ف |
شعر مترجم |
أدونيس - سورية
( 1 )
أبدأ بالكلام على أوهام
الحداثة. ذلك أنها أوهام تتداولها الأوساط الشعرية العربية وتكاد. على المستوى
الصحفي- الإعلامي. أن تخرج بالحداثة عن مدارها، عدا أنها تفسد الرؤية وتشوه
التقييم. ( 2 )
تلك هي، في ما يخيل إلي،
أوهام لا يصح الكلام على الحداثة الشعرية العربية إلا بدءا من نقضها وإبطالها. ولا
بد، في هذا السياق، من الإشارة إلى ظاهرة شبه مرضية في الوسط الثقافي العربي، هي
ظاهرة اتهام الشاعر العربي الحديث بتقليد الحداثة الغربية، وتقليد شعرائها، وبنقل
مفهوماتها، والحكم تبعا لذلك على الحداثة الشعرية العربية، بأنها غير "أصيلة" وليست
لها قيمة شعرية أو فنية. وغالبا ما يكون هذا الحكم قائما على الاجتزاء، وعلى الجهل
بالشعر الغربي، والشعر العربي معا. بودلير، مالارميه: إنهما، نظريا وشعريا، أساس
الحداثة في الشعر الفرنسي. لكنهما لم يأخذا مفهوم الحداثة من "التراث" الفرنسي،
وإنما أخذاه من الولايات المتحدة- من إدغار ألن بو. أكثر من ذلك: إن مدار آرائهما
في الشعر هو نفسه مدار آرائه، حتى أنهما يتبنيان أفكاره نفسها. ( 3 )
إذن، ما حقيقة الحداثة؟
ويصدر هذا الموقف عن إيمان
بتساوق النية الفنية والبنية الاقتصادية- الاجتماعية في المجتمع، بحيث تكون الأولى
انعكاسا أو في أبعد تقدير مواكبة للثانية. غير أن هذا الموقف تمليه مقتضيات
إيديولوجية بحتة، بحجة الوفاء للتراث والارتباط به، حينا، وبحجة الوفاء للجماهير
والارتباط بها، حينا آخر.
( 4 )
يبدو في ضوء ما تقدم، أن
البحث في الحداثة الشعرية العربية آخذ في دفعنا باتجاه مأزق لا مخرج منه. وهذا
صحيح، ظاهريا لكن هذا المأزق سرعان ما يتكشف عن الجادة، حين نعود بالبحث إلى مداره
الصحيح. وينهض هذا المدار على جلاء ثلاث قضايا: ( 5 )
نأتي الآن إلى القضية
الثانية، قضية التعارض: شرق/غرب. ( 6 )
لنفصل، قليلا، هذه الأفكار
العامة.
لنلاحظ، ثالثا، في ضوء ما
تقدم- أي في ضوء الماضي والحاضر، أن التعارض شرق/ غرب. وبتحديد أخص: شرق عربي-
إسلامي/ غرب أوروبي أميركي، ليس تعارضا من طبيعة حضارية، خصوصا أن في الغرب أنواعا
كثيرة من الغرب أكثر انحطاطا من أي انحطاط مشرقي، وأن في الشرق أنواعا كثيرة من
الشرق أكثر تقدما من أي تقدم غربي. ( 7 )
نصل الآن إلى القضية
الثالثة. وفي الكلام عليها ينبغي أن نسارع أولا إلى التوكيد على التعارض شرق/غرب،
حدث عارض، وأنه من مستوى إيديولوجي- استعماري، وأننا حين نرفض الغرب اليوم لا يجوز
أن نرفضه إلا على هذا المستوى. أما إبداعاته الحضارية فيمكن أن نأخذها، بخصوصيتنا
الحضارية، تماما كما فعل هو، بالنسبة إلى ما أخذه عنا سابقا. ( 8 )
طبيعي أن الدعوة إلى انقلاب
في فهم الحداثة الشعرية العربية تقتضي الدعوة إلى انقلاب مماثل في نقد هذه الحداثة.
وأود هنا أن أكتفي بإيجاز المبادئ الأساسية لهذا النقد الحديث، كما تبدو لي.
وأوجزها في خمسة:
( 9 )
بعد إيضاح الحداثة العربية
ومشكليتها، ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة. فالحداثة انتقال نحو سمة.
رؤية ما. حساسية ما. تشكيل ما، ليست الغاية وليست في حد ذاتها، ولذاتها قيمة،
بالضرورة. الأساسي هو الإبداع من أجل مزيد من الإضاءة، من الكشف عن الإنسان
والعالم. (بيروت، 1979) (.. بعد ثلاث عشرة سنة) ( 1 )
قلت: "ينبغي التأسيس لمرحلة
جديدة: نقد الحداثة "(بيان الحداثة" 1979) في فاتحة لنهايات القرن، دار العودة،
بيروت 1980)، وهو قول يبدو الآن أكثر صحة وضرورة منه في أي وقت مضى، خصوصا أن مفهوم
الحداثة يزداد التباسا، وأن الكلام عليها يكاد أن يصبح لغوا. و ها هي الكتابة التي
تقوم على "قصيدة النثر" تكاد أن تسقط في الآلية والاتباعية كما كان الشأن في
القصيدة الوزنية التقليدية. والحق أن النظر إلى ظاهرة الخروج على الوزن والقافية
كما لو أنها تنطوي بحد ذاتها على الحداثة هو في أساس ذلك الالتباس وهذا اللغو. ( 2 )
لا أظن أن أحدا يمكن أن
يقول أن رينه شار، مثلا، أو سان- جون بيرس، أو ميشو، أو جوف، أو بونج، أو بريتون،
أو بونفوا، أو دوبوشيه أكثر حداثة من هيراقليطس أو نيتشه أو هولدرلين أو غوته أو
رامبو أو بودلير أو مالارميه أو لوتريامون إلا بالمعنى الزمني. (3 )
الحداثة في إطار الموروث
العربي- الإسلامي، تحديدا، وبالقياس إلى الماضي، وبوصفها إبداعية، إنما هي حركة،
ودلالتها الغالبة إذن كامنة في التغيير والفروقات، لذلك لا يمكن أن تكون نظرية
محددة، أو قواعد وقوانين محددة. إنها كمثل أفق يهيمن بأضوائه وبأبعاده، على فضاء
الحاضر دون أن يمحو فضاء الماضي. فمع أنها قطيعة معه بالضرورة فهي استمرار له،
بالضرورة. ذلك أن كل ابتكار لجمال جديد في اللغة، لا يمكن إلا أن يستند إلى قديمها
الجمالي. فاللغة كيان ولا نقدر أن نجدده إلا من داخله، من داخل عبقريته، وجماليته،
وخصوصيته. إن كنت حديثا حقا، فأنت تحيا داخل هذا الكيان- لا إلى جواره، أو خارجه،
أو على هامشه، - أي أنك تحيا في بهاء القديم وفي طاقاته الفنية التي لا تستنفد. وكل
كلام على الحداثة ينبغي أن يتم في إطار هذه الإحاطة وهذه الكلية وهذه الرؤيا
الشاملة. ( 4 )
في هذا الأفق، يبدو الكلام
على قطيعة جذرية وشاملة مع التراث أو الماضي، كلاما لا ينهض على أي أساس شعري أو
معرفي. ( 5 )
قلت الحداثة "فرق" لكن
"مضمون" هذا الفرق يعمق ويتسع ويتعقد بحيث يكاد أن يحجب "التاريخ" أو "الماضي"، من
حيث أن "الحاضر" هو الميدان الذي يتأصل فيه هذا الفرق. ربما كان هذا الحجب في أساس
ما يدفع بعضهم إلى الكلام على "الرفض و"الانقطاع" ذلك أن هؤلاء لا يدركون سر
الإبداعية وسر حركيتها، فهم أسرى المظهر الخارجي الذي يخضع للرؤية المباشرة التي
توجهها الأهداف والمصالح المباشرة السياسية والثقافية والاجتماعية. ( 6 )
نلاحظ مع ذلك أن القضية
الأساسية في الحداثة لم تعد تكمن في كتابة الشعر وزنا أو نثرا، وإنما أصبحت تكمن في
الأفق الكشفي- المعرفي الذي تؤسس له هذه الكتابة، داخل التاريخ العربي، من جهة،
وخارجه- في تاريخ الإنسان المعاصر، من جهة ثانية. ( 7 )
ليست الحداثة الشعرية من
هذا المنظور مجرد بنى وتشكيلات كلامية، فهي تفترض بدئيا، معرفة الشاعر العربي نفسه
بوصفه ذاتا، وبوصف هذه الذات لغة، وبوصف هذه اللغة أداة كشف، وإفصاح، وإيصال. هذه
الإحاطة المعرفية بالذات، والتي هي الشرط الأول والبدهي لكتابة الحداثة تعبيرا عن
الذات، إنما هي في الوقت نفس، الشرط الأول البدهي للعلاقة الخلاقة مع الآخر. ( 8 ) نستخدم جميعا في كلامنا على الشعر، اليوم عبارة الشعر العربي الحديث، والحداثة الشعرية العربية بيقين الواضع يده على الحقيقة، وباطمئنان، فمن أين يجيء هذا اليقين وهذا الاطمئنان؟ إن قيل لنا مثلا: إن "كلمتي "حديث" و "حداثة" استعارة من الآخر الأجنبي شأن كلمات وأشياء أخرى كثيرة، إن قيل إنهما عبارتان ألصقناهما على نتاجنا الشعري اليوم، بعد أن حملناهما الدلالات نفسها التي تحملهما عن ذلك الآخر الأجنبي، وأخذنا ننتقد ونقوم نتاجنا في ضوئهما، إن قيل لنا ذلك، فما يكون ردنا؟ واستطرادا، هل يكون شأننا مع هاتين العبارتين، كما هو شأننا، مع عبارات أخرى نعرفها جيدا، كمثل الثورة والديمقراطية، والحرية والإشتراكية، وغيرها؟ نكتب عنها الكتب، ونقيم لها الندوات، والمهرجانات، وباسمها ندين، ونبرئ، نحكم ونحاكم، وليس لها مع ذلك وجود حي في المجتمع، ولا تمارس على أي مستوى. إنها موجودة على الورق وبين الشفاه، لا غير. كيف إذن نغامر في الكلام على قضية لم تبدأ بأن نطرح حولها السؤال المعرفي الضروري: هل ما يسمى بالحداثة في الشعر العربي حداثة حقا، وهل هذا الشعر الذي يوصف بالحديث حديث حقا؟ كيف نصف شعرا بأنه حديث إذا كان لا يسير في الأفق المشكلي التساؤلي الذي تفتحه كلمة "حديث" أو "حداثة" بمفهومها المعروف، سواء على صعيد الكينونة وجودا وعدما، أو على صعيد العلاقة بين الكلمة والشيء، أو على صعيد السلطة ورموزها في مختلف أنواعها،ومستوياتها وبخاصة غير السياسية، أو على صعيد البنية التعبيرية، أو على صعيد القارة شبه العذراء في الكتابة العربية، قارة الجسد، بأبعادها وأعماقها وتخومها- من الرغبة والحلم والصبوة واللعب والعبث والمعنى والسر، وهذه الكيمياء التي تخترق هذا كله وتتموج محيطا بلا حدود؟ أليس من الأوليات إذن أن نتحقق من وجود الشيء قبل أن نشرع بوصفه وتحليله؟ ( 9 ) يتعذر فهم الظاهرة في الأعمال الكتابية التي ندعوها حديثة. إذا لم نفهم بنيتها الباطنة، وهذا ما يستلزم جلاء لما أسميه بالتباسات الحداثة في المجتمع العربي. منها على سبيل المثال: الالتباس التأويلي المرتبط بثقافة الوحي والذي يقيس الحياة والفكر والأدب على الوحي، فكما أنه لا تحديث في الوحي وهذا طبيعي، كذلك لا تحديث في هذه جميعا، وهذا أمر غير طبيعي. ومنها التباس الخصوصية والأصالة والأصل، وهل هذا الأخير في الشعر العربي والحياة العربية واحد أم متعدد؟ ومنها التباس الهوية ومفهوم الآخر، وهل الحداثة تطابق مع الهوية، وكيف يكون هذا التطابق؟ أم أن الحداثة انشقاق؟ وكيف؟ ولماذا؟ ( 10 )
لنقم ببعض المقارنات بين
الحداثة في الغرب وما نسميه الحداثة في المجتمع العربي، نشأت الحداثة في الغرب في
تاريخ من التغير عبر الفلسفة والعلم والتقنية ونشأت الحداثة العربية في تاريخ من
التأويل، تأويل لعلاقة الحياة والفكر بالوحي الديني وبالماضي إجمالا. ( 11 )
لا تنشأ الحداثة مصالحة،
وإنما تنشأ هجوما، إذن، في خرق ثقافي، جذري وشامل، لما هو سائد. وراء الحداثة إذن
رؤية شاملة لمشروع ثقافي، حضاري شامل، ما هذه الرؤية التي توجه ما نسميه بالحداثة
الشعرية العربية؟ إن هذه الحداثة على افتراض وجودها كما قلت تتحرك في إطار ثقافي،
مهيمن، هاجسه الأول، الأساس، هو ديننة الدنيا، والحداثة في دلالتها البدهية الأولى
دنيوَة لا ديننة، وفي هذا ما يدفعني إلى أن أوصل كلامي إلى طرفه الأقصى زاعما أن
الحداثة بوصفها حركة أو جزءا عضويا من بنية الثقافة العربية والشعرية العربية، غير
موجودة في الشعر العربي أو التذوق العربي، أو الحساسية العربية، بل أن الذهن العربي
السائد يرى أن الحداثة أو الحديث لا يجيئان من الذات، وإنما من الآخر الأجنبي، ذلك
أن وراء القول بالحداثة أو الحديث دعوى الإتيان بشيء لم تأت به الرؤية العربية، وهي
إذن دعوى تتهم هذه الرؤية بالنقص وتشكك في صحتها. هكذا نتحدث عن ظاهرة وعن مفهوم
ينبذهما جوهريا النظام المعرفي الذي نكتب بلغته، ونمارس قيمه، ويؤسس لحياتنا
وفكرنا، عنيت الحداثة والحديث. والسؤال هو: لماذا ننسى، أو نتناسى، جميعا هذا
النظام المعرفي، في كلامنا على الحداثة والحديث؟ فهذا النظام هو وجودنا نفسه. أليس
تناسيه، إذن، نوعا من التوهم؟ هكذا، كلنا نبدو كأننا نفكر ونكتب توهما. لذلك لا
نقدر أن نبني شيئا، ولن نقدر أن نغير شيئا. كأننا نعيش بعقل الآخر، وأدواته،
وتذوقه، داخل قفص اسمه الذات. أفلن نخرج أخيرا إلى الحقيقة؟ هذه الحقيقة هي تجاوز
العائق المعرفي، هي الجهر بتفكيك هذا النظام،وتجاوزه، هي الجهر بنهاية المطلق، دون
هذا الجهر والسير فكريا بمقتضياته، لا يمكن في نظري، أن يكون في المجتمع العربي
حداثة ولا فكر حديث، بل لا يمكن أن يكون هناك فكر، بحصر المعنى، وما نسميه اليوم
بالفكر العربي الذي يدور في فلك هذا النظام المعرفي، ويقوم بكليته على خطابية
المعنى النهائي ومذهبيته ووثوقيته سواء في السياسة أو الثقافة أو الشعر، والذي
يتصاعد في ما يشبه الصلوات التي تبشر بمستقبل يوجهه الماضي ويهيمن عليه، ليس فكرا
وإنما هو نوع بائس من الوعظية البائسة. ( 12 )
يطيب لي أن أوصل كلامي في
هذا الصدد أيضا إلى أقصاه، إذا أخذنا الحداثة في الغرب معيارا، فمن الممكن القول:
ليست الحداثة وحدها غير موجودة في الحياة العربية، وإنما الشعر نفسه هو كذلك غير
موجود، وأعني طبعا بوصفه رؤية تأسيسية وبوصفه فاعلية معرفية كشفية قائمة بذاتها.
إننا نعرف جميعا، أن الشعر بدءا من الوحي، في الأديان التوحيدية جميعا، لم يعد رؤية
تصوغ الوجود، وإنما أصبح وسيلة لتزيين الموجود أو تقبيحه وفقا لأخلاقية الوحي
ومعاييرها. بهذا المعنى، وفي إطاره تحديدا، يمكن القول، وأقول بأن الوحي أنهى
الشعر، وبأن الشعر مات بدءا من الوحي السماوي. ومعنى موت الشعر هنا، هو أنه ل م يعد
بالنسبة إلى مجتمع يؤمن بالوحي الشكل الأعلى الذي تفصح به الحياة أو الحقيقة عن
نفسها، ولم يعد الشكل الذي يلبي الحاجة الضرورية للاتصال مع الكون والآخر. لكن أن
يكون الشعر انتهى أو مات بوصفه رؤية تأسيسية، أمر لم يحل دون نموه في المجتمع
الإسلامي بوصفه وسيلة. هكذا وضع الإسلام الشعر على الحدود، لا داخل المدينة ولا
خارجها، بين بين، وقد نما على هذه الحدود، لا بوصفه تأسيسا معرفيا، بل بوصفه تجميلا
أو تقبيحا للوجود كما أشرت. هكذا همش الإسلام الشعر مغيرا دوره الأساس. وبما أن
هيمنة الإسلام على العقل، كانت أكثر منها على الحياة والجسد، فقد أتيح للشعر أن
يستمر، لكن في مناخ من الصراع، كان يقصى حيث ينافس الدين، ويفاد منه، حيث يتولد عنه
ما يسيء للدين إنما بقي في الوقت نفسه، هامشيا لقول حقائق لا يرضى عنها الدين كليا
أو لم يقلها. وساعد في ترسيخ هذا الهامش، التطور المعرفي والاجتماعي الذي عرفه
العرب، بين بداية القرن الثاني الهجري وأواسط القرن الخامس، هكذا ألحق الشعر
بالحادثة، والشيء: الحادثة العابرة التي تذوب في زمنية الذاكرة، والشيء الجزئي الذي
يذوب في الشيء النموذج. لم تعد للشعر قيمة، إلا بوصفه ماضيا أو تذكيرا بالماضي.
الإنسان نفسه في الرؤية الدينية السائدة، لا قيمة له إلا بوصفه ماضيا، يستعيد زمن
الوحي ويتطابق معه، بل ليس هناك في هذه الرؤية أي معنى للمستقبل إلا بوصفه ماضيا،
ولا وجود له بوصفه إمكانا لنشوء حقائق جديدة تغاير الحقائق الماضية. ( 13 )
كانت الرؤية الخليلية لفن
الشعر ترجمة دقيقة للرؤية الدينية. كانت بينهما مطابقة شبه كاملة: فقد أخضعت
القواعد والأشكال في الشعر لمبدأ مطلق وثابت تماما، كما هي الحال في الحياة والفكر
بالنسبة للوحي. فقد وضع الخليل معيارا أساسيا واضحا ومطلقا شأن المعيار الديني،
يقاس عليه الشعر، ويميز به الشعر من اللاشعر. إن في ذلك ما قد يوضح لنا استطرادا،
غياب تاريخ حقيقي للشعر العربي حتى اليوم. فليس هناك حتى الآن مثل هذا التاريخ،
علما بأن الشعر العربي هو أقدم شعر متواصل في العالم الحديث. وسيطرة هذه المعيارية
هي التي سمحت بالكلام على انحطاط ونهوض في الشعر، مما لا مثيل له في العالم كله،
لأنه كلام، يناقض الشعر من حيث أنه ينظر إليه كما ينظر إلى العلم بوصفه كما
تراكميا، أو كما ينظر إلى الدين بوصفه بعدا عن الأصل- النموذج أو قربا منه. الشعر
لا يوصف بالانحطاط أو التقدم على المستوى التاريخي، بل بالشعرية أو اللاشعرية.
الانحطاط مثلا في الشعر العربي كان مبدأ حداثة من حيث أنه كان تحطيما للنمذجة وخلقا
للغة يومية في مستوى الأشياء اليومية. ثم إن الشعر حتى في أوج كماله يعيش في أزمة. ( 14 ) الحداثة هي بالضرورة انشقاق وهدم من حيث أنها تنشأ عن طرق معرفية لم تؤلف، وتطرح قيما لم تؤلف. إن الانشقاق جزء عضوي من الوحدة، لا يجوز أن نخاف منه، والهدم وجه آخر للبناء. وتتضمن الحداثة الرفض والتمرد من حيث أنها تتخلى عن التقليد، ومفهومات الأصول والأسس والجذور والمعايير الثابتة. والحق أننا نحن العرب اليوم لا نخلق حداثتنا الخاصة في القرن العشرين بقدر ما نعايش قليلا أو كثيرا نهايات الحداثة التي خلقها بعض أسلافنا الهامشيين في القرنين التاسع والعاشر. والحداثة مقرونة بالاختلاف والفاجع من حيث أنها تتعارض مع السائد من مفهومات الهوية والوحدة والثبات والنهائية وتؤكد على القطيعة والكثرة والتنوع والتحول والتفتح المستمر واللانهائية. ونقول أخيرا لا حداثة على المستوى النصي الإبداعي أو على مستوى التنظير، خارج هذا التمزق المعرفي. وما عدا ذلك مما يسميه بعضهم حداثة ليس إلا تقليدا آخر، ليس إلا مرضا آخر في قلب تاريخنا الذي أنهكته الأمراض.
(باريس، 1992)
|
|
|
|