يمكن لكل ذي بصيرة
ان يميز بين حداثات الشعر العربي المعاصر - وللحداثة مستويات وهي ليست حداثة
واحدة كما يشاع - وسوف لا تخفى عليه سمات هذه الحداثات من خلال تتبعه لما نشر
وينشر من الشعر، هنا وهناك ومنذ اربعين عاما ونيف وما يطلق عليه اسماء كثيرة
منها: الشعر الحر، شعر التفعيلة، الشعر الحديث، الشعر الجديد، الشعر الطلق،
الشعر المنثور او قصيدة النثر او نص او كتابة مضادة، او ابداع الخ، الا انه سوف
يقف امام حداثة لا ترتبط بزمن ولا بمكان وادامت القصيدة من خلالها دائمة
التأثير ونضرة التعبير، لا تشيخ مع الزمن مهما اوغلت في الزمن، وهذه الحداثة
تعتبر القصيدة العمودية العربية - مثلا - ضمن دائرتها وقابلة لاحتضانها معنية
بتطلعاتها اذا ما توافر لها شاعر كبير مبدع مقتدر، كما تعتبر قصائد تنتمي الى
آداب مختلفة ومن عصور غابرة برزت فيها خصائص انسانية وفنية عالية المستوى هي
حديثة بالمعنى الفني اذا كانت لصيقة بالوجدان الانساني عبر اداء يتصف بالعمق
والبساطة اضافة الى نضارة التعبير وقوة التأثير اذا ماقورنت بحداثات حديثة
العهد، ينتمي كتابها الى العصر الذي نعيش، ولكنها مختلفة ولا اثر لها لركاكتها،
ولافتعال الشكل والمضمون - اذا وجد هذا المضمون - في معظمها رغم انها تلبس لبوس
الحداثة الفاقع اللون.
الا يوجد في الشعر العربي نماذج حية لمثل هذه الحداثة القديمة، الجديدة على
مستوى ابيات او قصائد أو اضاءات شعرية او مطولات؟
اما في الشعر المعاصر فنقع على نوعين هما:
الاول: حديث يتصف بافادته من الكنز الايقاعي الذي استنبطه وقعده الخليل بن احمد
الفراهيدي وبتجديده الواعي المرتبط بالجذور والمعبر عن شعور الفرد والجماعة
والبيئة والوطن، وبسعيه الحثيث على تأكيد الهوية العربية والاسلامية الحضارية
والالتفات الى قضايا المادة والروح معا، وبأشكال تتجاوز وتفيد من معطيات العصر
وينطبق على هذا النمط ذي الجذور الاصيلة مقولة الشاعرة نازك الملائكة بانه
الابن الشرعي للشعر العربي القديم، والامثلة كثيرة في نتاج عدد من الشعراء
المعاصرين ومن جميع الاجيال ولن يتحرج القارىء المبصر، القارىء الذواقة، في
تقديم امثلة تتسم بالمغامرة الواعية، والتجديد الاصيل بارتياد مواقع بكر ونفض
الغبار عن اسماء ومواقع ووقائع من التراث العربي والاسلامي اضافة الى التغلغل
في العصر الراهن والتعبير عن هذا وذاك باسلوب فيه الجدة والاضافة والابداع
والرؤية الخلاقة وبأسلوب يعنى اول ما يعنى بالهوية الحضارية والبحث عن الذات في
زحمة التحديات والصراعات والمخاضات، والشعر مهما قيل انه يهتم بذات الشاعر من
خلال رؤيا او هواجس، او تجريب حداثي او طقوس غامضة خاصة به، فانه اولا واخيرا
يستمد نسغ استمراره من تربة الواقع والتراث والانسانية.
وتتراوح قصائد هذه الكوكبة من الشعراء المعاصرين فنيا تبعا لموهبة كل شاعر
منهم، ولفهمه لما هية الشعر، ولدوره وغائيته.
اما النوع الثاني من الحداثة وهو على النقيض من الاول:
ينتمي الى حداثة تجد جذورها في تربة الغرب، اذ تمعن في هذا الطريق الى حد
التطرف، وترفض ما عداها من حداثات, لا ريب ان النموذج الغربي الشعري له خصائصه
وظروفه الموضوعية الخاصة به إذ جاءت السوريالية - مثلا - بعد مذاهب أدبية عديدة
افرزت العديد من المعطيات وعلى مدى سنوات وسنوات ولا ريب ان هذا النموذج فيه
معطيات ايجابية من الممكن الافادة منها إما ان يتبناها نفر من حداثيي العرب ذوي
الاهواء المتعاطفة معها، والاوضح بالتعبير ان يتخذها هؤلاء وثنا جديدا لا محيد
عنه، فتغدو حداثة الغرب هي الحداثة الاولى ولا حداثة سواها، وان تعتبر قصيدة
النثر ذات الاجواء الاجنبية المكتوبة بحروف عربية، هي البديل ولا بديل سواها
فهنا التغريب والغربة المقصودة والاستلاب الحضاري الذي يحتاج الى اكثر من وقفة
للنظر واعادة النظر وللمراجعة.
وهذا الاقتفاء واسبابه كثيرة، اشكالية عانى ويعاني منها الشعر الحديث في الوطن
العربي منذ الاربعينيات ومايزال والاقتفاء هنا ابعد من التأثر او المثاقفة
والافادة من الشعر العالمي.
ويسأل سائل: لماذا لا يكون التأثر - لا الاقتفاء - بالشعر الآخر الذي تتصف به
آداب الشعوب الاسلامية فيقف الادب الشرقي موقف الند امام الادب الغربي وغيره
ممن يعزم تعميم ثقافته لتستلب ثقافة الشعوب النامية ومنها الشعب العربي.
ان من يطلع على آراء اعلام الشعر العربي المعاصر فيما آل اليه هذا الشعر، هذا
النمط منه، سوف يتلمس مدى التململ والضيق من مغبة الامعان في شيء اسمه الحداثة
المتطرفة والا بماذا نفسر اقوال بعض من هم رواد الحداثة وصناعها على مدى عدة
عقود من السنين من هذه الاقوال ما قالته نازك الملائكة: يعاني شعرنا المعاصر
الحديث من مجموعة اشكالات منها: التعمية، والتقليد واخطاء الوزن، وضعف اللغة،
واستعمال اللغة العامية.
وما اشار اليه د, عبدالعزيز مقالح بربط ازمة الشعر الجديد بأزمة الثقافة
العربية عامة.
وما اطلقه محمود درويش حيث قال: ان هذا الذي يسمونه شعرا حديثا ليس شعرا,, وذهب
أبعد من ذلك فقال: الى حد يجعل واحدا مثلي متورطا في الشعر منذ ربع قرن ونيف،
مضطرا لاعلان ضيقه بالشعر واكثر من ذلك يمقته، يزدريه، لا يفهمه.
ولا يبرىء جبرا ابراهيم جبرا نفسه فيقول: إنني متخوف من انني - انا وجيلي -
مهدنا لهذا النوع من الشعر.
ويشير احمد عبدالمعطي حجازي الى الدائرة الايقاعية التي حصر معظم الشعر الحديث
نفسه فيها فيقول: تستطيع ان تقول الان وانت مطمئن، ان تسعين في المائة من الشعر
العربي خلال العشر سنوات التي مضت تكتب على بحر واحد هو المتدارك.
اما نزار قباني يتلمس ما هو فيه هذا الشعر الحديث فيقول: الشعر العربي واقع في
ازمة ثقة مع الناس.
كل هذا وغيره يضعنا - قراء ومبدعين - امام حقائق كانت - ولا ريب - نتائج فهم
خاطىء لما هية الحداثة، واستفحال النوع الثاني من حداثة التغريب، ويحثنا على
ابداع اصله ثابت وفرعه في السماء.