|
احمد شوقي |
قضايا
ثقافية لماذا غابت مرجعيات الفكر..؟
فاروق جويدة - مصر
من اصعب الاشياء
ان تتداخل الالوان في بعضها ويصبح من الصعب ان نري ملامح كل لون.. فالابيض ليس هو
الابيض.. والاسود ليس هو الاسود.. وعندما تختلط الالوان في عيون الناس فان ذلك
يعكس خللا في الرويا والروي.. وهو يعني ايضا ان الحياه فقدت مرجعيتها.. والشيء
العجيب ان لكل شيء في الحياه مرجعيه.. والذي اقصده بالمرجعيه هنا ان يكون هناك
مصدر ما نحتكم اليه اذا اختلفنا.. ونذهب اليه اذا حاصرتنا الهموم والظنون
والوساوس. ان المرجعيه تعني ان هناك عقلا ما يمكن ان يحتوي حيرتنا ونجد لديه شيئا
من اليقين.. ان هناك وجدانا ما يمكن ان نجد لديه الحس الصادق. ولابد ان
نعترف ان المرجعيات قلت في حياتنا الان.. ولقد كان من السهل جدا عندما نواجه قضيه
من القضايا ان نحتار ونحن نختار من يرشدنا ومن يضيء لنا الطريق, فقد كانت
القناديل كثيره والنفوس الكبيره اكثر. كانت المشكله ان المرجعيات عندنا كانت
كثيره ولا نعرف من نختار منها.. ولكنها الان قليله للغايه اذا لم تكن غائبه تماما
في كثير من مجالات الفكر والفن والابداع. لو اننا اليوم اختلفنا حول قضايا
الشعر علي سبيل المثال.. فاين تكون المرجعيه.. ان المرجعيه هنا وفي هذه القضيه
تحتاج الي شاعر كبير لم يسبح في متاهات السياسه ولم يترك نفسه لاهواء الحداثه ولم
يحاول ارتداء ملابس غيره.. ولم تبهره البالونات الفوسفوريه التي تنطلق في السماء
احيانا وسرعان ما تغيب, وقبل هذا كله ان يكون مبدعا حقيقيا لم يتغير ولم يتلون
ولم يرقص علي الحبال.. |
|
طه حسين |
واذا حاولت ان تبحث عن مثل هذا الشاعر الان فسوف تجد ان القضيه صعبه
للغايه.. وان هناك اسماء كثيره ولكنها لا ترقي الي درجه المرجعيه لسبب او
اخر..
ولو اننا حاولنا ان ننظر الي الوراء قليلا وطرحنا هذا السوال لاكتشفنا ان
بين ايدينا عشرات الاسماء التي كان من الممكن ان نلجا اليها ونجد عندها
الجواب.. كان بيننا في مطلع القرن: البارودي وشوقي وحافظ وعزيز
اباظه.. وفي منتصف القرن كان عندنا: علي محمود طه ورامي وناجي ومحمود
حسن اسماعيل.. وبعد ذلك كان بيننا: صلاح عبدالصبور وكامل الشناوي
والشرقاوي.. وتحاول الان ان تبحث عن مرجعيه تعود اليها وانت تناقش شكل
القصيده العربيه ومستقبلها.. فلا تجد غير الخصومات والخلافات والصراعات
والمعارك بين تيارات ترفض بعضها رفضا مطلقا. لو اننا حاولنا اليوم ان
نبحث عن مرجعيه في كثير من القضايا الفكريه فسوف تحتار كثيرا وانت تبحث عن
اسم واحد تجد لديه الملاذ واليقين. ولو رجعنا الي الوراء قليلا
لاكتشفنا ايضا عشرات الاسماء التي كان كل واحد منها يمثل مرجعيه لا خلاف
حولها.. ستجد لطفي السيد.. والعقاد.. وطه حسين وزكي نجيب محمود
وعبدالرحمن بدوي.. وسوف تجد في قضايا الفكر الديني محمد عبده ومصطفي
عبدالرازق والشيخ شلتوت وخالد محمد خالد والغزالي والشعراوي ود.
عبدالحليم محمود وغيرهم كثير.. |
|
صلاح عبدالصبور |
ان كل اسم من هذه الاسماء كان قادرا علي ان يضع الامور في نصابها اذا
احتكمنا اليه.. حيث الراي.. والفكر.. والمصداقيه.. ولو اننا
اختلفنا اليوم حول قضايا الفن والموسيقي.. فاين تكون المرجعيه.. كنا
بالامس نجد بيننا سيد درويش.. وعبدالوهاب والسنباطي والقصبجي.. وزكريا
احمد.. وكان كل واحد منهم مرجعا في فنه.. وكانت هذه الاسماء قادره
علي ان توفر الابداع الجيد الذي تجعل منه نموذجا رفيعا هو في النهايه يمثل
مرجعيه امينه لكل مبدع خلاق.. ولورجعنا الي المسرح وحاولنا ان نناقش
اليوم قضاياه من منظور علمي لكي نضع ايدينا علي الاسباب التي ادت الي
انحدار مستواه وتراجع دوره لاكتشفنا ان الساحه الان خاليه.. فاين زمان
الحكيم وزكي طليمات ويوسف وهبي وجورج ابيض وكل هذه الاسماء التي اضاءت يوما
مسارحنا.. ان مسرح القطاع الخاص في مصر الان يحتاج الي مرجعيات كثيره حتي
يستعيد توازنه المفقود.. ان هذه النصوص الهابطه.. وهذه الكوميديا
الرخيصه لا تتناسب ابدا مع تاريخ المسرح المصري بكل جوانب الجمال والجلال
فيه.. ولو اننا نظرنا الي شاشات التليفزيون.. ماهي المقاييس التي
نستطيع ان نحدد من خلالها ملامح البرنامج الجيد.. والمذيع الناجح..
والمسلسل الجاد.. لو اننا حاولنا تطبيق قواعد الانتشار والرواج والالحاح
فسوف نقع في اخطاء كثيره.. ولكن وسط هذا كله تبدو بعض الاعمال الفنيه
التي يمكن ان نعود اليها ونري فيها صوره من صور الابداع الجميل. وفي
ظل الالحاح الشديد الذي يفرض نفسه علي المشاهد فرضا يمكن ان نخدع انفسنا
ونصدق الاصوات القبيحه التي تمارس الغناء.. ولكننا سرعان ما نفيق ونحن
نسمع ام كلثوم او نشاهد مسلسلا عنها او نستعيد اغاني عبدالوهاب
وعبدالحليم, وهذه النماذج الرفيعه في الفن من السهل ان نجد المرجعيه في
الفن لان هناك نماذج حيه باقيه مازالت بيننا.. ولكننا قد لا نجد نفس
المرجعيه في جوانب اخري من جوانب الابداع.. والمرجعيه لا تعني ان يكون
الابداع صوره مكرره من الماضي.. ولكن المرجعيه هي التي تضع ضوابط واشكال
كل فن بحيث يمكن ان نقول ان هذا شعر.. وهذه روايه.. وهذا نثر وهذه
مسرحيه.. وهذا غناء.. وهذا لهو عابث.. وحين تختلط الملامح وتتداخل
الالوان يصبح من الصعب ان نفرق بين هذه الابداعات.. بل اننا احيانا نقبل
اشكالا من الابداع لا علاقه لها بالفنون من قريب او بعيد.. ان البعض
علي سبيل المثال يري في قصيده النثر التي حطمت كل مقاييس الشعر العربي
انجازا عبقريا.. بينما يري البعض الاخر انها اكبر كارثه لحقت بالشعر
العربي.. وهنا يكون السوال.. ومن بيننا يحكم.. من الذي يقول ان قصيده
النثر ابداع عبقري.. ومن الذي يقول انها ظاهره غريبه لا تدخل في مملكه
الشعر, وهنا يحتار الجميع امام الشعر واللاشعر ويقول انه شعر باطل..
وما حدث في الشعر حدث ايضا في الموسيقي.. ان ابسط الاشياء الان ان يسرق
ملحن مبتديء لحنا اجنبيا سواء كان اسبانيا او ايطاليا ويضع عليه كلمات
عربيه.. ويعتبره فتحا جديدا في عالم الموسيقي وينسبه الي نفسه.. وتبحث
عن شخص يكون القاضي والحكم.. ولا تجد احدا. وبيننا الان عشرات من
الاسماء يكتبون القصه والروايه.. وما اسهل ان تجد الان كتابا فيه بعض
الحكايا الساذجه وبعدها ينطلق اسم صاحبها كالصاروخ ويصبح روائيا كبيرا..
يحدث هذا ولم يزل بيننا حصن الروايه العربيه ورائدها نجيب محفوظ اطال الله
عمره.
وما حدث في الروايه والشعر والمسرح حدث في الفن التشكيلي.. هناك فرق كبير
بين ابداع صلاح طاهر التجريدي وشخبطات اخري تدعي التجريد.. وهناك ايضا
الاغاني الهابطه التي نسمعها الان بينما كان لدينا تراث عريق من الاغاني
صاغها رامي ومامون والشناوي ومرسي جميل عزيز وحسين السيد وعبد الوهاب
محمد. ومن هنا كان من السهل جدا ان تتداخل الصور ويصبح من الصعب ان
نميز ملامح كل فن.. ولا شك ان هذا التداخل ملا الساحه باسماء غريبه لا
علاقه لها بالابداع وجعلنا نتساءل من يفتينا اذا اختلت موازين الابداع
بيننا.. لا اتصور شاعرا لا يكتب قصيده موزونه مقفاه حتي لو قدم لنا
الف قصيده نثريه.. ولا اتصور فنانا تشكيليا لا يرسم بورتريه حتي لو قدم
لنا مليون لوحه تجريديه.. ولا اتصور موسيقيا لا يعزف علي اله.. او
مفكرا دينيا يخطيء في قواعد اللغه العربيه ثم يفسر القران فيرفع المنصوب
وينصب المرفوع او يعجز عن قراءه ايه قرانيه قراءه سليمه.. ولا اتصور ايضا
مطربا قبيح الصوت.. او مورخا لم يقرا كتابا في التاريخ. ان المشكله
الان ان كلمه مبدع اصبحت كلمه رخيصه مستهلكه لانها تستعمل الان في كل
مناسبه.. وان كلمه فنان تطلق الان علي كل من هب ودب حتي مطربي شارع الهرم
باصواتهم القبيحه. وهذا التداخل في الادوار والمواهب والقدرات يرجع في
الاساس الي غياب المرجعيه.. وهناك سبب اخر في هذه الظاهره هو غياب دور
النقد وغياب النقاد باستثناء قله قليله منهم مازالت علي عهدها وفيه لكل
ابداع اصيل. كان النقاد في زمان مضي هم القضاه الذين يجلسون علي منصه
العداله وكانت لهم مصداقيتهم واحكامهم واحترامهم لانهم كانوا بعيدين عن
الاهواء والاغراض والمصالح.. كان من الصعب ان ينجح في لجان الاستماع
مطرب قبيح الصوت.. او ان يقبل ناقد كبير ان يكتب عن شاعر لا يعرف
لغته.. او ان يتناول ناقد روايه هابطه.. او مسرحيه رخيصه. وكان من
الصعب ايضا ان تختفي موهبه حقيقيه في زحام المواهب المزيفه.. كان المجتمع
والضمير الادبي والابداعي والفني يمثلون محاكم دائمه لا تقبل تجاوزا في فن
او زيفا في الابداع او ادعاء بلا موهبه. من اجل هذا كانت المواهب تاخذ
حقها من الرعايه.. وكان المناخ العام يعطي لكل صاحب موهبه حقه بالتمام
والكمال.. كان من الممكن ان يلعب الحظ احيانا دوره مع البعض ويتخلي عن
البعض الاخر ولكن كانت المواهب هي الاساس والمقياس والحكم في كل الحالات.
ولهذا اصبح من السهل الان ان تجد ظواهر غريبه وان تقرا اسماء لا يعرفها احد
وان تجد امامك تلالا من الاوراق وتلالا من الشرائط. وتلالا من
الكتابات.. وتلالا من الشعر.. وتلالا من الروايات.. وكل هذا لا يقروه
احد ثم يطلقون عليه كلمه ابداع.. وهو ابعد ما يكون عن هذا العطاء
الانساني العظيم.. من هنا غاب الفن الجميل.. وغابت مصداقيه
النقاد.. وغاب المبدعون الكبار وهم موازين العداله في الحياه الادبيه,
وكان من السهل امام ذلك كله ان تهبط لغه الحوار وان تقترب احيانا من
الغوغائيه وان تغيب مرجعيه الفكر الحقيقي امام الصخب الكاذب, واصبح كل
صاحب موهبه حقيقيه يحاول ان يشق طريقه بعيدا عن هذا الشطط المجنون الزائف
وربما عاني كثيرا في رحلته.. ودفع ثمن اغترابه وحشه والما.. ولكن الثمن
الاكبر الذي يدفعه الان اي مبدع حقيقي هو غياب المرجعيه في كل شيء ابتداء
بالابداع وانتهاء بالنقد او بمعني اخر اننا في مجال الابداع الان امام منصه
بلا قاض.. وسفينه بلا ربان.. ويقف الانسان يتابع ما يجري وما يدور
علي الساحه ونتذكر تلك القناديل التي كانت تضيء سماء ايامنا وكانت تمثل
المرجعيه في كل جوانب الفكر والفن والابداع ولا يملك الانسان غير ان يردد
مع نفسه.. وفي الليله الظلماء.. يفتقد البدر. |
|