عن الشاعر | راسلنا | صوت الشعر | لقاءات | قراءات نقدية | قصة | مقالات أدبية | شعر |
النشوء والارتقاء في الشعر الحديث سيد جودة - مصر
لكل عصر ضروراته التي تشكل ماهيته، وتكون هذه الضرورات مغايرة في طبيعتها وفي طرق التفاعل معها عن مثيلاتها في عصور سابقة. هذا التجديد الدائم المتتابع كأمواج البحر جيلاً يخلف جيلاً والذي يحمل كل مرة نكهة فريدة في مذاقها لهو سر الاستمرارية والبقاء. نرى في علم الأحياء كيف يتكيف الحيوان مع الطبيعة التي يعيش فيه، فإن كان يعيش في طبيعة مائية ظهرت له زعانف وخياشيم، وإن كان في طبيعة جليدية غلظ فروه وابيض كلون الثلج، وإن كان في صحراء تلون بلونها واكتسب قدرة هائلة على تحمل العطش، وغير ذلك من الضرورات التي تجعله يتفاعل مع الطبيعة التي يعيش فيها. هل يختلف العلم عن الفن في هذه الجزئية؟ هل يحتاج الفن أيضاً إلى أن يتغير من حين لآخر ليناسب متطلبات عصره الدائمة التجدد؟ للوصول إلى الإجابة لا يجب علينا أن نتعامل مع الفن كشيء قائم بذاته في العالم الخارجي يمكننا أن نتناوله بأيدينا ونخضعه للفحص العلمي. الفن هو نتاج إنساني ودراستنا لتاريخه هو في الأصل دراسة لتاريخ الفكر البشري، ودراستنا لأي عمل فني هو تحليل لفكر ووجدان الإنسان بشكل عام حتى مع موت المؤلف، فتحليل العمل الفني هنا لا يكون بغية معرفة العالم الخاص للفنان بل معرفة ما الذي يشكل الوجدان الإنساني بشكل عام في فترة زمنية معينة وفي عصر معين. وعلى الرغم من أن الوجدان الإنساني قد يكون عاملاً مشتركاً بين كل الأجناس في كل الأزمنة إلا أن طرق التعبير عنه اختلفت من جنس لآخر ومن زمن لآخر بالنسبة للجنس الواحد. هذا يفسر تعدد مدارس الفن وتعدد طرق التعبير عن المعنى الواحد التي لم تقف أبداً عند مدرسة واحدة أو طريقة بعينها. من هذا المفهوم نجد أن الخصائص الجمالية للشعر اختلفت من شعب لآخر ومن عصر لآخر طبقاً لمتطلبات كل شعب وكل عصر على الرغم من وجود الوجدان الإنساني كعامل مشترك. إن تحدثنا عن الخصائص الجمالية للشعر العربي سنجد أن جماليات القصيدة الكلاسيكية تعتمد على اللغة القوية الرصينة وتقوم على بنيان موسيقي مجلجل صاخب، وتعتمد على جمال البيت الواحد الذي يأتي على شكل حكمة من السهل حفظها وترديدها وهذا الإيجاز من أهم جماليات القصيدة الكلاسيكية. الشاعر الكلاسيكي كالطائر المحلق ينظر للحياة من علٍ ويصف الأشياء على مجملها. حتى حين يقترب من تفاصيل دقيقة يكون حذراً وكأن الحديث عن هذه التفاصيل لا يناسب حديث الشعر الراقي. هذا وعروض القصيدة العمودية لا يجعلها تقترب بحرية من هذه التفاصيل دون التجني على لغة ومعاني القصيدة وسأتعرض لهذا لاحقاً. إذا انتقلنا إلى قصيدة التفعيلة سنجد أنها تعتمد أيضاً على الموسيقى وإن كانت لا تقارن بالقصيدة الكلاسيكية في هذا الشأن. من أهم خصائص قصيدة التفعيلة أنها ابتعدت عن اللغة الكلاسيكية واقتربت من اللغة السهلة السلسلة التي يكون جمالها الحقيقي في سلاستها. الموضوعات التي تناولتها قصيدة التفعيلة اختلفت كذلك عن الموضوعات التي تناولتها القصيدة الكلاسيكية نظراً للحرية الهائلة التي امتازت بها قصيدة التفعيلة في تباين طول البيت والتنوع في القوافي أو الاستغناء عنها والانتقال بين تفعيلة وأخرى إن شاء الشاعر التنوع الموسيقي بين فقرة وأخرى. أصبحت موضوعات قصيدة التفعيلة أكثر انغماساً في الحياة اليومية وأكثر قرباً من تفاصيلها وابتعدت عن الأحكام العامة التي كانت تطلقها القصيدة الكلاسيكية في شكل حكم ومواعظ. على عكس القصيدة الكلاسيكية لم تحلق قصيدة التفعيلة في الفضاء بعيداً عن احتياجاتنا الأرضية، فقد نزلت من عليائها وسارت في الأزقة والشوارع ودخلت البيوت واستقلت وسائل المواصلات وشاركت الناس همومهم في المصنع والشركة والبيت. كل هذا حاولته قصيدة التفعيلة دون أن تهمل موسيقى الشعر. كثيرٌ من التجارب نجحت وتجارب كثيرة لم تبتعد كثيراً عن القصيدة الكلاسيكية بل بدت في مظهرها تفعيلية ولكنها في جوهرها كلاسيكية في لغتها وصورها. قصيدة النثر كانت أكثر حرصاً من قصيدة التفعيلة على هذا الانغماس في الحياة اليومية فآثرت التخلي تماماً عن الموسيقى وآثرت ما يسمونه "الإيقاع"، على الرغم من عدم وجود أي إيقاع في قصيدة النثر فللإيقاع مفهوم آخر لا يتواجد أبداً في قصيدة النثر، وهذا ليس بعيب وليس بجريمة يجب أن يخجل منها شعراء قصيدة النثر لأنها في طبيعتها تقوم على دمج الشعر والنثر لخلق شكل إبداعي جديد. هذا ما حاولته نظرية ما بعد الحداثة فأصبحت الرواية تكتب بأسلوب شعري والشعر يكتب بأسلوب نثري، بل إننا نرى فقرات في رواية ما أكثر شاعرية من قصائد نثرية. هذا يتم عمداً طبقاً لما تقوم عليه نظرية ما بعد الحداثة. لهذا فإن غياب الإيقاع لا يعدّ جريرة يخجل منها شعراء قصيدة النثر الذين يحاولون نفيها وإثبات أن هناك إيقاعاً في قصيدة النثر ناسين أن محاولتهم هذه هي في حقيقة الأمر تنكر لما قامت عليه قصيدة النثر في المقام الأول. ولكن بعد أن حرصت قصيدة النثر على كتابة الشعر بأسلوب النثر وتخلت عن موسيقى الشعر، ما الذي تبقى لدى قصيدة النثر من وسائل تظهر جمالياتها بعد أن تخلت عن عنصرين هامين للشعر العربي ألا وهما اللغة والموسيقى؟ الإجابة على هذا السؤال لا تقتصر فقط على قصيدة النثر بل تتعداها لتشمل القصيدة الحديثة بشكل عام أياً كان شكلها الإبداعي. للحديث عن جماليات القصيدة الحديثة بأشكالها الثلاثة عمودية وتفعيلية ونثرية لا يجب أن نغفل ثلاثة أعمدة تقوم عليها: اللغة، والموسيقى، والصورة. لم تعد القصيدة الحديثة تعتمد على اللغة القوية الرصينة ولا على الموسيقى الهادرة، فكل هذا يعد من سمات القصيدة الكلاسيكية التي لم تعد تفي باحتياجات جيلنا وعصرنا. القصيدة الكلاسيكية يجب أن يبدأ الشاعر بكتابتها لأنها الأساس الذي يجب أن يبني عليه صرحه الشعري، ولأن هذه القصيدة الكلاسيكية بلغتها القوية والمتماسكة وموسيقاها الهادرة هي التي ستشكل وجدانه الشعري الأوليّ وتكون نواة لشاعريته، ولكن لا يجب عليه أن يقف عند هذا الحد! إن إتقان كتابة القصيدة الكلاسيكية لا غنى عنه لأي شاعر حقيقي، ولكن في ذات الوقت ليست هي الغرض من كتابة الشعر، فهي لا تعدو أن تكون مرحلة ابتدائية في كتابة الشعر لا يمكن أن يكتفي بها الشاعر الذي يريد لشعره أن يكون عالمياً ولا يكتفي فقط بإعجاب الجمهور بكلماته التي تغلب موسيقاها الصاخبة على معانيها التي تتعدى بالكاد الأفق الأول من مخيلة القارئ. وأنا هنا حين أتحدث عن القصيدة الكلاسيكية فأنا أقصد بناءها اللغوي وموسيقاها الصاخبة ولا أقصد بنيانها العمودي. قد يكتب شاعرٌ قصيدة عمودية بلا تقيد بقافية واحدة أو بلا تقيد بقافية على الإطلاق وبلغة لا تشبه في تركيباتها لغة الشعر الكلاسيكي القديم وبهذا يضيف جديداً إلى القصيدة العمودية من حيث المعاني والأفكار وكيفية الصياغة دون أن يكون محكوماً بقوالب ثابتة تتكرر على وتيرة واحدة تبعث على الملل. على الرغم من صعوبة هذه التجربة والتي تبدو لي قصيرة الأجنحة فلا تستطيع أن تحلق بالشاعر إلى آفاق بعيدة من الإبداع، إلا أنه من الهام عدم مهاجمة الشكل الشعري لمجرد عدم تقبله والأحرى أن ننظر إلى ما وراء المبنى من معنى وصور وخيال وعلاقات تنشأ بين الكلمات تثير الدهشة وتبعث على التأمل. كل هذا يجب توظيفه بشكل حديث. قد تنجح التجربة وقد لا تنجح إلا أن التجربة في حد ذاتها حق مشروع للشاعر. هذا الكلام عن اللغة والموسيقى جائز على قصيدة التفعيلة كذلك. أصبحت القصيدة الحديثة تعتمد أكثر ما تعتمد على الصورة الكلية التي ترسمها سواء أكانت هذه الصورة مجرد لقطة عابرة "سناب شوت" أو مجموعة لقطات سينمائية مسترسلة في لغة بسيطة يكون جمالها في قدرتها على رسم الصورة بإيجاز، ولا يكون جمالها في اللغة ذاتها أو في موسيقاها. الصورة هي التي تستطيع أن تظهر جمال القصيدة الحديثة شريطة أن تكون لغتها خالصة من اللغو، أي من الكلمات التي يستخدمها الشاعر لمجرد إنهاء البيت بها كقافية، أو لمجرد استحسانه للموسيقى التي تحدثها دون أن تضيف جديداً للمعنى. كلما كانت لغة القصيدة رشيقة ويصعب حذف أو استبدال كلمة منها كانت هي اللغة المثالية لمعاني القصيدة. إن شاء الشاعر أن يعبر عن هذا في ظل موسيقى تضيف جمالاً إلى جمال صوره ولغته فيجب أن يكون من القدرة والتمكن في توظيف الموسيقى للتعبير عن معانيه دون أن تكون الموسيقى هي الهدف من كتابة القصيدة، فتبهت المعاني والصور وتترهل اللغة بما لا يغني من الكلمات. القصيدة الحديثة قوامها اللغة الرشيقة الممشوقة والموسيقى الهادئة الخافتة وقبلهما تأتي الصورة الملتقطة من الحياة والممزوجة بفكر الشاعر ومشاعره، فهي وإن كانت صورة من العالم الخارجي إلا أنها يجب أن تكون متصلة بالعالم الداخلي للشاعر فيصبغ عليها الشاعر من فكره ومشاعره ما يجعل الصامت ناطقاً والجامد متحركاً. وهكذا نجد أنه بينما كانت القصيدة الكلاسيكية تعتمد على اللغة والموسيقى والصورة بهذا الترتيب من حيث الأهمية، نجد أن القصيدة الحديثة صارت تعتمد على نفس هذه العناصر ولكن بالترتيب العكسي أي الصورة أولاً ثم اللغة ثم الموسيقى. إن اهتم شعراؤنا العموديون والتفعيليون والنثريون بالصورة في شعرهم كأهم عنصر جمالي في الشعر الحديث ستكون النتيجة شعراً عالمياً لأن جمال الصورة هو الذي سيبقى بعد ترجمة القصيدة للغة أخرى. أما عن جمال اللغة وسحر الموسيقى فيظلان حبيسَيْ القصيدة لا يبرحانه، وكما شرحت فيما سبق اختلفت خصائص جمالهما وأفسحا مكانهما للصورة في القصيدة الحديثة تماشياً مع مبدأ النشوء والارتقاء واستمرارية للوجود الإبداعي!
|