يبدو ان ما كتبته حول قصيده النثر كان تعبيرا عن
راي عام, او عن شعور عام بالقلق علي مستقبل الشعر والكتابه, عامه, وهذا القلق
ليس مصدره التعصب بشكل شعري معين, وانما مصدر الاحساس بوجود خطر يتهدد الشعر,
ويتمثل في تلك اللامبالاه الفنيه والاخلاقيه التي تهيمن علي الكتابات الجديده التي
تنتمي للشعر اوتدعي الانتماء اليه, هناك احساس بروح عبثيه عديده تسيطر علي هذه
الكتابات, وهذه الروح هي التي لفتت الكثيرين الي قراءه ما كاتبته ومناقشته
والتعليق عليه.
ولقد تلقيت عشرات من التعليقات والتعقيبات اخترت منها
ماتقراونه فيما يلي:
اكتب اليك هذه الكلمات بعد فراغي من قراءه سلسله مقالاتك
قد افسد القول حتي احمد الصمم لاضم صوتي الي صوتك, وادعو شعراء قصيده النثر الي
وقفه مع الذات, نزيهه وموضوعيه, عسي ان نصل الي كلمه سواء.
لقد كنت من
اكبر انصار قصيده النثر من حيث المبدا, وقد كتبت علي صفحات الاهرام منذ سنوات
قلائل ان المستقبل لقصيده النثر, ولكني اجدني الان مضطرا الي مراجعه موقفي,
فلست اري لها مستقبلا يذكر, وانما اري حاضرا بائسا وماضيا فيه درر قليله وخبث
كثير.
فيما يلي مجموعه ملاحظات اطرحها كيفما اتفق, تقريبا فليست هذه
دراسه اكاديميه وانما هي خواطر اثارتها في مجموعه مقالاتك.
1) الحق في
التجريب كما قال لويس عوض في مقدمته لديوان بلوتولاند وكما تقول هنا حق اولي من
حقوق الانسان, طبيعي ومقدس ولايقبل التجزئه, لكن التجربه, تعريفا محاوله قد
تصيب وقد تخطيء, واحتمالات الخطا فيها اكثر كثيرا من احتمالات الصواب, وشاعر
قصيده النثر حاطب ليل, يتلمس طريقه في غابه دروبها غير مطروقه ولامعبده,
فاحتمال ضلاله اكبر من احتمال ضلال من يسير في ظلال موروث السابقين.
2)
قصيده النثر في اعلي تجلياتها عند بودلير ورنبو ولافورج ولوتريامون, وعند اوسكار
وايلد واليوت لاتقل امتلاء بالصور ولاتفجرا بالايقاع الداخلي المتولد عن حركه
الفكر, والتوفيق بين النقائض وصراعها, والمراوحه بين اطوال السطور,
والتكرار, والوقفات وكسر التوقعات السمعيه, والعلاقات بين السواكن وحروف
اللين, والمراوحه بين الخبر والانشاء, عن الشعر الذي يراعي الوزن والقافيه.
ولكن اين نجد مثل هذه الفضائل التعويضيه في تلك الافرازات المريضه والتشكيلات
الهلاميه التي يخرجها شعراء قصيده النثر وشواعره عندنا؟
3) ليس اغلب
ماينشر عندنا تحت مسمي قصيده النثر انظر مثلا الكثير من محتويات ادب ونقد و اخبار
الادب نظما ردئيا فحسب, وانما هو ايضا نثر رديء, وطوبوغرافيه المطبوع منه علي
شكل اسطر مستقله لاتستطيع ان تخفي الحقيقه الدميمه المتمثله في ان هذا الكلام مجرد
رصف لالفاظ, وسعي الي الغرابه والتفرد حيث لا عقل اصيل هناك ولاخيال مجنح ولاقدره
علي التشكيل باللفظ مثلما يشكل المثال مادته من الصلصال او الخشب او الحجر او
النحاس.
4) الابداع الفني كما يقول اليوت في اشهر مقالاته(1919) نقطه
تقاطع بين الموروث والموهبه الفرديه, وكثير من شعراء هذا الجنس الادبي الهجين
لايحسنون قراءه بيتين من التراث الشعري العربي, وموهبتهم الفرديه ان وجدت اساسا
ناقصه النمو, بل خديجه, لانها لم ترتو من الاحتكاك بخبرات السابقين, لهذا
تخفق صورهم مهما بدت جرئيه غير مالوفه في ان ترسم افقا جديدا امام القاريء, وتظل
تراكيبهم النحويه اقرب الي الركاكه والخرق, وتعوزها صنعه الفن الرهيفه التي
لاتتاتي لشاعر الا بعد مران طويل واقتراب يعقبه ابتعاد عن اثار السابقين.
5) لغه الشعر العربي كما تقول تعتمد علي الايقاع الذي يتحقق بالوزن قبل اي عنصر
اخر هذا جزء من عبقريه اللغه وخصائصها الباطنه( لينظر القاريء في هذا الصدد كتاب
العقاد اللغه الشاعره علي مافيه من صرف في مواضع), وغياب الوزن, بعد غياب
القافيه, عن نماذج قصيده النثر يحرمها( اولا) من الحق في ان تعد شعرا(
وثانيا) من ان ترسخ في ذاكره القاريء بفضل ايقاعها الموسيقي, وانا افترض ان
الشعر الحق يحفر ذاته في الذاكره, كانما بمبضع من فولاذ,ح ولاينزلق من فوقها
دون ان يترك اثرا كما تنزلق امواج البحر فوق صخره طحلبيه مخضله.
لادوار الخراط
في تنظيره ان يزعم انه ليس للقصيده الحداثيه شكل مسبق مفروض سلفا ويدخل في ذلك,
بطبيعه الحال, الاعاريض والبحور والتفعيلات مستقره الرسم واقول له: هذا يصح فقط
عندما تكون القصيده جديده حقيقه كبعض قصائد نثر انسي الحاج وغيره من الشعراء ذوي
الموهبه الحقيقيه, ولكنه لايصح علي قصائد العشرات من متوسطي الموهبه ممن لايملكون
صوتا خاصا ولارويه خاصه ولا لغه خاصه.
6) قصيده النثر كما قلت في كتابك
احفاد شوقي(1992) شعر ناقص وهي في احسن الاحوال نثر يطمح الي بلوغ وضع الشعر
مثلما تطمح كل الفنون في راي شوبنهور وباتر الي وضع الموسيقي حيث لا انفصام بين
الشكل والمحتوي.
قصيده النثر رافد صغير من روافد التيار الشعري, ولكنها
لايمكن ان تكون هي التيار الاساسي.
7) سيبتهج قوم كثيرون من المحافظين
لما قلته وما اقوله هنا, ولكن فليعلموا ان اخفاق تجربه قصيده النثر في الاغلب
الاعم لايعني نجاحا لمنظوماتهم العموديه الميته( ثمه شعر عمودي حي لعبدالمنعم
الانصاري وابي همام وقلائل اخرين) وهي صور ناصله من اثار السابقين, كلا النهجين
سييء وكلاهما مفتقر الي شعله, الاداع الحق, لاول لانه يقطع جميع جسوره مع
الموروث الذي يمده بدماء الحياه, والثاني لانه لايعدو ان يكون نسخا او تناسخا,
مع حد ادني من التطوير, لروي وتعابير كانت جديده في زمانها, ولكنها الان اشبه
بالرواسم( الكلشيهات), استعارات ميته, هل ثمه ماهو اكثر مواتا من جريده
الامس؟
ماهر شفيق فريد
استاذ مساعد
الادب الانجليزي باداب القاهره
الشاعر الكبير:
في تجارب عن الام البديله
SURROGATE MOTHER
اكتشف العلماء ان اهم مايربط
الطفل بامه في اغلب الحيوانات الرئيسيه
PRIMATES
هي دقات القلب: فقد
انتزعت صغار القرده من امهاتها ووضعت امامها في اقفاصها بدائل عديده للامهات:
هيكل من الحديد مغطي بالشعر, هكيل به ثدي صناعي يفرز اللبن, هيكل مدفا لدرجه
حراره الام, وهيكل به جهاز يصدر اصواتا لنبضات القلب, وعندما تعرضت صغار القرده
للفزع من خطر ما, فانها اتجهت بلا استثناء للهيكل الاخير, فالام بالنسبه
للحيوانات الرئيسيه هي نبضات وايقاع القلب, ولعل هذا يفسر لنا لماذا يثير الايقاع
السريع اعصابنا ولماذا يبعث فينا الايقاع البطيء الهدوء والشعور بالامان؟. لعل
هذا يفسر لنا لماذا نحب الايقاع في الموسيقي.. وفي الشعر.
الشاعر الرائد:
تحيه.. وبعد
فقد اسعدني ان اتابع باهتمام سلسله مقالاتكم الاخيره بجريده
الاهرام حول قصيده النثر, وما الت اليه حال الشعر بسببها هذه الايام, ومع
اتفاقي معكم في مجمل ارائكم التي طرحتموها في تلك المقالات, الا انني اود ان اسوق
بعض الخواطر التي قد تضيف شواهد وادله مستمده من علم الجمال.
واول ما اود
ان ابدا به, هو ملحوظه عامه تتعلق بحال النقد عندنا اليوم اننا نعيش ازمه في
النقد هي السبب الاساسي في كثير من الاضطراب الذي بدا يوتي ثماره المره الفجه علي
ساحه الابداع عامه, والابداع في الشعر خاصه, واكاد اظن ان عجز النقاد المعاصرين
احيانا, وتواطوهم وجهلهم احيانا اخري, وتفرغهم للبحث عن المناصب والمكاسب
العاجله احيانا ثالثه, هو الذي فتح الباب امام ادعياء الشعر, ليتسللوا زرافات
ووحدانا, حتي غصت بهم الساحه, وامتلات المنابر الاعلاميه والصحافه الادبيه
خاصه, بصفوف مجنده منهم تعمل علي نشر قصيده النثر وتسييدها, بمباركه من النقاد
ومصانعه منهم, ولاشك في اننا كنا بحاجه في مواجهه هذه الظاهره, الي نقاد
كبار, لايتسلحون بالرويه الثاقبه والفهم العميق فحسب, بل يتسلحون ايضا بالشجاعه
والقدره علي فرز السمين من الغث, لكن هذه السلاله من النقاد الموهوبين الخلص,
قد انقرضت او كادت برحيل شكري عياد رحمه الله وبانشغال القله الباقيه منهم مثل
مصطفي ناصف امد الله من عمره بقضايا نظريه وفلسفيه مهمه, ولكنها بعيده عن ان تكون
موثره مباشره في مجال النقد التطبيقي, اصبحت الساحه الشعريه مهياه لكل من اراد ان
يقتحم عالم الشعر بدون ان يمتلك الحد الادني اللازم لاقامه جمله صحيحه, او حتي
لقراءه نص شعري.
اما النقطه الثانيه التي اود ان اشير اليها باختصار, فهي متعلقه بمساله تاصيل
قصيده النثر او البحث عن جذورها القريبه والبعيده, وكنتم قد اشرتم الي انها
تاريخيا, تعد اقدم في العصر الحديث من قصيده التفعيله, وكان دليلكم في هذا هو
نثر نقولا فياض في نهايه القرن التاسع عشر, غير انني اود ان اشير الي محاولات
عديده في تراثنا الادبي جرب فيها اصحابها المزج بين النثر والشعر, ولعلنا نذكر في
هذا السياق قصيده القاضي الفاضل التي جمعت بين شطر بيت موزون وسطر نثري, علي
التوالي, وهناك محاولات اخري اقدم لايتسع المجال لذكرها, وهذا يدل في رايي علي
ان هناك قلقا ابداعيا كان يفعل فعله ورغبه في الخروج علي الرتابه الايقاعيه للبحور
الشعريه المعروفه, ولعل قصيده التفعيله, وقد نجحت في ان تحرر الشعراء اخيرا من
رتابه هذه البحور, تجسد اخر حلقه في سلسله من المحاولات ذات تاريخ طويل, واذا
كان النقاد القدامي حريصين علي الفصل بين النثر والشعر, باعتبارهما( صناعتين)
متمايزتين علي راي( العسكري) فان ادراك الخيط الرفيع الذي يربط بينهما كان
قائما, فقد جرب ابن الاثير في( الوشي المرقوم) ان يحل المنظوم وينظم المنثور
فنحن امام دائرتين تتقاطعان لتكونا معا منطقه صغيره مشتركه بينهما, وبدون بحث هذه
المنطقه الصغيره التي يتداخل فيها الشعر مع النثر, لن يكون الحديث عن قصيده النثر
كاملا.
وربما يكون الفيلسوف الفرنسي جان ماري جويو صاحب كتاب( مسائل
فلسفه الفن المعاصره), من ابرز علماء الجمال الذين توقفوا عند مساله الوزن ودوره
الاساسي في الشعر, وكتابه المشار اليه اعلاه, مترجم الي العربيه ترجمه مشرقه
جذابه.
لم يكن جويو فيلسوفا فحسب, بل كان ايضا شاعرا وقد راعه ان يجد بعض
شعراء عصره في القرن التاسع عشر, قد شرعوا في التخلي عن الوزن, مثل ميشيليه و
فلوبير و رينان وكان الوزن مجرد حليه قد يزدان بها الشعر, وقد يتجرد عنها اذا
اراد! فما كان منه الا ان خص قضيه الوزن وضرورته في الشعر ببحث مستفيض انتهي فيه
الي ان الوزن والقافيه ضروريان لكل شعر حقيقي, وفند اراء الناشرين في ايامه,
ممن كانوا يظنون ان الوزن لم يعد ملائما للعصر الحديث, وكشف سفسطاتهم التي
اعتمدوا فيها علي تاكيد ان الوزن في الشعر مجرد حليه صناعيه لابد من الاستغناء
عنها, وذلك بان اثبت كيف ان الوزن عنصر ضروري واساسي في الشعر, لانه يعبر عن
الحركه المصاحبه للانفعال الفني ويجسدها, واذا كان النثر يتضمن شيئا من الايقاع
الطبيعي للغه, فانه ايقاعه غير منتظم يقول:
اما انا فاعتقد ان الشعر ليس
شيئا مصطنعا الي الحد الذي يدعيه انصار النثر المتطرفون, واري ان اصل الشعر قائم
في طبيعه الانسان نفسه, وانه باق لذلك مابقي الانسان, ان الفسيولوجيا تعلمنا ان
لغه الشعر الموزونه لتي تستهدف التعبير عن الانفعالات قبل كل شيء ترجع في اصلها الي
الانفعال, ومن الوقائع المشاهده ان حركاتنا تصبح موزونه موقعه حين نعاني انفعالات
قويه( ص166 من الكتاب المشار اليه اعلاه).
ومن جويو الي احد المفكرين
الجماليين البارزين في القرن العشرين وهو ديويت باركر الذي عقد فصلا مهما في كتابه
اسس علم الجمال وهو غير مترجم حول جماليه الشعر, وكان الايقاع عنده هو اهم
العناصر التي يتميز بها الشعر جماليا عن النثر, والايقاع لايتجسد في رايه علي
النحو الامثل الا من خلال الوزن والقافيه, ذلك ان الانفعال, او الجانب العاطفي
في الشعر, يتطلب تكرارا منتظما مطردا, الامر الذي لانجده في النثر.