المصريون..
والشعر
فاروق
جويدة - مصر
كلما شاهدت اقبال الناس علي الشعر في الندوات والامسيات بالخارج تساءلت..
لماذا غاب الشعر في بلادنا.. لماذا فقد سلطان الفنون عندنا عرشه القديم وبريقه
الصاخب وجماهيره العريضه.. اين فن العربيه الاول في سياق الفنون الان.. اين
الكلمه الرصينه والايقاع المنفرد.. والاحساس المتدفق.. اين الكلمه الشاعره في
زحام ايامنا وضجيج ليالينا.
لن اتحدث عن موقع الشعر في حياه الناس في الازمنه
القديمه عندما كان العرب يحتفلون ثلاث سنوات كامله اذا ظهر في القبيله شاعر
وليد.. كانت القبائل العربيه تفتخر بشعرائها كما تعتز بقادتها وروساء قبائلها..
ولهذا لم يكن غريبا ان يدافع امرو القيس الشاعر عن سلطان ابيه.. او ان يكون
الوزير العاشق ابن زيدون وزيرا للحربيه والخارجيه في وقت واحد ثم يقضي بقيه عمره في
السجن وحيدا.. وهاهو المتنبي شاعر كل الازمنه يقف في وجه كافور الاخشيدي.. بعد
ان اختلف مع سيف الدوله ثم يسقط قتيلا في العراق. ذهب السلطان وبقي الشعر..
وفي بدايه القرن الماضي ظهر احمد شوقي امير الشعر العربي وفي فتره من حياته
كان صوتا للقصر.. ثم اصبح صوت الشعب والامه بعد ان عاد من منفاه في اسبانيا..
وبجواره كان شاعر النيل حافظ ابراهيم صوت مصر الصادق النبيل.. وقبلهما كان
البارودي وتاريخ من الامجاد والغربه.
تاريخ حافل للشعر والقراء في مسيره
الاحداث والايام.. ولو لم تكن قصائد المتبني ماعرف الناس كافور الاخشسدي..
ولولا قصائد ابي فراس الحمداني.. ماتذكرنا سيف الدوله.. كان الشعر دائما من اهم
الشواهد الحيه لذاكره الامه.
وفي عصرنا الحديث وقف عدد من الشعراء يتصدرون
مسيره الادب والصحافه والثقافه.. كان كامل الشناوي الشاعر الكبير صاحب مدرسه
عريقه في الفكر والمعرفه والثقافه.. كان وراء ظهور اسماء كثيره من نجوم الثقافه
المصريه.
وكان علي محمود طه وناجي ومحمود حسن اسماعيل وصلاح عبدالصبور
والشرقاوي من رموز حياتنا الفكريه في الشعر والكتابه..
وكان احمد رامي مدرسه
للعشق في تاريخ الغناء العربي..
كان للشعر وجوده الموثر في حياتنا..
كانت الصحافه تستقبل قصائد الشعراء وتنشرها في صفحاتها الاولي.. وكانت الامسيات
الشعريه محافل للجمال والتذوق.. مازلت اذكر الامسيات الشعريه التي كانت تقام في
الاوبرا القديمه في العتبه وكانها من ليالي الف ليله وليله وكنا نحضرها علي استحياء
ونحن ندرس في رحاب جامعه القاهره ولابد ان نعترف ان مكانه الشعر تراجعت علي مستويات
كثيره.. تراجع الشعر ابداعا.. وتراجع الشعر نقدا.. وتراجع الشعر تذوقا..
ومن هنا تراجعت مكانته بين الفنون الاخري.. امام هذا التراجع لم يكن غريبا ان يقف
احد نقادنا الكبار ويعلن صراحه ان الروايه الان هي ديوان العرب وليس الشعر..
ولم يكن غريبا ايضا ان تشاهد احدي الندوات الشعريه ولا تجد غير الشعراء المشاركين
فيها اما الجمهور فقد غاب تماما.. ولم يكن غريبا ان نسمع ام كلثوم وهي تغني منذ
خمسين عاما مضت ولد الهدي.. وقصه الامس.. وانا لن اعود اليك.. والاطلال ثم
نجد الان الشعب المصري يغني هبطل السجاير.. واشيل حديد ان هذا كله يوكد تراجع
مكانه الشعر ابداعا ونقدا وتذوقا..
ولابد ان نعترف ان هناك اسبابا وراء
هذا التراجع.. وربما كانت معروفه لدينا.. ولكننا احيانا نفتقد الشجاعه في
مواجهه مشاكلنا..
من هذه الاسباب سقوط عدد كبير من الشعراء في فخ التقليد
الاعمي للنموذج الغربي خاصه الفرنسي في كتابه الشعر.. وهو ما يسمي قصيده
النثر.. ولا شك ان عددا من شعراء مصر خاصه الاجيال الجديده سقطوا في هذا الشرك
وسايروا اتجاهات غريبه ربما كان علي راسها الشاعر السوري ادونيس.. ولا شك ان
ادونيس مثقف كبير وصاحب فكر.. ولكنه بكل تاكيد اخطا في حق الشعر العربي لانه جعل
العشرات من الشعراء الشباب ينبهرون بتجربته وهم لا يملكون ادواته او ثقافته او
علاقته بالتراث لقد كان ادونيس يهدم بوعي.. اما من جاءوا بعده فهم يحطمون كل
شئ.. بجهل.
كانت قصيده النثر اول خطايا الشعراء.. لقد ابعدت عنهم
جماهير الشعر.. وجلسوا يغنون لانفسهم حتي ضاقوا ببعضهم البعض.. وانا لا اتصور
شعرا بلا جمهور.. ولا اتصور فنا من الفنون بعيدا عن الناس.. وهنا سمعنا من
يقول.. سوف تفهم الجماهير شعري في الاجيال القادمه.. وقد نسي هولاء ان الشاعر
ابن زمانه وعصره. وبجانب خطيئه ما يسمي بقصيده النثر وجدنا الشعراء وقد انقسموا
علي بعضهم البعض وكل اتجاه يرفض الاخر.. رغم ان اجمل ما في الشعر تنوعه.. وان
البساتين تشمل انواعا كثيره من الزهور.. وان الفنون بصفه عامه تقوم علي التفرد
والتميز.. والتنوع..
وتحول الشعراء احيانا الي ميليشيات يلقون التهم ويرفعون الشعارات ويسقطون
هذا ويتوجون ذاك.. وكان من الصعب جدا ان يتحول دعاه الحب.. الي فصائل
متناحره..
في جانب اخر كانت اللغه العربيه تاج الشعر وصولجانه تتراجع في حياتنا.. بدا
التراجع في مناهج التعليم.. واصبح هناك عداء غريب بين الابناء ولغتهم.. ثم
انتقل هذا العداء الي اجهزه الاعلام.. ولم يعد غريبا ان تسمع مدنيا يخطئ في نطق
لغته.. او تسمع وزيرا لم يكلف احد موظفي مكتبه بان يصحح له اخطاء خطبه يلقيها او
حديثا يقراه.. او ان تسمع خطيبا علي المنبر وهو يخطيء في نطق كلمات الله.. رغم
اننا تعلمنا اللغه الجميله في مدارسنا ومساجدنا ومحاكمنا.. وكلمات عشاق اللغه من
كبار المسئولين ذات يوم وبجانب هذا كله كانت نماذج الشعر التي يدرسها ابناونا في
المدارس اكبر جنايه في حق الشعر حيث سوء الاختيار وغرابه اللغه وسذاجه الموضوعات.
ولابد ان نعترف ان مصر كانت يوما من اهم قلاع اللغه العربيه.. كان الازهر
بتاريخه.. والجامعات باساتذتها.. والاذاعه بكل رموزها.. والادباء والشعراء
وهذه النخبه المميزه من عشاق اللغه العربيه وحراسها.
ولكن هذه المراكب
تراجعت وفقدت تاثيرها.. وسقطت اللغه العربيه عن عرشها.. ودخلت حياتنا موجات
عاتيه من الاسفاف في الغناء.. والحوار.. والسلوكيات.
ومع تراجع اللغه
العربيه تراجع الابداع الشعري.. ولم يعد غريبا ان نجد شاعرا يخطئ في نطق الفاعل
والمفعول.. وان يري البعض ان النحو خطيئه وان قواعد اللغه العربيه شئ لا مبرر له
سواء في الشعر او حتي في الكلام.
من هنا اتجهت انصاف المواهب الي ما يسمي
قصيده النثر او الي منابع لغويه اخري بعيده عن لغتنا او الي تيارات فكريه لا تدين
بالولاء لتراثنا الفكري والحضاري.
ومع تراجع الشعر ابداعا.. تراجع دور
الشعراء وموقعهم علي خريطه الاحداث فانشغل الكبار منهم بالسلطه والطموحات وانشغل
الشباب في اشعارهم بقضايا التقوقع علي الذات والاغراق في الانا ابتداء بالجنس
وانتهاء باللامبالاه.
وابتعد الشعراء عن قضايا عصرهم.. وعندما كانت
الشوارع تغلي بالناس في عالمنا العربي سخطا وغضبا علي بعض الشعراء هائمون في تجارب
مريضه ابعد ما تكون عن واقعنا الانساني.
ومن هنا غاب التواصل بين الشعر
والناس.. وفي زحمه الكلام الهابط والغناء الهابط.. والحوار الهابط تراجعت مكانه
الشعر وغاب الشعراء..
ولاشك اننا لا نهتم بالشعر كما ينبغي.. ربما كان
اخر مهرجان للشعر اقامته مصر كان في نهايه السبعينات.. كما ان الاعلام يعطي للشعر
ثلاث دقائق كل ليله في اخر الارسال بعد ان يكون الناس قد شبعوا نوما.. ولو اننا
اعطينا للشعر وقت مباراه واحده في كره القدم.. او وقت فيلم هابط نشاهده.. فاننا
بذلك نقدم للشعر وللناس خدمه عظيمه..
وبجانب هذا ينبغي ان تهتم مصر الدوله بهذا الفن العظيم يجب ان يكون لدينا
مهرجان عربي للشعر.. وان نعيد للغناء مره اخري هذا الابداع الجميل الذي يسمي
القصيده.
وقبل هذا كله يجب ان نختار بعنايه القصائد الشعريه التي يدرسها
ابناونا في المدارس لان الشعر المقرر عليهم الان يجعلهم يكرهون اللغه العربيه نثرا
وشعرا..
وبعد هذا كله ينبغي ان نهتم باللغه العربيه لانها الاساس الذي ينطلق
منه ابداع الشعراء.. وتذوق الجماهير.. وكتابات النقاد.. واتمني ان نعيش حتي
نري يوما يعود للشعر فيه سلطانه القديم.