من الظواهر التي يجب
ان نتوقف عندها في هذه المرحله الغامضه من حياتنا الادبيه لنناقشها بجديه, ونعرف
موقفنا منها بوضوح وصراحه, طغيان قصيده النثر. وانا اعتبر حياتنا الادبيه,
وحياتنا الثقافيه عامه, في هذه المرحله غائمه غامضه, لانها غاصه بوعود
لاتتحقق, وبدايات لا تكتمل, ومواهب لا يلتفت اليها احد, واكاذيب تصعر خدها
للناس وتستعلي علي الحقائق الخرساء, واسئله لا تجد من يسال ولا تجد من يجيب.
واخشي ما اخشاه ان يكون النقد ذاته, وهو الموكل بتفسير الظواهر وطرح الاسئله,
قد اصبح هو نفسه في حاجه الي تفسير ومساءله, والي نقد جاد نزيه مسئول ينتشل النقد
من غموضه ولامبالاته وفوضاه.
والحياه الادبيه التي اتحدث عنها هنا هي
الحياه الادبيه العربيه كلها, وليست حياه بلد بالذات. فاذا كانت عيني علي مصر
التي اعرفها جيدا, فانا اعرف ايضا سواها من البلاد العربيه, واتابع ما يكتب
فيها وما ينشر, واشارك بقدر ما استطيع فيما يدور من حوار, وما يعقد وينظم من
ندوات ولقاءات, فان كان حقا ما اري, فالذي يمكن ان يقال عن مصر ليس بعيدا عما
يمكن ان يقال عن اي بلد عربي اخر, والمحصول الثقافي العربي الذي اخذ يتراجع كما
وكيفا منذ اواخر الستينيات وصل الي ادني مستوياته الان. ومنذ بدات حركه الاحياء
او النهضه في النصف الاخير من القرن الاسبق, التاسع عشر, لم تمر علينا سنوات
كهذه السنوات العجاف. خلال الاعوام العشرين الماضيه لم يظهر في الشعر اسم واحد
له شان. والذين نقرا لهم الان من الشعراء العرب هم الذين ظهروا في الستينيات
والسبعينيات. وكذلك الامر بالنسبه للقصاصين والروائيين, فكلهم من الاجيال التي
ظهرت قبل الثمانينيات, باستثناء بعض النساء اللائي ظهرن في العقدين الاخيرين,
ولم تستقر اسماوهن بعد. وكذلك في التاليف المسرحي الذي اصابه ما اصاب الشعر
والقصه والروايه والنقد, فلم يظهر فيه خلال العقدين الاخيرين اسم جديد.
ونحن نتابع ما يحدث في الجامعات, ونقرا ما يصدر عن دور النشر, وما تطالعنا به
الصحف, فبوسعنا ان نقول ان امثال مشرفه, وعثمان المفتي, ورشدي سعيد, وجمال
الفندي, وسليم حسن, وجمال حمدان, وزكي نجيب محمود, وعبدالرحمن بدوي,
وحسين فوزي, ويوسف مراد, ومصطفي زيور, والسنهوري, وابو زهره, وشلتوت من
علماء الطبيعه والجيولوجيا, والفلك, والحياه, والجغرافيا, والتاريخ,
والفلسفه, والقانون, وعلم النفس, والدين هولاء لم يعوضهم احد, وربما ظهر في
الاجيال الحاضره من لم يكتف باداره ظهره للعلم, بل اشتغل بالسحر والشعوذه,
وتاجر بالدين, وكفر العلماء والمفكرين! وهل اتحدث عن حال المسرح والسينما,
والتلحين والغناء؟
اما الكارثه الحقيقيه فتتجسد في انهيار معرفتنا باللغه
التي نكتب بها, وهي العربيه الفصحي. هذا الانهيار المتمثل في لغه الكتابه,
ولغه التعليم والبحث, ولغه الاعلام والمكاتبات الرسميه. وباستطاعه اي منا ان
يمسك باي نموذج كيفما اتفق, سواء من لغه الصحف, او لغه الكتب المدرسيه
والجامعيه, او لغه الاذاعه والتليفزيون ليجد الدليل علي ما اقول.
وانا
هنا لا اتحدث عن اخطاء في النحو قد تقع لاي مرتجل ولو كان الوليد بن عبدالملك, بل
اتحدث عن اخطاء في النحو, والمعجم, والنطق, والتركيب, والاملاء. اخطاء
تقع علي الدوامه, ويقع فيها الجميع حتي الكتاب الذين يجلسون للكتابه مستعدين
مترصدين, وحتي للمصححين الذين يحترفون التصحيح. ولاباس من بعض الفتك هنا كما
كان يقول الجاحظ فاضيف ان بعض المكاتبات الصادره عن مجمع اللغه العربيه لم تخل من
الاخطاء, سوي ان الجاحظ كان يفترض, وانا اتحدث عن واقعه مشهوده. ولقد
اصبحنا نقرا في الصحف والبيانات الرسميه ركاكات مترجمه كان يتحدث بعضهم عن
الفعاليات بدلا من الاعمال او الوان النشاط, وعن القضايا ذات الاهتمام المشترك
بدلا من القضايا المهمه او التي تهم الطرفين. فاذا كانت اللغه قد فسدت او افسدت
حتي انتهت الي ما انتهت اليه, فقد احمدالصمم كما يقول المتنبي. والمشكله اذن لا
تنحصر في قصيده النثر او في اي فن اخر, وانما هو تراجع شامل لابد ان نبحث عن
اسبابه في التطورات التي شهدتها بلادنا في النصف الاخير في القرن العشرين.
ولقد تعرضت لهذه القضيه مرات من قبل, ووقفت امام هزيمه1967 التي اجهضت
احلامنا, واهدرت ما قدمناه في سبيلها من ارواح واموال واعمال, وافسدت علاقه
الاجيال الجديده بثقافتها القوميه التي حملتها مسئوليه الهزيمه, واتهمتها بالكذب
والنفاق والتستر علي جرائم الطغاه في حق الامه والوطن. وبوسعنا ان نضيف
العولمه الي الهزيمه, فالتطورات الخطيره التي تتابعت في العقدين الاخيرين وغيرت
شكل العالم والمجتمع, ومعني الحاضر والماضي والمستقبل, هي التي افسدت شعور
الاجيال الجديده بالانتماء والمسئوليه, وشجعتها علي ان تكون لا مباليه او
عدوانيه.
العولمه, اقصد الامركه من ناحيه, وهزيمه يونيو من ناحيه اخري, هما المعولان
اللذان انهالا علي الثقافه العربيه وعلي علاقه اجيالنا الجديده بها. انحطاط
اللغه, وتوقف الابداع, واستفحال التيارات المعاديه للعلم والحريه ثمرات مره من
ثمار الهزيمه والعولمه. وفي هذا الاطار نستطيع ان نفهم هذه الظاهره التي دعوت
لمناقشتها وهي طغيان قصيده النثرالتي تتغذي من ضرعين مسمومين: انهيار اللغه,
وتراجع الشعور بالانتماء! لقد افسدوا القول ولم يقفوا عند هذا الحد, بل
اصروا علي افساد الذوق ايضا. لانهم لا يقولون لانفسهم, ولا يرضون من احد ان يصم
اذنه عنهم, ويتخذون من الوسائل والسبل والاساليب والحيل ما يمكنهم من الانفراد
بالجمهور, كما فعلوا في مهرجان الشعر العربي الفرنسي الذي نظمه معهد العالم
العربي في باريس. فقد فوجئت بعد وصولي بان قائمه المدعوين العرب المكونه من ثلاثه
عشر اسما لا تضم سوي كتاب قصيده النثر. اما انا فقد دعيت بوصفي عضوا من اعضاء
اللجنه التي اسست المهرجان, ومعي الشاعر العراقي الاستاذ سعدي يوسف بوصفه عضوا في
لجنه الشرف.
ولست في حاجه لاقول انني لا اعبر هنا عن غضب شخصي ليس له ما
يبرره, فقد استقبلت بحفاوه من مدير معهد العالم العربي والعاملين فيه, ودعيت
لالقاء كلمه في افتتاح المهرجان الي جانب المسئولين وكبار المدعوين, وانما انا
غاضب للشعر العربي الذي اعتقد انه لم يمثل في هذا المهرجان, وان الذين دعوا
لتمثيله لا يشكلون الا ظاهره لم تستقر قيمتها بعد ولم تتضح حتي طبيعتها, واعني
بها قصيده النثر. صحيح انها اصبحت ظاهره طاغيه, لكنها لاتزال مع طغيانها غير
مبرره, لانها لاتزال فجه غير ناضجه.
ونحن نقرا للذين يكتبون هذا النوع
من الكتابه فنجد اخطاء لا يقع فيها تلاميذ المدارس. وفي اخر امسيات المهرجان
جلسنا نستمع الي المدعوين العرب والفرنسيين في بيت الشعر بباريس, وهو يسمي ايضا
مسرح موليير, فادهشنا ان يقع عدد من المدعوين العرب في اخطاء مخجله. فاذا كانت
قصيده النثر كما تكتب الان لاتزال عند هذا المستوي من الفجاجه والتلعثم فكيف تكون
مبرره؟ واذا امكن ان نتسامح مع قصيده النثر او مع ايه تجربه اخري اذا دخلت علينا
حييه متواضعه, فكيف نقبلها وقد بلغت هذا الحد من الصفاقه والغرور, واصبحت
قادره, لا علي ان تغتصب لنفسها مكانا في الصحف والمجلات والمهرجانات, بل علي ان
تستاثر بالمنابر وتنفرد بالامكنه. والذي نجده من قصيده النثر في باريس نجده في
مصر, وتونس, والمغرب, ولبنان, والعراق, والخليج.
معظم صحفنا
اليوم تنشر هذه الكتابات علي انها شعر, دون ان تنبه القراء الي ان هذا الشعر هو
نثر في الوقت نفسه, فلم يعد القراء فقهاء ذواقين كما كانوا في الاجيال الماضيه,
وانما هم يقراون الان سطورا ناقصه فيظنون انها شعر موزون علي طريقه نازك والسياب
وصلاح عبدالصبور. وكثير من المجلات والصفحات الادبيه اصبحت منحازه لهذا النوع من
الشعر المنثور, لان المشرفين عليها من كتابه ودعاته, او من الذين لا يستطيعون
التمييز بين شعر منثور وشعر موزون. ولاشك في ان البعض يستخدم مكانه في الصحافه
ليشتري به مكانا في الشعر, وهذا هو التفسير الوحيد لقصر الدعوه الي مهرجان
الشعرالعربي الفرنسي علي الذين يكتبون قصيده النثر دون غيرهم من الشعراء, اذا صح
ان الذي يكتب قصيده النثر شاعر. وهذا هو الطغيان الذي دعوت لمواجهته!