Closed Gate
عن الشاعر راسلنا صوت الشعر لقاءات قراءات نقدية قصة  مقالات أدبية شعر

الشعر أبو الفنون

سيد جودة - مصر

 

الشعر هو أبو الفنون، ليس لأنه أقدمها بل لأنه يجمع في طياته كل ألوان الفنون، ففيه فن الرسم والنحت بالكلمات، وتركيب الصور والألوان ورسمها في الخيال بشكل يضاهي أبرع اللوحات في الواقع. والشعر فيه فن الموسيقى بإيقاعه وتفعيلته التي تخلق جواً مرحاً أو كئيباً أو هادئاً أو عنيفاً حسب ما يتطلبه الشاعر في القصيدة. وفي الشعر فن الإلقاء وهناك شعراء برعوا في إلقاء الشعر أكثر مما برعوا في كتابته. وفيه فن التمثيل أيضاً حيث أن بعض القصائد تتطلب قدرة على التعبير بملامح الوجه وحركات اليدين، وبعض القصائد تكتب لكي يؤديها شخصان كحوار أو كصوت وصدى وهذا نجده في الشعر الإنجليزي خاصة.

إن الشعر لا يطوي فقط الفنون تحت جناحيه بل والفلسفة أيض، فهو خلاصة فلسفة الشاعر في الحياة وتجربة عمره كما يقول ليونارد كوهين: الشعر هو دليل الحياة فكلما احترقت حياتك جيداً كان الشعر هو الرماد! أو كما قال ويليام ووردسورث: الشعر هو النفَس والروح الأجمل لكل أنواع المعرفة. أو كما قال كوليردج: لا يوجد شاعر عظيم دون أن يكون فيلسوفاً عظيماً فالشعر هو عطر المعرفة الإنسانية والفكر الإنساني والمشاعر الإنسانية ولغاتها.

 

كلما جمعت القصيدة في أبياتها هذه الفنون المختلفة كلما كان نصيبها من الجمال أكثر. في قصيدة "النحات" يقول الشاعر الصيني "تشي شيان":

 

حزني نحاتٌ موهوبٌ

لا أبصرهُ

يأتيني كل مساءْ

يستخدم إزميلاً دون ملامحْ

ليزيد خطوط جبيني عمقاً

يرسم بعض خطوطٍ أخرى

أهرم تدريجياً

كي تكتمل ببطءٍ

تحفته الفنية!

 

ألا يتجسد فن النحت في هذه القصيدة الرائعة جليًّا. كأني حين أقرأها أرى حزني ينحت في وجهي خطوطاً وتجاعيد! ألا يظهر فن الرسم في قصيدة "وداعاً جسر كمبردج" للشاعر الصيني "شوجي مو" حين يقول:

 

الحشائش في طينةٍ رخوةٍ

تتمايل في الماء منسابة ً

فأودّ لو انِّي أصير بقلب النَهـَرْ

نبتة ً

 

البحيرة تحت الشجرْ

لم تعدْ صافية ْ

تتبدّى كألوان طيفٍ فرحْ

والطحالب من فوقها طافية ْ

فترسِّب حلماً كقوس قزحْ

 

أو حين تقول الشاعرة "كيريدوين هاروود" من ويلز في قصيدتها "وعد":

 

و تمنحني فراشاتٍ

كأني حين أشتاقكْ

كواقفةٍ لوعدٍ

تحت شلالٍ من الآمال غاليةٍ

كمثل تنفسي للضوءْ

كمثل تذوقي ألوان طيفٍ

في  حلاوتك الشديدةِ

أختفي و أذوبْ!

 

أو هذه اللوحة الجميلة في قصيدة "مقولة مقتطعة" للشاعر الصيني "بيان جي لين":

 

واقفٌ فوق جسرْ

تتأمل وجه الطبيعة ْ

رجلٌ فوق بيتْ

يتأملها

يتأملكَ

البدر لاح يزين نافذتكْ

كي تزين أحلام غيركْ!

 

في شعرنا العربي نجد هذا واضحاً في قصيدة أحمد عبد المعطي حجازي "غرفة المرأة الوحيدة" التي أعاد بها رسم اللوحة الشهيرة بشعره المرهف الجميل. وكذلك أمل دنقل في قصيدته "لا تصالح" حين تعدى مجرد رسم لوحة إلى رسم الحركة ذاتها وكأنه يرصد لنا بكاميرا سينمائية ما يراه في خياله الشعري:

 

كنت إن عدتُ:

تعدو على درج القصرِ،

تمسك ساقيَّ عند نزولي ..

فأرفعها –وهي ضاحكة ٌ-

فوق ظهر الجوادْ

 

والموسيقى في الشعر عنصر جمالي يفقد الشعر الكثير حين يفقده. الموسيقى روح الشعر كما يقول محمد إبراهيم أبو سنة في قصيدته "موسيقى الأحلام". لكن الموسيقى في الشعر سلاحٌ ذو حدين ولا يحسن توظيفها إلا الشاعر المتمرس الذي أتقن استخدام أدواته وبات يعرفها كما يعرف كف يده، فأصبح وقد صار سيدها فأبدع في شعره الجميل من القصائد. أما إن استسلم الشاعر لموسيقى الشعر واسترسل في رتابته ووقع في دوامته كانت النتيجة كلاماً معاداً وصوراً مستهلكة جاهزة ومعاني سطحية، وكانت النتيجة أن غاب وعي الشاعر والقارئ معاً كمن يرقص في زارٍ على دقات الدفوف والموسيقى غير واعٍ لمعاني الإنشاد الصوفي. فاستخدام الموسيقى في الشعر مثل السير على شفا حفرة من النار لا ينجو منها ويصل إلى بر الأمان إلا الشاعر الحق، كما قال الحطيئة:

 

الشعر صعبٌ وطويلٌ سلَّمهْ

إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ

زلتْ بهِ إلى الحضيض قدمهْ

 

هذا الشاعر الحق هو الذي يستطيع أن يبدع الجديد في صوره ومعانيه وأفكاره في ظل موسيقى يعلم تماماً كيف يسخرها لإبداعه فيصبح سيدها لا عبداً لها. هذا هو الإبداع الحقيقي، إبداع يبنى على ما سبقه لا يهدمه ويفجره، ولكن لهذا حديث آخر مستقل في الفرق بين معنى الحداثة وما بعد الحداثة في الشعر العربي.

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

إلى دار ندوة

عودة إلى موقع ندوة

ضع إعلانك هنا