في الذكري التاسعة لرحيله
3 لويس عوض.. شاعراً
أحمد
عبدالمعطي حجازي - مصر
إذا كانت قصائد لويس عوض
في ديوانه بلوتولاند لاتوهله لان يكون شاعرا معدودا من شعراء جيله, فهي توهله بلا
جدال لان يكون رائدا من رواد الحركه الشعريه الجديده. اقصد اننا نستطيع ان نختلف
حول قصائد لويس عوض من حيث هي منجزات شعريه متحققه, لكننا لن نختلف ابدا حول هذه
القصائد كتجارب جديده, او نبوءات بشعر جديد يتحرر من تقاليد الشعر القديم
المتحجره التي فقدت قيمتها ومعناها, وينجح في خلق لغه شعريه جديده تتجسد فيها روح
العصر وتتنفس همومه وصوره وتتردد ايقاعاته. ولقد تميزت نبوءات لويس عوض بالشجاعه
والوضوح والقدره الفذه عي تنسم روح العصر ورويه المستقبل والمشاركه في صنعه. وانا
شخصيا اعتقد ان لويس عوض شاعر حقيقي. والشاعر الحقيقي لايعرف من شعره الجيد
وحده, بل يعرف ايضا من شعره الرديء. فكل البدايات لاتخلو من ضعف وركاكه, لكن
الناقد الحصيف او القارئ المتذوق المثقف يميز بين ضعف الشاعر الحقيقي وضعف الشاعر
الدعي, تماما كما نميز بين شاعرين مجيدين لكل منهما فنه وعالمه ولغته والهامه.
والنقاد القدماء لايقصرون حديثهم علي الجيد الرائع من شعر ابي تمام او المتنبي,
وانما يتكلمون كذلك عن الساقط الرديء والغث البارد من شعر هذا وذاك. وبامكاننا
نحن ايضا ان نتحدث عن قصائد ضعيفه متهافته لشوقي, ومطران, والزهاوي,
والرصافي, والعقاد, واحمد زكي ابو شادي, وسواهم. والشاعر المجيد لايحتاج
الي اكثر من عشر قصائد جيده حتي يستحق مكانه بين الشعراء المجيدين. وانا لا اقارن
بالطبع بين لويس عوض وبين من ذكرتهم من الشعراء, ولكني اقول انه كان يستطيع ان
يبلغ في الشعر مكانه عاليه مرموقه لو انه تفرغ له, لكنه لاسباب مختلفه اثر
التدريس في الجامعه,. وانصرف! ان النقد والدراسه الادبيه والفكريه, اللهم الا
في الازمات الروحيه والتجارب العاطفيه العنيفه التي كانت تمر به فترغمه علي كتابه
القصيده حينا, او الروايه او المسرحيه حينا اخر.
حيث يقول في قصيدته
كيرياليسون: ابي, ابي ابي, ابي احزان هذا الكوكب ناء بها قلبي
الصبي الرزء تحت الرزء في صدري خبي والشوك في جفني, حراب الهدب سلت
دميعات كذوب السم من جفني الابي شبت علي قلبي سعيرا مستطير اللهب ابي ابي,
ابي ابي, ابي ابي,
ابي ابي, ابي لن ياابي واستجب لذوي الطوي والسغب والعاشق المنتحب
........ دنياك ماساه ازحت الستر عنها منذ بدء الحقب اقول حين نقرا هذه
الابيات تصدمنا هنا او هناك عباره فجه, او ايقاع قلق كما نري مثلا في السطر
السادس الذي جاءت في الاستعاره مفككه غيرمصقوله, فقد اراد ان يقول ان رموشه حراب
او اشواك, لانه لايكاد يفتح عينيه الا علي صور جارحه داميه من صور الحزن والعنف
والقسوه التي تجتاح العالم ويشقي بها الناس في كل زمان ومكان, وكما نري في كلمه
خبي التي اضطر فيها الي حذف الهمزه فبدت غريبه غير مالوفه, لكننا لانستطيع مع هذا
الا ان نعترف بمافي هذه الابيات البسيطه الساذجه احيانا من روعه, فالطفل الذي
يتحدث الي ابيه هو الانسان الذي يناجي ربه, ولهذا استعار لويس عوض عنوان قصيدته
من قصيده تحمل العنوان ذاته للشاعر الفرنسي بول فرلين, وهو في اصله عباره يونانيه
تتردد في صلوات المسيحيين الارثوذكس, هي Kyrie eleison ومعناها يارب
ارحم. والرائع في هذه الابيات ان الطفل الصغير البرئ المحتاج اشد الحاجه الي عطف
ابيه ودفئه وحنانه, معذب بما يتحمله من احزان البشر. هذه المفارقه مصدر من
مصادر الروعه التي نحسها في هذه الابيات, والحداثه مصدر اخر فصوره الطفل الذي
ينوء كاهله بخطايا الاخرين وعذابات الارض كلها صوره لاتخطر الا لشاعر يعيش في هذا
العصر الذي استطاع فيه البشر ان يهبطوا علي سطوح الكواكب الاخري. ونحن نري هذه
الصوره تتردد في قصائد كثيره للويس عوض, كما في القصيده التي اهداها لمن اهدته
ديوان فرلين: بيني وبين الشمس الف فرسخ والغابه الجرداء طي روحي تدر
اعني النور, هللا فلق من نور عينيك يضئ روحي! كانه كائن مجنح يطلب الشمس
البعيده, ويرحل بعيدا وحيدا لايحمل من الارض وطنه الاول الا تلك الغابه الشتائيه
التي تجردت اشجارها من الورق والخضره, فهي جذوع وفروع واغصان رماديه جافه, هشيم
ممتد متقاطع يملا روحه ويحجب عنه نور الشمس, فلا امل له الا في بصيص من نور يشع
من عينين حانيتين. لكن هيهات, فقد سكنت الوحشه روح الشاعر الذي فقد براءته حين
اوغل في المعرفه, فاستبدت به الوحشه, وقامت سدا فاصلا بينه وبين المراه التي
يحبها! حم الوداع, دعيني في الستر بيت الغصون بيني وبينك سد يا اخت
روحي الحزين نستطيع اذن ان نتفق علي ان لويس عوض كان في وسعه ان يحتل في الشعر
مكانا يستحقه, لكنه فضل ان يكون مبشرا بالشعر الذي لم يكتب منه الا بدايات
ومحاولات, وان وصفه بوضوح, ودعا اليه بقوه في البيان الذي قدم به ديوانه
بلوتولاند ووضع له هذا العنوان المثير حطموا عمود الشعر. وبلوتولاند ديوان
صغير يضم بضع عشره قصيده بالاضافه الي عده مقطوعات نظمها كلها لويس عوض بين
عام1938 حين سافر الي انجلترا مبعوثا الي جامعه كامبريدج, وكان في الرابعه
والعشرين من عمره انذاك, وعام1940 حين اضطر الي ان يقطع بعثته بعد نشوب الحرب
العالميه الثانيه, ويعود مبحرا الي وطنه عن طريق راس الرجاء الصالح, علي ظهر
سفينه كانت خلال رحلتها الطويله للقارات التي كانت تشنها الطائرات الالمانيه علي
سفن الحلفاء. واسم الديوان ماخوذ من الكلمه اليونانيه بلوتون اي الغني واهب
الثروه, وهي صفه من صفات اله الجحيم في الاساطير اليونانيه, القديمه, مضافه
الي الكلمه الانجليزيه لاند التي تعني الارض او البلاد, فبلوتولاند هي مملكه
الذهب, او حضاره الماده التي حلت في هذا العصر محل حضاره العقل والروح,
فالحضاره الصناعيه الراسماليه حضاره جهنميه, كما كان يتصورها لويس عوض المتحمس
انذاك للفكره الاشتراكيه. وكان لويس قد نظم, وهو في كامبريدج قصيده قصصيه
ابطالها ثلاثه من الشباب الحالمين الذين خرجوا يبحثون عن الحب والحق والمجد,
لكنهم انتهوا كهولا يجرون وراء المال و يقنعون به: توادع الفرسان ثم ذهبوا
في الارض يبحثون عن دروع اصلب درع في الحياه الذهب حامله يامن عض الجوع!
من هنا سمي لويس عوض قصيدته بلوتولاند, ثم اطلق هذا الاسم علي الديوان الذي طبعه
علي نفقته في اوائل عام1947, واصدره في الف نسخه تولي توزيعها الاصدقاء المتحمسون
لتجاربه الجديده, فالديوان يضم قصائد نظم بعضها بالفصحي وبعضها بالعاميه, وهو
في بعض القصائد يتبع القوانين الموروثه في الوزن والتقفيه, وفي بعضها الاخر يتحرر
من هذه القوانين, فينشئ تشكيلات عروضيه جديده, كما فعل بعد ذلك بدر شاكر
السياب, ونازك الملائكه, وعبد الرحمن الشرقاوي, وصلاح عبد الصبور, وسواهم
من رواد حركه التجديد, وهناك قصائد اخري يهمل فيها لويس عوض الوزن بكل اشكاله,
ويكتب في الشكل الذي اصبح يسمي الان قصيده النثر, ولهذا وضع لويس عوض للمقدمه
التي صدر بها ديوانه هذا العنوان المثير حطموا عمود الشعر, فكانت هذه المقدمه اول
بيان ثوري يفند فيه الشعراء المجددون حجج الشعراء المحافظين, ويشرحون الاسس التي
تقوم عليها حركه التجديد الشعريه, وقد اهدي لويس عوض استاذه طه حسين نسخه من
ديوانه, فقراها, كما وصلت نسخه من نسخه الي الاستاذ العقاد, ومع ان الطبعه
الاولي او معظمها نفدت في السنوات الثلاث التاليه لصدوره فهو لم يقرا قراءه جيده
الا في الخمسينيات والستينيات حين اشتد ساعد حركه التجديد, فلفتت الانظار الي
الارهاصات والتجارب الاولي التي تبنت فكره التجديد وبشرت بها قبل ان يظهر الجيل
الجديد من الشعراء العرب الذين حولوا الفكره الي واقع مشهود, ومن هنا يختلف
المورخون حول الدور الذي لعبه لويس عوض في حركه التجديد, بعضهم كالشاعره العراقيه
نازك الملائكه ينكر هذا الدور بحجه ان ديوان لويس عوض لم يقرا قراءه واسعه, ولم
تتاثر به الا اوساط محدوده. واخرون لا يعولون علي هذا المقياس الذي لا يمكن
تحديده, وانما يرجعون الي تاريخ صدور الديوان, فيجدون ان لويس عوض قد سبق نازك
والسياب والشرقاوي وصلاح عبد الصبور والبياتي الي تجديد الاوزان والكتابه في هذا
الشكل فهو اذن من الرواد الاوائل لحركه التجديد, وان لم يكن رائدها الوحيد.
وهو لم يمارس دوره بما نظم فحسب, بل مارس هذا الدور كشاعر وناقد معا, كما نري
في المقدمه التي صدر بها ديوانه ودعا فيها الشعراء الي ان يحطموا عمود الشعر.