الحديث عن الخلل في
العلاقه بين الجمهور والشعر ليس جديدا, وانما هو من القديم الذي يتجدد نتيجه
لاثاره اسبابه ودواعيه, وفي كل مره يطرح الامر تستدعي مناقشته تامل احوال
ثلاثه: حال الشعر وحال المتلقي وحال النقاد. ثم اضيف الي هذه الاحوال الثلاثه
حال رابعه هي ما يتصل بقنوات هذا الشعر الي الجمهور المتلقي بدءا من الصحيفه
والمجله والكتاب وصولا الي المسرح والاذاعه والتليفزيون, انطلاقا الي اشرطه
الكاسيت والفيديو واقراص الليزر والكمبيوتر والانترنت. ووجه الاهميه في هذا
الحديث. انه ينبهنا الي تامل الواقع المحيط بفن جميل من فنون الابداع بالعربيه هو
الشعر, بل هو فنها الاجمل. والي ادراك ان ما كان يسمي خللا في العلاقه بين
اطراف الموضوع قد اصبح نتيجه لتراكمات عده عزوفا وانقطاعا. ولم يحدث هذا كله لقله
في محصول الانتاج الشعري فالوفره فيه هي الطاغيه والسائده, ولا لندره في الكتابات
النقديه فالاسهامات المختلفه في هذا المجال غزيره ومتتابعه, ولا لضيق في مساحه
قنوات التوصيل بين الشعر والجمهور, بل العكس هو الصحيح. اذن ما المشكله ؟ واين
مكمن الداء؟ الواضح ان المشكله تكمن اساسا في الوفره التي لا يصاحبها فرز او
تقييم والاختلاط الذي لا يواكبه بصر او تمييز. المفاهيم شتي ومتعارضه, والدعاوي
عريضه ومزعميه اي تتكيء الي مجرد الزعم وكثير من الشعراء يلتقطون الاشاره لينخلعوا
من هويتهم الابداعيه الي مايراد لهم ان يتلبسوه, والمتلقون لهذه الوفره الشعريه
المختلطه لم تعد تسعفهم في اكثر الحالات ذائقه بصيره, تنتقي وتستصفي وتغربل,
وتضبط بوصله الاهتمام في الاتجاه الصحيح, وعندما يدركها ما في الساحه الشعريه
نفسها من خلل واضطراب, تنسحب او تنفض يدها من الامر كله! لقد بدات العلاقه
الاولي بين الشعر العربي والجمهورفي صوره حيه ومباشره من خلال الاسواق التي كانت
تقام في مواضع مختلفه من شبه الجزيره العربيه علي مدار العام اكثر من ثلاثين سوقا
ابرزها واشهرها عكاظ والحربد وذو المجاز ومجنه وهجر وقطر, تنصب وتقام اولا
للتجاره اياما او اسابيع, حتي اذا انتهي البيع والشراء تحولت هذه الاسواق الي
ساحات ينشد فيها الشعراء قصائدهم, فاذا لم يكن الشعراء قام الرواه عنهم بانشاد
هذه القصائد, يتلقاها الجمهور الوافد من شتي القبائل والاماكن, ليصبح بدوره
وسيله لنشر هذه القصائد في كل مكان. فاذا تاملنا هذا المشهد القديم الثلاثي
الابعاد الذي جسدته اسواق العرب في تاريخ القصيده العربيه وجدنا الشاعر ينشد
والمتلقي يستقبل وبينهما حكم شعري ارتضاه اهل الراي والبصر والشعر. هذا الحكم
يضيء ويفسر ويشرح ويوضح اذا لزم الامر, ويضيف الي وعي المتلقي بالنص الشعري افقا
جديدا ومساحه ارحب من التذوق. كما ان الانشاد الذي يقوم به الشاعر او الراويه
يحمل معني تاديه الشعر منغما حسن الايقاع واضح الوقفات والفواصل, مع ابراز للمدات
وحروف اللين بما يزيد من تاثيره الموسيقي وحسن وقعه لدي المتلقي, ويساعد علي حسن
استقباله لمن يستمع ويحتفظ في ذاكرته بما استمع اليه. هذه الحال الانشاديه
وطرفاها الشاعر والمتلقي ظلت مصاحبه للاستقبال الشعري, تستثير الوعي والفهم
والتذوق, وتوقظ الاحساس الموسيقي, جيشانا وتدفقا, همسا وصخبا, بين فضاء
النص الشعري ومساحه الخيال المستثار عند المتلقي, وحميا النشوه او المتعه الفنيه
لديه. كما ضمنت حنيمه التحكيم المقامه في اعلي السوق لشاعر كبير مرموق
كالنابغه مثلا مواكبه نقديه مصاحبه تعني بالانطباعات السريعه المباشره, ونشر
حكمتها وفصاحتها وبلاغتها في صوره احكام جزئيه, لكنها في اطار السياق العام لحركه
القصيده العربيه خاصه في مرحله البدايات الاولي تسهم في تشكيل وعي الجمهور المستقبل
وتلقينه الدروس الاولي في التعامل مع النص الشعري استحسانا او استهجانا, وتنقله
من مرحله التوقف في الحكم عند جرس والعباره وهي المرحله الصوتيه الاوليه في
الاستقبال الي تامل الصيغ والتراكيب والصور والدلالات. ولم تكن هذه الاسواق
مجرد وسط شعري, او مناسبه لنشاط شعري له ابعاده الثلاثيه: الشاعر والناقد
والجمهور, لكنها تركت تاثيرها العميق في بنيه القصيده وتقنياتها الفنيه وفي افساح
المجال امام الحس الخطابي والنزعه الاعلاميه للقصيده. خاصه عندما تستحضر القصيده
قيم القبيله والمجتمع متمثله لها, وعندما تحمل مواقف اوسع من ذاتيه الشاعر وارحب
من حدود وجدان الفرد, لتصبح ناطقه باسم الجماعه ومعبره عنها, في مثل قضايا
الحرب والسلام والثار والصلح والمنافره والمفاخره بالاصول والعروق والانساب كما حدث
في معلقات عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزه وزهير بن ابي سلمي هذا الحس الخطابي وهذه
النزعه الاعلاميه هي التي ادت بالقصيده احيانا الي لون من المباشره ظلت مصاحبه
للقصيده العربيه عصورا طويله بالرغم من تغير المشهد الشعري واختلاف طبيعه المتلقي
وتجاوز صيغه الاسواق التي كانت القناه الاولي والاساسيه لتوصيل الشعر الي الجمهور
الي جانب ما قام به الرواه في هذا المجال. وساعدت هذه الاسواق وماصاحبها من
حالات الانشاد الشعري علي ابقاء الشعر العربي ظاهره صوتيه يقوم الانشاد فيها بتحقيق
التواصل الحي بين الشاعر والجمهوراو بين الراوي والجمهور, وسوف تظل هذه الصيغه
الصوتيه مستمره حتي اليوم بالرغم من بروز اشكال متعدده وصيغ اخري لهذا الاتصال
نتيجه لظهور الطباعه وتاكيد دور الصحيفه والمجله والكتاب الا ان القصيده العربيه
لاتزال تستمد حضورها وفاعليتها من خلال الانشاد او الالقاء او ا لاداء المسموع الذي
يبرز ويجسد مقاطعها وفواصلها ووقفاتها, ولاتزال تعتمد في عمق تاثيرها علي الاتصال
المباشر بين المودي والمتلقي مما يفسر نجاح الملتقيات والامسيات الشعريه التي تقام
في اطار العديد من المهرجانات والموتمرات والمناسبات الثقافيه والادبيه علي امتداد
الوطن العربي ويقصدها الالوف ليستمتعوا عن قرب بحيويه هذا الشعر وحضوره وصوتياته,
وكانهم يتابعون التقاليد الاولي التي شكلت صيغه العلاقه بين الشاعر والجمهور
ويحتشدون لمعايشه حميا هذه اللقاءات الشعريه الجماهيريه التي يسودها فوران النغم
والايقاع وجيشان المشاعر والعواطف والترنم بهذا الفن العربي الجميل: الشعر.
لكنها بالرغم من ذلك كله صوره لا تلغي الاحساس بالخلل والاختلاط الذي يعيشه متلقي
الشعر في هذا الزمان. ولقد ساعد علي هذا الخلل والاختلاط, والشعور احيانا
بالانقطاع والانفصال, ضعف المستوي اللغوي لدي الشباب علي وجه الخصوص وعدم تمكن
الاجيال العربيه الجديده من لغتها القوميه. فالشعر في جوهره فن لغوي, يتطلب في
تذوقه والنفاذ الي اسراره وعيا لغويا قادرا ودربه علي القراءه والتامل والتحليل,
وهو ما يفتقده النشء الجديد في المدرسه والجامعه, بعد ان انهار اسلوب تعليم اللغه
العربيه نتيجه لضعف المنهج التعليمي وسوء اختياراته للنماذج والنصوص التي يفترض
انها تمثل حقيقه الابداع العربي في الشعر والنثر وهبوط مستوي المعلم, والطفره
الهائله في اعداد المتعلمين في المدرسه والجامعه وافتقاد الرويه الصحيحه لاسباب
تعليم اللغه العربيه والقدرات الاساسيه فيها, والاصرار في مناهج التعليم علي
البدء بدراسه الادب الجاهلي ونصوصه الصعبه الغريبه لغه وصورا ومجازات في ظل سن
مبكره وقدره لغويه غضه وخيال محدود. فتكون النتيجه المحتومه كراهيه الادب العربي
كله وكراهيه درس اللغه العربيه الذي تقلص معناه فاصبح يعني درس النحو واصبح النحو
لا يعني اكثر من القواعد والقواعد لا تعني اكثر من الاعراب. ولم يعد ثمه مجال في
اطار هذا الواقع التعليمي المتردي الي الاهتمام بدراسه الاساليب والنصوص المختاره
واتساع افق القراءه الحره البعيده عن المنهج المدرسي الصارم. وليست صوره الدرس
الادبي في الجامعه بافضل منها في المدرسه. فالتركيز علي الجزئيات, والاهتمام
بالكتب المقرره التي الفها الاساتذه او المذكرات التي صنفوها, وانعدام العلاقه
المباشره بين ا لاستاذ وطلابه نتيجه للاعداد الهائله من الدارسين ومعامله الجميع
دون تمييز بينهم يكشف عن النبوغ والتفوق والاستعدادات والقدرات الفرديه كل ذلك ادي
الي انهيار العلاقه بين نسبه كبيره من خريجي الجامعات المصريه والعربيه ولغتهم
القوميه وادبهم القومي. فضلا عن عدم امتلاكهم للوسائل والاليات التي بها يحسنون
القراءه او التذوق او الاختيار والتحليل. وهم الذين يصبحون بعد التخرج معلمين
وكتابا وصحفيين واذاعيين, ولابد ان نتوقع من بينهم المبدعين من شعراء المستقبل
وادبائه ونقاده. هذا الهبوط في المستوي اللغوي عند الاجيال الجديده من الشباب
ادي الي شيوع نماذج من الكتابه الشعريه السطحيه, لغتها مباشره ودلالاتها قريبه
وضحله, تجد جمهورها الواسع في هذه الاجيال الشابه الفاقده للقدره اللغويه
والذائقه الناضجه. تماما, كما ادي انعدام الوعي بالعروض والموسيقي الشعريه لدي
بعض النقاد الي كتعاطفهم مع قصيده النثر وحماسهم لها, لانها تنقذهم من ازمه
التعامل مع الموسيقي الشعريه ودراسه بنيتها الايقاعيه وتجلياتها المختلفه, في ضوء
الدراسه النقديه الشامله للعمل الشعري. وفي مناسبه الحديث عن هذا الصنف من
النقاد, فان الحياه الشعريه العربيه المعاصره تفتقد الدور النقدي المواكب
والموازر الذي مارسته التقاليد النقديه والبلاغيه العربيه بدءا من عصر الاسواق
العربيه في القديم, والملاحظات الجزئيه للشاعر الكبير الذي جلس للتحكيم بين ا
لشعراء, وصولا الي الانشغال بقضيه اللفظ والمعني في تراثنا العربي, واراء
القدماء في وظيفه الشعر, والحديث عن المبالغه والاغراق والغلو والتخيل, وصولا
الي فكره النظم عند عبدالقاهر الجرجاني التي يري بعض المعاصرين انها تطابق مايسميه
الغربيون علم التراكيب, فضلا عن الانشغال بالصوره الادبيه التي هي كالنقش
والصياغه وتقويم الكلام وصلته بالعلاقات في التركيب وتقويم الجمال وصلته
بالمضمون. يبدو الامر اذن وكان بعض نقاد هذا الزمان يكتبون لغيرهم من النقاد
بعد ان اصبح النقد عمليه بالغه التعقيد والصعوبه, وعلما تتداخل فيه علوم الفلسفه
والاجتماع واللغويات والصوتيات, وضربا من التنظير الفكري المركب يتسع للسياسه
والعولمه ايضا. ولم يعد النقد نتيجه للثوره المعرفيه الشامله وبروز مدارس وتيارات
واتجاهات جديده وواسعه يقنع بالنظره البلاغيه الجزئيه او الحكم النقدي العابر او
النظر المعني بالحكم والتقييم. النقد الان في راي هولاء جهد معرفي يقدم خبره
موازيه للنص الشعري, خبره لا تقنع بالسير في غبار هذا النص او الي جواره وانما قد
تتجاوزه وتضيف اليه. من هنا اصبح هذا اللون من النقد يكتب للنقاد انفسهم,
واصبحت الكتابات النقديه لدي هولاء ضربا من اللعب, اداته اللغه, لا يقيم وزنا
لتقاليد سابقه, او لاعراف ادبيه مستقره, او يلبي رغبات فطريه متواثره, او
يستهدف تحقيق لذه لجمهور المتلقين. ومادام النص الادبي في راي هولاء النقاد,
لعبا لغويا, فعلي الناقد نفسه ان يلعب الدور نفسه مع النص, اذا هو ينشيء كتابه
سرعان ما تصبح هي نفسها موضع قراءه, وتتساوي عندئذ النصوص الادبيه مع النصوص
النقديه التي اصبحت بدورها نصوصا كتابيه! وهو مايجعلنا نتساءل: لقد انجز بعض
نقادنا المعاصرين في سنوات قليله كما من الدراسات النقديه علي مستوي النظريه
والتطبيق يفوق بكثير ماقدمه امثال طه حسين ومحمد مندور وهما مثلان من جيلين
متتابعين قراءه اعمالهما متعه فنيه عاليه بكل المقاييس فلماذا تبدو هذه الكتابات
الكثيره لبعض نقادنا المعاصرين فاقده التاثير والفاعليه والقدره علي التغيير
والتوجيه وتوسيع الافق المعرفي والفضاء النقدي, بالمقارنه مع بعض الكتابات
القليله لطه حسين ومحمد مندور؟ وهي كتابات لاتزال صالحه للالهام وتحريك الوعي وخلق
مساحه للحوار, دون ان تفقد حرارتها وحيويتها وامتاعها الجميل, ولاتزال صوره حيه
للقراءه النقديه الذكيه, المتكئه الي ذائقه مرهفه مصقوله وخبره شديده الوعي
والنضج ومعرفه عميقه بفنيه القصيده العربيه وتحولاتها وتجلياتها المختلفه عبر
العصور, فضلا عما تمتليء به هذه الكتابات من قسمات الافق الانساني الرحب والنظر
الموضوعي الفسيح. ان المساله هنا محسومه بالقدره علي الهضم والتمثل لافكار
الاخرين كمادل عليها طه حسين ومحمد مندور, وغيرهما ممن تابعوهما بوعي واستناره
والقدره علي صياغه هذه الافكار وتذويبها في نسيج عربي محكم واسلوب عربي مشرق,
قادر علي الاستيعاب وحسن العرض وجلاء الفكره والمعني دون معاظله او غموض او وقوع في
التناقض, ودون حاجه الي اعاده ترجمه او تعريب. اسباب الخلل في العلاقه بين
الجمهور والشعر كما هو حادث الان كثيره ومتداخله, ومسئولياتها تتوزع بين الشاعر
والناقد والجمهور, وقنوات الاتصال في المجتمع, والنظام التعليمي في المدرسه
والجامعه, ومنافذ الاتصال بحاضر الابداع الشعري العربي والعالمي لكن تهيئه السبيل
امام بزوغ مواهب شعريه جديده تنضجها نار التجربه والمعاناه والتمرس بالخبره
الحيه, ويملوها اليقين في غد افضل, ينبغي ان تظل امرا شاخصا نصب اعيننا, املا
في ان تبدع الاجيال الجديده شعرها الجديد المغاير, المتجاوز لذاته باستمرار.