ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

بيان الحداثة  1979- 1992

أدونيس - سورية

 

( 1 )

أبدأ بالكلام على أوهام الحداثة. ذلك أنها أوهام تتداولها الأوساط الشعرية العربية وتكاد. على المستوى الصحفي- الإعلامي. أن تخرج بالحداثة عن مدارها، عدا أنها تفسد الرؤية وتشوه التقييم.
أوجز هذه الأوهام في خمسة. توهم بثلاثة منها مقتضيات التطور الثقافي، بعامة. أما الاثنان الآخران فتوهم بهما مقتضيات فنية، بخاصة.
الوهم الأول هو الزمنية. فهناك من يميل إلى ربط الحداثة بالعصر، بالراهن من الوقت، من حيث أنه الإطار المباشر الذي يحتضن حركة التغير والتقدم أو الانفصال عن الزمن القديم. والتقاط هذه الحركة، شعريا، أي رصدها وفهمها والتعبير عنها، دليل كاف بحسب هذا الميل، على الحداثة. ومن الواضح أن هؤلاء ينظرون إلى الزمن على أنه نوع من القفز المتواصل، وعلى أن ما يحدث الآن متقدم على ما حدث غابرا، وعلى أن الغد متقدم على الآن.
والواقع أن هذه نظرة شكلية تجريدية، تلحق النص الشعري بالزمن، فتؤكد على اللحظة الزمنية لا على النص بذاته، وعلى حضور شخص الشاعر، لا على حضور قوله. وهي، من هنا تؤكد على السطح لا على العمق، وتتضمن القول بأفضلية النص الراهن، إطلاقا، على النص القديم. وخطأ هذه النظرة كامن في تحويل الشعر إلى زي. أعني انه كامن في إغفالها أمرا جوهريا هو أن حداثة الإبداع الشعري غير متساوقة، بالضرورة، مع حداثة الزمن. فإن من الحداثة، ما يكون ضد الزمن، كلحظة راهنة. ومنها ما يستبقه، ومنها ما يتجاوزه أيضا، فحين يهزنا اليوم شعر امرئ القيس، مثلا، أو المتنبي، فليس لأنه ماض عظيم، بل لأنه إبداعيا يمثل لحظة تخترق الأزمنة. فالإبداع حضور دائم. وهو بكونه حضورا دائما، حديث دائما.
ومعنى ذلك، بالتالي، أن ثمة شعرا كتب في زمن ماض ولا يزال، مع ذلك حديثا، فالشعر لا يكتسب حداثته بالضرورة، من مجرد زمنيته، وإنما الحداثة خصيصة تكمن في بنيته ذاتها. استطرادا، يمكن القول في أفق هذا المنظور، إن امرأ القيس، مثلا، في كثير من شعره أكثر حداثة من شوقي في شعره كله، وإن في شعر أبي تمام، كمثل آخر حساسية حديثة ورؤيا فنية حديثة لا تتوافران عند نازك الملائكة.
الوهم الثاني هو ما أسميه بوهم المغايرة. ويذهب أصحاب هذا القول إلى أن التغاير مع القديم، موضوعات وأشكالا، هو الحداثة أو الدليل عليها. وينتج عن هذا الوهم القول بآراء حول بنية القصيدة، وحول الوزن ووحدته الإيقاعية، وحول مضموناتها، تغاير آراء النقاد القدامى. ويكفي الشاعر في منظور هذا الوهم أن يصنع قصيدة تغاير، بموضوعها وشكلها، القصيدة الجاهلية أو العباسية، لكي يكون حديثا. وهذه نظرة آلية تقوم على فكرة إنتاج النقيض. وهي، شأن النظرة السابقة. تحيل الإبداع إلى لعبة في التضاد. تلك تضاد الزمن بالزمن، وهذه تضاد النص بالنص. وهكذا يصبح الشعر تموجا ينفي بعضه بعضا، مما يبطل معنى الشعر ومعنى الإبداع، على السواء.
الوهم الثالث هو ما أسميه بوهم المماثلة ففي رأي بعضهم أن الغرب مصدر الحداثة، اليوم بمستوياتها المادية والفكرية والفنية. وتبعا لهذا الرأي لا تكون الحداثة خارج الغرب، إلا في التماثل معه. ومن هنا ينشأ وهم معياري تصبح فيه مقاييس الحداثة في الغرب، مقاييس للحداثة خارج الغرب.
وهذه نظرة تصدر عن إقرار مسبق بتفوق الغرب، ولهذا فإن أصحابها والدائرين في فلكها ينعون دائما على الشعر العربي تخلفه وتقصيره عن اللحاق بالشعر الغربي، كما ينعون على الحياة العربية، إجمالا، تخلفها وتقصيرها عن الحياة الغربية.
لكن، ألا تبدو المماثلة هنا استلابا كاملا- أي ضياعا في الآخر حتى الذوبان؟ والحق أن شعر المماثلة مع الخارج المحتذى ليس إلا الوجه الأكثر إغراقا في ضياع الذات لشعر المماثلة مع الموروث التقليدي المحتذى. فالعربي، اليوم، الذي ينتج شعر المحاكاة للقديم، إنما يعيد إنتاج الوهم الأسطوري- التراثي، ولا يبدع شعر ذاتيته الواقعية الحية. والعربي الذي يكتب اليوم شعر المماثلة مع الآخر الغربي، لا يكتب شعره الخاص، وإنما يعيد إنتاج شعر ذلك الآخر.
الممارسة هنا وهناك استلاب. لذلك تقتضي الحداثة قطعا مع التأسلف ومع التمغرب في آن. من أجل كتابة الذات الواقعية الحية، وقد وعت فرادتها وخصوصيتها إزاء الآخر، وتمثلت، بنقد جذري إبداعي، أسطورتها التراثية- الأبوية، وتجاوزتها- أي انطلقت، بدءا منها، إلى أبعاد جديدة.
الوهم الرابع، شأن الوهم الخامس، فنيان يرتبطان عضويا بوهمي المماثلة والمغايرة، أسمّي الأول وهم التشكيل النثري، وأسمي الثاني وهم الاستحداث المضموني. وهذان رائجان، اليوم. وهم النثر استغراق في المغايرة- المماثلة. ووهم المضمون استغراق في الزمنية.
من الناحية الأولى يرى بعض الذين يمارسون كتابة الشعر نثرا أن الكتابة بالنثر، من حيث هي تماثل كامل مع الكتابة الشعرية الغربية، وتغاير كامل مع الكتابة الشعرية العربية، إنما هي ذروة الحداثة. ويذهبون في رأيهم إلى القول بنفي الوزن، ناظرين إليه كرمز لقديم يناقض الحديث.
إن هؤلاء لا يؤكدون على الشعر بقدر ما يؤكدون على الأداة. النثر، كالوزن، أداة، ولا يحقق استخدامه، بذاته، الشعر. فكما أننا نعرف كتابة بالوزن لا شعر فيها، فإننا نعرف أيضا كتابة بالنثر لا شعر فيها. بل إن معظم النثر الذي يكتب اليوم على أنه شعر لا يكشف عن رؤية تقليدية وحساسية تقليدية وحسب، وإنما يكشف أيضا عن بنية تعبيرية تقليدية. وهو لذلك ليس شعرا، ولا علاقة له بالحداثة. وهذا ما ينطبق أيضا على معظم الشعر الذي يكتب، اليوم، وزنا.
ولعلنا نعرف جميعا أن قصيدة النثر، وهو مصطلح أطلقناه "في مجلة" شعر إنما هي، كنوع أدبي- شعري، نتيجة لتطور تعبيري في الكتابة الأدبية الأميركية- الأوروبية.
ولهذا فإن كتابة قصيدة نثر عربية أصيلة يفترض، بل يحتم الانطلاق من فهم التراث العربي الكتابي، واستيعابه بشكل عميق وشامل، ويحتم من ثم، تجديد النظرة إليه وتأصيله في أعماق خبرتنا الكتابية- اللغوية، وفي ثقافتنا الحاضرة. وهذا ما لم يفعله إلا قلة. حتى أن ما يكتبه هؤلاء القلة لا يزال تجريبيا، فكيف يكون الأمر، والحالة هذه، مع الذين يقتنصون هذا التجريب، ويعرشون عليه، بانقطاع كامل عن لغة الكتابة الشعرية العربية، في عبقريتها الخاصة، وفي نشأتها ونموها وتطوراتها؟
أخيرا، يزعم بعضهم، انسياقا وراء وهم استحداث المضمون، أن كل نص شعري يتناول إنجازات العصر وقضاياه هو، بالضرورة نص حديث. وهذا زعم متهافت. فقد يتناول الشاعر هذه الإنجازات وهذه القضايا برؤيا تقليدية، ومقاربة فنية تقليدية، كما فعل الزهاوي والرصافي وشوقي، تمثيلا لا حصرا، وكما يفعل اليوم بعض الشعراء، باسم بعض النظرات المذهبية الإيديولوجية. فكما أن حداثة النص الشعري ليست في مجرد زمنيته، أو مجرد تشكيليته، فإنها كذلك ليست في مجرد مضمونيته.
 

( 2 )

تلك هي، في ما يخيل إلي، أوهام لا يصح الكلام على الحداثة الشعرية العربية إلا بدءا من نقضها وإبطالها. ولا بد، في هذا السياق، من الإشارة إلى ظاهرة شبه مرضية في الوسط الثقافي العربي، هي ظاهرة اتهام الشاعر العربي الحديث بتقليد الحداثة الغربية، وتقليد شعرائها، وبنقل مفهوماتها، والحكم تبعا لذلك على الحداثة الشعرية العربية، بأنها غير "أصيلة" وليست لها قيمة شعرية أو فنية. وغالبا ما يكون هذا الحكم قائما على الاجتزاء، وعلى الجهل بالشعر الغربي، والشعر العربي معا. بودلير، مالارميه: إنهما، نظريا وشعريا، أساس الحداثة في الشعر الفرنسي. لكنهما لم يأخذا مفهوم الحداثة من "التراث" الفرنسي، وإنما أخذاه من الولايات المتحدة- من إدغار ألن بو. أكثر من ذلك: إن مدار آرائهما في الشعر هو نفسه مدار آرائه، حتى أنهما يتبنيان أفكاره نفسها.
رامبو: أليس شعره مليئا باقتباسات وأفكار وأقوال يأخذها من مصادر متنوعة وفي مقدمتها المصادر المشرقية؟.
واقرأوا دانتي أو شكسبير أو غوته: ألا تجدون في نتاجهم عبارات وأفكارا وآراء مأخوذة من تراث شعوب مختلفة، ونتاج شعراء مختلفين؟
كذلك يمكن القول بالنسبة إلى هولديرلن ونرفال وشار وميشو وجوف وسان- جون بيرس، لكي لا نسمي إلا عددا من الكبار.
وماياكوفسكي؟ هل أخذ مفهوم الحداثة الشعرية من التراث الروسي، أم أنه أخذه، علىالعكس، من بودلير ورامبو ومالارميه؟
كذلك إليوت: لم يأخذ مفهوم الحداثة من التراث الإنكليزي، وإنما أخذه من بودلير ولافورغ وكوربيير. فهل هناك قارئ/ ناقد يقيم أحدا من هؤلاء بما "أخذه" عن غيره؟ أو يقول عنه إنه خرج على تراثه؟ ثم أليس من المسكنة العقلية، حين نتحدث عن هؤلاء، أن نقف عند فكرة أو عبارة اقتبسوها، ونتهمهم أنهم سارقون مقلدون؟
وما يصح على هؤلاء، يصح على شعرائنا العرب: أبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء لكي نسمي أيضا غلا عددا من الكبار.
وما يصح على هؤلاء، يصح على شعرائنا العرب: أبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء لكي لا نسمي أيضا إلا عددا من الكبار.
لقد أدخل هؤلاء ما أخذوه واقتبسوه في نسق مغاير خاص، وصهره كل منهم في نظام من العلاقات متميز وخاص به. وإنه لجهل كامل بالشعر، أن نجتزئ، حين ننقدهم فكرة من هنا وقولا من هناك، داخل نتاجهم ونصدر أحكامنا عليهم، وإنما يجب أن نكتشف النسق العام لهذا النتاج، ونظام علاقاته- ومن ثم نصدر أحكامنا.
ينبغي على القارئ/ النقاد، إذن أن يواجه في تقييم شاعر ما ثلاثة مستويات، مستوى النظرة أو الرؤيا، مستوى بنية التعبير، مستوى اللغة الشعرية.
يتصل المستوى الأول بما لدى الشاعر من الخاص المميز الذي يفرده عن غيره من حيث أنه يقدم صورة جديدة للعالم الذي يعيش فيه والعالم ككل. ويتصل المستوى الثاني بما لديه من الخاص المميز أيضا في إعطاء هذه الصورة بنية تعبيرية جديدة، بالقياس إلى موروثة.
ويتصل المستوى الثالث بما لديه من طاقة خاصة مميزة في أن يؤسس باللغة العامة التي هي ملك الجميع، ، كلاما خاصا به متميزا.
ويصح الكلام على تقليد حين نجد شاعرا يحول أحد هذه المستويات عند شاعر آخر إلى نمطية يتلبسها ويكررها. وأبسط ما يقال في صاحب هذا التنميط هو أنه ليس لديه ما يقوله، وليست لديه لغة شعرية خاصة، وإن كانت لديه، أحيانا، براعة التنميط.
لكن ،ما التنميط المقصود هنا؟
إنه ليس في مجرد الكتابة وزنا أو نثرا، فلو كانت الكتابة بمجرد شكل كتابي سابق تنميطا، أي تقليدا، لكانت كتابتنا اليوم، بالوزن والنثر على السواء، تقليدا، الكتابة بالوزن أو بالنثر ليست بذاتها امتيازا أو خصوصية، وإنما الامتياز والخصوصية في نظام التعبير، أي في عالم العلاقات الذي يبدعه الشاعر. ذلك أن التنميط يمكن أن يكون في الوزن وفي النثر.
التنميط، إذن هو إعادة إنتاج العلاقات نفسها: علاقة نظرة الشاعر بالعالم والأشياء، وعلاقة لغته بها، وبنية تعبيره الخاصة التي تعطي لهذه العلاقات تشكيلا خاصا.
أن يكون أبو تمام، مثلا، كتب بنظام الشطرين لا يعني أنه يقلد حسان ابن ثابت وأن يكتب اليوم الشاعر بنظام الشطر الواحد لا يعني أنه يقلد نازك الملائكة أو السياب. كذلك يصح القول نفسه فيما يتصل بالكتابة نثرا،خارج نظام التفعيلة. فأن يكتب شاعر عربي بنظام قصيدة النثر لا يعني أن كتابته "متقدمة" على قصيدة الوزن، أو أنه يقلد بودلير أو رامبو أو سان- جون بيرس. وما ينطبق هنا على "طريقة" الكتابة، وزنا أو نثرا، ينطبق أيضا على "الموضوعات": فليس مجرد الكتابة عن العبث أو الموت أو البعث أو الخراب أو الحب والجنس.. الخ، تقليدا للشعراء الذين كتبوا سابقا حول هذه "الموضوعات".
ومن هنا نجد تباينا بين شعراء يصدرون عن نظرة واحدة للعالم (مسيحية، مثلا، أو وجودية، أو ماركسية). ويكتبون بطريقة واحدة: وزنا، أو نثرا.
نقول عن شاعر إنه تنميطي، أي مقلد، حين يكرر العلاقات ذاتها التي ابتكرها شاعر آخر، ولا نقول عنه ذلك لمجرد كتابته بالوزن مثله، أو بالنثر، أو لمجرد التقائه معه في النظرة إلى العالم. فأن يصدر شاعر عربي، مثلا، عن اللاوعي والحلم لا يعني بالضرورة أنه يقلد السوريالية.
يعني ذلك أن "العناصر" "(النثر، الوزن، الأفكار.. الخ) ليست ابتكارا لشاعر محدد، وإنما هي موجودة، موضوعيا، وجود الأشياء. ولهذا فإن استخدامها لا يكون سرقة أو تقليدا، لكنه، بالمقابل، لا يكون إبداعيا إلا إذا خلق بنية جديدة، ونظاما جديدا من العلاقات.
ومن هنا لا يمكن الشاعر أن يجدد إذا لم يكن متأصلا في عبقرية لغته (لكي يعرف كيف يصهر العناصر التي يستخدمها، ويحولها إلى طبيعة اللغة التي يكتب بها). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا يقيم الشاعر بنوع كتابته، سواء كان نثرا أو وزنا، أو بفكرة أو أفكار تجتزئها من نتاجه، وإنما يقيم برؤياه ككل، ونظامه الفني ككل، وعالم العلاقات التي يبتكرها.

( 3 )

إذن، ما حقيقة الحداثة؟
لا أزعم، أن الجواب عن هذا السؤال أمر سهل. فالحداثة في المجتمع العربي إشكالية معقدة، لا من حيث علاقاته بالغرب وحسب، بل من حيث تاريخه الخاص أيضا. بل يبدو لي أن الحداثة هي إشكاليته الرئيسية.
لكن، مع أن الجواب ليس سهلا، فإنني سأحاول أن أتلمس جوابا ما. من أجل ذلك أود أن أشير أولا إلى أن الحداثة الشعرية العربية لا تقيم إلا بمقاييس مستمدة من إشكالية القديم والمحدث في التراث العربي، ومن التطور الحضاري العربي، ومن العصر العربي الراهن، ومن الصراع المتعدد الوجود والمستويات، الذي يخوضه العرب، اليوم.
وأود ثانيا، أن ألجأ إلى شيء من التبسيط، فأقسم الحداثة إلى ثلاثة أنواع: الحداثة العلمية، وحداثة التغيرات الثورية- الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، والحداثة الفنية. علميا، تعني الحداثة إعادة النظر المستمرة في معرفة الطبيعة للسيطرة عليها، وتعميق هذه المعرفة وتحسينها باطراد.
ثوريا، تعني الحداثة نشوء حركات ونظريات وأفكار جديدة، ومؤسسات وأنظمة جديدة تؤدي إلى زوال البني التقليدية القديمة في المجتمع وقيام بني جديدة.
وتعني الحداثة فنيا، تساؤلا جذريا يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها، وافتتاح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية، وابتكار طرق للتعبير تكون في مستوى هذا التساؤل. وشرط هذا كله الصدور عن نظرة شخصية فريدة للإنسان والكون.
تشترك مستويات الحداثة هنا، مبدئيا، بأنواعها الثلاثة، في خصيصة أساسية هي أن الحداثة رؤيا جديدة، وهي، جوهريا، رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد. فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع، وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها. غير أن هذه المستويات وإن ائتلفت، مبدئيا، فإنها تختلف وتتفاوت تطبيقيا، وذلك تبعا للصعوبات والمراحل. وبما أن المستويين الأول والثاني يعنيان بتغيير الواقع مباشرة، فإن الصعوبات والمعوقات أمامهما أكثر بكثير منها أمام المستوى الثالث، مستوى الحداثة الفنية، الذي لا يعني بتغيير الواقع، إلا بشكل مداور. ولهذا نرى أن إمكان التغير على هذا المستوى أسهل وأسرع، وليس من الضروري أن يرتبط، عكسا أو طردا، بالمستويين الأولين.
ما مدى حضور هذه المستويات وما مدى فاعليتها في الحياة العربية؟ إن نظرة تحليلية سريعة تكفي للإجابة. فليس في المجتمع العربي حداثة علمية. وحداثة التغيرات الثورية: الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، هامشية لم تلامس البنى العميقة. لكن، مع ذلك، وتلك هي المفارقة، هناك حداثة شعرية عربية. وتبدو هذه المفارقة كبيرة حين نلاحظ أن الحداثة الشعرية في المجتمع العربي تكاد أن تضارع، في بعض وجوهها الحداثة الشعرية الغربية. ومن الطريف أن نلاحظ، في هذا الصدد، أن حداثة العلم في الغرب متقدمة على حداثة الشعر، بينما نرى، على العكس، أن حداثة الشعر في المجتمع العربي متقدمة على الحداثة العلمية- الثورية. هكذا تبدو الحداثة الشعرية العربية لكثير من العرب كأنها جسم غريب مستعار. وفي هذا ما قد يفسر أسباب عدائهم لها، ورفضهم إياها، ورمي ممثليها بمختلف التهم التي تبدأ بالغموض وتنتهي بتهمة تقليد الغرب مرورا بتهمة هدم التراث أو التنكر له.

ويصدر هذا الموقف عن إيمان بتساوق النية الفنية والبنية الاقتصادية- الاجتماعية في المجتمع، بحيث تكون الأولى انعكاسا أو في أبعد تقدير مواكبة للثانية. غير أن هذا الموقف تمليه مقتضيات إيديولوجية بحتة، بحجة الوفاء للتراث والارتباط به، حينا، وبحجة الوفاء للجماهير والارتباط بها، حينا آخر.
غير أن المقتضى الإيديولوجي هنا لا يحجب حركة الواقع أو يشوهها وحسب، وإنما يحجب أيضا حركة الإبداع الشعرية ويشوهها. وهو ينسى أو يتناسى أن الشعر،والفن بعامة، هو جوهريا رؤيا احتجاج وممارسة احتجاج. ومن هنا التفاوت الطبيعي، أي الضروري، بين البنية الاقتصادية- الاجتماعية والبنية الفنية في المجتمع. لا يمكن بمعنى آخر، قياس التطور الفني على التطور الاقتصادي- الاجتماعي. ذلك أن الحدث الاقتصادي- الاجتماعي حدث مراوحة نفي الزمان والمكان يستنفد بغاياته العملية المباشرة، بينما الحدث الشعري حدث تجاوز لا يستنفد. فالإبداع الشعري هو تحديدا، استباق وحيث تنشأ نتاجات شعرية تتآلف مع البنية الاقتصادية- الاجتماعية السائدة وتعكسها، فإن نصيب هذه النتاجات من الإبداعية والفنية يكون سطحيا ضحلا، بحيث تتحول إلى وثائق اجتماعية مكتوبة بتوهم الشعر. هذا هو مثلا مصير ما سمي في تراثنا الشعري بشعر الرثاء والهجاء والمدح، فنحن، اليوم نقرأ فيه الوثيقة الاجتماعية- السياسية أكثر مما نقرأ الكشف الشعري أو الرؤيا الشعرية. وهذا هو نفسه مصير معظم الشعر العربي المعاصر الذي يسمى خطأ بالحديث، والذي يصور أو يعكس وهم الحداثة الثورية، أي وهم التغير الاقتصادي- الاجتماعي- السياسي. فهذا الشعر يكتب خارج الواقع الحي، وخارج اللغة الشعرية.
لم يعد أحد ينكر الترابط بين ما يسمى بالبنية الفوقية وما يسمى بالبنية التحتية لكن الخلاف لا يزال قائما حول كيفية هذا الترابط. وهو خلاف لم يعد محصورا بين الماركسيين وغير الماركسيين، وإنما أصبح قضية رئيسية للجدل في ما بين الماركسيين أنفسهم.
لا أذكر اسم العالم الاقتصادي الماركسي الذي يصف الاقتصاد بأنه علم متاخم أو علم المتاخمة. أعني أنه يتصل بعلوم إنسانية متعددة- علم الاجتماع، علم الإنسان (الأنتروبولوجية) التاريخ، التربية، وهو يتصل بالإضافة إلى ذلك، بالثقافة وتاريخها.
بل يبدو لكثير من علماء الاقتصاد أن من المتعذر فهم أية مشكلة اقتصادية. فهما عميقا محيطا، دون الاستناد إلى هذا الإطار الواسع من العلوم الإنسانية. ذلك أن الاقتصاد ليس معادلات ذهنية أو رياضية. فالاقتصاد السياسي مثلا علم يعنى بالحياة الاجتماعية، وعلى الأخص بجانب من جوانبها الأكثر أهمية: الإبداع الإنساني، وكل تجديد وكل تغيير في القطاع الاقتصادي يكشفان عن إبداع، كالإبداع الفني ذاته. أضف إلى ذلك أن تطور التقنية خلق نوعا عميقا من العلاقة بين النتاج الاقتصادي والنتاج الفني يتمثل، على الأخص، في الشكل. فلقد أصبح الشكل قضية رئيسة في كل نتاج معاصر، بل أصبح قضية رئيسة حتى في الآلة نفسها. هكذا يبدو الاقتصاد شأنا اجتماعيا معقدا، يرتبط بالحياة الإنسانية، ككل، والإبداع في أساس الاقتصاد. وحين أشدد على الإبداع في الاقتصاد أشير إلى ما يؤكده علماء الاقتصاد المعاصرون وفي طليعتهم بعض الماركسيين، من أن القواعد، والوصفات والتعليمات، والحدود، تؤدي إلى خنق الحركية الاقتصادية، أي تؤدي بالتالي إلى كبح التقدم الاجتماعي. إذا كان ما تقدم صحيحا في الاقتصاد نفسه، فبالأحرى أن يكون أكثر صحة في الفن. ومعنى ذلك أنه لا يمكن أن نقيس النتاج الأدبي بمقاييس النتاج المادي، وأن المبادئ التي تحلل بها الظواهر العلمية هي غير التي تحلل بها الظواهر الأدبية.

( 4 )

يبدو في ضوء ما تقدم، أن البحث في الحداثة الشعرية العربية آخذ في دفعنا باتجاه مأزق لا مخرج منه. وهذا صحيح، ظاهريا لكن هذا المأزق سرعان ما يتكشف عن الجادة، حين نعود بالبحث إلى مداره الصحيح. وينهض هذا المدار على جلاء ثلاث قضايا:
القضية الأولى تتصل بإشكالية نشوء الحداثة في المجتمع العربي.
والقضية الثانية تتصل بإشكالية التعارض: شرق/غرب.
والقضية الثالثة تتصل بمعنى الحداثة الشعرية العربية، وبخصوصيتها.
أما عن القضية الأولى، فلعلنا نعرف أن المحدث الشعري العربي نشأ كخروج على محاكاة النموذج القديم، أي نموذج النظم كما تمثله القصيدة الجاهلية، والذي سمي في المصطلح النقدي بـ: "عمود الشعر" ويتضمن هذا الخروج تمردا على معيارية ترسخت قيميا وفنيا، واتخذت طابعا اجتماعيا- ثقافيا، ذا بعد سلطوي. لكن هذا المحدث نشأ بفعل الضرورة التي فرضتها المرحلة التاريخية- الحضارية، وليس بمجرد الرغبة في معارضة القديم. فهذه المرحلة واجهت الشاعر بمشكلات وأسئلة لم تطرحها المرحلة الجاهلية. وهذا ما فرض عليه أن يعيد النظر في اللغة الشعرية الجاهلية، وطرق التعبير المألوفة، وأن يبتكر طريقته الخاصة، ويستخدم اللغة بشكل جديد.
يمكن القول إذن إن الحداثة الشعرية العربية نشأت في مناخ أمرين مترابطين: إكتناه اللحظة الحضارية الناشئة، واستخدام اللغة- أي التعبير بطريقة جديدة يتيح تجسيدا حيا وفنيا لهذا الإكتناه.
ونخلص من هذا إلى مبدأ أساسي هو أن الحديث لا يمكن أن ينشأ إلا بنوع من التعارض مع القديم، من جهة، وبنوع من التفاعل مع روافد من تراث شعب آخر. وهذا ما تنطق به الحضارة العربية، ككل. فهذا الذي نسميه الحضارة أو الثقافة العربية التي نضجت في العصر العباسي، إنما هي في أعمق أبعادها، جسد مغاير للجسد الثقافي الجاهلي. إنه مزيج تأليفي من الجاهلية والإسلام، تراثيا، ومن الآخر- الهند وفارس واليونان، تفاعليا- أي مما كان يشكل النتاج البشري الأكثر حضورا وفاعلية، بالإضافة إلى العناصر الأكثر قدما مما ترسب في الذاكرة التاريخية: سومر، وبابل، وآشور في صورها الآرامية- السريانية.
وفي هذا أعطت الفاعلية الإبداعية العربية المثل النموذجي الأول: لا يمكن أن تقوم لشعب ما، ثقافة بذاتها ولذاتها، في معزل عن ثقافات الشعوب الأخرى. فثقافة كل شعب حضاري إنما هي تأثر وتأثير، أخذ وعطاء؛ حركة من التفاعل. وتكون الحضارة تأليفا من هذا التفاعل أو لا تكون. كذلك أعطت الفاعلية الإبداعية العربية المثل الآخر وهو أن شرط هذا التفاعل أن يتسم بالإبداعية والخصوصية في آن. وقد نقل العرب هذا المزيج التأليفي الإبداعي الخصوصي، في ذروته العليا، إلى الآخر- وهو هنا الغرب- عبر الأندلس.
ما الحداثة، في هذا المستوى الذي عرضناه؟ إنها التغاير: الخروج من النمطية والرغبة الدائمة في خلق المغاير. والحداثة، في هذا المستوى، ليست ابتكارا غربيا. لقد عرفها الشعر العربي، منذ القرن الثامن، أي قبل بودلير ومالارميه ورامبو، بحوالي عشرة قرون. وهي، لذلك، ليست "مستوردة"، وليست "فطرا" وإنما هي ظاهرة أصيلة، عميقة في حركة الشعر العربي. ويمكن التأريخ للشعر العربي، بدءا من بشار بن برد، من زاوية الصراع أو "الجدل" بين "القديم" و "المحدث" (وهذان مصطلحان عربيان "قديمان")، وهذا هو، كما أرى، التأريخ الشعري الحقيقي الذي لم يكتب حتى الآن، ويشكل غيابه ظاهرة مهمة للدراسة.
الحداثة، إذن ملازمة للقدم في كل مجتمع وفي كل مرحلة. ومن الطبيعي أن تختلف أبعادها وأشكالها من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى زمن. إن سياقها ودلالتها عند الشاعر الفرنسي، مثلا هما غيرهما عند الشاعر الإنكليزي أو السوفياتي أو الأميركي. كذلك لسياقها ودلالتها، عند الشاعر العربي خصوصية متميزة. لذلك لا تبحث الحداثة، في المطلق، كمفهوم مطلق. فالحداثة هي دائما حداثة شعر معين في شعب معين في أوضاع تاريخية معينة. والحديث في هذا الشعب ينشأ، بالضرورة، في بعض وجوهه، من القديم فيه. هذا صحيح وبدهي. لكن من الصحيح والبدهي أيضا أنه لا ينشأ إلا كشجرة تمتد غصونها في الاتجاهات كلها. "الأخذ" وحده، فطر لا يلبث أن يموت: لا جذور له، ذلك أنه ليس نتاج الذات، بل نتاج الآخر. لكن القديم إذا لم يتفجر، ويتوالد، ويتجاوز نفسه، لا يلبث هو كذلك أن يفقد نفسه الحي، ويتحجر وتصبح الذات في عزلة عن الآخر، أي تتحول إلى قبر.
الحداثة، في هذا المنظور، هي الاختلاف في الائتلاف:
الاختلاف من أجل القدرة على التكيف، وفقا للتغيرات الحضارية، ووفقا للتقدم.
والائتلاف من أجل التأصل والمقاومة، والخصوصية. الاختلاط المفرط عن تراث اللغة التي يكتب بها الشاعر، هو الموت- أي هو التبخر كالدخان، بالقياس إلى نار هذه وجمرها. الائتلاف المفرط هو الموت أيضا- أي التخثر كالحجر.
كأن الحداثة أن تخلق النظام فيما تمارس الفوضى. أو كأنها أن تجرح فيما تلأم.
على هذا المستوى، تبدو الحداثة صراعا دائما. وهي تأخذ في المجتمع طابعا حادا أو هادئا، جذريا أو إصلاحيا، بحسب ظروف هذا المجتمع، وبحسب أوضاعه. ومن هنا تبدو الحداثة كأنها حركة إلى الأمام لا تنتهي في قديم يحاول أن يكون حركة إلى الوراء لا تنتهي.
لكن يجب أن نلاحظ ونعترف أنه حدث خلل في هذا السياق التاريخي، بدءا من سقوط بغداد تحت سنابك هولاكو. ويتمثل هذا الخلل في قطعين كبيرين: الأول هو القطع العثماني، والثاني هو القطع الغربي. بالقطع العثماني انفصل العرب عن أفق الإبداع الحضاري، وبالقطع الغربي، انفصلوا عن هويتهم الحضارية، وإذا كان خطر القطع الأول يتمثل في تعميم الظلامية وترسيخها، فإن خطر القطع الثاني يتمثل في تعميم نور زائف.
ومن هنا يبدو ما سميناه بـ"عصر النهضة" كأنه فراغ أو تجويف داخل التاريخ الثقافي العربي. وهو فراغ بوجهين: الوجه الأول هو فراغ القطع مع عناصر الحيوية والتقدم في الماضي العربي، والوجه الثاني هو فراغ القطع مع عناصر الحيوية والتقدم في الحاضر الغربي.
من الناحية الأولى، ارتماء عشوائي في أحضان الحضارة الغربية. فقد اغترفنا منها معظم نظرياتنا الفلسفية والأدبية والثورية- وبخاصة أفكار القومية والعلمانية والاشتراكية والماركسية والشيوعية والرأسمالية. وغمرتنا هذه الحضارة، فوق ذلك، باقتصادها وأبعادها السياسية الاستعمارية. وبرز العلم بتطبيقاته الاستهلاكية على الأخص، يسيطر علميا على الحياة العربية. وهكذا نقلنا المنجزات ولم نأخذ الموقف العقلي الذي أدى إليها. ومن هنا بدأ المجتمع العربي، بشكل عام، كأنه عربة تتجرجر، مترنحة، في قطار الهيمنة الغربية.
أما من الناحية الثانية فالتصاق جنيني بالماضي، لكن بمستوياته الأكثر تقليدية والأكثر ارتباطا بالنظام الذي ساد، والذي كانت القوى الحية في المجتمع العربي قد تجاوزته.
وفوق ذلك، نظر إلى هذا الماضي كأنه حقيقة العرب وشخصيتهم وهويتهم، وكأنه الكامل المطلق. وهكذا أعيد إنتاج أشكاله وأفكاره، اجترارا وتكرارا.
وفي هذا بدأ الإنسان العربي كأنه كائن غير تاريخي: ضائع بين استحداثية تستلب ذاتيته، واستسلافية تستلب إبداعيته وحضوره في الواقع الحي.
من الناحية الأولى أخذ يتكلم على الواقع بلغة ليست منه، ومن الناحية الثانية أخذ ينظر إلى العالم نظرة غير تاريخية. وتتوج هذا الضياع بهشاشة البنية العربية التي كشف عنها الاستيطان الصهيوني ومصاحباته الاقتصادية والسياسية، وكشف عنها امتلاك لطاقة بترولية هائلة هو في جوهره تسول هائل. وهذا كله ولد هاوية مأساوية بين الواقع والممكن، وبين الفعل والقول، أدت في الممارسة إلى ما يشبه انهيارا عربيا شبه كامل: على صعيد الأنظمة، انحسار بشكل أو آخر أمام الهجوم الصهيوني أدى إلى ازدياد الهيمنة الإمبريالية على الحياة العربية،وعلى صعيد الشعب، خيبة مريرة ويأس يكاد أن يكون ساحقا.
نخلص من ذلك إلى أن هذا الخلل لا يجوز أن يحجب عنا كون الحداثة إشكالية عربية قبل أن تكون غربية. فهي تعود إلى بداية القرن السابع، أي قبل حوالي تسعة قرون من نشوئها في الغرب. نضيف إلى ذلك أنها نشأت في الغرب بتأثير من مسأليتها في الحضارة العربية. إن استدعاء هذا الواقع التاريخي الذي يتناساه معظم الذين يتكلمون على الحداثة العربية، وبخاصة الشعرية، يتيح لنا أن نطرح مسألة الحداثة الشعرية العربية، بعيدا عن هيمنة الآراء والنظريات المشتقة من قضايا الحداثة الغربية، بحيث نقيمها استنادا إلى مقاييس مستمدة من إشكالية القديم والمحدث في التراث العربي نفسه.

( 5 )

نأتي الآن إلى القضية الثانية، قضية التعارض: شرق/غرب.
ففي الأصل لا "غرب" لا "شرق". في الأصل الإنسان، سائلا، باحثا. بدأ السؤال والبحث، وجودا ومصيرا، في حوض المتوسط الشرقي، ومن ضمنه سومر/بابل. ثم أصبحا نظاما فكريا، ومشروع أجوبة، متكاملة وشاملة في أثينا.
من هذا الحوض كذلك، جاءت الرؤيا الدينية: اليهودية وبعدها المسيحية- مشروع أجوبة أخرى. وهيمن الجواب المسيحي، و "غزا" ما وراء المتوسط: "الغرب".
ثم جاء الإسلام بأجوبته التي تحتضن ما تقدمها، وتكملها.
أوروبا نفسها "تسمية" مشرقية- فينيقية: أي أنها "اكتشاف" أو "ابتكار" مشرقي، - (أليس اسمها هو نفسه اسم الإلهة الفينيقية" أوروب "كما تقول الأسطورة- أي كما يقول الخيال/الواقع؟).
الانفصال إلى "شرق" و "غرب" في الشكل الراهن، معنى: صورته "التدين"، وأساسه التسيس- التعيش، أي "الاستعمار". ومنذ الحروب الصليبية، تم الانفصال، وبدأ يأخذ شكله الإمبريالي- الرأسمالي مع توسعات "النهضة" الأوروبية.
كان، في أثناء ذلك، يتم على المستوى الحضاري، انفصال آخر بين "العقل" و "القلب" اختارت أوروبا العقل، بل "ألهته"- ارتباطا بأثينا أرسطو. وبالغت في توحيده "فوصلت إلى التقنية.
الإبداع، أساسا، ليس تقنية. ذلك أن التقنية تطبيق. إعادة إنتاج فهي لا تحقق شيئا إلا بتحويل مادة معطاة، وإلا استنادا إلى مخطط- نموذج التقنية مشروطة بالنموذج، الموجود، أوليا، قبل التطبيق.
الإبداع هو التحقيق دون نموذج. الإبداع نموذج ذاته. وفي حين تستند التقنية إلى تحليل الواقع، وتجزئته، أي الفصل بين النموذج والواقع، فإن الإبداع يفترض، أوليا، عدم الفصل بين النموذج والواقع، المادة والشكل.
التقنية "تقدم" في إعادة إنتاج النموذج. الإبداع ليس تقدما تقنيا أو نموذجيا، إنه انبثاق- اكتشاف للأصل لا نهاية له.
إبداعيا، أعني على مستوى الحضارة بمعناها الأكثر عمقا وإنسانية ليس في الغرب "شيء" لم يأخذه من الشرق. الدين، الفلسفة، الشعر (الفن، بعامة) "شرقية كلها. ويمكنكم أن تستأنسوا بأسماء المبدعين في هذه الحقول، بدءا من دانتي حتى اليوم.
فخصوصية "الغرب" هي التقنية، لا الإبداع. لذلك يمكن القول إن الغرب، حضاريا، هو ابن للشرق. لكنه، تقنيا، "لقيط": انحراف- استغلال، هيمنة، استعمار، إمبريالية، إنه، في دلالة أخرى، تمرد على الأب. وهو الآن لم يعد يكتفي بمجرد التمرد، وإنما يريد أن يقتل الأب.
لا وسيط في الإبداع، بين العدم والاسم. أن تولد وأن تسمي فعل واحد. الإبداع كلمة/ فعل، فعل/ كلمة. إنه سديم يتمرأى، يتصور ذاته. إنه تأسيس على الهاوية- أي انخراط بدئي في قوى الكون الحية. أمام "الفكر الغربي "يأخذك" النظام"، "النسق"، "المنهج" أمام "الفكر الشرقي"، تشعر، على العكس، أنك في حضرة الهاوية، حضرة السديم. الخلاق المشرقي هو نفسه سديم. لذلك تشعر، إزاءه، كأنك مأخوذ بالرعب.
هكذا يرسي "الفكر الغربي" الواقع في أفق المادة، ويرسيه "الفكر الشرقي" في أفق الوحي، أي أفق اللغة- الخيال.
يحاول الأول أن ينظم المحدود، ويحاول الثاني أن يحدد ما لا يمكن تحديده، وأن يقبض على ما يتعذر القبض عليه- على ما يظل مبدأ وأصلا.
لهذا كانت الإبداعات الكبرى في الغرب، سواء كانت دينية أو فنية أو فلسفية. تجاوزا للتقنية، أي "شرقية" الينابيع. إنها نوع من شرقنة الغرب.
في الراهن تاريخيا، يستسلم الفكر الغربي لشيطان التقنية. أما "الفكر الشرقي" العربي- الإسلامي) فإنه يستسلم لشيطان الاستبداد، تقليدا أو نظاما. كلاهما في حالة "استقالة" - استقالة من سؤال الوجود والمصير. استقالة من "المبدأ و "الأصل" وانخراط في الآلة وأشيائها.
لكن، هناك يقظة ما في الغرب: أعظم ما في الفكر الغربي، اليوم هو تفكيك" الغرب" وهيدغر هو المفكك الأعظم. لهذا أصف هيدغر بأنه "غربي" "الولادة" شرقي الأصل و "التكّون".
استمرار الانحطاط في "الفكر الشرقي" "(العربي- الإسلامي) عائد إلى أنه ليس إلا إسقاطا تقنيا- أي إلى أنه ليس إلا سقوطا. وهذا السقوط يتزايد بقدر ما تتزايد الهيمنة التقنية (الإمبريالية) - "الغربية". يبدأ هذا الفكر بتفكيك ذاته، أو لا يكون أبدا.
في الأصل، لا "غرب" لا "شرق".
في الوقع الراهن: "الغرب" هو الشكل وحشيا، يبحث عن لطافة المعنى. أما "الشرق فهو المعنى وحشيا، يبحث عن لطافة الشكل.
وجهان لمشكلة واحدة.
أخوان يبحثان.

( 6 )

لنفصل، قليلا، هذه الأفكار العامة.
على المستوي الحضاري العام، نلاحظ أولا أن الحضارة الغربية هي بمعنى ما استجابة عالية للتحدي الذي طرحته الحضارة العربية- الإسلامية على أوروبا، بدءا من الدفعة التأسيسية في العالم المتوسطي- المشرقي: ما بين النهرين، ووادي النيل، وحوض المتوسط الشرقي، وهي دفعة أعطاها الإسلام طابعها الأخير، وأكملها بل إن الحضارة اليونانية كانت استجابة أوروبية أولى لهذا التحدي. ومعنى ذلك أن الإبداعات الإنسانية هي، جوهريا، شراكة إنسانية.
نلاحظ ثانيا، أن العالم كله اليوم يعيش في مناخ حضارة كونية واحدة. ليس هناك اليوم حضارة فرنسية، مثلا بالمعنى الحصري القومي الدقيق، أو حضارة روسية أو ألمانية أو صينية، وإنما هناك، ضمن هذه الحضارة الكونية الواحدة، خصوصيات واضحة أو غامضة، لا تبعا لدرجة العراقة التاريخية لدى الشعوب، بل تبعا لدرجة حضورها الإبداعي وهذا يعني أن الحداثة هي، بدورها، مناخ عالمي- مناخ أفكار وأشكال كونية، وليست مجرد حالة خاصة بشعب معين. إنها حركة عامة وشاملة. وفي هذه الحركة تشارك جميع الشعوب، بشكل أو آخر، قليلا أو كثيرا،والمشاركة تعني التقاء وإئتلافا، كما تعني الافتراق والاختلاف. والمسالة إذن هي مسألة الإبداع والخصوصية في هذا المناخ العام، وليست مسالة رفضه أو الانفصال عنه.
وفي هذا الإطار يحسن أن نذكر بما يراه اختصاصي في مباحث الحضارة، هو المفكر الفرنسي هنري دولا باستيد، إذ يقول: "لقد انتهى مفهوم الحضارة العربية. وما من رؤيا للمستقبل تكون لها قيمة، من الآن فصاعدا، إلا إذا تضمنت قيم الحضارات الخمس الكبرى في العالم: الأوروبية (الفكر) العربية (اللغة)، الهندية (الحركة)، الصينية - اليابانية (الإشارة)، الإفريقية (الإيقاع) وهؤلاء الذين سيشحنون الكلام أو الريشة بالفاعلية والتأثير الأكثر عمقا سيكونون الخلاقين الذين أمضوا قسطا من حياتهم في اختيار القيم الأصيلة لهذه الحضارات المختلفة.
ولعل هذا الرأي أن يجد ما يتممه في رأي آخر للفيلسوف الفرنسي بول ريكور يحدد خصائص هذه الحضارة الكونية، ويوجزها في خمس:
 

  1. العلم (الذي يكشف عن وحدة البشر، عقليا، من حيث المبدأ).

  2. التقنية (من حيث أنها تطوير للأدوات التقليدية، انطلاقا من ممارسة العلم الواحد، ومن حيث أنها اختراع تكشف كذلك عن وحدة البشر، عقليا).

  3. العقلانية السياسية (التي تتجلى في نشوء الدولة الحديثة، كتقنية سياسية واحدة، عبر تعددية الأنظمة السياسية وتباينها).

  4. العقلانية الاقتصادية (التي تتجلى في نشوء تقنية اقتصادية واحدة، فيما وراء التباين بين الرأسمالية والاشتراكية).

  5. عقلانية الطراز الحياتي (ويتجلى هذا الطراز في توحيد الشكل، شكل الملبس والمسكن، على الأخص، وتتجلى هذه العقلانية في تقنية الإنتاج والمواصلات والعلاقات، والرفاهية، وأوقات الفراغ، والراحة. بتعبير آخر إن نشوء ثقافة استهلاكية ذات طابع عالمي يؤدي إلى نشوء طراز حياتي عالمي واحد).

لنلاحظ، ثالثا، في ضوء ما تقدم- أي في ضوء الماضي والحاضر، أن التعارض شرق/ غرب. وبتحديد أخص: شرق عربي- إسلامي/ غرب أوروبي أميركي، ليس تعارضا من طبيعة حضارية، خصوصا أن في الغرب أنواعا كثيرة من الغرب أكثر انحطاطا من أي انحطاط مشرقي، وأن في الشرق أنواعا كثيرة من الشرق أكثر تقدما من أي تقدم غربي.
الإسلام نفسه في طليعة ما يؤكد لنا ذلك. فهو في جوهره، أو كما أفهمه على الأقل، ليس شرقيا ولا غربيا، وإنما هو كوني، والمسلم إذن لا يجزئ العالم إلى شرق وغرب، شمال وجنوب، في ممارسة الإسلام دينا وثقافة، وإنما يتجه إلى الكون كله، إلى البشر جميعا كوحدة إنسانية.
يؤكد ذلك أيضا الفن بعامة، في الغرب، والشعر بخاصة. فالشعر الغربي الحديث في ذرواته العليا هو نوع من الكفاح لتجاوز الغرب- أي نوع من الانتماء إلى الشرق، أو نوع من شرقنة الغرب. إن شعرية الشعر الغربي العظيم تتصل بخصائص مشرقية: النبوة، الرؤيا، الحلم، السحر، العجابية، التخييل، اللانهاية، الباطن أو ما وراء الواقع. الإنخطاف، الإشراق، الشطح، الكشف..الخ.
بودلير، مثلا، من صانعي الرؤيا الشعرية الغربية الحديثة. إن فنه الشعري يقوم في أجمل مناحيه، على المطابقات وهي أصل مشرقي- صوفي.
رامبو كمثل آخر. إن أعمق ما في شعره هو صراخه بحنجرة الشرق في وجه الغرب بدءا من قوله: الذات شخص آخر، والتي هي تنويع على القول الصوفي: أنا لا أنا. مرورا بتقاليد الأسرار وطقوسها، وبإشراقاته، رجاء الإنخطاف وتحرير النفس من الجسد.
نوفاليس، كمثل آخر، في قوله إن الشاعر يرى مالا يرى ويحس بما فوق المحسوس، مالارميه- في الكهانة والنرجسية والملائكية.
ونستطيع أن نضيف أيضا الكوكبة الشعرية التي توجه الحساسية الإبداعية في الغرب هولديرلن، نرفال، لوتريامون، بروتون بسرياليته التي هي،عمقيا، تجربة صوفية.
هذا دون أن نسمي الرسامين الذين أسسوا للرسم الغربي الحديث. بدءا من كاندينسكي، مرورا بباول كلي، وانتهاء ببيكاسو وبراك وميرو، لكي لا نسمى غير بعض الكبار.
لنلاحظ أخيرا أن الغرب، اليوم، هو تقنية/ تقدم- أي بقاء في حدود الظاهر، وأن الشرق هو هذا الهاجس الذي لا يرى الظاهر إلا عتبة للباطن- الباطن الذي هو موطن الحقيقة، أي موطن الإنسان. والشرق اليوم هو مناخ التجربة الشعرية، بامتياز: التطلع إلى المطلق، والتطلع في الوقت نفسه إلى المجهول- أي لبلوغ ما يستعصي على التعبير، أو للتعبير عما لا يعبر عنه. ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان في الغرب ما يجدد الشرق، تقنيا. فإن في الشرق ما يجدد الغرب، كيانيا- على مستوى الرؤيا الأكثر عمقا، والتجربة الأكثر شمولا، أي الأكثر إنسانية. بعبارة أخرى: إذا كان الغرب يتقدم في معرفة الشيء فإن الشرق يتقدم في معرفة الذات. وكلاهما الآن يسبحان، حضاريا، في ماء واحد - ماء البحث عن أفق جديد. ذلك أن الاستغراق في الشيء قتل للإنسان، والاستغراق في الذات قتل للطبيعة.

( 7 )

نصل الآن إلى القضية الثالثة. وفي الكلام عليها ينبغي أن نسارع أولا إلى التوكيد على التعارض شرق/غرب، حدث عارض، وأنه من مستوى إيديولوجي- استعماري، وأننا حين نرفض الغرب اليوم لا يجوز أن نرفضه إلا على هذا المستوى. أما إبداعاته الحضارية فيمكن أن نأخذها، بخصوصيتنا الحضارية، تماما كما فعل هو، بالنسبة إلى ما أخذه عنا سابقا.
وانطلاقا من ذلك، يجب أن نعترف أن ما أنتجه أسلافنا في الماضي ليس كله قادرا على الإجابة عن مشكلاتنا الراهنة، أو إفادتنا في التغلب عليها- بل من الخطأ افتراض هذه الإجابة أن هذه الإفادة. كذلك يجب أن نعترف أن في الغرب إبداعات تجيبنا عن كثير من مشكلاتنا، وأن ما ينقله إلينا ليس كله خاليا من الحق. دون هذا الوعي، قد ينقلب هذا التعارض الإيديولوجي السياسي، إلى تعارض ثقافي- حضاري. وليست إرادة الوصول إلى هذا التعارض الأخير، سواء جاءت من جهة الغرب أو من جهة الشرق، قصدا أو عفوا. إلا إرادة المحافظة على استمرار مقولة "التفوق الغربي" أي استمرار الثنائية الزائفة: غرب متحضر- شرق متخلف، واستمرار مشكلية ثقافية زائفة تهيمن علينا، فتأسر حركتنا وفكرنا، وتفسدهما مسبقا. وفي أفق هذا الوعي، يصح أن نقول إن الحداثة، مبدئيا، ليست غربية أكثر مما هي عربية، وإذا كان ثمة تفاوت بين الغرب والشرق في ممارستها التطبيقية، فإنه فرق في الكم لا في النوع.وظني أن هذا التفاوت هو ما ينبغي أن يدفعنا أساسيا إلى أن نعيد النظر، بشكل نقدي شامل وجذري، في ماضينا المعرفي وحاضرنا على السواء.
هل يمكن أحدنا اليوم أن يعرف عالمه الذي يعيش فيه بالمعرفة التي أنتجها الغزالي أو ابن سينا مثلا؟ أو هل يمكنه أن يقارب الأشياء والأفكار المقاربة نفسها التي نراها عند زهير بن أبي سلمى أو أبي العتاهية؟ ولا يتضمن السؤال هنا إنكارا لقيمة هؤلاء في تاريخية إنتاج المعرفة العربية أو مشكليتها، وإنما يتضمن التوكيد على أننا اليوم، رغم أن عالما ثقافيا- لغويا واحدا لا يزال يجمعنا، نعني بأشياء وموضوعات لم يعنوا بها، ولهذا فإن من المحتم علينا إن كنا خلاقين بالفعل، أن نقاربها بطرق مغايرة لطرقهم، خصوصا في المناخ الهائل لانفجار المعرفة، وانفجار طرقها، تعددا وتنوعا وتخصصا. وهو انفجار لا يقتصر على ميدان ما نسميه بالعلوم الإنسانية وحدها، وإنما يشمل أيضا ما نسميه بالعلوم الدقيقة أو البحتة. ماذا يعني إذن البقاء في أشكال المعرفة والمقاربات الماضية؟ إنه ببساطة. يعني الخروج من التاريخ. لكن التخلي عن تلك الأشكال لا يعني تنكرا لتاريخنا أو أصالتنا. ذلك أن الأصالة ليست نقطة أو موقعا في الماضي تجب العودة إليه لنثبت تراثيتنا. وإنما هي بالأحرى الطاقة الدائمة على الحركة والتجاوز في اتجاه المستقبل- أي في اتجاه عالم يتمثل الماضي فيما يستشرف مستقبلا أجمل وأغنى. على العكس، إن ما ينبغي أن نتعلمه ممن أنتجوا لنا المعرفة الماضية، إنما هو ضرورة إنتاج رؤيا جديدة ونظام جديد من المقاربة والمعرفة. هو أن نكملهم، لا بتكرارهم، بل باللهب الذي حركهم، لهب السؤال والبحث، واكتناه العالم والإنسان، وهذا يقتضي سؤالهم ومواجهتهم، إذ دون ذلك لا نقدر أن ننتج معرفة عربية تترابط في سياق تاريخي واحد.
هكذا يكون إنتاج المعرفة تجاوزا، أي تكون الحداثة في إنتاج المعرفة من مستلزمات القديم، جوهريا. بل تكون الحداثة، جوهريا، ضمان القديم- لحظة كونها تعارضا معه. وفي هذا المستوى لا يمكن الشاعر العربي أن يكون حديثا حقا ما لم يتمثل القديم، أي ما لم يختبره كيانيا.
هكذا نصل إلى تخطيط أولي لمعنى الحداثة الشعرية العربية وخصوصيتها. إنها على الصعيد النظري العام، طرح الأسئلة من ضمن إشكالية الرؤيا العربية- الإسلامية حول كل شيء، لكن من أجل استخراج الأجوبة من حركة الواقع نفسه، لا من الأجوبة الماضية. وهي على الصعيد الشعري الخاص، الكتابة التي تضع العالم موضع تساؤل مستمر، وتضع الكتابة نفسها موضع تساؤل مستمر.
هكذا تنبثق الحداثة العربية من قديم عربي هي، في الوقت نفسه، في تعارض معه. فأن تكون شاعرا عربيا حديثا هو أن تتلألأ كأنك لهب خارج من نار القديم، وكأنك في الوقت نفسه شيء آخر يغاير القديم مغايرة تامة. وينطوي معنى الحداثة هنا على تغيير النظرة للممارسة الكتابية الشعرية، وتقييما جديدا لمقوماتها. وتحديدا لقوانين التعامل معها، وللقوانين التي تكونها. وعلى هذا، أكرر ما أشرت إليه آنفا من أن حداثة الشعر العربي لا يصح أن تبحث إلا استنادا إلى اللغة العربية ذاتها، وإلي شعريتها، وخصائصها الإيقاعية-التشكيلية، وإلى العالم الشعري الذي نتج عنها، وعبقريتها الخاصة في هذا كله. وذلك ما يطرح مسألية نقد الحداثة، أو الحداثة النقدية التي لا تنفصل عن الحداثة الشعرية. وهو ما أختتم به.

( 8 )

طبيعي أن الدعوة إلى انقلاب في فهم الحداثة الشعرية العربية تقتضي الدعوة إلى انقلاب مماثل في نقد هذه الحداثة. وأود هنا أن أكتفي بإيجاز المبادئ الأساسية لهذا النقد الحديث، كما تبدو لي. وأوجزها في خمسة:
 

  1. المبدأ الأول الذي يجب أن ينطلق منه النقد الحديث في تقويم الشعر الحديث هو أن مفهوم الممارسة الكتابية الحديثة يختلف جذريا عن المفهوم الذي استقر تراثيا- تاريخيا. وتبعا لذلك، تنبغي الملاحظة أن نظرية الكتابة الشعرية الجديدة هي التي تغير هذا المفهوم تغييرا كاملا، بحيث يصبح للشعر نفسه مفهوم مغاير للمفهومات الموروثة: يتغير معناه، ويتغير دوره.

  2. بدءا من هذا المفهوم، ينبغي النظر إلى القصيدة الحديثة كنص يدرس ببنيته الخاصة، أي ضمن العلاقات التي تقيمها لغة النص: تراكيب،وصورا، ورموزا. وليست اللغة التي نقصدها هنا مجرد صوتية، قائمة بذاتها، وإنما هي أكثر من ذلك: إنها الكلمات- العلاقات. وفي هذا تنفصل القصيدة كنص عن تاريخية الموروث الشعري- النقدي. ويعني هذا الانفصال أن القصيدة لا تحيل إلى معلوم شائع أو موروث، شأن القصيدة التقليدية، وإنما تحيل إلى مجهول، حاضر أو محتمل- ومهمة النقد أن يحاول اكتشافه.

  3. الممارسة الكتابية الحديثة ممارسة استباقية. ولهذه الاستباقية وجهان: سلبي، وإيجابي. يعني الأول قطعا مع إيديولوجية الكتابة السائدة على مستوى النظام الثقافي السائد. ويعني الثاني اندفاعا في معانقة المجهول- رؤىً وطرق تعبير. ومن هنا تتغير النظرة إلى المفهومات الإيديولوجية التي تستند إليها الكتابة الشعرية التقليدية، كالأصالة، والجذور، والتراث، والإحياء، والانبعاث، والهوية.. الخ، ويصبح الارتباط بما يمثل الحركة في اتجاه المستقبل هو الارتباط المهيمن والموجه- أي أن الكتابة تؤسس تاريخها على الرغبة والإنخطاف والرؤيا والكشف، أي على ما يخرق العادة. وبدلا من مفهومات: المترابط، المتسلسل، الواحد المكتمل- المنتهي، التي توجه النقد التقليدي، تنشأ مفهومات أخرى: كالمنقطع، والمتشابك، والكثير واللامنتهي، لكي توجه النقد الحديث.

  4. القصيدة- النص، إذن، لا تعود مجرد خيط نفسي، أو فكري، أو مجرد سطح انفعالي، وإنما تصبح نسيجا حضاريا، شبكة/ فضاء، يتداخل فيها إيقاع الذات وإيقاع العالم، وتحتضن الزمان الثقافي الخلاق.

  5. النقد الحديث هو نقد هذا الفضاء في إيقاعه الشامل. ويقوم هذا الإيقاع على حركة مزدوجة، أو على جدلية الهدم البناء، في حركة مستمرة من الاستشراف والتجاوز. ومن هنا نقول إن هذا الإيقاع الإبداعي هو جوهريا وبالضرورة في اتجاه التغير الشامل، أي في بؤرة الممارسة الثورية الشاملة.

( 9 )

بعد إيضاح الحداثة العربية ومشكليتها، ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة. فالحداثة انتقال نحو سمة. رؤية ما. حساسية ما. تشكيل ما، ليست الغاية وليست في حد ذاتها، ولذاتها قيمة، بالضرورة. الأساسي هو الإبداع من أجل مزيد من الإضاءة، من الكشف عن الإنسان والعالم.
الإبداع لا عمر له، لا يشيخ، لذلك لا يقيم الشعر بحداثته، بل بإبداعيته. إذ ليست كل حداثة إبداعا. أما الإبداع فهو أبديا حديث.

(بيروت، 1979)

(.. بعد ثلاث عشرة سنة)

( 1 )

قلت: "ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة "(بيان الحداثة" 1979) في فاتحة لنهايات القرن، دار العودة، بيروت 1980)، وهو قول يبدو الآن أكثر صحة وضرورة منه في أي وقت مضى، خصوصا أن مفهوم الحداثة يزداد التباسا، وأن الكلام عليها يكاد أن يصبح لغوا. و ها هي الكتابة التي تقوم على "قصيدة النثر" تكاد أن تسقط في الآلية والاتباعية كما كان الشأن في القصيدة الوزنية التقليدية. والحق أن النظر إلى ظاهرة الخروج على الوزن والقافية كما لو أنها تنطوي بحد ذاتها على الحداثة هو في أساس ذلك الالتباس وهذا اللغو.
هكذا أصبح من الضروري، في الكلام على مسألة الحداثة في الكتابة العربية، أن نؤكد على ثلاثة مبادئ: الأول، هو أننا قبل أن نصف شاعرا أو كاتبا بأنه حديث، يجب أن نتأكد من أنه ليس أي منتج بالكلام الذي يتشبه بالشعر أو بالأدب، وإنما يجب أن يكون كاتبا أو شاعرا،حقا: أعني أنه يمتهن الكتابة الأدبية- الفنية، ويعبر عن نفسه وعن علاقته بالآخرين والعالم، بلغة أدبية- فنية، وبطريقة خاصة تميزه.
الثاني، أن نعرف هذا الذي يطلق عليه اسم القديم معرفة عميقة ومحيطة. وأن ندرك أن صفة القدامة لا تعني بالضرورة التناقض مع ما يطلق عليه اسم الحديث.
الثالث، وهو تتمة للثاني، أن ندرك أن صفة الحداثة ليست حكما بأفضلية الحديث على القديم، وإنما هي مجرد وصف، وأن هذا الوصف قد يقع على نص يكون في الوقت ذاته نصا عاديا أو رديئا. الحداثة بتعبير آخر، سمة فرق لا سمة قيمة.
قد تبدو هذه المبادئ الثلاثة بدهية، في النظر. غير أنها ليست كذلك في الواقع وفي الممارسة. فثمة، من ناحية، استقطاب في حياتنا الأدبية بين الحديث والقديم، بحيث أن الأول أيا كان يشير غالبا عند بعضهم إلى التقدم. وأن الثاني، أيا كان يشير إلى التخلف، فيما يعنيان عند بعض آخر شيئا آخر مناقضا. وهناك من ناحية ثانية، تضخم في النتاج الكتابي: كل يدعي الكتابة الأدبية الفنية، وكل يدعي النقد والتقويم. والنتيجة هي فوضى وتخبط في الإنتاج الكلامي يؤديان إلى أن تتساوى النصوص كلها، وإلى أن يغيب التمييز بين الجيد والرديء. وبين المتفرد والمبتذل.
وتعكس كلتا الناحيتين فقر النظرة، وضحالة الثقافة، وما هو أخطر من ذلك الجهل بالنفس، وبحقائق الأشياء.

( 2 )

لا أظن أن أحدا يمكن أن يقول أن رينه شار، مثلا، أو سان- جون بيرس، أو ميشو، أو جوف، أو بونج، أو بريتون، أو بونفوا، أو دوبوشيه أكثر حداثة من هيراقليطس أو نيتشه أو هولدرلين أو غوته أو رامبو أو بودلير أو مالارميه أو لوتريامون إلا بالمعنى الزمني.
هذا الذي أقوله في ما يتعلق بالكتابة الشعرية الفرنسية (وأقوله قصديا، لأن هذه الكتابة هي مرجعيتنا الحداثية الأولى) ينطبق تماما على الكتابة الشعرية العربية. فليس أبو نواس أو أبو تمام أو المتنبي أو المعري أو النفري أكثر حداثة من جلقامش أو امرئ القيس، إلا بالمعنى الزمني. وليس السياب أو حاوي أو الخال أو عبد الصبور (لكي لا أسمّي إلا الذين فقدناهم) أكثر حداثة ممن أشرنا إليهم، إلا بالمعنى الزمني.
هذا مما يوضح، فيما يتعلق بي شخصيا، أنني حين أصف نصا بأنه حديث لا أضمر تفضيله بشكل مطلق على النصوص التي تقدمته في الزمان، بل أضمر، بالأحرى، شيئا آخر يتجاوز الإطار الزمني للنص إلى إطار آخر يتصل بالرؤية التي يصدر عنها، ببنيته، وبأبعاده.
ما هذه الرؤية؟ ما تلك البنية؟ وما تلك الأبعاد؟ تلك هي المسألة.
وهي، ويا للمفارقة، المسألة الوحيدة التي ينساها معظم الذين يتكلمون على الحداثة في الكتابة العربية.
استطرادا، وإمعانا في التوضيح والتحديد، أحب أن أشير، بدئيا إلى أنني عندما أتكلم على الحداثة في المجتمع العربي، لا أشير إلى علم، أو تقنية، أو فلسفة.. وإنما أقصد، حصرا، الفنون والآداب. وفي هذا ما يشير، بدوره إلى المفارقات والتصدعات في المجتمع العربي، وإلى أن البحث فيها ضروري ملح، وإلى أنها تطرح أسئلة كثيرة يولدها هذا السؤال: كيف تنشأ حداثة أدبية في مجتمع يقوم، في بناه الأساسية، على التقليد، في مختلف الميادين الأخرى غير الأدبية؟
أحب كذلك أن أشير إلى أننا أخطأنا، منذ البداية، في فهم حداثة الغرب. لم ننظر إليها في ارتباطها العضوي بالحضارة الغربية، بأسسها العقلانية خصوصا، وإنما نظرنا إليها بوصفها أبنية وتشكيلات لغوية. رأينا تجليات الحداثة في ميدان الفنون والآداب، دون أن نرى الأسس النظرية والمبادئ العقلية الكامنة وراءها. ومن هنا غابت عنا دلالتها العميقة في الكتابة وفي الحياة على السواء.

(3 )

الحداثة في إطار الموروث العربي- الإسلامي، تحديدا، وبالقياس إلى الماضي، وبوصفها إبداعية، إنما هي حركة، ودلالتها الغالبة إذن كامنة في التغيير والفروقات، لذلك لا يمكن أن تكون نظرية محددة، أو قواعد وقوانين محددة. إنها كمثل أفق يهيمن بأضوائه وبأبعاده، على فضاء الحاضر دون أن يمحو فضاء الماضي. فمع أنها قطيعة معه بالضرورة فهي استمرار له، بالضرورة. ذلك أن كل ابتكار لجمال جديد في اللغة، لا يمكن إلا أن يستند إلى قديمها الجمالي. فاللغة كيان ولا نقدر أن نجدده إلا من داخله، من داخل عبقريته، وجماليته، وخصوصيته. إن كنت حديثا حقا، فأنت تحيا داخل هذا الكيان- لا إلى جواره، أو خارجه، أو على هامشه، - أي أنك تحيا في بهاء القديم وفي طاقاته الفنية التي لا تستنفد. وكل كلام على الحداثة ينبغي أن يتم في إطار هذه الإحاطة وهذه الكلية وهذه الرؤيا الشاملة.
نقول، بتنويع آخر، إن المحدث في دلالته العربية الأصلية هو "ما لم يكن معروفا في كتاب، ولا سنة، ولا إجماع" هذه الكلمة هي أصلا، دينية، ثم أصبحت وصفا يطلق على الشعر الذي يخالف الشعر القديم، الشعر المعروف، والذي ينعقد عليه الإجماع، هذا الشعر "المخالف" هو ما سمي "المحدث" و "المولد". هكذا يمكن أن نقول إن الحداثة سمة للأقوال والأشياء غير المعروفة من قبل. وبهذا المعنى، لكل عصر حداثته.
وفي هذا ما يوضح عدم إمكان تحديد الحداثة الشعرية بوصفها خصائص محددة، ثابتة، كما أكدت، سابقا، ويوضح أنها، بالأحرى، حركة تاريخية وأنها بوصفها كذلك لا تنفصل عما قبلها وعما بعدها، وأنها نوع من الانقطاع- التواصل.
ولئن كانت الحداثة لا تحدد، فمن الممكن القول إنها كانت دائما حاضرة في تاريخ الإنسان- ممارسة، أو إشارة ودلالة.

( 4 )

في هذا الأفق، يبدو الكلام على قطيعة جذرية وشاملة مع التراث أو الماضي، كلاما لا ينهض على أي أساس شعري أو معرفي.
صحيح أنني شخصيا تحدثت عن القطيعة والرفض- لكن في سياق آخر يختلف كليا، وعلى مستوى آخر مغاير كليا. كنت اقصد في حديثي هذا أن أقول إن الشاعر العربي مهما كان عظيما، لا يجسد في نتاجه اللغة العربية- فهي أوسع منه، وأن أقول. تبعا لذلك، إن على الشاعر الجديد أن يرتبط باللغة الأم، لا بنتاجها. ولئن كان يولد من الرحم الواحدة أبناء يتناقضون في كل شيء. فبالأحرى أن يكون في اللغة أبناء لها يتناقضون كتابيا، في كل شيء. فهذا التناقض دليل غني- وهو لا يعني القطيعة أو الرفض في أية حال. فهذان لا يتمان إلا في حال واحدة: أن نرفض الأم ذاتها، أي أن نرفض اللغة التي نكتب بها.
دون هذا الوعي، دون هذه الإحاطة النظرية سوف تتعثر الحداثة الفنية- الأدبية في اللغة العربية، وهذا مما بدأت ملامحه بالظهور. وهذا مما يفرض على الشعراء الشبان، وبينهم مواهب شعرية كبيرة، أن يتعمقوا في فهم الحداثة ومشكلاتها، فيما وراء التشكيلات، وفيما وراء النثر والوزن.
إن عليهم أن يدركوا أن الذين أسسوا الحداثة الغربية، كمثل رامبو وبودلير ومالارميه، كانوا كلاسيكيين- أعني أنهم لم يخلقوا الحديث إلا بفضل ارتباطهم العضوي العميق بالقديم.
وقد يقول بعضهم اتهاما: الشعراء العرب الحديثون ينقلون أشكال الشعراء في الغرب. هذا كلام باطل. الذين يعرفون اللغة الشعرية، يعرفون أن الشكل لا يؤخذ، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد في ذاته- معزولا، كشكل لوعاء ما، أو كشكل لآلة ما. الشكل للقصيدة كمثل الجسم للإنسان: لا يستعار. فالشكل هو دائما شكل جسد معين، قصيدة معينة، ثم إن تشكيل اللغة العربية يختلف، لاختلاف مادته- الموسيقية خصوصا، عن التشكيل في اللغات الأخرى. لذلك لا تمكن استعارة أو نقل شكل قصيدة أجنبية لقصيدة عربية إلا في حالة واحدة: حين تكون هذه الأخيرة مصنوعة كما تصنع آلة جامدة.
اللغة كما قلت كيان- لا يقبل زراعة أعضاء غريبة عنه، لا يقبل إلا ما ينبثق منه.
لا يقبل ما يكون لصقا.
ولئن كان الإبداع فيما وراء القدامة والحداثة فلا يمكن أن تكون قطيعة بين الحداثة والقدامة، عمقيا، وإنما يكون بينهما فرق، يتجلى هذا الفرق من ناحية في استخدام عناصر قديمة استخداما حديثا، ومن ناحية في المناخ المرتبط بالعصر- سياسة، وثقافة، وقضايا، ومن ناحية أخرى، في الرؤية والرؤيا على السواء. ومن هنا لا نرى في إطلاق اسم الشعر على بعض النصوص المكتوبة بغير الوزن، قطيعة مع اللغة العربية- بل مع البحور الخليلية. أضيف أن هذه التسمية تستأنس بالإشارات التي وردت عند العرب القدامى حول إمكان تسمية النثر، في بعض الحالات، شعرا. والإشارة الأكثر دلالة، في هذا الصدد هي وصف العرب النص القرآن بأنه شعر- مع أنه غير موزون وغير مقفى.

( 5 )

قلت الحداثة "فرق" لكن "مضمون" هذا الفرق يعمق ويتسع ويتعقد بحيث يكاد أن يحجب "التاريخ" أو "الماضي"، من حيث أن "الحاضر" هو الميدان الذي يتأصل فيه هذا الفرق. ربما كان هذا الحجب في أساس ما يدفع بعضهم إلى الكلام على "الرفض و"الانقطاع" ذلك أن هؤلاء لا يدركون سر الإبداعية وسر حركيتها، فهم أسرى المظهر الخارجي الذي يخضع للرؤية المباشرة التي توجهها الأهداف والمصالح المباشرة السياسية والثقافية والاجتماعية.
ويتجلى هذا الحجب في الإبداع وفي النقد على السواء. من ناحية أولى هناك حضور لنصوص شعرية تحجب النصوص القديمة، من حيث أنها تشكيلات بنائية تتسمى باسم مقصور على تشكيلات بنائية مختلفة راسخة في الذاكرة والتذوق والرؤية، ويبدو هذا الحضور كأنه يطرد حضور النصوص القديمة، من مجال الذاكرة والتذوق، مزلزلا بذلك القيم والمفهومات الراسخة.
ومن ناحية ثانية- وهذه أكثر وضوحا ومباشرة، يتجلى الحجب في المظاهر التالية:
أ- النقد المتواصل لمفهوم الشعر التقليدي الموروث. ويتم نقده بإحاطة معرفية ومعايير غير مألوفة في النقد الموروث.
ب- يقدم بعض النقاد مفهوما آخر للشعر، وتصورا آخر لدوره، مما يخلص الشعر من "موضوعاته" التقليدية المرتبطة بالحياة السياسية الاجتماعية القديمة- وخاصة تلك المرتبطة بالمدح والهجاء والفخر والرثاء. فهذه موضوعات كانت تمليها أوضاع وعلاقات وكان الشعر أداة لها. هكذا يرد الشعر إلى عناصر الأولية: الكلمة، الموسيقى، الصورة، - لكي يواجه، بدءا من ذلك، العالم الحديث ومشكلاته، ببناء "حديث" يعبر عن "القضايا الحديثة" وهذا مما يبدو كأنه قضاء على "الدور" الذي عرفه الشعر سابقا، وهو دور راسخ في الذاكرة الجماعية. والقضاء على هذا "الدور" يبدو بالنسبة إلى هذه الذاكرة، كأنه قضاء على الشعر نفسه.
ج- يبطل الجدال شيئا فشيئا حول "اللفظ" (الشكل) و "المعنى" (المضمون) لأن الفصل القديم بينهما، فقد اليوم معناه هكذا ينظر اليوم إلى القصيدة بوصفها بنية واحدة لا تتجزأ، ولا تجد مسوغها في معيارية سابقة عليها، كما كان الشأن قديما، وإنما تجده في بنيتها ذاتها. ومن هنا يصبح الشعر بلا حدود، وتؤدي القصيدة إلى نشوء تحديد آخر للقصيدة، يغاير التحديد القديم. وهذا كله مما يوحي للذاكرة الجماعية بأن الحداثة "رفض" للقديم و "انقطاع" عنه.
د-يكشف النقد عن عالم في الإنسان كان، في القديم مجهولا أو، منسيا، أو مكبوتا، هو عالم اللاشعور. وهو يضع هذا العالم في مستوى واحد مع عالم الشعور، ويرى إلى الإنسان بوصفه كلا لا يتجزأ.وتحرير الشعور أو الوعي وحده غير كاف فلا بد من تحرير اللاشعور أو اللاوعي.
وهذا أيضا مما يوحي للذاكرة الجماعية بـ "الرفض" و "الانقطاع" ويمكن أن نسمي تجليات الحجب أو مظاهرة هذه بأنها أوهام الرفض أو الانقطاع عن التراث،وعند التقليديين، شأن الأوهام التي توحي بالحداثة عند الحداثيين، والتي تحدثت في دراسة سابقة منشورة.

( 6 )

نلاحظ مع ذلك أن القضية الأساسية في الحداثة لم تعد تكمن في كتابة الشعر وزنا أو نثرا، وإنما أصبحت تكمن في الأفق الكشفي- المعرفي الذي تؤسس له هذه الكتابة، داخل التاريخ العربي، من جهة، وخارجه- في تاريخ الإنسان المعاصر، من جهة ثانية.
إن مشكلية الحداثة الشعرية في اللغة العربية جزء جوهري من مشكلية المعرفة- بوصفها علاقة بين الإنسان والمجهول، ومن مشكلية العلم بوصفه علاقة بين الإنسان والطبيعة، ومن مشكلية التقنية بوصفها عملا وتطبيقا. وهي إلى ذلك وبفعل ذلك لا تنفصل عن مشكلية أعم ترتبط بوجود العرب ومصيرهم الحضاريين على السواء.
وفي هذا الأفق نرى أن معظم الكتابات السائدة عن الحداثة، ليس إلا تغييبا للمشكلات الحقيقية التي تطرحها تجربة الحداثة.

( 7 )

ليست الحداثة الشعرية من هذا المنظور مجرد بنى وتشكيلات كلامية، فهي تفترض بدئيا، معرفة الشاعر العربي نفسه بوصفه ذاتا، وبوصف هذه الذات لغة، وبوصف هذه اللغة أداة كشف، وإفصاح، وإيصال. هذه الإحاطة المعرفية بالذات، والتي هي الشرط الأول والبدهي لكتابة الحداثة تعبيرا عن الذات، إنما هي في الوقت نفس، الشرط الأول البدهي للعلاقة الخلاقة مع الآخر.
غير أن هذه المعرفة في المجتمع العربي ليست سهلة، بل أذهب إلى القول إنها، على العكس، شبه متعذرة، في أوضاعه القائمة. والممارسة هنا، إما أنها نوع من المناجاة لا تتعدى الذات، وإما أنها نوع من المداورة. ولا تتحرر الذات حقا إلا إذا مارست المعرفة، كشفا وإفصاحا، بحرية كاملة. ولا تكتب الذات حقيقتها إلا في مثل هذه المعرفة الحرة، وهذه الحرية المعرفية.

( 8 )

نستخدم جميعا في كلامنا على الشعر، اليوم عبارة الشعر العربي الحديث، والحداثة الشعرية العربية بيقين الواضع يده على الحقيقة، وباطمئنان، فمن أين يجيء هذا اليقين وهذا الاطمئنان؟ إن قيل لنا مثلا: إن "كلمتي "حديث" و "حداثة" استعارة من الآخر الأجنبي شأن كلمات وأشياء أخرى كثيرة، إن قيل إنهما عبارتان ألصقناهما على نتاجنا الشعري اليوم، بعد أن حملناهما الدلالات نفسها التي تحملهما عن ذلك الآخر الأجنبي، وأخذنا ننتقد ونقوم نتاجنا في ضوئهما، إن قيل لنا ذلك، فما يكون ردنا؟ واستطرادا، هل يكون شأننا مع هاتين العبارتين، كما هو شأننا، مع عبارات أخرى نعرفها جيدا، كمثل الثورة والديمقراطية، والحرية والإشتراكية، وغيرها؟ نكتب عنها الكتب، ونقيم لها الندوات، والمهرجانات، وباسمها ندين، ونبرئ، نحكم ونحاكم، وليس لها مع ذلك وجود حي في المجتمع، ولا تمارس على أي مستوى. إنها موجودة على الورق وبين الشفاه، لا غير. كيف إذن نغامر في الكلام على قضية لم تبدأ بأن نطرح حولها السؤال المعرفي الضروري: هل ما يسمى بالحداثة في الشعر العربي حداثة حقا، وهل هذا الشعر الذي يوصف بالحديث حديث حقا؟ كيف نصف شعرا بأنه حديث إذا كان لا يسير في الأفق المشكلي التساؤلي الذي تفتحه كلمة "حديث" أو "حداثة" بمفهومها المعروف، سواء على صعيد الكينونة وجودا وعدما، أو على صعيد العلاقة بين الكلمة والشيء، أو على صعيد السلطة ورموزها في مختلف أنواعها،ومستوياتها وبخاصة غير السياسية، أو على صعيد البنية التعبيرية، أو على صعيد القارة شبه العذراء في الكتابة العربية، قارة الجسد، بأبعادها وأعماقها وتخومها- من الرغبة والحلم والصبوة واللعب والعبث والمعنى والسر، وهذه الكيمياء التي تخترق هذا كله وتتموج محيطا بلا حدود؟ أليس من الأوليات إذن أن نتحقق من وجود الشيء قبل أن نشرع بوصفه وتحليله؟

( 9 )

يتعذر فهم الظاهرة في الأعمال الكتابية التي ندعوها حديثة. إذا لم نفهم بنيتها الباطنة، وهذا ما يستلزم جلاء لما أسميه بالتباسات الحداثة في المجتمع العربي. منها على سبيل المثال: الالتباس التأويلي المرتبط بثقافة الوحي والذي يقيس الحياة والفكر والأدب على الوحي، فكما أنه لا تحديث في الوحي وهذا طبيعي، كذلك لا تحديث في هذه جميعا، وهذا أمر غير طبيعي. ومنها التباس الخصوصية والأصالة والأصل، وهل هذا الأخير في الشعر العربي والحياة العربية واحد أم متعدد؟ ومنها التباس الهوية ومفهوم الآخر، وهل الحداثة تطابق مع الهوية، وكيف يكون هذا التطابق؟ أم أن الحداثة انشقاق؟ وكيف؟ ولماذا؟

( 10 )

لنقم ببعض المقارنات بين الحداثة في الغرب وما نسميه الحداثة في المجتمع العربي، نشأت الحداثة في الغرب في تاريخ من التغير عبر الفلسفة والعلم والتقنية ونشأت الحداثة العربية في تاريخ من التأويل، تأويل لعلاقة الحياة والفكر بالوحي الديني وبالماضي إجمالا.
ومن هنا تنتج الفروقات التالية:
الأولى، الغربية- مغامرة في المجهول، في "ما لم يعرف" والثانية، العربية - عودة إلى المعلوم.
الأولى، تؤكد على الأنا- الذات، والثانية تؤكد على النحن- الأمة.
الأولى، لا مرجعية لها إلا الإبداعية، والثانية، قائمة على المرجعية من كل نوع.
الأولى، نوع من المناجاة، والثانية، صلاة إلى القبيلة أو الحزب أو الأيديولوجية.
الأولى، تتحرك في عالم لا سيطرة فيه للمقدس وللرموز الدينية، عالم انتصر فيه الدنيوي، والثانية، تعيش في عالم لا سيطرة فيه إلا للمؤسسات والرموز الدينية.
الأولى، تساؤل وشك، والثانية يقين وتسليم.
الأولى، انفتاح ولا نهائية، والثانية مذهبية وانغلاق.
الأولى، تتأسس على البعد النقدي والحركية، والثانية، تتأسس على بعد القبول والخضوع.
الأولى، فرادات، والثاني، أنساق، الأولى، انفجار معرفي همشت فيه الرؤية الدينية، والثانية، هامش صغير في متن تسيطر عليه وتوجهه الرؤية الدينية.
الأولى، تعدد واحتمالات، والثانية، واحدية، مبدأ وحيد مؤسس وحقيقة واحدة مطلقة.
الأولى، تتحرك في عالم أمات مفهوم الله وأحيا الإنسان، والثانية، تتحرك في عالم الإنسان فيه هو الميت والله فيه هو وحده الحي.
الأولى، تفترض في الذات، وفي من تخاطبه، الحيرة والغموض والشك، والثانية، لا تفترض في الذات، وفي من تخاطبه إلا طاقة الوضوح، والإيمان واليقين.
الأولى، تصدر عن قيمة ترد إليها جميع القيم، قيمة تهيمن على وعي العصر وتوجهه، والثانية، ليست هامشا وحسب وإنما هي منبوذة أيضا ولا تعيش إلا بفضل التصدعات القائمة في المجتمع العربي.
الأولى، دنيوة، والثانية، ديننة.

( 11 )

لا تنشأ الحداثة مصالحة، وإنما تنشأ هجوما، إذن، في خرق ثقافي، جذري وشامل، لما هو سائد. وراء الحداثة إذن رؤية شاملة لمشروع ثقافي، حضاري شامل، ما هذه الرؤية التي توجه ما نسميه بالحداثة الشعرية العربية؟ إن هذه الحداثة على افتراض وجودها كما قلت تتحرك في إطار ثقافي، مهيمن، هاجسه الأول، الأساس، هو ديننة الدنيا، والحداثة في دلالتها البدهية الأولى دنيوَة لا ديننة، وفي هذا ما يدفعني إلى أن أوصل كلامي إلى طرفه الأقصى زاعما أن الحداثة بوصفها حركة أو جزءا عضويا من بنية الثقافة العربية والشعرية العربية، غير موجودة في الشعر العربي أو التذوق العربي، أو الحساسية العربية، بل أن الذهن العربي السائد يرى أن الحداثة أو الحديث لا يجيئان من الذات، وإنما من الآخر الأجنبي، ذلك أن وراء القول بالحداثة أو الحديث دعوى الإتيان بشيء لم تأت به الرؤية العربية، وهي إذن دعوى تتهم هذه الرؤية بالنقص وتشكك في صحتها. هكذا نتحدث عن ظاهرة وعن مفهوم ينبذهما جوهريا النظام المعرفي الذي نكتب بلغته، ونمارس قيمه، ويؤسس لحياتنا وفكرنا، عنيت الحداثة والحديث. والسؤال هو: لماذا ننسى، أو نتناسى، جميعا هذا النظام المعرفي، في كلامنا على الحداثة والحديث؟ فهذا النظام هو وجودنا نفسه. أليس تناسيه، إذن، نوعا من التوهم؟ هكذا، كلنا نبدو كأننا نفكر ونكتب توهما. لذلك لا نقدر أن نبني شيئا، ولن نقدر أن نغير شيئا. كأننا نعيش بعقل الآخر، وأدواته، وتذوقه، داخل قفص اسمه الذات. أفلن نخرج أخيرا إلى الحقيقة؟ هذه الحقيقة هي تجاوز العائق المعرفي، هي الجهر بتفكيك هذا النظام،وتجاوزه، هي الجهر بنهاية المطلق، دون هذا الجهر والسير فكريا بمقتضياته، لا يمكن في نظري، أن يكون في المجتمع العربي حداثة ولا فكر حديث، بل لا يمكن أن يكون هناك فكر، بحصر المعنى، وما نسميه اليوم بالفكر العربي الذي يدور في فلك هذا النظام المعرفي، ويقوم بكليته على خطابية المعنى النهائي ومذهبيته ووثوقيته سواء في السياسة أو الثقافة أو الشعر، والذي يتصاعد في ما يشبه الصلوات التي تبشر بمستقبل يوجهه الماضي ويهيمن عليه، ليس فكرا وإنما هو نوع بائس من الوعظية البائسة.

لا تبحث الحداثة في المجتمع العربي، في معزل عن هذا التفكيك، ذلك أن الحداثة بأبسط دلالاتها كما أشرت، حركة تقوم على قول ما لم يقل في هذا المجتمع، على رؤية عوالم متحررة من جميع العوائق النظرية والعملية، في حرية تخيل كاملة، وحرية تعبير كاملة، ويتعذر ذلك دون تجاوز النظام المعرفي السائد، الذي هو، وهذا ما أحب أن أكرره، ديننة للدنيا.
أثير هذه النقاط لا بهاجس تحديد المصطلح وحسب، علما بأن الدقة في المصطلح مسألة تقتضيها، على نحو خاص، أوضاعنا الفكرية والمعرفية في المجتمع العربي. فنحن نتحرك من هذه الناحية فيما يشبه السديم، ولهذا فإن الأحكام التي تطلق وتسود حياتنا الثقافية غير صحيحة غالبا. وليست المعرفة السائدة أكثر حظا، فهي معرفة غائمة وتشبه هي الأخرى نوعا من السديم. إنني أثير هذه النقاط بهدف آخر أيضا هو الإشارة إلى أن الحداثة التي نمارسها اليوم، إنما هي، قياسا إلى الحداثة في الغرب، نوع من الهروب، وإن كان ضروريا، نوع من الاختباء الذي لا بد منه، لكن داخل سور ضخم من المعوقات، وغلى أنها هي أيضا حداثة مهربة، وتهريبها ضرورة حياتية وحتمية. نعم أزعم أن الحداثة في المجتمع العربي، حداثة اليوم، ليست نابعة من ذاته، من ثقافته وأصولها، وإنما من خارج، ولا أظن أن الكلام على شعر حديث في مثل هذا المجتمع يمكن أن يتم دون مثل هذه التحفظات،وهي كثيرة، متنوعة، وعلى مختلف المستويات.
لنقل بوضوح إن الحداثة اليوم، في المجتمع العربي، بوصفها مفهوما أو تنظيرا، وبشكلها العام السائد، إنما هي غريبة بكاملها، وإننا عندما نتكلم عليها، إنما نتكلم على الآخر،متوهمين أن هذا الآخر هو الذات. ومن الطبيعي أن هذا حكم على المستوى العام لا يلغي بعض الاستثناءات، لكنها استثناءات لا تشكل تيارا عميقا داخلا في بنية المجتمع، بوصفه جزءا عضويا منها، وإنما هي استثناءات تسمح بوجودها بعض الشقوق والتصدعات في هيكل المجتمع العربي الثقافي والاجتماعي. استثناءات لا تعيش إلا هامشيا في الأطراف وعلى الضفاف.

( 12 )

يطيب لي أن أوصل كلامي في هذا الصدد أيضا إلى أقصاه، إذا أخذنا الحداثة في الغرب معيارا، فمن الممكن القول: ليست الحداثة وحدها غير موجودة في الحياة العربية، وإنما الشعر نفسه هو كذلك غير موجود، وأعني طبعا بوصفه رؤية تأسيسية وبوصفه فاعلية معرفية كشفية قائمة بذاتها. إننا نعرف جميعا، أن الشعر بدءا من الوحي، في الأديان التوحيدية جميعا، لم يعد رؤية تصوغ الوجود، وإنما أصبح وسيلة لتزيين الموجود أو تقبيحه وفقا لأخلاقية الوحي ومعاييرها. بهذا المعنى، وفي إطاره تحديدا، يمكن القول، وأقول بأن الوحي أنهى الشعر، وبأن الشعر مات بدءا من الوحي السماوي. ومعنى موت الشعر هنا، هو أنه ل م يعد بالنسبة إلى مجتمع يؤمن بالوحي الشكل الأعلى الذي تفصح به الحياة أو الحقيقة عن نفسها، ولم يعد الشكل الذي يلبي الحاجة الضرورية للاتصال مع الكون والآخر. لكن أن يكون الشعر انتهى أو مات بوصفه رؤية تأسيسية، أمر لم يحل دون نموه في المجتمع الإسلامي بوصفه وسيلة. هكذا وضع الإسلام الشعر على الحدود، لا داخل المدينة ولا خارجها، بين بين، وقد نما على هذه الحدود، لا بوصفه تأسيسا معرفيا، بل بوصفه تجميلا أو تقبيحا للوجود كما أشرت. هكذا همش الإسلام الشعر مغيرا دوره الأساس. وبما أن هيمنة الإسلام على العقل، كانت أكثر منها على الحياة والجسد، فقد أتيح للشعر أن يستمر، لكن في مناخ من الصراع، كان يقصى حيث ينافس الدين، ويفاد منه، حيث يتولد عنه ما يسيء للدين إنما بقي في الوقت نفسه، هامشيا لقول حقائق لا يرضى عنها الدين كليا أو لم يقلها. وساعد في ترسيخ هذا الهامش، التطور المعرفي والاجتماعي الذي عرفه العرب، بين بداية القرن الثاني الهجري وأواسط القرن الخامس، هكذا ألحق الشعر بالحادثة، والشيء: الحادثة العابرة التي تذوب في زمنية الذاكرة، والشيء الجزئي الذي يذوب في الشيء النموذج. لم تعد للشعر قيمة، إلا بوصفه ماضيا أو تذكيرا بالماضي. الإنسان نفسه في الرؤية الدينية السائدة، لا قيمة له إلا بوصفه ماضيا، يستعيد زمن الوحي ويتطابق معه، بل ليس هناك في هذه الرؤية أي معنى للمستقبل إلا بوصفه ماضيا، ولا وجود له بوصفه إمكانا لنشوء حقائق جديدة تغاير الحقائق الماضية.

إذ تحول الشعر إلى نوع من المطابقة والمصالحة، تحول في الوقت نفسه إلى حجاب. لم يعد يكشف عن الشيء، كما هو وبما هو، بل أصبح يكشف عنه وفقا للمقول السائد، المتراكم، المعمّم.

ولقد قامت الحداثة الأولى- في هذا الهامش، في ذلك الهامش الإمكاني- قامت على خروج تمثلت علامته الأولى في قدرة الشعر على أن يضع موضع السؤال ذاته والعالم وقيمه بشكل مستمر، فالشعر سؤال حول الشعر، بقدر ما هو سؤال حول الإنسان والأشياء والعالم. فهل هذا الذي حققه المحدثون الحاليون، أم هو ما يحققونه؟ إن شعر أغلب هؤلاء المحدثين يندرج في أفق الشعر الذي يمكن أن يسمى بشعر النهضة. إنه شعر نهوض، أي شعر وظيفي. إنه شعر جزء من الحدث، شعر تابع للحدث، ذائب فيه. ولئن كان هولدرلين، يقول: "شعريا، يعيش الإنسان على هذه الأرض" فمن الممكن القول "وظيفيا، يعيش العربي على هذه الأرض".

( 13 )

كانت الرؤية الخليلية لفن الشعر ترجمة دقيقة للرؤية الدينية. كانت بينهما مطابقة شبه كاملة: فقد أخضعت القواعد والأشكال في الشعر لمبدأ مطلق وثابت تماما، كما هي الحال في الحياة والفكر بالنسبة للوحي. فقد وضع الخليل معيارا أساسيا واضحا ومطلقا شأن المعيار الديني، يقاس عليه الشعر، ويميز به الشعر من اللاشعر. إن في ذلك ما قد يوضح لنا استطرادا، غياب تاريخ حقيقي للشعر العربي حتى اليوم. فليس هناك حتى الآن مثل هذا التاريخ، علما بأن الشعر العربي هو أقدم شعر متواصل في العالم الحديث. وسيطرة هذه المعيارية هي التي سمحت بالكلام على انحطاط ونهوض في الشعر، مما لا مثيل له في العالم كله، لأنه كلام، يناقض الشعر من حيث أنه ينظر إليه كما ينظر إلى العلم بوصفه كما تراكميا، أو كما ينظر إلى الدين بوصفه بعدا عن الأصل- النموذج أو قربا منه. الشعر لا يوصف بالانحطاط أو التقدم على المستوى التاريخي، بل بالشعرية أو اللاشعرية. الانحطاط مثلا في الشعر العربي كان مبدأ حداثة من حيث أنه كان تحطيما للنمذجة وخلقا للغة يومية في مستوى الأشياء اليومية. ثم إن الشعر حتى في أوج كماله يعيش في أزمة.

الشعر تحديدا أزمة. فهو دائما جدل، صراع بين الشاعر ونفسه، بينه وبين اللغة، بينه وبين الأشياء. لكن الشعر بحسب الرؤية الدينية، وظيفة، وهو يتقدم أو ينحط بحسب فعاليته الوظيفية. وفي هذا المستوى، استطرادا، نقول إن الشعر العربي ميت، بسبب من وظيفته بالضبط، ومن النظر إليه وتقويمه، استنادا إلى فعاليته الوظيفية. ومن هنا ندرك مرة ثانية أن مشكلة الحداثة، ليست مشكلة الشعر وحده، بل هي مشكلة الفكر والحياة الثقافية، مشكلة الفكر والعقل. ومعنى ذلك أن الحداثة تتمثل في حقائق جديدة تفصح عن نفسها بأشكال جديدة. ولئن كانت أشكال البحث عن الحقيقة التي عرفها المجتمع العربي ثلاثة: الشعر- الدين، والفلسفة ذائبة في الدين، فلم يبق إلا الشعر لأنه بقي على الهامش. لكن هذا الهامش ألغته في العصر الحاضر الأيديولوجية، من كل نوع. اليوم أكرر، وأحب أن أكرر، أن لا وجود للشعر في المجتمع العربي بوصفه رؤية تأسيسية أو بوصفه شكلا معرفيا مستقلا لرؤية الوجود، وللحدس به وللإفصاح عنه. هكذا يبدو لي أن إغفالنا نقد ما يحول دون الحداثة، عنيت القراءة السائدة للوحي والممارسة السائدة له، هو الذي يسهم في تحويل الماضي إلى طقس هائل، بحيث يصبح أشبه بمحيط خرافي لا حد له، يبتلع الواقع كله، يهيمن عليه ويسيره. وهذا هو ما يميت الماضي نفسه. فتكرار الموروث كمثل نفيه. أو لنقل التكرار نوع آخر من النفي. وهؤلاء الذين يكررون الماضي، لا يقومون في الواقع إلا بنفيه، فليس تكرار الأصول أو اجترارها هو ما يجعل الإنسان مرتبطا بالأصول، بل نقدها والحوار معها. فما يؤصل الإنسان يكمن في المساءلة المستمرة للأصول. هكذا يبدو، فيما نلغي هذه المساءلة، كأننا نعيش بلا تراث وبلا حداثة وبلا شعر.

( 14 )

الحداثة هي بالضرورة انشقاق وهدم من حيث أنها تنشأ عن طرق معرفية لم تؤلف، وتطرح قيما لم تؤلف. إن الانشقاق جزء عضوي من الوحدة، لا يجوز أن نخاف منه، والهدم وجه آخر للبناء. وتتضمن الحداثة الرفض والتمرد من حيث أنها تتخلى عن التقليد، ومفهومات الأصول والأسس والجذور والمعايير الثابتة. والحق أننا نحن العرب اليوم لا نخلق حداثتنا الخاصة في القرن العشرين بقدر ما نعايش قليلا أو كثيرا نهايات الحداثة التي خلقها بعض أسلافنا الهامشيين في القرنين التاسع والعاشر. والحداثة مقرونة بالاختلاف والفاجع من حيث أنها تتعارض مع السائد من مفهومات الهوية والوحدة والثبات والنهائية وتؤكد على القطيعة والكثرة والتنوع والتحول والتفتح المستمر واللانهائية. ونقول أخيرا لا حداثة على المستوى النصي الإبداعي أو على مستوى التنظير، خارج هذا التمزق المعرفي. وما عدا ذلك مما يسميه بعضهم حداثة ليس إلا تقليدا آخر، ليس إلا مرضا آخر في قلب تاريخنا الذي أنهكته الأمراض.

(باريس، 1992) 
المصدر : البيانات
أدونيس، محمد بنيس، أمين صالح - قاسم حداد / دفاتر كلمات
(1) الطبعة الأولى 1993 البحرين

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا