أخبرني صديق قريب شهد المؤتمر الصحفي
للشاعر الكبير محمود درويش في تونس أن بعض التحريف لحق بما قاله محمود في هذا
المؤتمر، فلم يحدث انه هاجم الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر، ولم يحدث انه قال:
المتنبي أشعر من جميع الشعراء الآن، بل قال ان المتنبي أشعر منا جميعا (منا بما
فيهم هو نفسه) ولكن التصريحات التي نشرتها جريدة الحياة فهم منها ما استثار غضب
الشعراء، وباستثناء حسن طلب وتحفظ محمد عفيفي مطر، فقد أبدي محمد صالح ومحمد سليمان
وجمال القصاص علي صفحات 'أخبار الأدب' الاسبوع الماضي آراء نالت من محمود درويش ومن
شاعريته، وللأسف لم يتطرق أحد الي جوهر الازمة، من السهل استثارة الشعراء وهجومهم
علي الآخرين مهما كانوا كبارا، المتنبي نفسه الذي ذكره درويش هجاه ونال منه أكثر من
ألف شاعر، بل أن صفة المتنبي، أي ادعاء أبي الطيب للنبوة فرية أطلقها عليه البعض،
الموهبة الاستثنائية تثير دائما الغيرة والنقمة، الوحيد الذي تطرق الي جوهر المشكلة
الشاعر الدكتور حسن طلب. ولكم تمنيت أن يصحح درويش ما نسب إليه، لكنني أذكر
تصريحاته لأخبار الأدب يوما انه يخاف ميلشيات قصيدة النثر، ولكن الموضوع تجاوز
خشيته أو إحجامه عن تصحيح ما قاله، فربما أراد التخفيف عندما قال إن المتنبي أشعر
منا جميعا أي وضع نفسه بين الجميع، وهذه حنكة اعلامية وخبرة دبلوماسية واتقاء لشر
هجمات الشعراء التي يعرف محمود حجمها جيدا، وأنها اذا انطلقت فإنها تستخدم كافة
الأسلحة المسموح بها والمحظورة، أما جوهر ما قاله فهو قضية صحيحة تماما، لقد فقد
الشعر العربي جمهوره، والشعر بل أي فن اذا فقد جمهوره لا يكون له تأثير ولا قيمة
ولا حضور، أذكر حوارات بيني وبين شعراء كبار، المرحوم عبدالوهاب البياتي. ادونيس،
محمود درويش، حجازي، سعدي، كنت اطرح عليهم دائما تساؤلا، لماذا لا يجتمع الشعراء
الكبار علي إصدار بيان شعري يتناول ما آلت اليه حركة الشعر العربي وما وصلت اليه
وكيف يمكن إنقاذها من الاحتضار؟ كان دافعي للسؤال أو التحريض أنني أسمع منهم ما
يتفق مع قلقي ومع النتائج التي توصلت اليها والتي تقول باختصار إن الشعر العربي
يحتضر، الاسباب خضت فيها من قبل، والحقيقة أنها متعددة، بدءا من انهيار مستوي
التعليم ورداءة النصوص الشعرية التي تتضمنها الكتب الدراسية، وغلبة الاستسهال بعد
شيوع قصيدة النثر، وهذا التعبير بالنسبة لي غريب، فأمل النثر أن يرقي الي مستوي
الشعر، فكيف نقول بقصيدة تتحول الي نثر، ولأن الامر سهل لا يقتضي استيعاب القديم من
أجل تجاوزه، ولا اتقان الاوزان بعد أن خلا الشعر من الموسيقي بحجة انه نثر، فقد جري
استسهال عجيب، غريب، وأصبح الشعر نادرا، ونادرا ما أتوقف أمام قصيدة حقيقية، كثير
من النصوص تبدو كلمات منثورة رصت علي الورق لتتخذ شكل الشعر وهي ليست بشعر، الغموض
والتسطيح وانتفاء العمق، أي شعر هذا الذي لا تعلق منه في الذهن صورة ولا يثير
احساسا أو يحرك شعورا.
هكذا بدأ الشعر يفقد متلقيه، ويصبح أكثر عزلة، ثم يصبح كأنه غير موجود، في الجانب
المقابل، ومن خلال ملاحظاتنا في 'أخبار الأدب'، نلحظ نهوضا قويا في حركة الشعر
العامي، وان كان الشعر العامي مهددا أيضا بقصيدة النثر فقد تسربت اليه بدرجة ما.
مشكلة شعر العامية الآن انه ينشر فقط كنصوص مكتوبة فيكون محصورا بين القراء فقط وفي
الماضي كانت قصائده الجميلة تلحن ويؤديها المطربون الكبار، أما الآن فالغناء نفسه
احتضر وتحول إلي حركات جسدية، ولا أدري ماذا يتبقي لإثراء الروح في أمة احتضر شعرها
ويموت غناؤها، طبعا ما يشجعني علي إبداء آرائي بهذا الوضوح أنني لست بشاعر، انما
انا متذوق فقط، والأهم أنني لا اخشي غضبة الشعراء ولا الميلشيات فلم يعد أمامنا الا
أن نقول الحقيقة مع ما آل اليه الشعر.