي, والمنفلوطي, والرافعي, وطه حسين, والمازني, وتوفيق
الحكيم, ومحمود تيمور, ويحيي حقي, وعبدالعزيز البشري, ونجيب محفوظ, ويوسف
ادريس, والفريد فرج, ولست اظن ان شيئا تحقق في النثر العربي من الجاحظ الي
اليوم يضاهي ما حققه المصريون, ونحن اذا اخرجنا ما كتبناه في المسرح,
والروايه, والقصه, والنقد من النثر العربي, فماذا يبقي فيه؟ ولاشك ان هناك
كتابا كبارا ظهروا في لبنان وسوريا, والعراق, وتونس, والمغرب, والسودان,
لكن جهود هولاء كانت استكمالا للجهود التاسيسيه التي استطاع بها المصريون ان
يستنبتوا في الادب العربي انواعا لم تكن فيه من قبل, وقد ازدهرت هذه الانواع حتي
توجها العالم بجائزته الكبري فاذا قال جابر عصفور انه اتهم ذوقنا في الشعر وحده,
ولم يتهم ذوقنا في النثر, قلنا له ان الذي يتهم الطبيعه المصريه كلها بالثبات
والسكون, لا يحصر التهمه في الشعر الا من باب التقيه, ولاشك ان سلمي الجيوسي
كانت اصرح منك, لانها عممت التهمه علي شعر المصريين ونثرهم, وان كان تعميمها
باطلا كتخصيصك سواء بسواء!