-
خصائص الشعر يضعها بشر، وما وضعه بشر يغيره بشر آخرون. وهو
ما يعني أنه لا توجد مازورة ثابتة خالدة للشعر. وعلي ذلك
فإن معايير الشعر ليست تنزيلاً سماوياً أبدياً، بل هي
خلاصة بشرية لعصر، يمكن أن تعد لها عصور تالية مختلفة. فهل
يعقل أن يحدد أعرابي، عاش منذ عشرين قرنا، الطريق الذي
ينبغي أن يسير عليه الشاعر اليوم؟ وهل يعقل أن يلتزم ناقد
اليوم بما قاله ناقد عربي قديم منذ خمسة عشر قرنا؟ إن
كثيرا من محافظي الحياة الشعرية الراهنة يرهبون الشعراء
المجددين بجملة الأعرابي القديم: إذا كان هذا شعرا فكلام
العرب باطل، وهو الإرهاب الذي يفرض علي الشعراء المحدثين
ردا من نوعه، قائلين: نعم، كلام العرب باطل، إذا كان يرهن
شرعية الجديد بمضاهاة القديم.
-
قصيدة النثر شكل من أشكال الشعر، ولم يدع أصحابها أنها
بديل عن الأشكال الشعرية الأخرى. فشعراء قصيدة النثر ليسوا
من دعاة نفي الآخر نفي الآخر هو ما يفعله خصوم قصيدة
النثر، مسلحين بيقين مفاده: الشعر تم فيما قبل، وما عداه
مروق ونشوز، وهو اليقين الذي يقترب بهم من جماعات التطرف
الديني التي تقيس اللاحق علي السابق.
-
كل شعر يمكن أن يكون شعراً ناقصاً، حتى لو كان موزوناً
ومقفى أو تفعيلياً، إذا افتقر إلي عنصر من عناصر الجمال
الشعري. إن القصيدة العمودية الركيكة شعر ناقص، والقصيدة
التفعيلية المفتعلة المفتقرة لصدق التجربة شعر ناقص. وليس
النقص صفة خلقية (بكسر الخاء) في قصيدة النثر. وهل هناك
شعر كامل؟ أليس الكمال لله وحده؟. نحن نعرف أن العلم نفسه
الذي تحكمه القوانين الرياضية والطبيعية ليس فيه علم كامل،
فما بالنا بالعلوم المعيارية كالفنون والآداب التي تتصل
اتصالاً وثيقاً بتطور المفاهيم والثقافات والمعارف،
وبالتباين الاجتماعي والحضاري من دولة لدولة، ومن عصر
لعصر، ومن طبقة لطبقة.
-
نعم، استغل الركيكون والضعفاء قصيدة النثر وركبوها، لتغطية
فقرهم وقلة رزقهم الجمالي، لكن هذا هو عين ما حدث في كل
تجربة وكل حركة وكل عصر. الضعفاء وفقراء الموهبة استغلوا
شكل الشعر العمودي وركبوه، ولم يبق من شعرائه سوي ما لا
يتجاوز أصابع اليد الواحدة. والضعفاء وفقرء الموهبة
استغلوا شكل الشعر الحر (شعر التفعيلة) وركبوه، ولم يبق من
شعرائه سوي ما لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، إذن، فركوب
الانتهازيين للموجة ليس صفة خلقية (بكسر الخاء) لصيقة
بحركة قصيدة النثر دون غيرها. ولو لم يبرز بحركة قصيدة
النثر الراهنة سوي خمسة شعراء لكان ذلك نجاحا يعادل نجاح
التجربتين السابقتين: العمود والتفعيلة. وليس من العدل
النقدي والإنساني أن يقارن خصوم قصيدة النثر بين الرديء
فيها وبين الجيد في سابقتٍيها. فلو أن أصحاب قصيدة النثر
انتهجوا نفس السبيل (مقارنة جيد قصيدة النثر برديء قصيدة
العمود والتفعيلة) لجاءت النتائج فادحة وفاضحة.
ولنتخيل، مثلا، النتيجة لو قارنا قصيدة نثر لمحمد الماغوط
أو قاسم حداد أو أدونيس أو أنسي الحاج، بقصيدة تفعيلة
لكمال نشأت أو مجاهد عبد المنعم مجاهد أو كمال عمار أو
فاروق جويدة (وبعضهم من رواد حركة التفعيلة)، ألن تكون
النتيجة مؤلمة لخصوم قصيدة النثر، وتدميرا لحيلتهم الخبيثة
في مقارنة رديء هذه بجيد تلك؟
-
قصيدة النثر في البلاد العربية ومصر ليست غربية ولا
مستوردة ولا نباتاً شيطانياً. إنها تطور طبيعي وصحي في
سياق التجديد والتجريب وكسر الجمود الثابت، الذي يعيشه
الشعر العربي الحديث منذ ما قبل النصف الثاني من القرن
العشرين. كما إنها ذات جذور تاريخية قديمة، منذ الفراعنة
والبابليين والآشوريين، مرورا بمتصوفة الإسلام ونشيد
الإنشاد، وصولا إلى أمين الريحاني وجبران وحسين عفيف ومحمد
منير رمزي وغيرهم.
وهنا نؤكد أن من حقنا أن نصنف في خانة الشعر بعض ما كتبه
القدماء نثراً. فإعادة تبويب تراثنا حق لنا وواجب علينا.
وسيكون من العبث أن تدخل قصيدة إخوانية عمودية أو تفعيلية
تافهة (من العصر الجاهلي أو الإسلامي أو الحديث) نطاق
الشعر، بينما يخرج منه نص نثري للنفري. وهو عبث يدل علي
عبودية تعني أننا ننصاع إلي الاندراج في الأقفاص التي
اختارها لنا السالفون، من غير أن نعمل ما فينا من وعي أو
إرادة أو تطور. كما نؤكد أن كشفنا الجذور التراثية القديمة
لقصيدة النثر لا يعني أننا نبحث عن شرعية قديمة للظواهر
الحديثة، فليس القديم هو مبرر الجديد أو شارطه، مثلما يري
السلفيون. إنما نلتمس تلك الجذور القديمة كمجرد رد إجرائي
شكلي على زعم خصوم قصيدة النثر بأنها مبتوتة عن تراثنا
القديم وملحقة بالتجارب الغربية. أما المبدأ الجوهري فهو
أنها تطور طبيعي في مسار تجربتنا الشعرية الحديثة، حتى لو
لم تكن لها شواهد سابقة وحتى لو كانت مستندة إلي تجارب
أوربية (وإلا فأين تلاقي الحضارات)
إن شرعية وجودها هي في وجودها الراهن نفسه. وفوق ذلك كله،
فإن الأجدى أن يفكر خصوم قصيدة النثر في أن هذه القصيدة
إنما هي تعبير عن حاجة اجتماعية ووجدانية، وتجسيد لضرورة
ثقافية وجمالية تستشعرها شريحة من مجتمعنا المعاصر، طالما
أن تياراً كاملاً واسعاً من الشعراء يكتبها في طول البلاد
العربية وعرضها، لاسيما إذا كان معظم الجيدين من شعراء هذا
التيار هم من العارفين بالعروض والأوزان معرفة عميقة (تجلت
في شعر سابق لبعضهم)، وليسوا من الهاربين من الوزن بسبب
العجز عنه أو الجهل به (وليس المجال متسعاً الآن لتفصيل
هذه الحاجة الاجتماعية الجمالية)
-
المجاز والموسيقي شرطان للشعر (بل شرطان لكل الفنون ولكل
مناحي الحياة) لكن المجاز عديد وكثير ومتنوع، وليس مقتصراً
علي المجاز اللغوي البلاغي القديم العقيم، بل يتجاوزه إلي
مجاز المعنى ومجاز المشهد ومجاز المناطق العمياء في الروح
ومجاز المسكوت عنه في النفس والحياة ومجاز كسر المجاز. كما
أن الموسيقى أوسع من الوزن الخليلي. فالوزن الخليلي ليس هو
الموسيقي بالحصر، بل هو إحدى صيغ أو هيئات هذه الموسيقي.
وعليه فيمكن لنص شعري أن يخلو من الوزن من غير أن يخلو من
الموسيقي. تلك الموسيقي التي يمكن أن تضم بين عناصرها
الكسر والارتباك والنشاز، باعتبارها مفهوما أرحب من الوزن
الخليلي الهندسي المقفل!
علي أن الأهم في هذه المسألة أن خصوم قصيدة النثر يحصرون
هويتها في الخلو من الوزن، بينما هويتها الحقة أبعد وأعمق
من مجرد الخلو من الوزن (ولتفصيل ذلك مجال آخر).
-
إن وزنية' القصيدة ليست علامة علي شعريتها، وفي المقابل،
فإن نثرية أو لا وزنية القصيدة ليست علامة علي شعريتها.
ومثلما أن قصيدة النثر تعبير عن حاجة اجتماعية وحضارية
وإنسانية لدي قطاع من أهل العصر، فإن القصيدة الموزونة
لازالت تعبيرا عن حاجة اجتماعية وحضارية وإنسانية لدي
قطاعي من أهل العصر. فلنحذر الحكم المطلق الجازم علي
الجانبين، لأنه ضد العلم، وضد الحياة، وضد الشعر. أما كلام
العرب القديم فسوف يظل باطلاً، طالما ظل سيفاً مسلطاً علي
رقاب العباد المعاصرين، وقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا.