لا زالت مسألةُ الموسيقى في النص الأدبي تثيرُ قدرا كبيرا من الانتباه والتحدي لدى
عدد من المهتمين بالشأن الأدبي والعاملين عليه شعراء وأدباء ونقاداً ، ولعلّ هذه
الموضوعة تحديدا ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من الاستغراق فيها لولا أنها كانت
ولا زالت من أهم ركائز السجال المفتوح حول قبول أو رفض النص الأدبي الحديث في شكل
قصيدة النثر وافداً جديداً إلى الشعر العربي .
وقصيدة النثر أو (النسيقة) وهو المنحوت الذي خرجنا
به تسمية لها من دراستنا حول هذا اللون من ألوان الفنون الأدبية القولية في تطبيق
على نظرية الشاعرية التي تقدمنا بها في دراسة منفصلة، تحاول ومنذ خروجها إلى واقع
التجربة ما أمكنها أن تدافع عن فرصتها في البقاء عبر إثبات شرط الموسيقى المطلوب
لها حتى يمكن ولوجها إلى عالم الشعر تالياً من باب تحقيق هذا الاستحقاق المسبق.1
ولأنَّ منظري هذا اللون الوليد – رغم مرور نصف قرن على ظهوره تقريبا – اختاروا أن
يستجيبوا لهذا الاشتراط والتحدي في محاولة انتزاع اعتراف بهذا النص من خصومهم في
الموقع المقابل ، فقد استهلكوا جزءا كبيرا من الوقت الذي كان أجدر بهم أن يصرفوه
على تحقيق ما حاولوا قوله نظريا في النص ذاته عمليا بما يمنحهم فرصة الدليل بدلا من
الاتكاء على نتائج السجال النظري هذا مع خصومهم .
وكانت النتيجة هو بقاء هذا التطبيق الأدبي رهنا بعواصف الزمن وتبدلاته ومطية لعدد
كبير من أنصاف الشعراء ومحتالي الشعر عوضا عن انشغال النقاد بالتحيّز والاندفاع بين
هؤلاء وهؤلاء فيما التجربة تلقي بأطنان من النصوص التي لا تشفع لهذه التجربة بل
وتدينها من واقع التطبيق ، ومثل هذا الوضع في واقع الأمر كان فيه فرصة نادرة لتوفّر
عناصر إدانة لهذه التجربة بما يفضي إلى خسارة الشعر ذاته في كل الأحوال .
لقد خسر الشعر العربي المتلقي العربي كما هو ملموس وبشكل لافت حتى الساعة، وانفضّ
عنه جزء كبير من جمهوره الذي كان يرى فيه راحة وسكنا لروحه ونفسه ، وكانت هذه
النتيجة إلى حد كبير ضمن نتائج هذا السجال وهذه المرانات النظرية وما تمخّضَ عنها
من انتكاس في مسيرة الشعر العربي يتحمل مسؤوليته كلا المعسكرين معا بما أتاحاه من
فرص لحدوث ذلك جراء هذه المعارك المستجلبة.
إذن فموضوعة الموسيقى أثارت الزوابع هذه وعملت على تأجيجها دوما وبالتحديد مسألة
الموسيقى الداخلية في النص وهي التي دفع بها منظرو النسيقة واعترض عليها منظرو
العمود والسطر الشعري ، ولعل هذا ما كان حافزا للنظر في مسألة الموسيقى في النص
الأدبي محاولة للوقوف على آراء هؤلاء في هذه المسألة ورغبة في استجلاء حقيقة الأمر
بين هذه المواقف والرؤى.
إن التعريف الأكاديمي الحديث للموسيقى يلقي بظلال
أولية حول المسألة فهو يقول بأن الموسيقى هي (فن تآلف الأصوات الموسيقية المنسجمة
لتعبِّرَ عما يجول بالنفس ) ، وقد أحسن إذ أضاف البعض بأنها لا تكتفي بالتعبير بل
هي قادرة أيضا على تخليق مواقف نفسية أيضا مستنتجا ذلك من رسالة الكندي " رسالة في
خبر تأليف الألحان "وهي الرسالة التي تناولت باستفاضة واسعة الموسيقى وإيقاعاتها
وعلاقاتها بالشعر والأوزان الشعرية .2
إنّ أهم ما يلفت الانتباه في هذا التعريف السابق هو ركن التآلف وهو أساس تكوين
الطاقة الفاعلة التي نسميها الموسيقى تلك القادرة على التعبير من جهة والتحفيز من
جهة أخرى ، وهذا التآلف بين الأصوات الموسيقية في عنصر الزمن الذي يحتاجه هو عنصر
الارتكاز الرئيس ، ونعلم قطعا أن الأصوات ذات أنواع وسواء أكان ذلك الصوت الأحادي
أم تراكيبه التي تشكّل التعدد الصوتي أو أكثرها هرمية وهي الوزن فهي جميعا تحتاج
إلى تحقيق شرط التآلف هذا .
إن هذا التآلف قائم لا شك في عنصري الاستقبال وهي
الذات نفسها وعنصر الإرسال وهو الزمن الذي تنبعث فيه هذه الطاقة ويحمل فترات
الانقطاع بينها جزءا من العملية الموسيقية ، "فالموسيقى نشاط زمني "
3
، وتلعب بذلك الذات الإنسانية الدور
الفعّال في تحقيق موسيقية الموسيقى بعد أن تكون قد حققت شرط تآلفها الناتج عن ضبطها
وهو الأمر الذي ينفي فلسفيا عناصر الفوضى والصدفة والقطيعة بل يؤكّد عكس ذلك تماما،
والأساس الفلسفي للموسيقى هو أساس منضبط متكامل ومتآلف ومتفاعل.
ونعلم قطعا أن تقنيات تحقيق هذا العنصر التآلفي تأخذ في عين الاعتبار خصوصية
المقابلة والثنائية والمرواحة بينها فهي ذات المعزوفة التي تقوم بها كل خلية حيّة
في نشاطها الدقيق وأعني بها حركة الاليكترونات في مدارات الطاقة من خروج وانتقال
وعودة ، والقانون العام لها أنها ترتقي حين ارتفاع طاقتها لتعود بعد أن تنخفض
طاقتها إلى موضعها الأول في مسار دقيق متآلف لا يعرف اضطرابا حتى وهو يوصف بحالة
الحركة الدائبة المستمرة والمعقّدة إلى حد كبير.
لقد رأى بعض الباحثين في مجال الموسيقى وتطبيقها
على حياة البشر منذ المرحلة الجنينية أن يقسم هذه إلى مراحل بعينها بحسب هذه
المراحل ونوعية التآلف المتحقق فيها ، فقال بالموسيقى الحسية للجنين والموسيقى
الحركية للوليد في أولى مراحله العمرية ثم موسيقى الصوت في مرحلة تالية فموسيقى
اللون وصولا إلى موسيقى الكلمة
4
، ولعل اللافت في هذه المراحل جميعا هو سهولة إدراك النابض العام في تحقيقها عبر
تتبع عنصر التآلف هذا ومطابقته على الواقع سواء أكان التآلف حركيا أم صوتيا أم
لونيا يعتمد على عنصر الحركة فالصوت فاللون وهكذا.
و بوصولنا إلى موسيقى الكلمة فإننا في الواقع نشرع في التعامل مع موسيقى النص
كنتيجة لا بد منها وهو الأمر الذي يجعلنا إزاء التعريفات التي أطلقت على هذه
الموسيقى بإحالاتها المتعددة ، ويتفق الجميع بلا شك على أن الموسيقى الخارجية في
النص الشعري أو الأدبي عموما تتشكّل من عملية تحقيق التآلف عبر النظم بين عناصر
تكوين الصوت الموسيقي ومادتها الأساس هي الكلمة واللغة ، ولعل الموسيقى الخارجية أو
الظاهرة كما يحب أن يدعوها البعض لا تحتاج إلى كبير عناء في التأكد من تحققها في
النص من عدمه .
وقفنا على تسمية لهذه الموسيقى أيضا بالموسيقى
التركيبية كما عند الباحث السعيد الورقي في كتابه "لغة الشعر العربي الحديث"
5
، ورأينا أن من آثر تسميتها بالظاهرة قد أبقى في ذهنه تسمية مقابلة لأخرى باطنة ،
وكذلك من اختار لها تسمية الخارجية فقد أزمع أن يستخدم تسمية الداخلية للأخرى
المقابلة وأما اختيار السعيد الورقي فهي أكثر حيادية وأقرب للتحديد فهي حقا موسيقى
التركيب ولكن هذه العملية التركيبية هي ذاتها التي ستجري عند الأخرى المفترضة أيضا
مع اختلاف الأدوات.
فتركيب وتآلف التفعيلات
عملية تركيبية ، وتركيب وتآلف الصورة الشعرية المفترضة أداة للموسيقى الأخرى أيضا
عملية تركيبية ، وحتى في داخل العملية الأولى فإن تركيب التفعيلات لغة عملية بذاتها
وتركيب نوعية الحروف في الكلمة أيضا عملية بذاتها وإن كانتا تجريان في ذات الوقت ،
وهكذا فإن من المفيد التميز بين هذه وتلك لتكون التسمية أكثر دقة وتحديدا منذ
البداية ، ولذا فقد توصلنا إلى تسمية العملية الأولى بموسيقى النظم وهذه تتكون فور
تحقيق شروط الوزن ولو كانت على أبسط ما يمكن باستخدام التفعيلة ذاتها بحروفها "
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن " مثلا في المتدارك .
أما الموسيقى الثانية
والتي لها ذات صفة التركيب فهي تلك المتحققة باختيار نوعية الحروف في الكلمة بمهارة
ودراية وفن عظيم يقف على أهمية التفريق بين الحروف الصائتة والحروف الصامتة مثلا
ودور كل منها وما تتيحه من أثر عبر عملية التآلف التي تنسج تاليا من عملية التنضيد
هذه ، فهي إضافة إلى كونها تركيبية الأساس إلا أنها عملية سلك وتنضيد وهو ما يميزها
عن الأولى والتي دعوناها موسيقى النظم ، وبذا فإن موسيقى التنضيد هي النوع الثاني
من الموسيقى الخارجية إن شئت .
وفي الجانب المقابل فإن الموسيقى الداخلية هي التي
أخذت شوطاً أكبر في محاولة الوقوف على طبيعتها وهي التي أرادها أصحاب فريق قصيدة
النثر (النسيقة ) دعامة لهم في تنظيرهم وسلبها منهم الآخرون على اختلاف طريقتهم في
ذلك ، فبعض المعارضين أشار إلى أن هذا النمط غير موجود بتاتا فهو لا يسمع وكل ما لا
يسمع لا يصلح أن يلحق بمنظومة الموسيقى السماعية والتي أساس التصنيف فيها السماع
والصوتيات وما ركن إليه شعر العرب عموما ، أما البعض الآخر فذهب إلى أن هذه
الموسيقى التي يريدها أنصار النسيقة داخلية ما هي إلا ذاتها المتولدة عما أشرنا
إليه بالتنضيد بل وأكّدوا ذلك وأسندوا له معيارا وطريقة احتساب أيضا كما هو الحال
في تطبيقات العروض الرقمي عند أصحاب هذا المنهج
6
، ولذا فلسان حالهم يقول آنئذ لا داخلية لكم يا أصحاب قصيدة النثر وانتهى الأمر !
وإذا كان تطبيق العروض الرقمي على أساس مقاطع اللين والشدة وهي التي تشكّلها عملية
التنضيد بتقنياتها (تماثل وتقابل وتضاد ) على حروف الكلمة بما فيها من حروف المد
والقطع وأنواع الصائت والصامت ، إذا كانت هي التي اعتمدت لوصف الموسيقى الداخلية
فإن هذا التطبيق اختار الوقوف عند قصائد العمود فقط ، ومفهوم سبب ذلك كونه يرتكز في
أساس عمله إلى تساوي الشطرات وبالتالي تراتبية التفعيلات وعددها ولذا فهو لم يدخل
ولا نتوقع له أن يلج ميدان القصيدة السطر فكيف نعتمده مبحثا إذا لنوعية الموسيقى في
النص الأدبي وهو قاصر على نوع واحد فقط ؟
إن مسألة تحديد مفهوم الموسيقى الداخلية وما تحيل إليه هي بلا شك المنطلق الأصوب
لتناول ما سيتفرّع عنها تاليا وبالتالي الوقوف أمام محاولة إجابة التساؤلات الكبرى
في هذا المبحث ، ودون ذلك سيكون الحديث عائما في إطار إحالات ومرجعيات مختلفة أصلا
تنتج ما ينتجه حوار الأصمّاء لا أكثر ولا أقل ، وبالتالي يحمل ذلك في طياته بذرة
استبقاء الرغبة بعدم الاهتمام أصلا بنتائج هذا الحوار أو حتى الاهتمام بما يمكن أن
يدور فيه.
وفي محاولة لحصر جملة هذه الإحالات بحسب مواقف أصحابها في مسألة الموسيقى الداخلية
وقفنا على نمطين من الإحالات عند من تناول هذا الموضوع وهما :
1-
الصَّوتيون – ومرتكزهم الصوت
2-
الصُّورَوِيون
– ومرتكزهم الصورة
أما الصوتيون فهم من
اعتمد الصوت وعلاقاته كأساس لتفسير ومن ثم قبول وتقنين هذه الموسيقى في تعريف محدد
يعود إلى هذا العامل لا غير كأساس ومرتكز ، وهؤلاء بدورهم تمايزوا في هذا الجانب
إلى ثلاثة أصناف وعلى درجات في التعمّق في رؤيتهم هذه ، فكان هناك من ارتكز على
المستوى الأول في توليف الصوت ذاته وهم القسم الذي اختار الوزن والقافية ومعادلاتها
فشكل النمط الصوتي- الوزني في تحديد الموسيقى بأنواعها الداخلية والخارجية في النص
الأدبي .
أما القسم الثاني فهم
الذين أدخلوا البلاغة والبديع وعلاقاتها كعامل في توليد هذا النمط من الموسيقى وكان
الدرس البلاغي حاضرا وكذا البديع عبر متابعة الجناس والطباق في النص الأدبي وما
ينتجه ذلك من إشارات وتوليفات صلحت معهم القضية بإسناد هذه الموسيقى إلى هذا العامل
، وهذا النمط هو الصوتي-البلاغي ، وتبقى أخيرا من ارتقى أكثر إلى أعلى فأشار إلى
موضوعة الدلالة تاليا واعتبر أن الدلالة الناشئة عن هذه الكلمة بعينها تختلف عن
الدلالة الناشئة عن تلك الكلمة في النص الأدبي الشعري طبعا حتى وهي داخل منظومة
الجناس والطباق وهؤلاء هم الصوتيون –الدلاليون .
وفي كل الأحوال فإن الصوتيين جميعا قد بقوا في مربع واحد هو مربّع الصوت كما أسلفنا
واختاروا أن تكون منظومة الصوت هي أساس قبول الموسيقى الداخلية وفي هذه الحالة فإن
قصيدة النثر أو النسيقة ستخرج مباشرة من باب الشعر عند هؤلاء جميعا نظرا لأنها لا
تحقق في الواقع أياً من شروط وجهة النظر هذه لا في تنظيراتها ولا في النماذج
الصالحة للاستدلال بها على النظرية في مجال التطبيق ، ومن ناحية أخرى فإنا نرى أن
مواقف الصوتيين لا تتعدى الحديث عن الموسيقى التركيبية بنوعيها موسيقى النظم
وموسيقى التنضيد التي أشرنا إليها آنفا وهي بهذا لا زالت تتناول الموسيقى الخارجية
فكيف تنتزع اسماً آخر لنمط آخر في ذات الوقت لتعني أمرين معا ؟
دعونا نورد أولا بعضا من المواقف التي تشير إلى هذه
التصنيفات التي ذهبنا إليها من خلال مقتطفات تشرح جملة ما تقدم وتضيئه، فمثلا رأت
لجنة التحكيم الخاصة بجائزة عبد العزيز سعود البابطين الشعرية في مسوّغات منحها
الجائزة في مجال الشعر لديوان الشاعر الراحل رابح لطفي جمعة (لذكراكِ) ما يلي " إن
قصائد هذا الديوان أشبه ما تكون "بسيمفونيات حزينة" عرف صاحبها كيف يوائم موسيقاها
بما يخدم الموقف المفجع الذي يعبر عنه وذلك باستغلال الموسيقى الداخلية لنصوصه
الشعرية سواء من خلال التكرار اللفظي أو الاشتقاقي أو الصرفي أو الصوتي ، مما أعطى
لقصائده زخما موسيقيا شاجيا في إطار موضوعه المفعم بالحزن " .
7
من الواضح إذن أن هذا التوصيف يعبّر تماما عن موقف الصوتيين البلاغيين بشكل عام وهو
بالتالي يقصر الموسيقى الداخلية على هذه الحزمة من التفسيرات لها ويدعها برسم قبول
هذه الموسيقى على هذا النحو في أي نص أدبي شعري تال، أما أصحاب فكرة الدلالة فنقتطف
ما يلي من تفسيرهم الخاص " إن إيقاع الجملة وعلائق الأصوات والمعاني والصور وطاقة
الكلام الإيمائية والذيول التي تجرها الإيماءات وراءها من الأصداء المتلونة
المتعددة، هذه كلها موسيقى وهي مستقلة عن موسيقى المنظوم، وقد توجد فيه وقد توجد
دونه ".
8
كما أن من الواضح أن هذا التفسير للموسيقى الداخلية وإن حمل شبهة أن يكون حاول
النزوع إلى موقف معاضدة قصيدة النثر فهو ينطلق في نهاية الأمر من فكرة الصوت
والدلالة، فالأصداء والإيماءات نتجت أساسا عن طاقة الكلمة والصوت، وإن كان في هذا
التوصيف حقا ما يحمل على الاحتفاء به فذلك نظرا لحسمه مسألة انشقاق موسيقى المنظوم
إلى جانب وانشقاق موسيقى أخرى إلى جانب آخر وإن كان قد وقع في معضلة إشراكهما في
مسألة الصوتية ودلالتها .
في مادة قيمة طرقها د.سعيد الورقي في كتابه "لغة الشعر العربي الحديث " اعتبر أن
الموسيقى الداخلية هي الموسيقى التي تنشأ عن "جعل التشكيل الموسيقي في مجمله يرتبط
أكثر بالحالة النفسية التي يصدر عنها الشاعر" ويكمل فيقول " ومن هنا برزت أهمية
الموسيقى التعبيرية الداخلية كشكل موسيقي أقدر على الاتصال بالأحاسيس الداخلية
والانفعالات النفسية ، فاتجه الشعراء من ثم إلى خلق حالات من الإيحاء عن طريق
موسيقى الألفاظ وإلى الإلحاح على استخدام الكلمة كدلالة وكصوت انفعالي ، كما اهتموا
بخلق جو من الموسيقى التصويرية المصاحبة للانفعال" . والمدهش أن في هاتين الفقرتين
ما يحيل إلى رؤيتين منفصلتين كما سنرى تاليا : الأولى تخص الصورويين والثانية تخص
الصوتيين !
عند الورقي في الفقرة الثانية مرة أخرى ما يشير إلى منطلق تحديد مرتكز
الموسيقى الداخلية والتي أعطى لها اسماً مميزا بالموسيقى التعبيرية ، إنها الصوت
والدلالة ولكنه أشار فيما بعد إلى نمط آخر اكتفى بذكره باسم الموسيقى التصويرية دون
تحديد ماهيتها وكيف يمكن تخليق هذا الجو المصاحب للانفعال وإن كان على الأغلب ينطلق
حصرا من مسألة الصوت ويجتهد فيما تبقى من هذا الفصل الجميل في كتابه في إدراج عدد
من الأمثلة من واقع شعر كل من صلاح عبد الصبور ونزار قباني ، وتأتي الشروحات كلها
في مضمار خصائص الحروف واستخداماتها ومن ثم تحقيق هذه الموسيقى الداخلية.
واللافت في إشارة الورقي الثانية ذاتها أنها تذهب في بداية التعريف إلى واقع نشوء
الموسيقى الداخلية أو التعبيرية كما أطلق عليها من الصوت والدلالة ثم يذهب في
التطبيق إلى موقف التركيبين وحديثهم عن خصائص الحروف الصائتة والصامتة ، وينتقل الى
الصوتيين البلاغيين ودأبهم في تناول الأساليب الصوتية على قاعدة استخدام التقنيات
الخبرية والاستفهامية والخبرية والتقريرية والتأكيدية بالإثبات أو النفي ثم التكرار
وجميع هذه في واقع الأمر من أدوات التنضيد وبالتالي الموسيقى التركيبية التي افتتح
هذا الفصل بتأكيده أنها مختلفة عن الموسيقى التعبيرية.
ويبدو أن سبب ذلك في واقع الأمر هو قصره الموسيقى
التركيبية كما قال على الوزن والقافية " اتجه الشاعر الحديث كما اتضح لنا من تناول
جوانب الموسيقى التركيبية في القصيدة العربية الحديثة ممثلة في الوزن والقافية "10
، وبالتالي يمكن فهم الإشكالية التي نشأت من الحصر هذا في اعتبار ما تلا ذلك جزءا
من الموسيقى الداخلية أو كما أرادها الموسيقى التعبيرية طالما حصر التركيب بالوزن
والقافية ولم يدخل التنضيد وموسيقاها في مستوى التركيب واعتبره بالتالي مصدرا
للموسيقى الأخرى التي نحاولها هنا ، وظني أن السعيد قد أغفل أن الشاعر العربي
القديم كان هو في الواقع مفتتح التنضيد وخصائص الحروف والبلاغة والبديع قبل غيره بل
وهو أخبر الناس بها .
أما ما افتتح به في فقرته الأولى للتعريف بالموسيقى الداخلية على أساس ارتباطها
بالواقع النفسي والحالة النفسية التي يصدر عنها الشاعر ومن ثم قدرة النص على
التماهي مع هذه الحالة بما يجعله تاليا وحدة نفسية قادرة على الانتقال إلى المتلقي
فهو تفسير وموقف آخر لأصحاب النظرية النفسية في اعتبار نشوء هذه الموسيقى الداخلية
مرتبطا بها كما سنرى تاليا ، ولعل جملة خلط القضايا هو ما دعانا إلى محاولة تقنينها
وفصلها عبر هذه المطالعة .
إن ما يستحق الوقوف عنده في مسألة الصوت تحديدا هو الميكانيزم الذي يشتغل وفقه
ويؤدي وظيفته تبعا لذلك ، وهذا الميكانيزم يرتبط ارتباطا وثيقا بعنصر الاستقبال
السمعي فالنفسي تاليا لناتج وثمرة هذا الميكانيزم ، إن حركة الألفاظ وإيقاعها ينزل
مباشرة في آلية خطية باتجاه الشعور ويتعامل ببساطة مع القلب والوجدان وتشوّقات
النفس كما هي الحال في الموسيقى الصادرة عن الآلات الموسيقية الأخرى قبل أن ينفتح
تاليا الفكر والتبصّر ومن ثم عمليات الإدراك المعقّدة ذهنيا لمعالجة ما يقوله النص،
وهذه هي السمة العامة لاستقبال الموسيقى التركيبية نتيجة للاعتماد الكلي على مرتكز
الصوت ومنظومته .
يرد إلى الذهن سؤالان هنا في مسألة الموسيقى الداخلية وأرى ضرورة إثارتهما في هذا
الموضع وهما على النحو التالي :
السؤال الأول : هل الموسيقى الداخلية تختص بالشعرية العربية أم هي قانون عام
ومستحصل مؤكد في كل الشعريات الأخرى ؟
من الواضح أن هذه الموسيقى لا تختص بالشعرية العربية وحدها وإن كانت كذلك فهي
بالتالي مما لا يصلح معه التعميم إلى مستوى العام وستصبح شأنا لغويا أكثر من كونه
شأنا شعريا ، وعندها يمكن الحديث عن هذا الموضوع في إطار مختلف تماما ، وإذا كانت
النصوص الشعرية الأخرى في الشعريات غير العربية تحمل هذه الموسيقى كما يصرّ على
وجودها شعراؤها ونقادها فإن من طبيعة هذه الإجابة أن تجعل من وضعها برسم الصوت في
كل التفرعات عليه هم في موقع الشك بما ذهبوا إليه .
ونذكر في هذا الموضع رد كل من أدونيس والخال على ما
جاء على لسان نازك الملائكة في اعتبار قصيدة النثر مجرد ركام نثري فارغ لا معنى له
حيث أشار هؤلاء إلى أنه " إذا كانت الدعوة إلى قصيدة النثر دعوة ركيكة فارغة المعنى
كما تقول نازك ، فكل ما كتبه شعراء كبار كلوتر ، بامون ، رامبو ، فلوديل ، هنري ،
أرنو وسات جون بيري وكل ما كتبه هؤلاء من قصائد نثر هو فن ركيك فارغ المعنى "11
، وهذا يتضمن قطعا ما أرادوا نسبته إلى قصائد هؤلاء في شعرياتهم المختلفة على أنها
تتضمن بداهة هذا الاشتراط الموسيقي الداخلي في شعرياتهم لتكوين قصائدهم النثرية ،
والمدهش أنهم احتموا بنماذج من شعريات أخرى للرد على نازك وكان أولى لو استشهدوا
بنماذج وتطبيقات عربية في مجال الرد على هذا الاتهام لأن كون نماذج قصيدة النثر في
شعرياتها الأخرى قد نجحت لم يتضمن أنها ناجحة في التطبيق العربي بل تركوا ذلك كما
أسلفنا للسجال النظري ونتائجه .
وهكذا فالصوتيون العرب لن يمكنهم استخدام ذات القواعد بالتمييز بين نوعية الحروف أو
علم البلاغة والبديع وتطبيقاتهما على هذه الشعريات فلها خصائصها اللغوية بالتأكيد ،
كما لن يكون بالمستطاع أيضا تطبيق ذلك على المترجَم من هذه النصوص ذلك أن الترجمة
لن تستطيع نقل تلك العلاقات الفنية والتي هي من اخص خصوصيات كل لغة على حدا إلى ما
يقابلها عربيا ، وبالتالي فإن الذهاب إلى ربط الموسيقى الداخلية بالعنصر الصوتي
ومتفرّعاته وما يحيل إليه وجملة العلاقات الناشئة عنه لا يمكن بحال تقديمه على أنه
أساس هذه الموسيقى وسيقصر جملة ما يراه الصوتيون وما ذهبوا إليه في باب الموسيقى
التركيبية حصرا وهو الأكثر منطقية وقبولا تصبح بعدها الموسيقى التركيبية قانونا
عاما يتعلق بجملة النظم والتنضيد وما تستفيده من طبيعة كل لغة على حدا.
أما السؤال الثاني الذي يتبادر إلى الذهن في هذا المجال فهو يتعلق بطبيعة قانون
التآلف في تحقيق الموسيقى .
والسؤال هو : معلوم أن الموسيقى الخارجية أو التركيبية تختل بتغيير ترتيب مكوناتها
، فهل يحدث ذات الأمر في الموسيقى الداخلية ؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من الوقوف على طبيعة هذه الموسيقى أولا ومم تنشأ بعد
أن تم استبعاد الصوت وطاقته وعلائقه ، وكما قدمنا فإن القسم الآخر ممن اجتهد في
البحث عن طبيعة الموسيقى الداخلية هم الصورَويون أي الذين أحالوا مبعث هذه الموسيقى
إلى الصورة الشعرية وهؤلاء وضعوا هذه الإحالة في مستويين مختلفين .
أما القسم الأول منهم فقد جعل الإحالة عامة بمعنى
أن الإحالة هي للصورة الشعرية في علاقاتها مع اللغة والمدلول والجو النفسي العام
للنص الأدبي ، ويطرحون موقفهم هذا على أساس أن " الإيقاع الداخلي للنص ويقصد به
الحالة الشعورية التي يحملها النص الأدبي " ويردفون " فما يؤكده النقد الحديث أن
توتر الحالة الانفعالية وهيجانها كثيرا ما يضغط على النص ، وتضغط على مقاطعه وتتوتر
دلالاتها والإحساس بهذا الشعور الداخلي المتوتر هو الشعور بالإحساس الداخلي "12،
إذن فجملة الإحالة الواردة هي للتشارك بين النص والذات في الجو النفسي الخاص
" وبعبارة أخرى نقتطف مما قدمه الورقي عنها بقوله " اعتمدت قصيدة النثر كما تبدت في
أعمال شعرائها على صورة موسيقية نفسية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتجربة الشعرية " .
لسان حال هؤلاء القوم يرى أن الصورة الشعرية المتشكلة في جو نفسي ما سيختلف عن ذات
الصورة وذات اللغة المستخدمة في نص واحد بالقطع عن حالة النفس العامة في وضع آخر ،
وبالتالي فهم يرون أن الموسيقى الداخلية ووحدة تكوينها ليس الصورة الشعرية بحد
ذاتها بقدر ما هو الحالة العامة معها والتي تلعب هي الدور الفيصل فيها ، وهذا
ما يمكننا استنتاجه من فهمهم وتقديمهم لمقولتهم على هذا النحو ، وبالتالي تحدث
بوضوح عملية انسحاب خارجية عن النص يلعب الدور الرئيس فيها ليس النص بحد ذاته بقدر
ما هو الخارج عنه .
أعتقدت بعد مراجعة هذا
الفهم أن تفسير ذلك عندهم يعتمد على مكوّن نفسي يحيل إلى خارج النص ذاته
ولكنه يلعب دورا هاما في تحقيق ذلك ، ومثل ذلك نرى أنه سيقع نتيجة التضمين وهو
أسلوب أدبي معلوم وشائع التطبيق ، فالصورة الناشئة عن أصل النص قبل التضمين ستختلف
عن الصورة الناشئة عند التضمين من حيث تشكّلها وتفاعلها وتأثيرها النفسي نتيجة
اختلاف طبيعة جو التلقي العام ، وأصدق الأمثلة هي النص المقدس ففي القرآن الكريم
وهو النص المعجز بالتأكيد وأعلى درجات النصوص على الإطلاق سيختلف وضع التلقي عند
تلاوة النص الكريم في الآية الكريمة " الرحمن على العرش استوى " عن وضعه عند تلقي
ذات الصورة الرائعة في نص أدبي آخر بعد عملية تضمينها شعرا أم نثرا .
إن الصورة الشعرية والفنية العالية ستأخذ طبيعتين مختلفتين مع أنها واحدة في كل
الأحوال وبذات اللغة وذات المدلولات نتيجة لاختلاف هذا الجو النفسي العام الموجود
خارج النص ولكنه لا يمكن بحال من الأحوال فصله عن الخليط العام المتفاعل معا، وما
يصدق على القرآن الكريم يصدق أيضا على الحديث الشريف وهو أفصح وأبلغ القول بعد
القرآن الكريم في موروثنا الأدبي واللغوي والديني خذ مثلا الحديث " الجنة تحت
أقدام الأمهات " وتخيّل إحالاته في الأصل ونص آخر بعد التضمين ! ، نجزم أن ذلك ايضا
ينسحب على الشعريات الأخرى في جانب تضمينها لنصوصها المقدسة ضمن الأدب شعرا كان أم
نثرا.
أما القسم الثاني من الصورَويين أو من حاول التقديم لوجهة نظرهم فأرى أنهم يذهبون
إلى نوع الصورة بمنقطع عن أي علاقة أخرى ويركّزون على أن الصورة بحد ذاتها هي وحدة
بناء الموسيقى الداخلية بغض النظر عن اللغة والمدلولات اللغوية والعناصر الداخلة في
تركيبها والجو النفسي المحيط وما هو خارج النصّ ، وهؤلاء يذهبون إلى أن وحدة الصورة
تدخل في جملة من التعقيدات عندما تدخل في مجال الرمز والتعاطي مع مرجعيات مختلفة.
نقتطف مثلا لشرح وجهة نظرهم هذه التي تبدو أكثر
انحيازا للنص ذاته عما هو خارجه سواء في نفس الشاعر أم في نفس المتلقي هذه الفقرة "
لقد أصبحت الصورة الشعرية الآن من وجهة نظرهم أيضا ، صورة مركبة بالغة التعقيد
كالحياة تماما مبنية على رؤى وفلسفات ومرجعيات ثقافية وأسطورية رمزية متعددة هذا
بالإضافة إلى استيراد بعض الخصائص الكتابية الأخرى وتوظيفها في النص الشعري "13
، ومثل هذا التقديم يحمل مرتكز نوعية البناء فالصورة وحدها هي الوحدة وهي المتحكّمة
بغض النظر عن كونها احتاجت في أن تكون إلى ما تقدّم من منابع والأهم أنها ستكون
وحدة مركّبة رمزيا ومن مجموع هذه الصور تتألف الإيقاعات الداخلية أو الموسيقى
الداخلية كما يرى هؤلاء ولا علاقة لما هو خارج النص في حدوث ذلك .
هنا موقفان مختلفان حدّاً أحدهما يرى الصورة في مركز الجو العام والثاني
يراها منفصلة عما حولها ، الأول يراها متفاعلة وجزءا من منظومة والثاني يراها
مستقلة فاعلة وليسا منفعلة بشيء ، وسواء أكانت الصورة في موقع المتشارك أم في موقع
المنفرد فإن كليهما متفقان على ضرورة تحقيق الصورة لهذه الموسيقى الداخلية لكي تتم
، بيد أنّ الأهم هو ليس تحقيق عنصر الصورة بكل هذه التعقيدات في نظرنا ، بل هو
تحقيق عنصر التآلف بين هذه الصور شرطا لتوليد الموسيقى التي تشترط تآلف عناصرها
المولدة لها سواء أكانت هذه العناصر المولدة تعمل صوتيا أم لونيا أم بصريا أم حتى
تستخدم صورة شعرية ، وهنا فقط يمكن الركون إلى اكتشاف عنصر الكينونة في هذه
الموسيقى الداخلية من عدمها ، فهل حققت النصوص الشعرية على تطبيق النسيقة ذلك ؟ هل
تمكنّت التطبيقات العربية في قصيدة النثر من الوصول بمنسوج صورها الشعرية المعقّدة
إلى وضع التآلف لتوليد الموسيقى الداخلية بغض النظر عن مكوناتها اللغوية والصوتية
وجوّها النفسي المحيط ؟
تلزم أولا الإجابة على السؤال السابق في قضية اعتلال الموسيقى الداخلية أو تلاشيها
، فإن ما نتذكّره جيدا ونقرُّ به أن تبديل وتعديل تراتبية مكونات الموسيقى
التركيبية أدى إلى اعتلالها والواقع أن تبديل تراكمية مدارات الصورة الشعرية في
القصيدة عقب تحقيق شرط التآلف هذا سيقود حتما لتلاشي موسيقى النص الداخلية هنا
ويلقي بها ركاما من النثر المعتل والذي يحفل بعدد لا بأس به من الطلاسم الهامشية ،
والتي عقب ذلك لن تقود إلا لرفض مطلق من قبل المتلقي والنقد قطعا ، وإذا كانت عملية
الإخلال بهذا التآلف ستقود إلى هذا المصير فإن عدم تحقيقها أدعى إلى ذلك وهو في
الواقع القانون العام الذي يحكم مئات النصوص النثرية التي كانت مشاريع قصيدة نثر في
لغتنا العربية .
وعليه فإنا نخلص إلى أن تحقيق التآلف في الصور الشعرية السليمة هو مبعث الموسيقى
الداخلية وليس الصورة بحد ذاتها ، وقطعا ليس فقط في النص الشعري بل وفي أي نص أدبي
آخر وبالتالي فإن هذه الموسيقى الداخلية أو التعبيرية التي أراها أجمل اصطلاح
-نستعي㳡ه من السعيد الورقي كما تقدّم- نوع ونمط من الموسيقى ينشأ منفصلا عن المنظوم
وقد يكون فيه فعلا ، إن التآلف الذي تحققه الآيات القرآنية مثلا هو تآلف عميق وبالغ
الروعة يجعلك تستشعره في بناء غاية في الهارمونية والانسجام ، وهو ما يعطي إعجازا
من نوع خاص لهذا النص دوما ويفرد له مساحة خاصة لا يجاريه فيها ولا حولها أي
نص أدبي آخر سواء أكان شعرا أم نثرا .
هذه الفرادة هي التي دعت قريشاً وأساطين القول العربي يقفون أمامه
في كل عصر وكل زمان مشدوهين أمام هذا الفن البديع وهو الذي دعا الوليد بن المغيرة
للقول " إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما
يقول هذا بشر" ، ولكنَّ الإضافة الخاصة بالنص المقدس في القرآن الكريم هي ليست هذه
الموسيقى الباطنة الداخلية والتعبيرية أو التصويرية فحسب بل إن هناك إضافة من نوع
خاص لا تتأتى إلا لهذا النص القرآني وهي كما يقول مصطفى محمود خاصية الجلال للنص
القرآني "
ولكن الموسيقى الباطنية ليست هي كل ما انفردت به
العبارة القرآنية، وإنما مع الموسيقي صفة أخرى هي الجلال "
14
هذا الجلال هو غلاف وبؤرة ومحيط العملية النفسية والجو النفسي في آن والذي تقدّم
الحديث حوله ، فإن أمكن وجود موسيقى داخلية في نص أدبي آخر فإن الجلال منقطع عن أن
يكون صفة لأي نص آخر سوى النصّ المقدس ، ونحسب أن هذا الجلال هو أكثر قوة وسطوة في
النفس البشرية من أي عناصر فنية أخرى ، وإن كان استشعاره بعمق سيعتمد على حصيلة
تفاعل تلعب فيه اللغة الدور الأكبر ، فمن المعلوم أن ترجمة النص القرآني المقدس
مثلا هو في الحقيقة ترجمة لمعاني النص ولا يمكن نقل ذات الخصائص عند الترجمة وهو ما
ستختلف معه التجربة عند تلاوة النص الأصل أو قراءة النص ذاته مترجما .
وبالعودة إلى موضوعة الموسيقى الداخلية في قصيدة
النثر فإن من أراد أن ينتصر لها على نحو ما قدمته بعض المقالات كتلك التي أفادت بأن
" قصيدة النثر تعوّض عن الوزن والقافية لا بموسيقى داخلية فحسب ، بل بالغوص حتى
نواة الموسيقى وأغوارها حيث براءة اللحن وعفويته "15
هي في الواقع لم تنجز إلا تخريبا لفكرتها ، فنواة الموسيقى وبراءة اللحن وعفويته
ليس شيئا آخر تماما وهذه لا تكون سابقة على الموسيقى ذاتها بأي حال ولا منفصلة عنها
.
وفي السجال ونظرياته بقيت زاوية لمن أراد الاتكاء
على عنصر ذاتي محض وعلى التجربة المنفصلة وهو بالتالي جعل هذه اللبنة الخاصة بعيدا
عن الصوت والصورة معا واختار الركون إلى ما هو خارجهما وفوقهما ، ونذكر أن
جزءا من الصورويبن قد ربط هذه الصور بالجو النفسي ولكن الذين آثروا على أن يقدموا
لنا فهمهم معتمدا على التجربة وحدها بعيدا عن الصورة والصوت رادّينها إلى الخروج
على كل الحواجز قد انطلقوا بعيدا جدا كما نرى ، حيث يرى أدونيس أخيرا لتوصيفها على
أنها " قفزة خارج الحواجز كلها وتمردا أعلى "
16
ومثل هذا التوصيف يلقي بالصورة الموسيقية رهنا بالعامل الذاتي الخاص الذي يتيح له
عن طريق إيقاع حدسي خاص التقاط التجربة الشعرية وإدراكها حسب هواه كما يرى من يرى
رأيه .
وفي مجال مقارنة ميكانيزم التعامل مع نوعي الموسيقى في النص الأدبي نرى أنه بينما
كانت عملية الاستقبال وميكانيزم التعامل مع الموسيقى التركيبية على اختلاف أنماطها
عملية خطية متوقعة نشعر بها شعورا مسبقا على إدراك التجربة نظرا لالتقاطها المباشر
من خلال الحواس وانتقالها السريع والطردي في الوجدان وانعكاسها على الانفعالات قبل
انفتاحها أمام الذهن ، فإن الحال مع الموسيقى الداخلية يختلف تماما حيث المعادلة
ليست خطية مباشرة وإنما هي معادلة معقّدة تحتاج أولا المرور عبر ذهنية صافية ومميزة
وخبيرة قبل أن تفيض إشعاعاتها الوجدانية والنفسية مما يجعلها أصعب من أن تنال دون
جهد يبذل وامتزاج تام مع النص يحقّق .
وإجمالا فإنا نجد أنفسنا أميل إلى القول بأن الموسيقى الخارجية هي تلك الناشئة عن
فعلي النظم والتنضيد معا لا شك في ذلك بينما الموسيقى الداخلية هي تلك الناشئة عن
تآلف الصور الشعرية في أي نسق يختاره النص في تجربته المطلقة على أن تكون فاعلة في
استجلاب الأثر فإن لم تحقق ذلك فهي غير موجودة في النص مهما قيل عن التنظير لها ،
فإن الأثر يدل على المسير كما قال البدوي الأول ولعلي أعود إلى ما اقترحته يوما في
شأن تعريف موجز لفن الشعر فأعيد الإشارة له هنا للتذكير به فالشعر (هو كلُّ
نص نتج عن نبض شعوري في قالب لغوي موسيقي سليم وحرّك خيالا في المتلقي ) ولأني أجد
ضرورة الإشارة إلى سلامة هذا القالب الموسيقي سواء أكان قالبا خارجيا أم داخليا
وإلا فإن النتيجة المأمولة لن تتحقق ولن يثير هذا النص في متلقيه إلا الدهشة والفزع
.
إن ذلك يفترض حقيقة صعوبة خاصة على المستوى النظري مما لا شك فيه وبالتالي فإن
التطبيق العملي لقصيدة النثر في الشعرية العربية سيغدو نوعا من التحدي الكبير لو
قبلنا فكرة أن تعوّض الموسيقى الداخلية غياب الموسيقى التركيبية بنوعيها النظم
والتنضيد ، ومن أصرّ على أن ذلك غير ممكن في العربية ربما قبلَ حدوث ذلك لدى
الشعريات الأخرى على أساس أن العربي موسيقي بالفطرة كما قال الكندي وبالتالي لن
يشبعه ذلك النوع المراوغ من الموسيقى الذهنية ولأن خصائص العربية أغنى من أن تلجأ
إلى التعويض سيما وأنها تستطيع تحقيق الأثنين معا في قصيدة السطر الشعري مثلا .
والواقع من خلال قصائد النثر العربية المنثورة بالآلاف مؤخرا يؤكد أن هذه النماذج
في معظمها لا حقّقت موسيقى داخلية ولا هي وصلت إلى أي لحن بريئا كان أم مختلطا أو
حتى استثارت تجربة نوعية لدى المتلقي العربي في معظمها، وأن ما حققته قصيدة
النثر في الشعريات الأخرى يبدو مختلفا وليس ذلك عائد إلى نوعية الصنف الذي هو قصيدة
النثر أو النسيقة بقدر ما هو عائد إلى تطبيقها العربي من جهة ونوعية الشعراء الذين
حاولوها في أدب العربية ومجمل حصادهم في هذا الجانب لا يشير إلى نتيجة مشجعة حتى
الآن ، فهل يمكن القول أن النسيقة أو قصيدة النثر العربية فشلت في إثبات ذاتها
عربيا ؟
لا نود أن نحكم على قصيدة النثر (النسيقة ) بأنها لا تستحق المحاولة ولا يجب أن
تعطى فرصة على الإطلاق ، ولكننا أيضا لا نرى تسامحاً في قبول التجريب على أنه هو
النتاج ولا بد لنا أن من نقبله طالما قبلنا إمكانية للنوع من باب حصيلة الممكن حتى
الساعة فهذا ليس منطقيا ولا يصبُّ في فائدة الشعر العربي أبدا ،
بل لا بد َّ من أن تكون النسائق حقيقة قادرة على أن تنهض من أي كساح وأن تستحق
مكانها عن مقدرة وكفاءة في عالم الشعر العربي ، ولعل الفترة الزمنية التي منحت
لقصيدة النثر كانت طويلة بما يكفي أن تبلور شخصية مقنعة وهو ما لم تفعله حتى الساعة
، فهل يمكنها أن تجتاز قريبا هذه الصعوبات ؟ سؤال يفرض نفسه .
أيمن اللبدي
29/5/2004
المراجع :
1-
اللبدي ، أيمن - نظرية الشاعرية والشعرية – فصل النسيقة
2-
حمودة ،بسام – أبو اسحق الكندي – بيان الثقافة ، عدد
12/11/2000
3-
الزركلي ، أبان – هل الموسيقى فعل معرفة ، معابر، مقال
4-
ناجي ، حسن عبد الفتاح – الطفل والشعر الغنائي ، مجلة الموقف الأدبي
، عدد
385
أيار ، العام 2003 ، مقال
5-
الورقي ،سعيد – لغة الشعر العربي الحديث ، طبعة
1983
صفحة 248
6-
خشان ، خشان – العروض رقميا ، طبعة أولى
1997
7-
بيان جائزة العويس الثقافية
28/4/2004
8-
حمود، محمد – الحداثة في الشعر العربي المعاصر ، صفحة
157
9-
الورقي ،سعيد – لغة الشعر العربي الحديث ، طبعة
1983
صفحة 248
10-
المصدر السابق
11-
حمود، محمد – الحداثة في الشعر العربي المعاصر ، صفحة
157 – أيضا الأمين ،نجاة –أفق – مقال السمندل في غياهب الغياب – دراسة في شعر محمد
عبد الحي – فصل 1
12-
موقع الشاعر علي الفرج –رأي حول السجع ، مقال
13-
النبهان ، صالح – مجلة أفق ، الحداثة وما بعدها ، مقال
14-
محمود ، مصطفى – الإعجاز في دراسات اللاحقين ، الموسوعة الإسلامية،
مقال
15-
مجلة شعر ، عدد2 ، صفحة
130-132
16-
أدونيس ، قصيدة النثر ، مجلة شعر ، عدد14 ، صفحة
1960