ندوة - هونج كونج
سيف
القاضي - الإسكندرية
الحوار مع شاعر مثل سميح القاسم له أبعاد ثقافية وإنسانية كثيرة تتجلى في شعره ونضاله، وتشبثه بجذوره الفلسطينية. وعندما زار مصر أخيرا ليشارك في احتفالية مرور 75 عاما على وفاة شوقي وحافظ التي نظمتها «مكتبة الإسكندرية»، استوقفني كلامه الذي أكد فيه أنه لو كان هرب وأهله من وحشية العصابات الإرهابية الإسرائيلية عام 1948 لاختلفت حياته تماما، وربما لو حدث ذلك لما تفجرت أحاسيسه وأشعاره التي صالت وجالت في قلوب وعقول الناس ومحبي شعره في العالم. سميح القاسم في لقائنا معه، تحدث عن قصيدته، وقصيدة أدونيس، وعن لغة شوقي، ورأيه بالنقد، وعن قبره الذي بناه، وأصبح من الآن مزاراً للأصدقاء.
يحكي القاسم انه عند قدوم العصابات الإرهابية الصهيونية وقتها، همّ هو وأهله وكان لم يبلغ ست سنوات، بجمع ما خف من متاع وأثاث، لكنهم أثناء خروجهم من البيت استوقفهم شيخ كبير، يمسك بمفتاح منزله، وحفنة من تراب، ونهرهم كثيرا، وقال لهم كلمات بقيت صداها في أذني القاسم إلى اليوم: «لن يستطيع أحد أن يزحزحنا من فوق أرضنا، ويخرجنا من ديارنا، ولو أراد لنا الله البقاء سنحيا بين ربوعها، ولو متنا سنموت فوقها، وندفن في ترابها دفاعا عنها وعن كرامتنا». وهي كلمات كانت فارقة في حياة القاسم وأسرته التي ظلت داخل فلسطين المحتلة حتى الآن وإلى أن يشاء الله.
القاسم الذي ولد لعائلة درزية فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية عام 1929، وتعلم في مدارس الرامة والناصرة، وعلم في إحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل أن يترك الحزب ويتفرغ لعمله الأدبي، منذ ذلك التاريخ، ارتبط شعره بالكفاح والمعاناة الفلسطينية. وقد تفجر ذلك على نحو لافت منذ مجموعته الشعرية الأولى التي نشرها وهو في الثلاثين، وحازت على شهرة واسعة في العالم العربي، كما كتب عددا من الروايات. ومن بين أحلامه إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية، كما يحمل في الوقت نفسه رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
بجانب أمواج شاطئ عروس المتوسط، توقف سميح القاسم لدقائق ليعبر ببضع كلمات عن مشاعره وأفكاره، لكنه بدا متخوفا من شيء وظهر ذلك التخوف عندما قال: «الأمة العربية تواجه حاليا أشد وأسوأ هجمة في تاريخها، واصفا هذه الهجمة بتسونامي معاد لثقافتنا وهويتنا العربية من أقطار تحارب الحلم العربي الإنساني. وأنا مثلي مثل كل عربي غيور، أحاول وضع كيس رمل أمام التسونامى الذي يستهدف العرب، والكل يعرف أن بلادي ليست فلسطين ولا مصر ولا لبنان ولا العراق، بل بلادي هي الأمة العربية كلها».
يضيف القاسم «سلاحي هو الكلمة ضد كل ما يستهدف عروبتنا وفلسطيننا. فقد حبانا الله بلغة ثرية، وشعرنا العربي ثري ومتنوع. فالعمود الشعري والوزن والقافية، من أجنحة الحرية التي نعبر بها عما في أعماقنا. وهي كنوع من الموسيقى، تمثل ثروة لم تتوافر لشعب سوانا. لذا عندما حضرت إلى القاهرة للاحتفاء بأمير الشعراء أحمد شوقي، خاطبته في القصيدة التي كتبتها بهذه اللغة. حيث كان سيغضب مني شوقي لو خاطبته بلغة مختلفة عن ذلك».
* لكن اللغة تتغير وشكل وطبيعة الإيقاع أيضا. وأنا أتصور أن شوقي لم يكن ليحزن لو خاطبته بإيقاع عصرك، وما وصلت إليه قصيدتك من تطور.
- يا أخي شوقي روح شعرية جميلة. وما المانع أن أحيي هذه الروح بإيقاعها هي. أنا أعي طبيعة المفارقة التي لمحت إليها، لكن هذا لا يتناقض مع كوني شاعرا يحاول التجاوب مع المستجدات، خاصة أن الحياة تحمل كل يوم مستجدات عبر تطور إيقاعاتها والتكنولوجيا التي تتطور كل دقيقة عبرها، وعليه فقصيدتي يجب أن تتطور مع تطور الحياة، ولا أجد تناقضا في ذلك. فالجمع بين فخامة الثقافة الكلاسيكية، وحيوية الثقافة الحالية أمر جيد، خاصة أن الثقافة الحالية مع الزمن ستتحول بطبيعتها إلى كلاسيكية، والدنيا على هذا الحال. أنا بطبعي ملول، وهذا ينعكس على تجربتي. لا أحب التكرار، أحب المغامرة الفنية وأمارسها على مزاجي وبكامل حريتي، وأحترم حس الآخرين بالمغامرة الفنية. لذلك من الطبيعي أن يلتقي في تجربتي المناخ الكلاسيكي بالمناخ الحديث، السوريالية بالواقعية الاشتراكية. هذه شخصيتي في الحياة».
ويضيف «لجمهور الشعر مستوى ثقافي معين، والشاعر يتعامل مع هذا المستوى. ولو كان الشاعر يكتب لنخبة من النقاد ومحترفي الشعر لانسلخ تلقائيا عن الجمهور الذي هو جزء منه ويعيش معركته. فالشاعر لا يكتب لجمهور بعينه، والحس الجماهيري جزء من تكوين الشاعر النفسي والفكري والسياسي. فالشاعر يعبر عن نفسه بشكل مباشر لان الجماهير جزء منه».
* سألته: بعد كل هذه السنوات من الشعر والنضال... كيف ترى القضية الفلسطينية، وفي القلب منها قصيدة «الانتفاضة»؟
- القضية الأساسية هي الشعب ومأساته. أما إذا بدأ الشاعر الفلسطيني يفكر من الآن، ماذا سيبقى منه بعد الثورة ونجاحها وعودة الشعب الفلسطيني، فأعتقد أنه يسقط في مأساة. بالنسبة لي كشاعر فلسطيني، أرى أن قصيدة «الانتفاضة» كانت أول عمل شعري متكامل كتب في قلب الانتفاضة، وبدأت إيقاعاته على إيقاع قنابل الغاز والرصاص المطاطي والشظايا التي كانت تتطاير من حولي في القدس. لقد بدأت القصيدة هناك، وأخذت إيقاع الشارع والمظاهرات ورائحة الغاز المسيل للدموع الذي دخل رئتي، كأنما كل هذه الأمور كتبت نفسها في هذه القصيدة. فهي من نوع الشعر الذي نطلق عليه تسمية السهل الممتنع، بحيث يعتقد كل قارئ أنه يستطيع أن يكتبها. ولكن اكتشفت، أنا شخصيا، أنني لا أستطيع أن أكتبها مرة أخرى، ولا أستطيع أن أكتب مثلها. فهي قصيدة لم تكن من خارج الانتفاضة، بل كانت من داخلها وكانت إيقاعها ولحمها ودمها، وفي كل أمسية شعرية أطالب بقراءتها، وأحيانا أشعر بضيق، ورغم رغبتي في أن أقرأ شيئا جديدا مختلفا، يصر الجمهور عليها. وأحيانا أدعي أنها ليست معي لأتهرب.
* برأيك هل حقق الشعر الشعبي أو ما يطلق عليه شعر العامية ما عجز عنه شعر الفصحى، بخاصة في التواصل مع القارئ بشكل مباشر، ومن دون حواجز فنية أو لغوية؟
- الشعر الشعبي المصري، ونظيره في العالم العربي، استفاد من تجربتنا بقدر ما استفدنا من تجربته. حيث انها عملية تقارب بيننا وبين ثقافة المسحوقين، سواء في مصر أو فلسطين أو العراق أو في كل مكان. لكني لا أعتقد أن المباشرة عيب. واعتقد أن القصيدة المباشرة فنيا والتي أتعامل معها من خلال كتابتي، هي أصعب وأخطر بكثير من القصيدة التي يغلب عليها التوغل في الذات. لذلك فقصيدة أدونيس فنيا صعبة على القراء وسهلة جدا على الشاعر، أسهل على الشاعر كتابة قصيدة من طراز قصائد أدونيس من أن يكتب قصيدة مباشرة وتكون ناجحة فنيا أيضا وتفرض احترامها. وعلى الرغم من ذلك، ولا مرة أرهبني النقاد حيث كتبت عني أشياء تبلغ حد التأليه وأخرى بلغت حد الشتيمة. فلا التأليه ولا الشتيمة أثرا فيّ. وبرغم ذلك، دور الناقد خطير جدا في رأيي، وعليه أن يكون حلقة وصل بين الشاعر والجمهور. حتى الآن، وبشكل عام، ما زال دور النقاد عندنا سلبيا. فالنقد العربي بحاجة إلى ثورة تصحيحية.
* لماذا شيدت قبرك على ربوة عالية بقريتك... هل هو نوع من الـتأهل للموت، أم احتفاء به؟
- أنا في سباق مع الموت سواء في شعري، أو في الحياة التي أعشقها بكل تقلباتها. وحينما شيدت قبري اخترت له مكانا خاصا، مكانا جميلا، ليليق بي وبشعري. فالموت ليس نهاية الحلم، بل ربما يكون انفتاحا على حلم آخر، نجهل تفاصيله وتضاريسه. وأنا سعيد بقبري، وبأنه أصبح، وأنا حي، مزارا للأصدقاء، ومثار دهشتهم وتساؤلاتهم في الوقت نفسه.
(نقلاً عن الشرق الأوسط)