هذه كلمتي الاخيره في هذه السلسله التي بداتها
بالكلام عن قصيده النثر, ثم انتقلت منها للكلام عن الايقاع في الفن عامه وفي
الشعر بوجه خاص.
وقد سرني ان تجد هذه المقالات صدي واسعا لدي القراء المهتمين
ولدي الشعراء والنقاد المختصين, وان تدفع بعضهم للمشاركه فيها ومناقشه ما ذهبت
اليه اتفاقا واختلافا, سواء في هذه المساحه التي رحبنا فيها بعدد من الشعراء
والنقاد منهم محمود امين العالم, وحسن طلب, وسعيد توفيق, وماهر شفيق فريد,
واحمد درويش, او في بعض الصحف الاخري التي اطلعت علي بعضها, ولم يصلني بعضها
الاخر.
ولقد تميزت المناقشه بالرصانه والتبصر والشعور بالمسئوليه, وان
تطفل عليها احيانا, كما يحدث في كل المناقشات المفتوحه, ادعياء ومتسكعون!
ومن الواضح انها لم تغير موقف اي من اطرافها, الذين يدافعون عن قصيده النثر
ويعتبرونها شكلا من اشكال الشعر, والذين يتخذون منها موقفا سلبيا, ويعتبرونها
شعرا ناقصا لانها نثر ينقصه الوزن والايقاع.
لكن بقاء المواقف كما هي لا
يقلل من اهميه النتائج التي حققتها المناقشه, واولها ان المويدين لقصيده النثر
والمعارضين لها اصبحوا اقدر علي فهم مواقفهم التي لم تكن واضحه في بدايه المناقشه
كما اصبحت واضحه في نهايتها. ويكفي ان نتامل ما طرا علي استخدامنا للمصطلحات التي
استخدمناها ونحن نناقش الموضوع.
حين نتحدث عن قصيده النثر ماذا نعني بكل من
المصطلحين المستخدمين في هذه الاضافه. هل تكون القصيده المنسوبه للنثر او المضافه
اليه هي نفسها القصيده بالمعني المتعارف عليه اي القصيده الموزونه؟ بالطبع لا..
اذن ماذا تكون؟ وهل يكون النثر الذي يستخدم في كتابه قصيده من هذا النوع هو النثر
المستخدم في كتابه المقالات او الدراسات او القصص؟ فاذا كانت الاجابه بالنفي فما هو
اذن هذا النثر؟
ونحن نتحدث عن الوزن, ونتحدث عن الايقاع كانهما
مترادفان.. هل هما مترادفان؟ هل الوزن في الشعر هو نفسه الايقاع فيه؟ ام ان
الايقاع عام والوزن خاص؟ بمعني ان كل فن من الفنون ان لم نقل كل كائن حي وكل ظاهره
طبيعيه له ايقاعه الخاص الذي يتميز به, اما الوزن فهو الماده الاولي في ايقاع
الشعر بالذات؟
لا شك في ان للنثر ايقاعا خاصا به ليس هو الايقاع المستعار احيانا
من الشعر والمتمثل في السجع, والتركيبات النحويه غير المالوفه, وانما هو ايقاع
اخر يعتمد علي العناصر المعنويه في مقابل العناصر الصوتيه التي يعتمد عليها ايقاع
الشعر.
والفنون التشكيليه هي الاخري لها ايقاعاتها, وهي تتمثل في عناصر
وتقنيات وانماط تتكرر دون انتظام طبعا, والا كانت زخرفه, كما نري في استخدام
المصورين لالوان معينه او اساليب في الاضاءه, او طرق خاصه في تكوين اللوحه
وبنائها. وكما نجد في تشكيلات اعمده المعابد او المساجد, وتكرار الاقواس
المتماثله او المختلفه, والعلاقات العضويه القائمه بين المساحات والحوائط, وبين
الكتل والفراغات.
وكما ان الاذن تعشق قبل العين احيانا كما يقول عمر بن ابي
ربيعه, فالعين تدرك انواعا من الايقاعات لا تدركها الاذن, لانها ايقاعات بصريه
تري وتختلف عن الايقاعات الصوتيه التي تسمع ومنها ايقاعات الشعر والموسيقي. وكما
تختلف ايقاعات الفنون التشكيليه عامه عن ايقاعات الشعر والموسيقي, يختلف ايقاع
الشعر عن ايقاع النثر, وفي هذا مجال واسع للخلط, لان النثر والشعر معا فنان
لغويان,
وما دمنا قد اتفقنا علي ان الايقاع موجود فيهما معا فهو موجود في
قصيده النثر التي يري بعض النقاد انها تخلو من الوزن, لكنها لا تخلو من
الايقاع, وهذه مغالطه يجب ان ننتبه لها, لان ايقاعات النثر معنويه, تتحقق عن
طريق الصور والمعاني اكثر منها صوتيه, والعكس بالعكس في الشعر.
الايقاع في
الشعر يقوم اولا بالوزن الذي يتالف من المقاطع الصوتيه المتماثله, لكن الشاعر
يستخدمه بطريقته الخاصه, ويتلقاه القاريء مع سواه من العناصر اللغويه والمعنويه
التي تتالف منها القصيده ويتذوفه بطريقته الخاصه, وهذا هو الايقاع.. الايقاع
اذن هو الوزن وقد تجسد في القصيده.
وكما ان ايقاع الشعر غير ايقاع
النثر, فلغه الشعر تختلف عن لغه النثر مع انهما في الاصل لغه واحده. مفردات
النثر تعني ما تعنيه في المعجم, اما مفردات الشعر فتستمد معناها من القصيده او
السياق, والجمله في النثر تتبع القاعده النحويه في اغلب الاحيان, اما في الشعر
فيجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره, لان الشاعر حر, لكنها حريه مشروطه بشرط, هو
ان يظل داخل حدود الشعر, فان خرج منها الي النثر فقد ما كان ممنوحا له من
الامتيازات المقصوره علي الشعراء.
تنثير الشعر.. وتشعير النثر!
الاستاذ احمد عبدالمعطي حجازي..
تابعت بكل الاهتمام جانبا كبيرا من الحوار
الثقافي الذي ادرتموه حول قصيده النثر, والمناقشات التي اثارها في زاويتكم
بالاهرام او في الصحافه الادبيه الاخري, واسمحوا لي ان اوجز بعض النقاط المتصله
بالقضيه المثاره:
1 لا شك ان الانفجار المعرفي الذي شهده العالم في العقود الاخيره دفع الاداب
والفنون الي ان تطور من وسائلها, وتتاهب للاستجابه لمستجدات العصر, وتعالج
جوانب القصور فيها, وتنمي عناصرها الايجابيه, وقد تستاصل بعض عناصرها
المعوقه, والشعر فن من هذه الفنون, لكن الذين تقدموا لمعالجته من خلال قصيده
النثر عندما اقترحوها بديلا له قرروا استئصال الروح عوضا عن استئصال الاعراض
الضاره.
2 كان الاصرار علي مصطلح قصيده هو الذي فجر الازمه وخلط المفاهيم, وقد الف
الناس في ادبنا وفي كل الاداب ان الشعر شعر والنثر نثر, بل انه كما يقول جون كوين
في بناء لغه الشعر ليس الشعر مجرد شيء مغاير للنثر, بل هو مضاد للنثر ومن هنا لا
يستسيغ الناس في لغتنا ولا في اللغات الاخري ان تطلق كلمه القصيده او البيت علي اي
كلام نثري مهما تكن مقوماته, لكن مملكه الشعر تسمح باعاره مفردات اخري الي مملكه
النثر التي لا تقل عنها هيبه وجلالا ومنها كلمه الشعري او الشاعريه التي يمكن ان
تطلق علي اللوحه او اللحظه او المقطوعه النثريه.
3 ليست حرمه المجال
الاسلوبي وخصوصيته بين الشعر والنثر مقصوره علي احدهما دون الاخر, فللنثر ايضا
حرمته, ومصطلحات الشعر واساليبه قد تفسده, وقد لاحظ ابن خلدون في عصره ظاهره
مضاده لقصيده النثر التي هي في الواقع تنثير الشعر, وكانت ملاحظه ابن خلدون علي
تشعير النثر واضحه عندما قال: واعلم ان لكل واحد من هذه الفنون اساليب تختص به
عند اهله لا تصلح للفن الاخر, وقد استعمل المتاخرون اساليب الشعر وموازينه في
المنثور من كثره الاسجاع, والتزام التقفيه, وتقديم النسيب بين يدي الاغراض..
واجراء المخاطبات علي هذا النحو من اساليب الشعر مذموم, وما حمل اهل العصر عليه
الا استيلاء العجمه علي السنتهم, وقصورهم لذلك عن اعطاء الكلام حقه في مطابقته
لمقتضي الحال, فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد امده في البلاغه وانفساح خطواته,
وولعوا بهذا السجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام علي المقصود.
4
ليس لقصيده النثر كما هو معروف اي تعريف ايجابي, ولا خصائص واضحه, وهي فقط تعرف
بالسلب, وقد ادي هذا الي ظلم المبدعين القلائل ممن دخلوا مجالها, فقد تكاثر
عليهم الادعياء من كتاب الخواطر والهواجس والحكم المشوهه.. وما دامت الابواب
مفتوحه, وشرط الوزن والايقاع لاغيا, وشرط الموهبه غير ضروري, ومادام المعني
في بطن الناثر او في مكان اخر, فعلي القله من المبدعين الحقيقيين في هذا الجنس
الادبي ان يتحملوا نتيجه الفوضي والاختناق.
5 يقع المتحمسون لقصيده النثر في
خطا رئيسي في المحاجه نابع من افتراض ان هذا الجنس جاء ليقتل قصيده الشعر ويرثها
ويحل محلها, ومن ثم كانت النزعه الي تسفيه كل ميزه في قصيده الشعر واثبات انها
غير ضروريه, ومنها خاصه الوزن الذي عرفه الشعر في كل اداب العالم الغنائيه
والموضوعيه, وهذا الوزن الذي نسخر منه الان كان بمثابه الاسد العجوز الذي يربض
علي مشارف قريه قريبه من الغابه, وكان بعض المتحمسين يشكون من صوته الرتيب المزعج
بين الحين والحين, فاجتمعوا عليه وقتلوه وظنوا انهم استراحوا, وبعد فتره قصيره
دهمتهم الاف القرده التي تسكن الغابه وكانت تخشي الاقتراب من القريه في حمي
الاسد, واحتلت منازلهم وهذا ما حدث تماما مع القصيده في اندفاع الاف من غير
الموهوبين افسدوا علي المبدعين خصوصيتهم.
والزعم بان الوزن, فضلا عن
الايقاع, عنصر زائد خطا كبير عند من يدركون قوانين الفن, فليس المقصود في الشعر
ان يمر اللفظ والمعني في خط مستقيم او مترهل من منبعه الي مصبه, ولكن التعرج
ودقته وانتظامه جزء من قوانين اللعبه, وانظر الي النافخ في الاله الموسيقيه لو
انه جعل الهواء يدخل من ناحيه ويخرج مستقيما من الاخري لما احدث الا الصفير
المزعج, ولكنه بتقطيعاته وحبسه واطلاقه وتقارب وحداته او تنويعها عن طريق اللعب
بثقوب الاله يحدث هذا النوع من الامتاع الفني الذي جعل رامبو يسعي بالقصيده الي ان
تكون موسيقي قبل كل شيء
6 ليس من الصحيح ان قصيده النثر تمثل التطور
الطبيعي للشعر في الاداب العالميه التي تتطور بالعكس كما تتطور كل الفنون في اتجاه
التخصص, وفي هذا يقول جون كوين:
ان الشعر يبدو اكثر فاكثر شعريا كلما تقدمنا
مع تاريخه, وهي ظاهره ربما ساعدت علي تحديد المفهوم الحديث للجمال, حيث يلاحظ
ان كل فن يشهد لونا من الاستقطاب خلال لون من الاقتراب الذي يتزايد دائما نحو الشكل
الخالص المميز لذلك الفن, الشعر نحو الشاعريه الخالصه, والرسم نحو الفن المجرد
وخصائص الرسم الخالصه...الخ.
كما ان قصيده النثر ليست التطور الطبيعي
للقصيده العربيه, ويكفي ان نقرا اراء كبار شعراء العربيه المعاصره حولها, ومنهم
نزار قباني الذي قال عنها: انها حمل خارج الرحم!..
د. احمد درويش
نقلاً عن جريدة الأهرام