حسنا فعل قسم الدراسات
العربيه بالجامعه الامريكيه في القاهره بدعوه ادونيس في اطار موسمه الثقافي
الاكاديمي لتقديم محاضرتين عامتين بالقاعه الشرقيه عن الثقافه العربيه والحداثه
والشعر والحداثه. وحسنا فعلت لجنه الشعر بالمجلس الاعلي للثقافه بدعوه ادونيس
لاحياء امسيه شعريه في مسرح الاوبرا بمصاحبه عازف العود العراقي العالمي نصير
شمه. فقد اتاح هذا كله للجمهور الثقافي ان يلتقي بادونيس مثقفا كبيرا وشاعرا
رائدا, وجها لوجه, وان يتحاور معه بدون حواجز او عوائق من مويدي ادونيس او
معارضيه من مريديه الذين اساء بعضهم اليه بحماسهم المفرط وتعصبهم المذموم,
وكارهيه الذين يحاولون تشويه صورته بحماس مفرط ايضا, وكانما اجتمع الطرفان علي
سوء الفهم الناتج عن سوء القراءه وعدم الوعي بمشروع ادونيس علي حقيقته: فكريا
وشعريا. الطريف انني عندما سالت ادونيس في حواري معه من خلال البرنامج
التليفزيوني الامسيه الثقافيه عن موقفه من محبيه واعدائه كانت اجابته: بالنسبه
لمن يحبونني لا استطيع ان اطلب منهم الا يحبوني, اما بالنسبه لاعدائي فانا شخصيا
اكثر ميلا الي عدو يكون في مستواي, عدو يفهم حقا ما اقول ويخالفني وينبهني, مثل
هذا العدو اظن انه صديق جميل, وهذا مع الاسف ما نفتقده في حياتنا الثقافيه
والادبيه الان. وعندما سالته عن سبب تسميته بادونيس وتركه لاسمه الاصلي: علي
احمد سعيد, اجاب بان لهذا قصه طويله عندما كان لايزال في سن الرابعه عشره او
الخامسه عشره عندما كان يكتب نصوصا ادبيه باسم: علي احمد سعيد ويرسلها الي بعض
المجلات فلا تنشر وذات يوم اتيح له ان يطلع في احدي المجلات بالصدفه علي اسطوره
ادونيس, وكيف ان ادونيس احبته عشتار وقتله الخنزير البري, وفجاه لمع في ذهنه
خاطر يقول: ربما كانت هذه المجله التي لا تنشرني هي الخنزير البري وانا ادونيس
وقرر ان يوقع كتاباته منذ ذلك اليوم باسم ادونيس, وبالفعل كتب نصا جديدا وارسله
الي احدي الجرائد في اللاذقيه, واسمها الارشاد فنشرت النص باسم ادونيس, وكانت
البدايه. وكان السوال التالي عن مهيار الدمشقي الذي جعله اسما لاحد دواوينه
ومدارا لقصائده, فكانت اجابته ان مهيار الدمشقي رمز شعري وفني في ان واحد, ولون
من محاوله الهرب من الرومانتيكيه التي كانت سائده في ذلك الوقت, والتي تعني ان
الذات او الانا هي التي تقول فاردت ان اتقنع باسم اخر يكون هو مدار القول
والتعبير, واتخذت اسم مهيار الدمشقي الذي لا علاقه له بمهيار الديلمي كي افصح عبر
شخصيته عن العالم الداخلي الصعب والمعقد الذي كنت اعيشه في تلك الفتره حياتيا
وفنيا, المساله اذن لون من ابتكار طريقه جديده للتعبير عن شواغل عميقه.
يمتلك ادونيس بالنسبه لمن يقروه او يحاوره علي السواء ثقافه عميقه رحبه, طبقاتها
غنيه ومتراكمه لكنه تراكم التفاعل واذكاء النار الجديده تمكنه من ان يقرع الحجه
بالحجه والراي بالراي, وان يصدر في كل ما يقول عن وعي نقدي متسائل, ومعرفه
تتجاوز الثابت, واليقيني والمكرور, لانها معرفه تطمح باستمرار الي التجاوز
والمغايره, والي تفجير الجدل الخلاق الذي يولد من الاجابه اسئله جديده ويدفع
بالجزئي الي مداه وافقه الكلي, ويري الاشياء في وحدتها وتناغمها وتكاملها,
مناديا باعاده الاعتبار للعقل العربي, وتخطي مازق افتقاد الديموقراطيه سياسيا
وثقافيا ومواجهه التناقص بين الحداثه والاتباع, هذه الثقافه العميقه الرحبه
المستوعبه للموروث الثقافي والابداعي العربي من خلال وعي نقدي كاشف تتجلي في حديث
عن الثابت والمتحول, وفي مقدماته النقديه التحليليه ذات الروي الجديده والطازجه
لمختاراته من الشعر العربي في مجلدات كتابه ديوان الشعر العربي الذي اعده في مقدمه
انجازاته, لانه بهذه الدراسات, وبهذه المختارات, يوسس لذائقه جديده ويعيد
تشكيل خريطه الشعر العربي, وينصف الشعراء المهمشين والخارجين علي قوانين المجتمع
واعرافه وتقاليده, فلم يسايروا السلطه, ولم يزاحموا في بلاط السلطان, ولم
يخونوا شرف الشعر, كما يشيد بالشعراء الذين اشعلوا جذوه الابداع الشعري والتجديد
فيه, فكانوا حداثيين بالمعني الذي نعرفه الان حتي لو انتسبوا الي العصر الجاهلي
او غيره من العصور القديمه, لان ابداعهم الحي والمشع, قادر علي اختراق الازمان
ومخاطبه المستقبل. وعندما يجئ ذكر الحداثه واقترانها بادونيس الذي اطلق هذا
المصطلح في حياتنا الثقافيه والادبيه والفكريه المعاصره فانه يوضح ان مفاهيم
الحداثه والاحداث والمحدث والحادث كلها مصطلحات عربيه موجوده في تراثنا منذ العصر
العباسي نتيجه لحركه نقديه عظيمه قامت حول الشعر المحدث والتمييز بينه وبين غيره,
فهو عندما يتكلم عن الحداثه لا يجد نفسه اذن غريبا عن هذا التراث الشعري والنقدي في
الثقافه العربيه, وفي راي ادونيس الذي كشفت عنه محاضرتاه وحواراته ان كل ما حاوله
هو ان يستعيد هذا الخط العميق في تراثنا العربي, وان يعيد للغه الشعريه العربيه
حيويتها وتساولها وانفتاحها الي اقصي مدي ممكن, موكدا انه لا القدامه تجد في حد
ذاتها قيمه ولا الحداثه بحد ذاتها قيمه, وانما القيمه في النتاج نتيجه الشاعر
سواء كان حديثا او قديما. ولم يفت ادونيس في هذا المجال ان يشير الي كثير من
الكتابات المعاصره التي يدعي اصحابها الحداثه لم يتح لاصحابها الوعي بتراثهم والوعي
بلغتهم, في حركتها الجماليه المستمره وابداعها المتفجر باستمرار, مما جعل
كتاباتهم تفقد شرعيتها وانتماءها الي العصر وقدرتها علي التاثير والتجاوز, كان
ادونيس يتحدث عن كثير ممن يكتبون الان قصيده النثر بالرغم من انهم يزعمون انهم
محسوبون علي ادونيس, وانهم يمشون في غباره وكيف تخلو كتاباتهم من الجده والتوجع
والاصاله وحقيقه الشعر, وهو يعجب كثيرا لمناداتهم بالانقطاع عن الموردث الشعري,
اذ لا يمكن لشاعر في رايه ان يبدع بلغه يجهل جمالياتها وتاريخ هذه الجماليات, لان
دوره الحقيقي ان يجدد العلاقات بين الكلمات والاشياء, لا ان يجهل موروثه
الثقافي, والذي يحير ادونيس حقا كما يقول هو هولاء المنادون بالقطيعه مع التراث
الشعري, وعندما يكتبون نصوصهم. معلنين ان قصيده النثر هي الاعلي والاسمي,
فانهم يقعون في كلام تقليدي محض وموقف تقليدي محض يسيء الي التجربه الشعريه,
ويبرهنون علي ان بنيه العقليه التقليديه يمكن ان تكون في الحداثيين كما تكون في
التقليديين! هذا الكلام الواضح والصريح سيغضب كثيرين كانوا يظنون ان ادونيس
بدعوي الحداثه والاختلاف يمكن ان يتستر علي مايكتبونه ويقعون فيه من ركاكه وسطحيه
وهشاشه وفقدان لجوهر الشعريه. وعندما ووجه ادونيس في محاضرتيه بالجامعه
الامريكيه باسئله تتناول حقيقه موقفه من الدين ومن المقدسات ومن الثقافه العربيه
والتراث العربي, كانت ردوده في الاطار الذي يوكد اعتزازه بهذا كله, وانه يري في
الدين طاقه كبري لتفجير الحياه الشعريه والاحساس الشعري وشحن الوجدان بقيم الخير
والحب والجمال. ونبه ادونيس اصحاب هذا الصنف من الاسئله الي انه هو الذي نوه
بكتابات المتصوف الاسلامي النفري عندما اكتشف كتابيه: المواقف والمخاطبات في
مكتبه الجامعه الامريكيه ببيروت, وادار الكلام حول مافيهما من تجليات شعريه رفيعه
واقباس فنيه وابداعيه عاليه. بين شعر ادونيس وفكره جدل عميق, روحه التساول
والبحث الدائب والمغامره. هذا التساول المستمر هو الذي جعل من ادونيس في تجلياته
الفكريه والشعريه حقيقه كبري ووجودا حيا في حياتنا المعاصره, يختلف من حولهما
الناس كما اختلفوا قديما حول المتنبي, والذين يختلفون مع ادونيس مع اعترافهم بحجم
شاعريته وعمق فكره لا يرضيهم انه يقدم المعري علي المتنبي, وانه يري في المتنبي
خليطا من الشعر والسياسه, او شاعرا كبيرا افسدته السياسه, وهو لا يري في
المتنبي مايراه اخرون من انه شاعر اليقظه العربيه والدعوه الي اليقين العربي عندما
يقول: في كل ارض وطئتها امم ترعي بعبد كانها غنم يستخشن الخز حين يلبسه
وكان يبري بظفره القلم وانما الناس بالملوك ولا يصلح عرب ملوكها عجم!
واكثر ماينطبق هذا الكلام علي كافور الاخشيدي الذي يدافع عنه ادونيس دفاعا شعريا
مجيدا حين يتقمص شخصيته الشعريه في مواجهته للمتنبي من خلال قصائده في المجلد
الثالث من كتابه الكتاب. ولا يرضيهم ان ادونيس لايري في شوقي شاعرا كبيرا,
وهم الذين يرون فيه مبدع المسرح الشعري في الادب العربي لاول مره, وصاحب الطاقه
الشعريه الجباره, وصوت العصر الشعري الذي نذر نفسه لاحداثه ومواقفه شعريا.
والمصريون يرون في شوقي شاعرهم الاكبر, وبعضهم يقدمه علي السابقين واللاحقين,
من هنا فان راي ادونيس فيه يصدمهم, كما يصدمهم رايه في البارودي الذي ترتبط به
حركه البعث والاحياء, وقد اغضبهم ادونيس حين قال ان البارودي احيا من تقاليد
الشعر ماكان مستحقا للموت!. اسوق هذه الامثله لاقول ان لدي ادونيس كثيرا مما
يمكن ان يختلف عليه, لكنه الاختلاف الذي لا يلغي حقه في الاجتهاد والرويه, ولا
يتصاعد بالتعصب او عدم الفهم فيلغي حقه في السبق والرياده, او دوره في المغامره
والاكتشاف. حين قدم ادونيس لامسيته الشعريه في مسرح الاوبرا, اعلن انها
امسيته الاولي في القاهره. ربما ليعتذر بهذا لجمهوره عن لقاءات سابقه لم يرض هو
عنها, او لم تكن علي هذه الصوره التي هيئت له احتشادا ونوعيه جمهور. كان شعره
وهو يلقيه بادائه المتميز الشديد الخصوصيه وكانه صلاه او ابتهال او فناء صوفي يغسل
وجدان جمهوره بفيض من اقباس الشعر العالي والفن الرفيع, الشعر والفكر فيه
متجاوران ومتحاوران ومتجادلان خاصه وهو يتكلم علي لسان كافور وهو يتحدث عن علاقته
بالمتنبي وحرصه علي الا يعطيه ضيعه او ولايه, خشيه ان ينصرف عن مهمته ودوره
الخالد: الشعر! لعل ادونيس باعلانه ايضا انها امسيته الاولي كان يريد
لجمهوره ان ينسي مافعله بعض صبيه الصحافه الادبيه بلقائه الاخير بهذا الجمهور في
المقهي الثقافي لمعرض الكتاب حين ركزوا بطريقتهم الممجوجه علي دموع ادونيس التي
فجرتها لحظه صدق انسانيه امام كلمات ترحيب تمتليء بالمحبه والتقدير. وكان مثل هذا
الانفعال الانساني التلقائي امر غير معترف به عند اصحاب الحس الغليظ والقلوب
المريضه والنفوس التي تفترسها الاهواء وتنوشها الاحقاد! كان ادونيس ينهمر
علينا بعطائه الشعري الرفيع, وكنا نحمد الله علي انه علي علو قامته ومكانته لم
يصب بمرض بعض مثقفي زماننا المسمي البارانويا اي جنون العظمه, الذي يجعل من يصاب
به يتصور انه محور الكون بل الكون نفسه, وانه هو الوطن والناس والتاريخ, وان
ذاته العظيمه اولا, وكل شيء وكل احد يجيء بعد ذلك! ويودعنا صوت ادونيس وهو
ينشد مصحوبا بعازف العود العبقري نصير شمه الذي تحمل الينا انغامه وايقاعاته
واساليب عزفه الساحر عطر بغداد واصاله المبدعين الكبار فيها عزفا وموسيقي: ذلك
الطفل الذي كنت اتاني مره وجها غريبا لم يقل شيئا.. مشينا, وكلانا
يرمق الاخر في صمت خطانا نهر يجري غريبا جمعتنا باسم هذا الورق الضارب في
الريح الاصول وافترقنا غابه تكتبها الارض وترويها الفصول ايها الطفل
الذي كنت: تقدم ما الذي يجمعنا الان.. وماذا سنقول!