قصيدة النثر نص وحيد
الخلية!
أحمد
عبدالمعطي حجازي - مصر
لا اظن ان تاريخ الشعر
يختلف عن تاريخ اي فن اخر من حيث القوانين العامه التي ادت الي نشوئه, وحكمت
تطوره, وخصته بما يتميز به عن غيره من الفنون والعلوم. من الموكد ان الشعر
لم يكن في بدايته الا عنصرا او ركنا من اركان طقس شامل لا ينفصل فيه الكلام عن
الغناء, ولا الغناء عن الرقص, ولا الرقص عن الايماء والتمثيل.
وقد نقل
لنا الاستاذ العقاد في تقديمه البديع لديوان المازني ما ذهب اليه هربرت سبنسر في
مقال له عن الرقي او التقدم يقول فيه: ان الشعر والموسيقي والرقص كانت كلها اصلا
واحدا, ثم انشق كل منها فنا علي حدته, ومن قوله في ذلك: ان الروي في الكلام
الروي في الشعر هو حرف القافيه والروي في الصوت, والروي في الحركه كانت في مبدئها
اجزاء من شيء واحد, ثم انشعبت واستقلت بعد توالي الزمن, ولا تزال ثلاثتها
مرتبطه عند بعض القبائل الوحشيه. فالرقص عند المتوحشين يصحبه دائما غناء من نغم
واحد, وتصفيق بالايدي, وقرع علي الطبول. فهناك حركات موزونه, وكلمات
موزونه, وانغام موزونه. ومن الموكد ايضا ان هذه الفنون المجتمعه المترابطه
لم تكن منفصله عن النشاط الحيوي للانسان, ولم يكن النشاط العقلي عامه معزولا عن
النشاط العملي او عن الحياه اليوميه, بل كان متصلا بها اتصالا عضويا, فالانسان
البدائي يغني, ويرقص, وهو يصطاد, ويقاتل اعداءه, ويصلي ويتعبد ويتقرب
لالهته, ويرجو خيرها ويتقي شرها.
وفي تلك العصور السحيقه لم يكن المجتمع
الانساني قد عرف تقسيم العمل, لان الاعمال كلها كانت حيويه لكل عضو من اعضاء
المجتمع, كما ان كل عمل كان لا يزال في ابسط صوره واشكاله, فهو بالنسبه لمن
يقوم به حاجه اكثر منه ثقافه, ولهذا كان العمل مشاعا او نشاطا جماعيا, وكان
الناس كلهم يشاركون في الصيد, والقنص, والغناء, والرقص والقتال. وفي
القصيده العربيه القديمه ما يشير بوضوح الي هذه الحقيقه. فالتاليف الجماعي ظاهر
في المعلقات, والبيت الواحد ينسب لامرئ القيس كما ينسب لطرفه بن العبد,
والانتحال ليس دائما سرقه, وانما هو صياغه جديده, او اعاده تاليف لنص يحفظه
الجميع ويرددونه كما يرددون الاغنيه الشعبيه, ويعتبرونه ملكيه عامه. والرجال
يرتجزون وهم يقاتلون, او وهم مرتحلون يحدون ابلهم ويحثونها علي السير, والنساء
يترنمن وهن يهدهدن اطفالهن وهن يشجعن الرجال علي اقتحام ساحات الوغي: ان تقبلوا
نعانق, ونفرش النمارق, او تدبروا نفارق, فراق غير وامق!
والقصيده
القديمه وصف, وسرد, وعلم, وحكمه, وتاريخ, وهي لهذا ديوان العرب. وهناك
نوع من النثر الشعري الذي كان يستخدم في اقامه الشعائر الدينيه, وهو سجع الكهان
الذي احياه من بعد المتصوفه المسلمون. لكن تطور المجتمع وتطور الفن اديا الي
انفصال النشاط الفني عن النشاط العملي من ناحيه, والي ان يستقل كل فن بذاته من
ناحيه اخري, لان تراكم الخبره ساعد علي الاتقان, والاتقان لا يتحقق الا بالتفرغ
والانكباب علي عمل واحد, ومن هنا اختص عدد من ذوي الاستعدادات الخاصه بالنشاط
الفني, وانصرف الاخرون للنشاط العملي. كما ان المشتغلين بالنشاط الفني انقسموا
جماعات. فالشعراء يختلفون عن القصاصين, والقصاصون يختلفون عن الملحنين
والمنشدين.
وانقسم الشعر بدوره الي ثلاثه انواع, فهناك القصيده الغنائيه
التي يتحدث فيها الشاعر عن ذات نفسه, والقصيده الملحميه التي يتغني فيها بامجاد
قومه او يروي فيها سير الهته وابطاله, والقصيده المسرحيه التي يطرح فيها ما
يواجهه من اسئله, وما يعتمل في نفسه من صراع. الشعر اذن يتطور من البساطه
الي التركيب, ومن التلقائيه والاحتراف والصنعه, ومن الاختلاط بغيره من
الانواع, الي الاستقلال بنفسه واستكمال شخصيته وادواته.
بل ان هذا
القانون الذي خضع له الشعر, هو القانون الذي خضعت له الحياه منذ نشاتها.
يقول العلماء: ان الارض ظهرت في الكون منذ نحو اربعه مليارات من السنين, وبعد
ذلك بنحو مليار سنه ظهر اول شكل من اشكال الحياه, وهو الاميبا ذات الخليه الواحده
التي لا تكف عن التشكل والتغير, فهي مره مستطيله, واخري مستديره, احيانا
بثلاث ارجل, واحيانا بخمس, والاميبا لا هي ذكر ولا هي انثي, لانها ابسط من ان
تكون لها اعضاء تناسليه, ولهذا تتكاثر بالانقسام لا بالزواج, فنواتها تستطيل
وتختنق من وسطها كانما ربطت بخيط, ثم تنقسم قسمين يتحول كل منهما الي اميبا
جديده.
لكن الاميبا تطورت من خلال هذا الانقسام الدائم, وتحولت بمرور الزمن من كائن وحيد
الخليه الي كائن متعدد الخلايا تقوم كل خليه من خلاياه بوظيفه مستقله, ويختلف فيه
الذكر عن الانثي. ثم لا تزال هذه الكائنات تمضي في سلم الارتقاء حتي تصل بعد مئات
الملايين من السنين الي الانسان الذي ظهر جده الاعلي الي الوجود منذ نحو مليار سنه
علي ما يقول علماء الحياه. يعني ان ظهوره استغرق ثلاثه مليارات من السنين, فهل
يليق به الان وقد تضاعف حجم مخه, وحصل ما حصل من علم ومعرفه, وحقق ما حقق من
تطور وارتقاء ان يعود الي اصله الاول, اميبا بخليه واحده؟ هذا هو بالضبط ما
يدعو الذين يكتبون قصيده النثر الان, لانهم لا يقدمونها كنوع ادبي مستقل, او
تجربه لم تتبلور بعد كما هي في الحقيقه, بل يعتبرونها بديلا عن القصيده
الموزونه, وربما كانت في نظرهم اقرب الي الشعر من القصيده الموزونه, لانها
حره, والقصيده الموزونه قصيده بالوزن وبالتراث الذي لا تزال مرتبطه به. وبهذا
المنطق تكون الاميبا او سواها من الكائنات الدنيئه افضل من الانسان واكثر منه تحررا
وانطلاقا, لانها بدائيه ناشئه ساذجه لا عقل لها, ولا خبره, ولا تاريخ, ولا
تراث, واذن فلا قيد, ولا شكل, ولا نظام!
ليست الحريه هي الخروج علي
القانون, وانما هي السيطره علي القوانين واستخدامها وركوبها لتحقيق المزيد من
الحريه, وتحطيم ما يصادر الحريه ويتعارض معها من قيود مجانيه لا تحتمها طبيعه
النوع, ولا يفرضها تطوره وارتقاوه. كل الانواع الادبيه تشترك في ان مادتها
واحده وهي اللغه, كما ان الاجسام الحيه تشترك في كونها مولفه من خلايا تكون واحده
فيها جميعا, في الانسان, والحيوان, والنبات.
واللغه كما صار معلوما
منذ وقت طويل ليست مجرد مفردات, لكنها جمل, او هي بالاحري نظام من العلاقات,
وسواء نظرنا الي مفردات اللغه او للنظام الذي تتحول به هذه المفردات الي جمل
ومعان, فسوف نجد انفسنا امام قوانين في النحو والصرف والبلاغه لا نستطيع ان
نجهلها او نتجاهلها او نخرج عليها, لانها شرط جوهري لاستعمال اللغه, وتحقيق ما
نريده منها, سواء جعلناها وسيله للتفاهم او ماده للابداع. فاذا اراد بعضهم
اليوم ان يكتب شعرا بلا وزن, لان الوزن في زعمه قيد, قلنا له فماذا تفعل مع
النحو والصرف والبلاغه وهي قيود اخري؟ واذا كان لابد لك من الخضوع لقوانين النحو
فلماذا ترفض الخضوع لقوانين العروض؟
ان الناثر لا يحتاج الي العروض لانه
يسعي الي الافهام والايصال, ولهذا يجب عليه ان يستخدم اللغه كما يستخدمها عامه
الناس, او قريبا من استخدامهم لها, اما الشاعر فيسعي قبل كل شيء الي الامتاع
واثاره النشوه في نفس السامع او القارئ. الموسيقي في الشعر شرط من شروطه,
كما ان السرد في القصه شرط من شروطها, فلا قصه بلا حكايه, ولا شعر بلا
موسيقي.
ولا جدال في ان الموسيقي اوسع من ان تحصر في الوزن, او في شكل
واحد من اشكاله. ومن الموكد انها بدات ساذجه, بسيطه, فجه, بعيده عن هذه
الدقه الرياضيه التي نجدها في الاوزان العربيه او الاوروبيه المماثله او
المختلفه. والدليل علي هذا ان الشعر الجاهلي لم يستنفد كل الاوزان الممكنه, وان
الشعراء وعلماء العروض استنبطوا ومازالوا يستنبطون اوزانا جديده كتلك التي نجدها في
اشعار المجددين. والباب مفتوح لايه اضافه او اي تجديد علي هذا الاساس, اي علي
اساس الاعتراف بان الموسيقي في الشعر شرط جوهري, وان الوزن في القصيده العربيه
اداه لا يمكننا ان نستهين بها او نسقطها علي امل الوصول الي موسيقي اخري نستخرجها
من النثر بعد عمر طويل, ولا نحتاج فيها الي الاوزان. اننا في هذه الحاله التي
نسقط فيها الوزن نهدر خبرتنا, ونبدد محصولنا, ونترك العصفور الذي نمسكه في
مقابل العشره الواقفه علي الشجره, قصيده النثر ليست في حقيقتها الا اميبا
شعريه, نص من خليه واحده, انواع مختلطه لا هي ذكر ولا هي انثي, لا هي نثر ولا
هي قصيده, انها من حيث الشكل كائن هلامي لم يسكن في جسد, ولم تتبلور ملامحه.
وانا لست ضد النثر, ولا ارفض ان تستفيد منه القصيده, بل انا اعتقد ان الشعر
بطبيعته لابد ان يتضمن عناصر نثريه, لانه يتشكل من اللغه, وهي اداه اتصال
وتفاهم. ونحن نعرف ان ظهور الانواع وانفصال الذكر عن الانثي لم يود الي ان يصبح
كل منهما مختلفا عن الاخر في كل شيء. فالعلماء يقولون ان خلايا الجسم الانساني في
الذكر والانثي واحده, وانهما لا يختلفان الا في الهرمونات الذكوريه والانثويه
التي توجد بنوعيها في الرجل, كما توجد بنوعيها في المراه, سوي ان نسبه
الهرمونات الانثويه في المراه اعلي من نسبه الهرمونات الذكوريه, والعكس عند
الرجل.
وفي قصه الخلق ان الله تعالي اخذ من ادم وشكل حواء, فجسدها من
جسده. وفي الاساطير اليونانيه ان الالهه لم تخلق في البدايه رجلا كاملا او
امراه مستقله, وانما خلقت اعضاء كثيره ثم جمعتها بعضها الي بعض كيفما اتفق,
فتشكل الرجل وتشكلت المراه متشابهين كثيرا, ومختلفين في بعض الوجوه, فليست هناك
رجوله نقيه, ولا انوثه نقيه.
وهكذا الشعر.. وهكذا النثر. في الشعر
قليل من النثر.. وفي النثر قليل من الشعر. اما ان تكون القصيده نثرا, او تكون
المقاله شعرا, فهذه هي الاميبا!