العصفور والثوب
الابيض .. دنيا الواقع ودنيا الشعر
د.عبدالقادرالقط - مصر
في صباي البعيد, في
قريتي باقصي الشمال, كنت اسمع المراه الريفيه تقول في زهو وهي تنظر باعجاب الي
الثوب الابيض الذي غسلته بيديها: يشرب من عليه العصفور الطاير! ولم اكن ادرك
يومذاك ماينطوي عليه هذا التعبير التلقائي اليسير من تصوير شعري للواقع خلال الفاظ
قليله مختاره يخلق دنيا فنيه جديده تستلهم في نشاتها طبيعه الواقع, لكنها تستقل
عنه لتكون تجسيدا لرويه شعريه فريده علي بساطتها.وحين
اتدبر اليوم طبيعه هذه الجمله الشعريه القصيره وانا مشغول بقضيه الشعر والنثر
الشعري اوقصيده النثر ادرك كيف هدي الوجدان الفطري تلك المراه الريفيه الي حقيقه
جوهريه من حقائق الفن هي انه يقدم عالما فنيا جديدا من خلال الرويه والصيغه دعائمه
احساسنا بالواقع لا رويتنا الحسيه له. العصفور يرفرف فوق الثوب الشفاف الناصع
البياض فيري جدولا رقراقا من الماء الصافي. وهو عصفور طاير يري الاشياء رويه
لاتعني بالتفصيلات الماديه ولايتاح لها الاقتراب من حقيقه الواقع, لذا يشرب من
ذلك النبع الصافي بل يشرب من عليه اي وهو مازال طائرا يرفرف لايري الواقع ولاينغمس
فيه! يرد الي خاطري هذا القول الشعري من بعيد وانا افكر في امر الشعر في صورته
المالوفه القائمه علي الوزن مهما تكن طبيعته وعلي استخدام خاص للغه وبناء خاص
للعباره, وامر النثرالشعري او قصيده النثر فيقوم دليلا علي ان جوهر الشعر بعيدا
عن الاشكال المحدده يمكن ان يتحقق في كثير من النصوص اذا تلقيناها محرره من المصطلح
والتقاليد والعرف. وبهذا التصور يمكن ان نجد الشعر في خاطره نثريه او مقاطع في
قصه او روايه او حوار في مسرحيه, بل في بعض احاديثنا حين يحتدم شعورنا او تزداد
حماستنا الي التعبير عن فكرنا ورغبتنا في اقناع الاخرين. وفي كل هذه الاحوال يظل
مااسميه الصيغه الفنيه فيصلا بين ماهو نثر محض اخباري ونفعي, وماهو وجداني وتاملي
وفني. كنت في صباي اري المراه الريفيه جالسه علي عتبه الدار باديه التامل
والشرود وهي تدندن بكلمات منغمه تذكر بها احباءها الراحلين. لم يكن يبدو عليها
الحزن الثقيل بل الشجن الرقيق وكانها تستمتع بما تترنم به من جمل بعضها موزون
وبعضها منغم يقيم ايقاعه المد والقصر والتكرار. وكان بعضه من الموروث الشعبي
وبعضه مرتجل يناسب طبيعه حالها الخاصه, لكنه في كل الاحوال لم يكن كلاما بل قولا
متميزا بمفردات وابنيه اسلوبيه ومجازات وايقاع واضح وان كان غير منتظم. لم يكن
عامه الناس يختصمون حول ماهو شعر وماهو نثر بل كانوا يعبرون علي نحو تلقائي ويعيشون
الشعر ويتحدثون به دون ان يقصدوا ان يقولوا شعرا او قصيده نثر, بعيدا عن حذلقات
شعراء الحداثه وتنكرهم للحياه والناس, وتظل اقوالهم شديده الصله بالنفس والمجتمع
والعمل والطبيعه. كانت النساء العاملات في قريتي يمشين في صف منتظم بين شتلات
الارز الصغيره الخضراء ينتزعن من بينها الاعشاب والحشائش, يخضن في الماء والطين
وينشدن علي وقع ارتفاع اقدامهن وانخفاضها اغاني, بعضها موروث وبعضها مرتجل,
بعضها موزون وبعض منغم, يتسلين بها عن الجهد والتعب.. وكان الصبيه والفتيان
والفتيات يفعلون مثل ذلك وهم منحنو الظهور في وقده شمس الصيف يجمعون القطن
الابيض, وتغني النساء في الافراح اغاني لم يولفها شعراء اغان معروفون, ويختلط
فيها الموزون بالمنغم والموقع. وكان بعض الناس يتغنون في لحظات بهجتهم او شجوهم
بمواويل ذات لغه شعريه مختاره واوزان تسير علي قواعد الشعر العربي الفصيح. وكان
من الخير لو احسن دعاه قصيده النثر صنعا ان ينظروا في امثال تلك الممارسات الشعبيه
التلقائيه ويتدبروا طبيعه رويتها وصيغها الفنيه وايقاعها وطريقه انشادها, لعلهم
يستخلصون منها بعض اصول لاتجاهم الجديد لكنهم اختاروا ايسر السبل فقدموا الي الناس
قصيده النثر كانها ثوره علي الشعر العربي واوزانه واساليبه, ورموا ذلك الشعر بما
ليس فيه الا عند صغار الشعراء من غير الموهوبين, وفرضوا رويتهم المعاصره وذلك
الان خطا مالوف في نقدنا المعاصر علي تراث طويل نشا في ظروف حضاريه مغايره,
وانتزعوه من اطاره في الزمان والمكان, وكان العرب قد ضلوا الطريق الي الشعر منذ
البدايه فلم يهتدوا الي قصيده النثر!. وبدل ان يستلهموا ذلك التراث الشعبي في
تجاربه التي لاتتعالي علي الحياه والناس بل تصور احساسهم بالحياه في وجوهها
المختلفه باساليب شعريه قادره علي الوصول الي الاخرين ومع ذلك لاينقصهاالابداع
والفن, انسحبوا الي عوالمهم الباطنيه يصورونها باساليب ممزقهالبناء غامضه
الدلاله, او صوروا العالم الخارجي بلغه الحياه اليوميه دون انتقاء وبناء وايقاع
يرتفع الي مستوي الفن. علي ان البدايات الاولي لقصيده النثر لم تكن بعيده كل هذا
البعد عن طبيعه الشعر وان غاب عنها الوزن, وكان بعضها مصاحبا للمراحل الاولي
لنشاه الشعر الحر, وتبدو في صورتها الفنيه قريبه الصله بكثير من نماذج ابداعه.
وللاديب اللبناني نقولا قربان مجموعه بديعه من ذلك النثر الشعري اسماها نشيد الرخام
وقد صدرت في زمن باكر عام1964. واللبنانيون يعشقون طبيعه بلادهم الجميله ويرددون
في شعرهم واغانيهم مفردات كثيره عن وديانها وجبالها وازهارها وطيورها واشجار
ثمارها, فيبدو النص شعرا كان ام نثرا شديد الالتصاق بوجوه الخير والجمال في
الحياه, احيانا عن طريق الوجود, واخري للغيبه والفقد. وفي المجموعه روي كثيره
للنفس والحياه والطبيعه يغلب عليها التعاطف مع الضعفاء والاشقياء والمحرومين دون ان
تقترب من طبيعه الدعوه الي الوعظ او النبره العاليه, ومنها تصوير للحظات عابره
اومشاهد من الطبيعه وحياه البسطاء. وصوره الشهيد من التجارب المالوفه في الشعر
العربي الحديث, لكن نقولا قربان في مقطوعته عن الشهيد يتجنب المكرور والمستهلك
فيبتعد عماتغري به تلك التجربه من ايقاع جهير, ويستمد من الطبيعه اللبنانيه كثيرا
من مجازاته المجسمه للرويه والشعور.. يقول في الشهيد ونهر البلابل: برعمت
بالدمع عيناي ورايت ذراعي تطوقان قريتي من غدائر شعرها الاشقر حتي جذورها
السوداء! واذا دمي محمول في قصعه فضيه علي كتف بيضاء, يسيل علي الف هدب مشتعل
ويضحك كنهر بلابل, ثم يجري في حقول السنابل! واذا دمي زغروده ام لبنانيه,
ومجمره غسق ابيض, والجمره في عربه يجرها حصان الصيف, والعربه تدور علي قري
العاصفه ومدائن الضباب والحديد, فتصبغ بالقوه سواعد العبيد, واذا انا العريس
الاخر الذي يصعد علي درج العرائس الحمر! وسمعت هزيم الرعد في بوق عظيم يزنر
بلدي الشامخ عند جبين القمر, واذا البوق صوت البعث يقول: المجد للنحاس والقطن
والقصب في بلاد الاطفال! والمجد للنوافذ القرمزيه, وللمواويل علي الرمل
المذهب, والمجد للضياء في قلوب الشهداء! واذا رخام كثير يتجمد فوق اظافري
وبراعم كثيره تولد من ذراعي وجبيني وفمي, واذا باصنامنا تسقط جماجمها فينبت فيها
زنبق وقمر!واحسست في صدري مدينه طالعه ذات لحن رهيب, فتفتحت في حنجرتي الضحكه
الممزقه.. حنجره القمر! وقد يبدوالنص الان ذا طبيعه رومانسيه غالبه, ولكن
هكذا كانت طبيعه الشعر الحر والنثر الشعري علي السواء في تلك الايام,اذ كان
الشعراء مازالوا في برزخ بين الرويه الرومانسيه والتجربه النفسيه والواقعيه. لكن
مايثيرالانتباه تلك التكوينات الاسلوبيه المجسمه للتجربه مستمده صورها من مفردات
الطبيعه وممارسه الحياه والعمل, وتلك المجازات المركبه من اكثر من جمله تتابع
واحده بعد الاخري. ومن نماذج روي نقولا قربان لحياه المقهورين الفقراء مقطوعه
سماها صياد السمك والرمل وهي تجربه ماساويه لكن تعبيرها لايستجيب استجابه مباشره
لطبيعتها التي يمكن ان تغري بالعاطفيه المسرفه او الرثاء المباشر, بل يقوم علي
المقابله بين وجهين يتمم احدهما دلاله الاخر, اذ يري الصياد ماساه رفاقه الصيادين
اول الامر ويناشد البحر ان يشفق علي مابقي من اجسادهم, ثم يصبح هو نفسه واحدا
منهم يلقي مالاقوه من مصير. والمقطوعه تستمد جزئيات صورها من المفردات الحسيه
للبحر والرمل والشاطئ: عبر الشاطئ حافيا عاري الصدر, وكان اليم ملحمه زرقاء
يطويها الزورق علي شراعه وضفتيه, فتمني ان يكون البحر مجدافا ياخذه لاولاده مع
الصدف والرمل.لكن البحر كان اكبر من حلم الصياد الفقير واقوي من ذراعيه. وعلي
صخر ازرق وقف يقول: تجوع يابحر لاكواخ الفقراء فتاكلها, ولقناديلهم فتبتلعها,
وللسفينه ذات الصواري الخضر فتطبق علي بحارتها بشدقك. ويجوع صيادو السمك فياتونك
بيد فارغه وشبكه, فاعطهم سمكه مذهبه كالفرح, الا اعطهم يابحر! ولاتزمجرن
في اذانهم قصيده الحرب المجبوله بالدم الازرق, واذا اخذت صيادا يعمل, فلا تشوهن
وجهه, ولاتصبن حقدك في عينيه, والفظه في مكان تصل اليه اقدام امراته واولاده.
ونظر حوله علي الشاطئ, فراي اصدافا مستديره بين الحصي, فعرف انها عيون صيادي
السمك, وافواههم المملوءه بالشمس والملح والرمل. وعندما اخذ يسحب الشبكه علا
موج فابتلعه. وقهقه في اذنيه نشيد الضفتين, ثم لفظه علي صاريه الشمس ماكول
الوجه والعينين! وقد تكون الاصداف المستديره بين الحصي في النص النظير الجدول
الرقراق الذي يشرب من عليه العصفور الطائر, فكلاهما يرسم بديلا فنيا للواقع,
وان ظل للواقع حضور في الصوره الاولي اذ يذكر بها الصياد عيون الصيادين وافواهم
المملوءه بالشمس والملح والرمل. وسواء اغابت صوره الواقع غيابا تاما في التجسيم
الشعري ام ظل لها بعض الحضور, فان الشاعر خلال رؤيته الخاصه وقدراته الفنيه يخلق لواقعه عالمه الفني الجديد الذي
يغني القارئ عن الواقع. وكما يحاول ان يشرب من النهر الرقراق العصفورالطائر, قد
يعيش في العالم الشعري الجميل القارئ.. القادر!