بعض الناس, وربما
اكثرهم, يظنون ان الوزن في الشعر حليه او قيمه شكليه تضاف للكلام فتزيده جمالا في
نظر البعض, او تقيده وتضغط عليه, وتكبح جماحه, وتنال من حريته وقدرته علي
التعبير في نظر البعض الاخر, والدليل علي ان الوزن قيمه مضافه للشعر من خارجه,
اننا نستطيع ان نحرر البيت الموزون من وزنه ونكتبه منثورا كما نفعل مثلا بقول
المتنبي: ما كل ما يتمني المرء يدركه.. تاتي الرياح بما لا تشتهي السفن
فنقول: المرء لا يدرك كل ما يتمناه.. والرياح تاتي بما لا تشتهي السفن..
ونحن نترجم الشعر الموزون المقفي في اللغات الاخري ترجمه منثوره لا وزن فيها ولا
قافيه في معظم الاحيان, كما نفعل مثلا في ابيات بودلير التي يقول فيها من قصيدته
الي متسوله شقراء:
Blanche fille aux
cheveux roux, Dont la robe par ses trous laisse voir la pourete
Et la beaute البنت البيضاء بشعرها الاشقر وثوبها الذي تسمح فتوقه برؤية
فقرها وجمالها
ونحن نعرف ان العلماء القدماء كانوا يضعون القواعد
والاحكام والتعريفات العلميه في ابيات منظومه ليسهل علي الطلاب حفظها, كما فعل
علي بن الجهم في التاريخ, وابن مالك في النحو, والقزويني في العروض. فاذا كان
ابن مالك يقول في البيت الاول من الفيته: كلامنا لفظ مفيد كاستقم اسم,
وفعل, ثم حرف الكلم
فهو لم يزد علي ان حشر في بحر الرجز هذا المدخل البسيط
الي علم النحو, وبوسعنا نحن ان نخرجه من هذا السجن الضيق, ونضعه في صوره ابسط
واوضح فنقول ان الكلام الفاظ تدل علي معني, واللفظ اما ان يكون اسما, واما ان
يكون فعلا او حرفا. وسواء كان تاثير الوزن في الشعر سلبا او ايجابا, فهو في
نظر البعض الان زياده يمكن للشعر ان يستغني عنها, ويتحقق بدونها.
لكن
هذه نظره قاصره بعيده عن الصواب.. فالشعر ليس مجرد معني يمكن ان يستقل بنفسه,
والمعني في الشعر لا يتحقق بدلاله الالفاظ وحدها, بل يتحقق بدلالات الالفاظ
واصواتها في وقت واحد والذي يقال عن الفيه ابن مالك لا يمكن ان يقال عن شعر
المتنبي. والفهم الصحيح للوزن ووظيفته في الشعر يبدا من الفهم الصحيح لوظيفه
الشعر.. لماذا ظهر الشعر في كل اللغات؟ ولماذا نكتبه؟
نحن لا نقرا القصيده
لنشبع حاجه من حاجاتنا العمليه, او نفهم مساله من المسائل العلميه والفكريه, او
لنتابع ما يجري من تطورات واحداث, وانما نقرا الشعر لنعيش تجربه عقليه انفعاليه
تختلف كل الاختلاف عن كل ما ذكرت. تجربه نعرف بها تلك النشوه العميقه العارمه
التي تستيقظ فيها مشاعرنا وملكاتنا وقوانا الظاهره والخفيه, فنحن نتطوح فيها كما
يتطوح المتصوفه وقد تجلي لهم العالم وانكشفت اسراره, وترامت الي اسماعهم وخواطرهم
الاصداء البعيده والهمسات القريبه, فهم اطفال ابرياء وشيوخ حكماء, وهم ايقاظ
نيام, يختلجون ارواحا وابدانا, يعرفون ولا يعرفون, لان ما عرفوه اعظم من ان
يتمثلوه, واهون من ان يكتفوا به. التجربه الشعريه الحقه هي اعمق تجربه يمكن
ان يمر بها الانسان.. ومع ان الشعر يتحقق باللغه فهو يغير اللغه ويعيد تشكيلها,
ويقدح شررها, ويفجر ايقاعاتها, ويستدرج ما تزخر به اعماقها من الوان واشكال
وروي, ويقولها ما لم تكن تقوله من قبل, ولقد كنت اقرا ابا العلاء فاراه يتوجع
في شعره ويستغيث اه غدا من عرق نازل! والغوث من صحه هذا النبا! فارد توجعه
واستغاثاته الي ما يخايله من صور ويخامره من كوابيس, وهذا ليس كل الحق, ففي
استغاثاته فرح وغبطه بما يتحقق علي يديه من شعر ونشوه غامره بما يجد.
ومع
ان الشاعر ينتفع بمعارفه وتجاربه, وبمعارف الاخرين وتجاربهم, ومع انه قد يصف
الاشياء التي نراها والمشاهد التي نعرفها, ويعبر عما يراودنا من احلام وخواطر
ومشاعر فهو لا يصف, ولا يقص, ولا يخبر, ولا يقاضي, ولا يحكم كما نفعل في
لغه التفاهم والاتصال اليومي, وانما يحملنا الشاعر الي هذا السحر او يحمله
الينا.
باختصار, الشعر تجربه انفعاليه لا تتحقق الا بلغه خاصه, واللغه الشعريه مجاز,
اي جسر ننتقل به مما نعرفه الي ما لا نعرفه, او مما نعرفه معرفه عامه مشتركه الي
ما نريد ان نعرفه معرفه خاصه ذاتيه يقترحها علينا الشاعر ويقنعنا بها.
معني هذا ان عمل الشاعر منصب علي تزويد اللغه باقصي ما يستطيع من طاقه تمكنها من ان
تنسلخ من وظيفتها العاديه وتتجاوز حدودها لتودي وظيفتها الشعريه. ولقد تعودنا
علي ان نحصر عمل المجاز داخل حدود المعني, وان نستخدم ما يوجد بين الالفاظ من
علاقات معنويه كالتشابه والتجاور والاتصال لنحقق الانتقال المطلوب من المعني
المعجمي المعروف الي المعني الشعري المبتدع او المقترح, دون ان ننتبه الي ان
الالفاظ ليست معاني ودلالات فحسب, ولكنها اصوات ايضا يتصرف فيها الشاعر,
ويتلاعب بها, ويشكلها ويحولها الي ايقاعات تسهم مع المعني في صنع اللغه المجازيه
التي هي ماده الشعر وقوامه.
اريد ان اقول ان الوزن في الكلام طاقه تساعده
علي ان يودي وظيفته الشعريه, كما يساعده في ادائها اتصال الدلالات وتداخلها
وتقاطعها. فالفتاه الرشيقه الرقيقه النافره تتحول عن طريق المجاز الي ظبي او
غزال, لان هذه الاوصاف اظهر ما تكون في هذا الكائن الفاتن. لكننا نعلم ان
الغزال الذي نتحدث عنه في القصيده ليس هو الغزال الذي نعرفه في الصحراء او في حديقه
الحيوان, كما انه ليس الفتاه التي نعرفها في الجامعه او النادي او حديقه
النباتات.. فنساء الواقع لسن غزالات, وغزالات الواقع ليست نسوه.. وغزال الشعر
اذن كائن ثالث لا تحققه ولا تشخصه الا لغه مجازيه, اي لغه تتجاوز نفسها, وتغير
وجهها وصوتها وتتحول الي براق ينقلنا الي ملكوت الشعر فننتقل معه, ونصدق ما يوحي
لنا به, كما يفعل الممثل الذي يصبغ وجهه, ويغير لغته, وصوته, وملابسه لنصدق
انه عطيل, او هاملت, او شهر يار.
الوزن هو الجناح الاخر للمجاز الي
جانب الصوره الشعريه, وبالصوره والوزن تنتقل اللغه من عالم اليقظه الي عالم
الحلم, او تتحول من المشي الي الرقص, كما كان يقول الشاعر الفرنسي بول
فاليري.. واذا كانت هذه هي وظيفه الوزن, فالوزن شرط جوهري لا يمكن للشعر ان
يقوم بدونه. والمجال لا يتسع لتقديم شهادات النقاد والشعراء المعاصرين في هذه
المساله. وباستطاعه القارئ ان يعود اليها في مظانها فيقرا مقالات ايليوت
ومحاضراته عن موسيقي الشعر في اعماله النقديه التي ترجمها الدكتور ماهر شفيق فريد
وصدرت عن المجلس الاعلي للثقافه, ويقرا ترجمه الدكتور احمد درويش لكتاب جان كوهن
بناء لغه الشعر الصادره عن دار المعارف. ومما يوسفني ان اجد نفسي مضطرا للدفاع
عن البديهيات ومنها حاجه الشعر للوزن, فضلا عن اضطراري لاحاله القارئ الي شهادات
الانجليز والفرنسيين حتي يقتنع بما يرفض الاقتناع به اذا عرضناه عليه دون ان نستعين
في ذلك بشهادات الشهود الاجانب, مع ان شهادات الاجانب ليست حجه علينا, لان الذي
قد تقبله اللغه الانجليزيه او الفرنسيه قد لا تقبله لغتنا.. لكن ماذا نفعل
والاجيال الجديده تسمع اكثر مما تقرا, وتنخدع بما تسمع فتعتنقه وتعمل به دون ان
تفحصه وتفكر فيه.
ولو نظر القارئ الي تاريخ الشعر في كل اللغات لوجد ان
الوظيفه الحيويه التي يوديها الوزن في الشعر ليست في حاجه الي بيان او توضيح.
ولقد تغيرت اللغات وتطورت الاداب, وانقرضت انواع, وازدهرت انواع اخري, وظل
الوزن حجر اساس في الشعر يقوم عليه البناء كله, لان الشعر لغه مجازيه كما شرحت,
ولانه لغه طقسيه, ولانه معرفه شامله, فهو غناء, ورقص, وحكمه وتامل,
وتصوير وتمثيل.
فاذا كانت قد ظهرت محاولات لكتابه شعر بغير وزن فنجحت
احيانا وفشلت احيانا, فلن يغير نجاحها هذا من القانون شيئا, ولن يقنعنا بان
التراث البشري كله باطل, وان الشعر لم يتحقق الا الان! والمشكله الكبري في
لغتنا الفصحي انها لغه نقراها بعيوننا ولا نكاد ننطقها بالسنتنا, لاننا لا نتعامل
بها, ولا نفسح لها في حياتنا, ولا نلتفت لوجودها الا في لحظات عابره مصطنعه.
وانك لتجد الرجل يقرا ثم يضطر لان ينطق فتدرك انه عاجز عن النطق الصحيح, واذن فهو
عاجز عن الفهم الصحيح, لان الصوت اللغوي علامه علي المعني, فان لم تفهم
دلالته, او ان جعلته صوتا حملته دلاله ليست له. قصيده النثر اذن ثمره من
ثمار الصمت الذي اصبنا به, فنحن خرس لا نقول ولا ننشد!