(كم شاعر يولد بعد مماته) قول قديم يقول ت،س،اليوت (أن الشاعر
الناقد يدافع عن نوع الشعر الذي يكتبه. لقد قيل الكثير عن
تنظير ادونيس ودراساته التحليليه ولكن ما يجب أن يقال أن للرجل
دورا مهما جعل المكتبة العربية حافلة بمواد كانت تفتقد إليها
أن لم تكن نادرة، مواضيعه النقدية والتحليلية ودواوينه التي
ترافقها أثارت زوبعة كبيرة من النقد واللانقد وحروب القصد منها
في الكثير من الأحيان الإساءة إلي الرجل لا أكثر، كما أن شعر
ادونيس دخل مختبرات النقد والتحليل الذي يخضع في بعض الأحيان
لعوامل كثيرة لا يمكن حصرها وقد يكون طرحها في المقدمة لا يخدم
وتسرعا علي حساب الموضوع الذي أردت له الانسياب علي وتيرة
هادئة، قد يتهم أدونيس بأنه يكتب للنخبة وانه غير معني إلا
بإظهار نفسه كحالة فريدة في الأدب العربي، ومعظم المطروح ومنذ
أكثر عقد هو نخبوي وليست له علاقة بالجماهير التي وضعت شماعة
(عل ما يطرح الآن له علاقة بما يسمي بأزمة الثقافة العربية)،
لان هناك مفاهيم معروفة منها أن العمل الأدبي الذي لا يرتبط
بالناس ليس حرياً بان يحترم أو يقبل أو أن يكون مؤثرا، المصيبة
لو عرفنا أن الجماهير لم تعد تقرا أو تعرف الغث من السمين لان
هناك ثقلا اجتماعيا متمثلا بالبحث عن فرصة للحياة من خلال
عوامل متداخلة اقل ما يقال عنها إقامة جبرية داخل العدم
والدوران حول أسباب البقاء بل أن إنسان هذه الأرض لا يسمح له
بممارسة
الحياة
وهذا يمثل السواد الأعظم من هذه الأمة المتأثرة بكل شيء يأتي
من خارج الحدود.
البعض يعد الشاعر علي احمد سعيد حالة طارئة والبعض يجعل منه
مادة مستنسخة من ثقافة غير عربية تحاول ان تمسخ وتغير وفق
مقاييس غريبة لا وجود لها في البيئة التي يعيشها الشاعر
والمنظر المقصود، الصورة الشعرية في أي منتج شعري يمثل ذائقة
المبدع وقدرته الثقافية علي جعل المشهد المطروح أكثر فاعلية
ووصولا للمعني، حين يشترك الخيال مع الحقيقة ليولدا انطباعا
يتلاءم مع الأحاسيس مكونة تجليات تبلغ البحث الروحي عن جمال
مفقود يكون تواجد الصورة بديلا كافيا لما يلغيه كتاب الحداثة
من أدوات قديمة، كان اتهام البعض للشعر الحديث بشقيه الحر
والنثر بأنه استنساخ من الأدب الأوربي - الأمريكي يصطدم بحقيقة
ما قدمته الحداثة أمام اختفاء تدريجي للعمودي القديم، وظهور
الصورة الشعرية كبديل للوزن والموسيقي في البيت الشعري،
الحداثة لا تعني أن تلغي القديم أو أن تقدم كل ما هو غير موجود
في ما قبلها ولا تعني أن كل ما هو مطروح يستحق أن ينافس من اجل
البقاء : أين سأحفظ أعيادي التي لم تمت بعد كيف أحرر أجنحتي
التي تنتحب في أقفاص اللغة ؟ وكيف أسكن في ذاكرتي، وهاهي خليج
من الأنقاض العائمة؟ هل سينمو بين كتفي حجر أو جذر خشخاش؟
هل الحيوانات السجينة فيَّ ستعرف أخيرا طريق الهروب هل علي أن
أدخل في سبات وأن أخون أعضائي ؟ هل علي أن أصنع من الرمل
سدادات لرئتي وأن أستلقي حجرا أسود في أبدية الطاعة؟ هل علي أن
ادهن جسدي بزيت الآلة، وأن أملأ حنجرتي بنعم نعم، لاَ لاَ كلا
ليس لي وطن إلا في هذه الغيوم التي تتبخر من بحيرات الشعر.
آل أدونيس
يبحث ادونيس دائما عن دور للشاعر يُكون له كلمة في ما يحدث ولا
يعده مصورا لما يحدث أن يكون صاحب قرار لا داعية لأصحاب القرار
وهو منهج قد يكون موجودا ولكنه غير مطروح بشكل جدي، ولكن في
آراء ادونيس التاريخية الكثير من النقاط التي تطرح معه فأدونيس
يري نفسه مجددا حتى في فكرة تحليله للتاريخ الإسلامي وهذا
الآمر قد أوقع الشاعر تحت طائلة نقد أصحاب الاختصاص وغيرهم من
أصحاب الوجهات الأخرى، وكنت أحب أن أري تنظيره بعيدا عن أن
يمجد ملحدا في أمة لها وجهة نظر لا تدخل في قضية اليقين وتجاوز
الحدود التي تمس عقيدتها.
كان من الأفضل الإشارة في سبيل طرح وجهة النظر لان الثقافة لا
تعني أن اخرج من نطاق المعقول بدعاء أن العصر يتطور والماكينة
بدورانها قد تمسح جرائم يزيد وجيش بن زياد علي سبيل المثال
وليس من باب أن لميول الكاتب دورا في جعل الاحتجاج حتى في
المتفق عليه وهذا مأزق قد يبدو كبيرا حين نطرح وجهات النظر في
لحظة انفعال مع الفكرة علي حساب الحقيقة.
المعاول
يري بول ايلوار أن تحرير اللغة شكل من أشكال تغيير نمط الحياة
،هناك من ينادي بالتغيير الذي يقود ثورة ضد الجماد والقوالب
وادونيس ممن شاركوا في هذا الخروج من زاوية هو يراها مؤثرة
وناجعة في سبيل الحصول علي استمرارية مفيدة تصب في خدمة
المتلقي وتكون اسهامة في عملية اللحاق بالآخرين بعيدا عن
التشبث بإرث قد يساء إليه حين يستمر الطرق عليه والأخذ منه دون
تطوير أدواته المتمثلة باللغة والشكل وهي وجهة نظري. أنا أومن
بان لا احد يملك الحق في محاكمة المبدع حين يختار طريقا يراه
هو موصلا أكثر من الطرق المعروفة لأن الجيد يفرض نفسه ويكتب
لنوعه البقاء والعكس أيضا صحيح فالرديء لا يبقي أكثر من وقت
خروجه، وكذلك ليس له الحق بان يفرض طريقه علي الآخرين،المحاججة
يجب أن تكون مبنية علي أدلة مهنية متمثلة بالتأثير والقدرة علي
البقاء لا المطاولة والمماطلة. الكثير من الأغراض والأساليب
كانت موجودة لكن اختفاءها دليل علي فقدانها قوة التأثير
ووجودها لم يعد مجديا فالشعر التعليمي الذي اخذ مكانا له في
وقت من الأوقات لم يعد موجودا فقد تطورت القصيدة لتجمعه داخل
بنائها من خلال ذكر آلات العصر من خلال صورة هنا وومضة هناك
وهذا رأيي الشخصي. وثورة ادونيس هذه كانت قد بنيت علي جلب عالم
آخر وسط عوالم ظلت موجودة خلال قرون طويلة عالم يتحدث بلغة
عصره ويحمل روحية عصره وبهذا جعل لحملته التي يشاركه الآخرون
بها شرعية قد تستعمل في عملية بناء كبير تنتج لنا أدبا يتناسب
طرحه مع ما موجود وليس بعيدا عنه، وكان ادونيس قد أشار إلي أبي
العتاهية كونه قد أورد لغة مطروحة وهي لغة الناس مع إيمانه
بإبداع من سبقوه. فأبو العتاهية القائل (أنا أكبر من العروض)
كان لا يعود للقافية ويتركها وهو هنا يرتكب تجربة الحداثة التي
لابد وان تكون مستمدة من تأثر مسبوق قد يكون التدوين لم يتطرق
إليها أشار ادونيس إلي أبي تمام الذي استخدم المفردة في معان
جديدة لها ،إذا هناك ارث وهناك عمليات خلاقة سبقت بحث دعاة
التجدد ،ربما أراد ادونيس الدفاع عن مشروعه وهو عود علي بدء
لمقولة أليوت ،أو هناك موضوع أكبر من عملية إلغاء الشكل
والاستخدام المكرر للغة لأن المجتمع العربي الذي هزته الإحداث
والنكسات غير مطالب يمحو ثقافته علي شكل دفعات من خلال التنازل
المستمر عن موروثة لأن في الموروث عقيدة ومبادئ سامية قد تكون
موجودة في سياق الجملة وشكل الطرح وليس هناك أية حاجة للتمسك
بكل ما هو قابل للتغيير من باب البقاء للأصلح ، والذي يذكر هنا
أن معاول التغيير يجب أن تراقب لا أن تقمع وهذا أسلوب قد يأتي
بخراب نراه الآن واضحا فالمنشور هنا يُفرض علي انه رأي من
الواجب إتباعه وغير المنشور لا يعني تركه، من باب أن داعية
التجديد ليس من الضروري أن يكون مطالبا بتقديم مشروع ناضج من
أول وهلة ولكنه مطالب بتقديم اقل ما يقال عنه مقبول، والتجربة
إذا كانت ناجحة تتلاقفها الأيدي، وهذا يقال عن قصيدة النثر
المتواجدة بقوة في المشهد الشعري وكأنها الوريث الشعري الأوحد
لتجارب السابقين، والسؤال من هو صاحب الكلمة الفصل في تحديد
نسبة الرفض والقبول يجب أن تشترك جميع العوامل المعنية بالأمر
من جماهير ومن نخبة، واللغة لها القدرة علي التجدد والانبعاث
من جديد هي حبيسة الفكر الذي أطلقها في فضاء عارم لذلك من
البديهي أن يكون لها حضورا إذا استخدمت بشكل يتناسب مع الموجود
وليس أن تكون لغة يابسة منحدرة من أساس واحد وان الرغبة في
التغير دون الالتفات إلي ذائقة الموجود وإلغاء دوره في التقويم
الذي له دور كبير في البقاء أو الذهاب إلي حيث لا رجعة.
يقول أدونيس في قصيدة سجيل 1999 المضطربة التي تجعلك تحب
ادونيس وتكرهه في الوقت نفسه (وهذا رأيي) آهٍ، ما ذلكَ
السّلاحُ الذي يلبسُ المُستقبلَ؟ و ما ذلك اللون الذي يرسمُ
هالة الجَنين الكوني؟ أوه، متى يَشفي ذلك المرضُ الذي يُسمّي
الوَطن؟ وهاهوَ التّاريخُ -حاضِرٌ يدُبُّ في أكياس من الورَق،
في عرباتٍ تجُرّها عظامُ الموتى، وأسألك يا هذا العالم: أيّ
غناء يُمكنُ أن يتصاعَدَ من أصدافِ الشِعر، غير نُواحِ الأثير؟
الإغراق في النثرية
لا أستطيع أن أجزم أن الإغراق في النثرية هو مستقبل القصيدة،
ولا أن المقطع المذكور يمثل الشكل النهائي للقصيدة الحديثة،
إذا هل يمكن أن نقول أنها مرحلة تجريبية تسير فيها القصيدة نحو
الشكل النهائي، الحقيقة أن التجارب المطروحة كلها تعطي مؤشرا
واحدا وهو أن عملية البحث متواصلة وصاحب النص معني بإخراج
إبداعه بشكل لا يتجاوز علي روحية الشعر وقد يكون التمسك
بالصورة الشعرية واحدا من الأدلة علي أن تجربة النثر تتمسك
بحقها الطبيعي كي تكون نتاجا شعريا يريد الوقوف بوجه مناوئيه،
(حتى التفرعات من بعد الحداثة ما هي إلا بداية لولادة أنواع
جديدة في الكتابة ومحاولات ما بعد الحداثة هي نتاج يدعو للتأمل
لحقيقة التجريب الذي يتعدي مرحلته ليكون أخري بمقاييس تعتمد
علي توفر عامل الإبداع وعوامل كثيرة مستمدة من الحداثة وقبلها
معتمدة علي بناء يلغي الأطر الباقية كإرث من قديم وتمسكت به
الحداثة والمقصود قصيدة الشعر الحر وقصيدة النثر التي تلتها).
نعم هناك نصوص نثرية ليست لها علاقة بالأدب وان كثرت ولكن هذا
لا يلغي تجربة بكاملها لان القديم فيه الكثير من هذا النوع،
والجيد هو الذي يبقي نفسه بقوة علي أساس أن المفروض تبقيه
الذائقة والطلب وقد يكون المعيار حديثا لان هناك ضوابط ومفاهيم
نقدية كانت وما زال الكثير منها تحدد نوعية الحكم علي العمل
المكتوب، وعلي أساس أن ما قدمه ادونيس من إشغالات ما هي إلا
تجارب خاضعة للمعايير النقدية حالها حال أي عمل كتابي فان ما
قدمه هؤلاء ما هو إلا نتاج عصري لا يمكن إلغاؤه علي أساس انه
لا يتناغم مع أحقية المفهوم النقدي المتعارف عليه وهو موضوع
معقد الخوض فيه يجعلنا ننظر المنظور ونبتعد عن الغاية الحقيقية
التي وجدت لأجلها القصيدة والعمل الأدبي، لدي مقارنة بسيطة في
تقريب الحاجة للحداثة متمثلة في إلغاء الأدوات القديمة في
حياتنا العامة ومثال تمحور العربة إلي سيارة وقطار وطائرة
وباخرة، إطارات العربة بقت في السيارة والقطار والطائرة حسب
الحاجة والشكل ولكن الباخرة مالها ومال الإطارات وهكذا في
العمل الأدبي الحديث بقت الأدوات الواجب بقاؤها وتم التعويض
بما يحور أو الانتقال إلي جزء أكثر فاعلية يؤدي العمل بشكل
أفضل وهذا يعتمد علي أهلية من يطرح، جماعة ادونيس وهذه الرؤية
لهم أن يرفعوا شعارهم الإبداعي لكن الذي يؤخذ علي البعض بأنه
يمنهج سلوكه العام علي الأدب ويجعل ميوله الشخصية طابعا أدبيا
وهذا مأخذ علي ثقافة الذي يكتب وعلي انتمائه الأخلاقي، أن لغة
الناثر تتميز بكونها متنقلة وغزيرة، انتقالها السريع يرسم صورة
وغزارتها لتعويض عدة معاني توفرها ما فقدته من مؤثرات فنية
تمتلكها الأنواع الشعرية الأخرى، وهذا أمر تشترك قصيدة
التفعيلة به مع الشعر العمودي ضد قصيدة النثر المتسلحة باللغة
المتجددة.
حلم التغيير
(من مِنّا لم يحلمْ، في أيّام الطموح ، بمعجزةِ نثرٍ شعريّ،
موسيقي دونَ إيقاع أو قافيةٍ/ بودلير) السياسة والشارع
المنقسمان علي ذاتهما حيث الإنسان هذا الهشيم المتناثر بين
ذائقة الكرسي وذائقته المقموعة، التاريخ بهمومه المنقولة علي
ورق بلون الحبر فهناك الأهواء والسُّراق حيثما وليت وجهك لان
الناقل قد يكون لصا أيضا. تطرقت سابقا لموضوع البادئين ودعاة
التجديد الذين لا يجدون في الوقوف علي الآثار أهمية لكتابة سطر
أدبي ولم يجدوا أهمية في التقُّيد ببحور الشعر الموضوعة لأنها
لا تستطيع قولبة كل الإبداع، وأنا اخص الآن بهذه المقدمة قصيدة
النثر التي تتهم أنها تستتر بالفكر السياسي لا الفكر الإبداعي
وهي مجرد تسميات لا تخلو من تأثير الترف الثقافي إضافة إلي ذلك
أنها منتوج غربي مستورد علي حساب المنتوج الوطني القصيدة
العمودية، مع العلم بان ثقافتنا في الرواية والقصة والسينما
والمسرح كلها مستوردة من المصدر الذي تتهم به قصيدة النثر يقول
شعراء النثر نحن نكتب نصا ولا يضرنا أن تخرجنا التسميات من
خارطة الشعر، وهنا يجب الإشارة إلي النقاط التالية التي توضح
بروز الحداثة علي حساب الموروث القديم.
أولا: تفوق الغرب
أن الحداثة العربية متأثرة بما طرا علي الأدب العالمي ككل من
عملية قيصرية أدت إلي ظهور شكل جديد للكتابة، وكان للرتابة
التي بلغها الأدب العربي دور في البحث عن بديل يعيد النظر في
عملية بناء كان القصد منها البحث عن مكان وسط انقلابات كثيرة
في الأدب والفلسفة وجميع مجالات الحياة علاوة علي وجود الحاجة
للتغير داخل مجتمعات تعاني فوضي سياسية واجتماعية. في الغرب
كانت التغيرات قد حدثت بشكل هائل وبرزت أسماء جديدة سجلت حضورا
بارزا في جميع مجالات الحياة وكيف كان للأدب الغربي الأمريكي
أن ينتشر بهذه الطريقة كي يكون مُقلدا لولا هذه الثورة
العملاقة التي قادت الكلمة كي تكون جسرا هائلا تتواصل فيه
الأفكار كي تتحد وان كانت هناك الكثير من الفوارق في المعتقد
والانتماء وهي أمور برزت علي كونها ليس شعار (حوار الحضارات
حداثة سياسية متأتية من واقع أن حاملها يحمل فكرا تمتزج فيه
الحضارة والتاريخ وهي عملية خلاقة جاءت من اعتقاد أن التاريخ
يقبل أن نغير ملامحه إذا جئنا بواقع يمسح أخطاءه) وهذه وجهة
نظري وغير مأخوذة من أي تنظير أو قراءة، وأدونيس وجماعته حين
طر قوا باب التجديد كانوا مؤمنين بظهور قدرات إشراقية تكون
بديلا جيدا لواقع أمسي تقليده نوعا من الخطل.
ثانيا: مشاركة الكبار في الخراب
هناك وجهة نظر تقول بان الذين سلكوا طريق الحداثة ما هم إلا
بعض الفاشلين في مواجهة القديم لما فيه من رموز ولما فيه من
إمكانيات تتمثل في القدرة غير العادية التي يجب حملها من صورة
وموسيقي ولغة ثرة وتواجد بعد كل إمضاءة علي عمل وهذا يلغي الكم
الموجود علي حساب الجودة، إضافة إلي كل هذا هناك الشرعية
والاعتراف التي يجب التحلي يهما من قبل أهل الخبرة ومتصدري
القيادة فليس من السهل المكوث في هذا الدرب لولا اعتراف من قبل
نقاد قساة يحملون العصا النقدية التي تهشم من تشاء بسرعة فائقة
والنقد أكثر الأدوات التي جعلتنا نحن العرب متأخرين وغير
قابلين أن نخطو خطوة صحيحة لان الأمر مرتبط بمباركة العصا،
وأنا ابرز الأسماء آلاتية من الرواد كخير دليل علي موت الفشل
وانكسار العصا لان السيئ لا يقرأ حتى وان لم يتناوله النقد
وهذا محمد الماغوط وادونيس ومحمود عدوان وسعدي يوسف وانسي
الحاج وخليل حاوي وغيرهم من الأسماء ما هي إلا دليل علي بقاء
الأصلح والذي يحاول تصاحبه الحسنة ولكن ليس علي شاكلة يزيد
الذي أخطأ ولن تصيبه الحسنة والمتطلع العارف يستطيع معرفة
الصعوبة التي تجابه كاتب قصيدة الحداثة بشقيها الحر والنثري كي
تعوض ما حذفت من أدوات تابعة لقصيدة العمودي، قد يؤخذ علي بعض
أتباع الحداثة بعدم التسلح الكافي بثقافة التوجيه والطرح
لفقدانهم الملكة وخاصية التأثير واعتمادهم شبه الكامل علي ما
يسرقونه من أدب وتجارب الآخرين وذلك لانعدام الترجمة وعدم وجود
الرقابة الحقيقية علي قصيدة النثر كما هو الحال المعمول مع
فروع الأدب الأخرى وهنا يمكن أن نتفق أن الكثير من أدباء العرب
سرقوا ومازالوا يسرقون من أعمال الآخرين ولكن هل هؤلاء مقياس
لنجاح تجربة أو فشلها إذا علمنا أن موجة الأدباء الشباب بدأت
تسيطر بقوة علي ساحة القصيدة من خلال تقديم نص معطاء وغني ينقل
صورة واضحة وغير مشوهة علي خلاف الكبار حين ظهر الترف الفكري
علي أعمالهم وهي بداية لنهاية أو سقوط كبير حين تناولت أعمالهم
عناوين غريبة كالجنس بشكل يثير سؤالا وما حاجة القارئ لمعرفة
كهذه.
التأسيس والدين وأشياء أخري
أن الذين تصدوا لكتابة البيان الأول لسقوط التماثيل الواقفة
بوجه التوجه نحو الضفة الأخرى، هكذا ظهرت كتابة السياب وادونيس
وصلاح عبد الصبور (العراق وسورية ومصر) تنتشر وان جاءت محاولة
عبد الصبور متأخرة وان تنوعت التجربة بين التفعيلة وبين النثر
لكن الإطار العام هو الخروج من القديم بقوة والوقوف بوجه
الفشل. أن الذي يعتقد بان مؤسسي الحداثة كانوا قد سرقوا
التعريف المجرد للحداثة بكونه يخلع الدين من الحياة يصطدم
بقصائد السياب (المؤسس) الذي يسحبنا إلي عالم السماء بقصيدة
سفر أيوب إلي الله المعني والمقصود والواجب، إضافة إلي تجارب
قصيدة النثر المملوءة بالتصوف والاعتقاد والالتصاق بتاريخ
الثورة الحسينية والمفهوم الحسيني كما هو حال قصيدة النثر
العراقية التي اتخذت هذه الثورة كونها ينبوعا مليء بالصور
الإنسانية المؤثرة طارحةً السبب القرآني لخروج المظلوم علي
الظالم علي كونه حقيقة، والذي اعنيه أن حداثة هذا الجزء من
الأرض تتعارض مع سادية بودلير (مؤسس الحداثة الغربية) علي
الرغم من ادونيس قد نظر لفكرة يؤمن بها "لا يمكن أن تنهض
الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي إذا لم تتهدم البنية
التقليدية السائدة في الفكر العربي والتخلص من المبني الديني
التقليدي الاتباعي"، قد يكون ادونيس يظن أن السياسة الإسلامية
خرجت عن مضمونها وقد سلكت مسلكا غير الذي أراده الرسول الكريم
وكلنا يعرف المتقلبات التي حدثت بعد وفاته (ص) وكيف بدأت
الأفكار تدخل وكيف وضعت الأهواء سلطتها علي حساب الإسلام كدين،
وهي مسالة قد اتفق بها معه ولكن لا اتفق مع تنظيره إذا هدف إلي
إلغاء الإسلام كدين، ووضع أي فكرة بديله له متمثلة بالتقليد
الأعمى للغرب الذي وضع الكنيسة موضعا آخر وإن بدأت أوربا تتجه
اتجاها كنسيا الآن واضحا في السياسة الحاكمة الآن وان تظاهرت
بالعلمانية لكن المعارضة اليمينية المتشددة قوية وتأثير
الفاتيكان التدريجي علي القرار السياسي العالمي واضح ولا يمكن
تغييبه. أنا جمعت بين الشعر الحر وشعر النثر بكونه يمثل
الحداثة العربية وان انفردت حاليا قصيدة النثر بكونها تمثل
الواقع الحالي للأدب العربي أمام تجارب ضئيلة في الحر
والقديم،مواضيع قصيدة النثر تجاوزت المواضيع التي تطرقها
القديم والحر فقصيدة النثر وجدانية وسياسية وتشير لأسماء
الأماكن والآلات وكل ما يدور في الحياة بنص يتميز بكونه عصريا
جدا، لاغية التخصص الذي تمسك به القديم، وعليه أن أصحاب
الحداثة قد مارسوها علي الحداثة بعينها حين أضافوا لها
متطلباتهم وبيئتهم لأنها لا تتناسب في كل الأحيان مع حاجة
الأمكنة الأخرى،لذلك ظهرت الكثير من القصائد العمودية بروحية
قصيدة النثر والعكس صحيح، وهو تزاوج أدبي بيئي قد يكون إحدى
نتاجات الحداثة. هناك من ينظر إلي سلوك الأديب في الحياة
العامة بأنه شكل من أشكال الحداثة فلو كان لصا أو كان شاذا أو،
فان الحداثة فيها السرقة والشذوذ وغيرها من الأمراض وهذه وجهة
نظر فيها نوع من التجني واللاعقلانية ، المعروف عن السواد
الأعظم من الكتاب العرب باتجاههم اليساري والعلماني هذه
الاتجاهات والميول التصقت بكثير من العادات والتقاليد الدخيلة
علي مجتمعات محافظة ومغلقة كالمجتمع العربي ذلك لقناعات كانت
متداولة وموجودة آنذاك امتدت حتى وقتنا هذا إلا أن التوجهات
المتنوعة لكتاب الثمانينات والتسعينات، وحتى الآن بدأت تعطي
شكلا أخرا أكثر نضارة لتنوعه وان بدت عليه ظاهرة التأثر
والتبعية، لان التجربة مازالت حديثة والدفاع عنها لا يخرج من
باب إعطاء كل ذي حق حقه لا أكثر ما يجب أن يقال .
أولا: الحياة الأدبية
الحياة الأدبية كالحياة السياسية لا تتمتع بهدنة دائمة ولا
بقانون ثابت، عل الجدال الدائم حول الشعر الأول الحر والذي
تلاه النثر مازال قائما وقصيدة النثر تخرج معها نصوص الآن هاهي
ما بعد النثر وان كانت قليلة، أي حركة لعمل طويل تكون بطيئة
كما هو الحال في التفاعل الكيماوي فان الخطوة الأولي تكون
بطيئة جدا ومن ثم تأتي النتائج سريعة، الحرب علي ما يبدو أوشكت
علي النهاية لكن الناظر هناك من ينظر للحداثة علي أنها ليست
خروجا علي القافية والوزن فقط بل هو خروج من الدين ومبادئه
وهنا أعود لما قلته سابقا أن أعمال بعض أصحاب الحداثة لا تعد
دستورا لمن اتخذ طريقها والكتابة في ميدانها وهو أمر لا يخرج
من كونه اتهاما غير مبني علي دقة أدبية وصياغات الصنعة بل هي
ثغرة في تصريحات يطلقها البعض في سبيل الدفاع الأعمى عن
مشروعية ما يؤمن به، المشروع بحاجة لانتظار حتى تبرز حقيقته
وان كانت تجارب النثر حققت قفزات نوعية وتكاد الأكثر حضورا
وفاعلية في مجال الشعر وهذا الإحصاء الحقيقي هو الموجود حاليا
في ساحتنا الأدبية .فالحداثة تنتشر حتى في فروع الأدب الأخرى.
ثانيا: تجربة الثمانينات والتسعينات
أن تجربة الثمانينات والتسعينات اقتبست من التجارب الأولي ولن
تغيب فكرتهم بل طورتها إلي صورة أكثر انسجاما مالعربي.طور
بسرعة البرق أن لم نقل أسرع، إضافة يجب عدم الاستهانة بتجارب
شعراء العرب الإسلاميين وما تلاهم من مجددين الذين خرجوا عن
القوالب المتداولة آنذاك وتمسكوا بما رأوه مناسبا لبيئتهم،
البيئة العربية حالها حال البيئات الأخرى تأخذ ما يلازمها فهي
ليست عملية انتقال من حضارة إلي أخري قدر كونها تجربة تهدف إلي
تحريك المياه الراكدة التي أصابت الأدب العربي وتحاول أن تعيده
إلي نفسه من أبواب أخري قد تكون جديدة أو محورة من تجارب العرب
الأولي، والسؤال هنا هل الشعر العربي القديم لم يستحدث من
تجارب سبقته ؟ نعم لأنه أن لم يستحدث فهو جاء نتيجة تطوير
المفردات إلي صياغة تكون هي اللبنة الأولي في سفر القصيدة
والشعر العربي.
ثالثا:
نعم هناك نصوص يبرز كتابها فيها لغة غير مؤدبة وغير مسؤولة
تتجاوز علي الذات المقدسة والأعراف وعادات الأمة ما هي إلا
طريق للبروز التي سرعان ما تندحر أمام الحقيقة وهي( وماذا بعد)
إذا كنت تريد تشتم كي تبرز فان الذين سبقوك كانوا كثيرين
وأينهم الآن ؟ لماذا لم تبق أسماؤهم طويلا والدليل أن فشلهم
سرعان ما يذرهم بعيدا عن جادة الأدب الذي يطالب بالفكرة، وكلنا
يتذكر انعطافة دستوفسكي في الإخوة كرامازوف حين أعلن في نهاية
الرواية حقيقة الأمل والحب وانتظار المنتظر الذي يمثل الحقيقة
المذكورة بكل سفر وكتاب سماوي والحقيقة الدامغة لهؤلاء
المراهقين والدخلاء علي الأدب، هناك من يحاول الانتقال بسرعة
البرق علي حساب أمة وعلي حساب معتقد وهذا عبارة عن لون لا
يتناسب مع جدارية الحياة نعم لتدوين الأحداث ولكن بشكل لا يسيء
لنا كبشر، طرح الفكرة التي تخدم هو الإبداع وليس هناك إبداع في
تقليد غبي لتجارب مسحوقة وغير مجدية.
الخاتمة
ليس هناك من يدعي المعرفة الكاملة، وليس هناك من لا ينتظر
نتائج ما يطرح، والذي نحتاجه هو أدب ملتزم بأمور متفق عليها أي
ثابتة وغير متحولة، أما ما يجب تداوله أن تكون الفكرة تضم
بناءا وتمجيدا لحقيقتنا كآدميين ولا وجود لتغيب أمة علي حساب
فكرة مفردة قد تدعو للشذوذ والانفلات، الاستفادة وتنظير تجارب
الآخرين فيها بناء أكثر من أن تعطي لأقلام جاهزة تكتب في تمجيد
نفسها علي حساب الآخرين، وان ما أخذه الحداثويون من الأدب
الأوربي تجربة عملاقة يجب استغلالها بشكل أمثل يدعونا لرفع
الغطاء واللجام عن أمر أصبح أمرا واقعا يجب أن لا يلغي علي
حسابات أقل ما يقال عنها جعلت الأمة تائهة وغير منتجة انسجاما
مع المقارنة بالحياة السياسية، أن النموذج الادونيسي تجتمع
جميع أمور الطرح أعلاه فيه لان ادونيس يمثل تجربة غنية، وقصيدة
النثر التي أجاد فيها زملاء ادونيس واستمرت حتى يمرح فيها
الشباب الجدد ويجعلوا منها بديلا لتراث كبير مليء بالكنوز
المهمة جديرة بأن تأخذ مكانها الطبيعي بين فروع الأدب الأخرى
القصيدة الكلاسيكية لم تنته لان جذورها وروحيتها لا تموت مادام
هناك حنين لها ووقوف أمامها وجعلها شاهدا ومادة دراسية حاضرة
وبقوة. يقول ادونيس: أن من طبيعة الشعر الذي هو نبوءةُُ ورؤيا
وخلقُُ ألا يقبل أي عالم مغلق نهائي وألا ينحصر فيه بل يفجره
ويتخطاه فالشعرُ هو هذا الذي لانهاية لهُ البحثُ الذي يظلُ
بحثا لذلك لا يقدر الشعرُ أنْ يتفتح ويزدهر إلا في مناخ الحرية
الكامل تبقي التجارب مدعاة للاهتمام، وان الخروج من الإطار وفق
معايير لا تتقاطع مع منهاج العقل واليقين ولا تحاول بعثرة
الأوراق في سبيل بقاء هش يبقي خروجا لا غبار عليه، مادام أن
هناك نية في خروج عمل هدفه الدفاع عن الإنسان ونشر همومه تحت
اسم الأدب.
ليس المهم أن تضع اسما للعمل الذي تكتبه ولكن المهم أن يكون
مؤثرا ومتحركا، أن قصيدة النثر تبقي تعاني من قلة تواجدها في
الميدان أمام ند له قرون طويلة له مناهل كثيرة وسفر طويل
وأسماء مرعبة، لذلك نري ازدهار الرواية علي حساب الشعر ما هو
إلا نتيجة طبيعية لو أخذنا السبب المذكور بالحسبان لان عامل
الزمن وقدم التجربة يجعل لها مدافعين وجمهورا ونتاجا يمكن فصل
الجيد عن الرديء من هدفه الدفاع عن الإنسان ونشر همومه تحت اسم
الأدب.
وهكذا يكون الحكم علي تجربة كاملة، أن ما قام به ادونيس ومحمد
الماغوط وحسب الشيخ جعفر وغيرهم يجب أن ينظر علي انه نتاج أمة،
أما مسألة الأفكار وما جلبته الحداثة من أفكار فان المتتبع
للشعر العربي سيجد أن الأغراض كلها موجودة والأفكار موجودة في
القديم والذي حدث هو عبارة عن امتداد لطبيعي موروث لسفر شعري
كبير، تبقي قصيدة النثر حديثة العهد مقارنة بالشعر الكلاسيكي
ويبقي الموروث الشعري أبا روحيا لكل من يأتي تحت اسم الشعر،
عملية الانفصال واردة بما أن التزاوج وارد بين فكرة الشعر
والنثر ولكن بأية طريقة لابد وان عملية الولادة القيصرية
ضرورية لإنقاذ الجنين الذي لابد من خروجه بهذه الطريقة كي
يحافظ علي حياة أمه.
جريدة (الزمان)
16/7/2005