حوار
مع محمود درويش
ندوة - هونج
كونج
حاوره: حسن نجمي
- المغرب
في المغرب، في الرباط تحديدا، التقيت مرة أخري الشاعر العربي الكبير محمود درويش
لإجراء حوار حول شعره، ومختبر كتابته، وانشغالاته المعرفية والجمالية، وبعض من
همومه. وكان محمود قد زارنا لإحياء أمسية شعرية ضمن البرنامج الشعري الموازي للمعرض
الدولي للكتاب والنشر الذي نظمته وزارة الثقافة بالدار البيضاء. وجرت وقائع هذه
الأمسية في المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، في ذلك الفضاء الذي أصبح مسكنا
رمزيا آخر للشاعر الفلسطيني الكبير. ذلك أنها المرة السابعة التي يلتقي فيها محمود
درويش جمهوره المغربي في هذه القاعة الكبري الناعمة.
وكان الشاعر الصديق محمد الأشعري، وزير الثقافة في المغرب، قد شرفني بتقديم الشاعر
الكبير. ولعله توسم فيَّ بعضا من خبرة التقديم أو جرأته، فليست هذه هي المرة الأولي
التي أتولي فيها تقديم درويش. ولأن الأشعري قبل كل شيء شاعر، فهو يدرك والشعراء
مثله جميعهم يدركون أن الخبرة أو الجرأة لا يمكنها أن تنتصر علي ذلك الإحساس الغامض
بالارتباك الملازم لقراءة الشعر أو لتقديم الشعراء، خصوصا حين يتعلق الأمر بشاعر
كبير، عميق، جميل، ودود، ناعم، صادق كمحمود درويش شاعر العربية الحديثة، وشاعر
القضية الفلسطينية وضميرها بالمعني الإنساني، والمعني الرمزي والأخلاقي.
طبعا، الجلوس إلي محمود درويش لإجراء حوار حول الكتابة والحياة يظل بعيدا كليا عن
ارتباك اللحظات المحتشدة. دفء الصداقة والتقدير المتبادل يمنحان لحظة الحوار
امتيازها. وحين يعثر محمود علي مزاجه الرائق، يمنح الحوارات قيمة نوعية مضافة،
فتتألق الأفكار وتكون للكلمات هيبتها الشعرية. ولا يغدو الحوار مجرد تعليق أو صيغة
أخري للإخبار، وإنما يرتقي إلي مستوي النص الموازي للقصيدة بالمعني النظري والجمالي
العميق الذي يحدده الشِّعْرِيُّون المعاصرون وعلي رأسهم جيرار جونيت للحوار
الإعلامي.
إنها المرة الثانية التي أجري فيها حوارا مسجلا مع محمود درويش. وفي كل حوار، مثلما
في كل لقاء، أزداد ثقة في الشعر والشاعر، وفي الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة
التي يشكل محمود أحد مرتكزاتها الأساسية. ومثلما نحن مدينون بالكثير، شعريا
وجماليا، لعدد من كبار شعراء العربية، نعترف بأن لمحمود درويش تحديدا فضلا علينا،
علي الكثيرين منا في المغرب وفي الساحة العربية من مائها إلي مائها. فقد تعلمنا منه
الكثير من الكلمات التي لا تشبه كلمات القاموس رغم أنها منه. وتعلمنا منه الكثير من
الاستعارات التي لم تكن مجرد ظواهر لفظية أو لغوية، أو نحتا تزيينيا، وإنما كانت
استعارات إنسانية نكاد نلامس ما فيها من دم ولحم، ونكاد نشم ما به تعبق من روائح
الأدخنة أو عطر الزعتر البري والليلك والبرتقال والياسمين.
وفي هذا الحوار، نندس قليلا في المختبر الشعري لمحمود، ونتعرف علي شكل المسودة
الأولي لقصيدته. ونقترب أكثر من تلك الجدلية اللامرئية التي يوشج بها بين الشعري
والنثري. نسأله عن طبيعة قراءته لزملائه من كبار شعراء القصيدة العربية الحديثة، عن
المحيط الشعري الفلسطيني الذي يتاخم قصيدته ووجوده الخاص، عن المعني واللامعني في
الشعر، عن تاريخ قصيدته وتاريخ نقدها، عن بنية الاستشهاد والموت السياسي في مرثياته
التي تعلي من شأن الحياة بدون أن تمجد الموت أو تقدسه، وعن أشياء أخري أساسية.
* دعني أسألك أولا عن عادتك مع الحوار الصحافي. كيف تعاملت
طوال مسارك الشعري والأدبي مع الذين يطلبون منك إجراء لقاءات إعلامية حول شعرك
ومواقفك؟ كيف تنظر إلي هذا الحوار باعتباره نصا موازيا لقصيدتك؟ هل يسعفك علي إضاءة
جوانب معينة في عملك الشعري؟ هل توفر فيه بعض عناصر الإخبار لقرائك؟ ثم ما هو
الحوار الذي تعثر فيه علي نفسك وترتاح فيه؟
** أولا، أحب أن أقول إنني أجد صعوبة وأبذل جهدا كبيرا في الحوار، لأن الحوار في
جوهره كتابة شفوية وليس مجرد جلوس وكلام كما يبدو لكثير من الصحافيين المستعجلين.
فأنت دائما تجد نفسك أمام من يطلب منك حوارا في عشر دقائق أو في دقيقتين مثلا، ولا
يصدقك عندما تقول له إن علي أن أبذل جهدا كبيرا من أجل أن أوفر مناخا مناسبا لإجراء
الحوار، وبالأخص حين لا أجد دائما مزاجا ملائما لتبادل الآراء حول موضوع محدد
بطريقة شفاهية.
إنني أعتبر أن الحوار يستحق من الجهد ما تستحقه الكتابة، وقد أجد أحيانا أن الكتابة
أسهل من الحوار. فأنت في الكتابة تكون رقيب نفسك، ومن حقك أن تمحو، وأن تصحح، وأن
تنقح. أما في الحوار الشفاهي، فالكلمة حين تنطلق لا تستطيع أن تستعيدها أو تستدركها
أو تعدلها، خصوصا حين تتحدث تحت ضغط عواطف معينة فتغضب بدون سبب وقد تبتهج بدون
سبب. ولكن الحوار مختبر لقراءة باطنية للشاعر. والمحاور الذكي يستطيع بهذه الطريقة
العفوية التي يجذب بها محاوره أن يكشف طريقة تفكيره أو سرعة بديهته أو كسله الفكري
أو نشاطه وحيويته. وأقصد هنا الصحافي الجيد، خصوصا إذا كان شاعرا أو كاتبا يعرف كيف
يكون محاورا جيدا وكيف يوفر شرط الندية بينه وبين محاوره، فلا شك أنه سيحقق في
الحوار رياضة ذهنية أو منفعة معرفية متبادلة.
لذلك، نادرا ما أرتاح إلي الحوارات السريعة، خاصة تلك التي يجريها صحافيون علي عجلة
من أمرهم. وأري أن المسألة تتوقف أيضا علي اللحظة الذهنية التي يتم فيها إجراء
الحوار. إن اللحظة التي يرتقي فيها الحوار إلي مستوي البوح، وتنسي فيها أنك في حوار
مسجل، تتكلم بشكل أفضل. والعكس، عندما تكون أمام الكاميرا أو يكون الميكروفون مسلطا
عليك مثل العصا. أما عندما تنسي الكاميرا والميكروفونات، فأنت تكون في وضع أفضل
وتتكلم بطريقة أجمل كما قلت. وعموما، فأنا أتحاشي الحوارات الكثيرة...
* أريد أن أظل عند هذا البعد الشفوي الملاصق لكتابتك
الشعرية. فأنت ـ بدون شك، وفي حدود علمي ـ تتكلم عن نصوصك الشعرية، عندما تفرغ من
كتابتها، مع بعض أصدقائك وفي فضاءات ضيقة جدا. فكيف يمكنك إذن تقييم هذا الحوار
الشفوي، الحميمي إن شئت، حول شعرك أو تجربتك أو حضورك الشعري المتعدد؟
** عندما تجلس إلي أصدقاء أذكياء، تشعر أنك في مختبر. فهنا تتم عملية تبادل الخبرة
والتجربة. وعندما أجلس إلي بعض الأصدقاء، أشعر أنني أذكي، وأتعلم منهم الكثير.
أتعلم منهم البديهة المثقفة.
إن تبادل الكلام في أسرار العملية الشعرية، في غموض الشعر وفي صعوبة الشعر، يسهل
عليك كثيرا فهم الشعر. فالحوار مهم بين الشعراء، إذا كانوا خالين مما يسمي في
حياتنا الثقافية بالحسد أو الغيرة أو الأحقاد الصغيرة أو نوايا الاغتيال المعنوي.
للأسف، فإن حياتنا الثقافية، وبالذات الشعرية، ليست نظيفة بالمعني الأخلاقي. ولا
أعرف لماذا... فالتنافس حول الشعر، يجب أن يدفع الشعراء إلي قدح موهبتهم لتقدم
أعمالا شعرية أفضل. التنافس، ينبغي أن ينتج عنه تنافس في الإبداع وليس تنافسا في
القتل المعنوي. وللأسف مرة أخري، فإن حياتنا الشعرية لا تتمتع بهذه الرفعة.
طبعا، يمكنك دائما أن تجد استثناءات كثيرة، فقد تكون الأقلية كثيرة. وفي هذا
المناخ، فإن تبادل الخبرات يعلمني الكثير كما يمكن أن يتعلم مني أصدقائي الكثير.
وبالمناسبة، فهناك قد تصدر أهم الآراء النقدية، تلك التي ليست مبرمجة سلفا أو التي
ليست مسجلة في النقد الأدبي. أقصد تلك الملاحظات الناتجة عن الخبرة والتي قد تحمل
منظورا نقديا أعمق من النظرية نفسها.
* وأنت، محمود، هل تثق في هذه الآراء الانطباعية السريعة
والعفوية؟
** ماذا نعني بالآراء هنا؟ عندما تتكلم مجموعة من البشر فإن مجموع كلامها يُكَوِّنُ
رأيا، ولا أعني ما قد يقوله هذا أو ذاك. المهم، ما ينتج عن اللحظة في النهاية،
خصوصا عندما تطمئن أن لجليسك جهازا نفسيا حساسا وملائما ونظيفا.
* في نفس الأفق، نحن نعرف أنك عندما تهيئ مخطوطة مجموعة
شعرية جديدة، وقبل أن تدفعها إلي النشر، تحرص علي أن تشرك معك فيها بعض الأصدقاء.
فهل تفعل ذلك من باب الاستئناس أو هو نوع من تهيب الشاعر الكبير؟
** هو نوع من مشاركة الآخرين في التقويم الأولي للمسودة. وطبعا، كل شاعر صادق هو
الشاعر الذي يشك في نفسه أولا، وليس الشاعر الذي لا يقول إلا الصدق ! الصدق يراد من
الأنبياء وحسن الكلام يراد من الشعراء، كما قال أحدهم. والصدق هو أن تكون ممتلئا
بموهبة الشك. اليقينية قتل لأي إبداع، أي أن تكون واثقا تماما من عملك وممتلئا
باليقين بأنه العمل الكامل !
وفي حالتي الشخصية، فكلما كبرت واحتللت مكانا أعلي لدي النقاد أو القراء وشعرت
بالخوف أكثر. وهذا الخوف ناتج عن إحساس بالمسؤولية. وأهم شيء يخيفني هو أن أكرر
نفسي، أن أقول قولا قد قلته كما حدث مع كثير من الشعراء الذين يكررون ما قالوه
عشرات أو مئات المرات. إنني حريص علي أن أقول قولا جديدا حتى ولو كان القول الذي
سأقوله أقل مستوي !
إن تجديدا غير ناجح أفضل من تقليد ناجح، لأنني لا أستطيع الحكم النهائي علي المسودة
التي أنتجتها. ولدي عدة مستويات من الرقابة الذاتية: أولا، أضع المخطوطة في الدرج
ولا أقرؤها إلا بعد شهرين علي الأقل. ثم أطلع عليها من جديد. إذا لاحظت أنها تشبهني
كثيرا، أعرف أنني لم أقدم جديدا. فإذا شعرت بأن شخصا آخر هو الذي كتبها وليس أنا،
إذا أدهشتني ـ والدهشة لا تأتي مما تفعله أنت، وإنما تأتي مما يفعله الآخر ـ آنذاك
أدرك أن فيها شيئا ما يستحق أن ينشر علي الناس.
ولأن هذا لا يكفيني، فإنني أعرض بعضا مما أكتبه علي ثلاثة أنواع من الأصدقاء: علي
شاعر، وعلي ناقد، وعلي قارئ عادي. وتستغرب، سي حسن، أنني أستمع بإصغاء شديد
للملاحظات السلبية وأجري تنقيحا علي ضوئها. وأحيانا، تكون لدي شكوك وأحتاج إلي من
يعمق هذا الشك تجاه هذه الصفحة أو تلك. وعندها أنصاع، فأنا لا أؤمن بأن هذا كلام
منزل، كما يعتقد البعض من الذين يتصورون أن القصيدة قد جاءت إلهاما كاملا من الله،
ولذا لا يمكن إجراء أي تغيير عليها! لا، أنا أعتبر أن جزء من الكتابة هو أن تعرف
كيف تحذف، وكيف تمحو، وكيف تعدل، وكيف تنقح. وأعتقد أن من حق الشاعر أن يجري
تنقيحات لا نهائية علي نصوصه.
هل يصل هذا الانصياع لهؤلاء الأصدقاء، في المراحل الأولي لانبثاق القصيدة واستكمال
بنائها الأول، إلي حد أنك قد تحذف بعض المقاطع أو الجمل الشعرية، وربما بعض
الصفحات؟
أجل، وأعطيك مثلا من قصيدة جدارية التي أصبحت الأشهر في عملي الشعري، وكنت عرضتها
علي أحد الأصدقاء، وهو صبحي حديدي. كانت نهاية القصيدة: هذا البحر لي/هذا الهواء
الرطب لي/وإن أخطأت لفظ اسمي علي التابوت ـ لي/إلي آخره/ إلي آخره/ إلي آخره ،
فلاحظ أن تكرار(إلي آخره) فيه نزول عن الذروة. وأعدت قراءة الصفحة الأخيرة من
القصيدة فأحسست فعلا أن هناك هبوطا أو هروبا من مواجهة ختام القصيدة بسبب ما يبدو
أنه تعب الشاعر، فأضفت مقطع: أما أنا ـ وقد امتلأت/بكل أسباب الرحيل ـ / فلست لي/
أنا لست لي/ أنا لست لي... . أما فيما يتعلق ببداية القصيدة، فقد كانت لدي شكوك حول
مقطعها الأول ولم أكن مطمئنا إلي سلامة الإقلاع فاستدعيت جارا لي، وهو صديق محام
ليس خبيرا بالشعر مع أنه قارئ عادي للشعر، وأخبرته بأنني أريد أن أختبره، وأن
نواياي شريرة. وكنت قررت أن أقرأ عليه الصفحات الأربع الأولي من القصيدة لأعرف منه
هل ما سيسمعه شبيه بشيء سبق أن قرأه أم أنه سيشعر فيه بشيء جديد؟ وما إن قرأت عليه
الصفحات حتى قال بأنه شعر وكأنه يعرف هذا الشعر لدي من قبل. فشطبت هذه الصفحات
كاملة من القصيدة. مرة أخري، قرأت قصيدة طويلة من مجموعة كزهر اللوز أو أبعد للشاعر
الصديق طاهر رياض، ولم أكن متيقنا مما إذا كانت هذه القصيدة جيدة. حين قرأتها
صَمَت، ثم قال لي ما فهمت منه أنها لم تعجبه، فقلت له: وأنا أيضا، لم تعجبني.
هذه الاستشارات أو الاختبارات، أعتقد أننا كلنا في حاجة إليها. لذلك، نجد أن كل دور
النشر الكبري في العالم تتوفر علي ما يسمي بالمحرر. وقد لا يكون رأي هذا المحرر
دائما هو الأفضل، لكنه قد يلفت نظر الكاتب إلي مناطق تكرار أو مناطق تناقض. وبتشاور
مع المؤلف، يتم حذف صفحات كثيرة من المخطوطات. ولدينا مثال كلاسيكي ساطع: قصيدة
الأرض الخراب للشاعر تي. إس.إيليوت، فالذي نقحها واختار ثلثها علي الأكثر هو باوند.
فالمؤلف الثاني لهذه القصيدة التي تعتبر أشهر قصيدة في القرن العشرين هو إزرا
باوند. وليت الشعراء العرب يتعلمون كيف يتواضعون، وكيف يستفيدون من آراء نقادهم
وأصدقائهم.
* محمود، ما من شك في أن قصيدتك أصبح لها تاريخ. ولها سيرورة
طويلة ومعقدة وثرية من التراكم والبحث والأداء والتجريب وفتح الآفاق واستدراج
الجغرافيات والأمكنة واللحظات الشخصية والعمومية، وكذا استحضار أشخاص ووجوه وملامح
عديدة هي جزء من حياتك الشعرية، ومن شجرة حياتك وتجربتك ووجودك الخاص.
هذا التاريخ، تاريخ قصيدتك، كيف تقرؤه الآن؟ كيف تنظر إليه عندما تلتفت باتجاهه
وتتمثله؟
** هل تريد الصراحة؟
* نعم...
** ليس فقط أنني لا أنظر إلي الوراء برضا أو بغضب. أنا أخاف من النظر إلي الوراء.
أخاف كثيرا أن أقرأ فصولا كثيرة من تاريخ قصيدتي، لأنها تغيرت بشكل كبير، وما زلت
طامحا إلي أن أكتبها بشكل أفضل. فالنظر إلي الوراء يُصَعِّبُ علي التطور، وبالتالي
لو أتيح لي ـ وهذا كلام قلته أكثر من مرة ـ أن أعيد النظر في ما نشرت لحذفت الكثير.
وللأسف الشديد، لم أعد قادرا علي أن أستعيد من الذاكرة ومن تاريخ الذاكرة، وليس فقط
من المطبعة أو من المكتبة، نصوصا كثيرة لم تعد ملكا لي وإنما صارت ملكا لقرائها.
فلم يعد من حقي أن أصدم هذه الذائقة.
إنني أنظر إلي تاريخ قصيدتي كما أنظر إلي تاريخ أي نمو، سواء كان نموا بشريا أو
نموا شجريا أو نمو أي شيء. فهكذا تتشكل الأشياء، ولكن يرضيني شيء آخر: كلما نظرت
إلي رداءة بداياتي وصلت إلي استنتاج أنني محظوظ، لأن أسوأ شيء هو أن يكون كتابك
الأول هو أحسن كتاب لك. فما دام كتابك الأول هو أحسن كتاب لك، فأنت لا تتقدم وإنما
تتراجع. وما دامت كتبي الأولي رديئة ـ برأيي ـ وكتبي الحالية هي أقل رداءة فأنا
قابل للتطور، وقابل لتحويل التراكم إلي شيء نوعي. لذا فأنا أقترب أكثر من منطقة
الشعر. طبعا، لن أبلغ الشعر ولا أحد يستطيع أن يبلغ الشعر أو يعرف ما هو الشعر في
آخر الأمر، ولكننا نقترب من منطقة أكثر شعرية وأقرب إلي الشعر الصافي، غير الموجود
طبعا، الذي علينا أن نطمح دائما إلي وجوده.
إذن، عندما أنظر إلي هذا التاريخ أتحاشي النظر إليه. ولكن إذا اضطررت إلي النظر
إليه، أقول إنني راض عن تطوري الحالي وليس عن بداياتي. كنت أحبو وأصبحت أقفز.
* هناك، بجوار تاريخ قصيدتك تاريخ آخر لنقد قصيدتك. وثمة عدد
وافر من كبار النقاد والباحثين الذين رافقوا قصيدتك عبر سيرورتها التاريخية
والجمالية، سواء كانوا من داخل الساحة العربية أو من خارجها. وقد قرؤوها، قاربوها،
اندسوا بطرائق ومناهج مختلفة في فضاءاتها المختلفة. كما أن بعضهم احتفي بها،
وجاملها بعضهم حتى اضطرت لتعلن عن ضجرها، ودافع عنها البعض ممن اقتنع بمشروعها
الشعري والجمالي المتقدم في التاريخ الحديث والمعاصر للشعرية العربية...إلخ.
أنت، محمود درويش، كيف قرأت وتقرأ هذا النقد الذي ربط وشائج مع تجربتك الشعرية؟ ما
الذي تعلمته من هذا الخطاب النقدي؟ وما هي اللحظات النقدية القوية التي أحسست فعلا
أنها خدمت مشروعك، وكانت أكثر قربا إلي نفسك وإلي اختياراتك الجمالية؟
** هذا سؤال صعب جدا. فالكتابات النقدية التي تتحدث عنها متناقضة إلي حد، ومتفاوتة
إلي حد، وموزعة منهجيا علي ما هو قراءة بنيوية قد تلغي ما هو اجتماعي وثقافي وسياسي
من النص، أو قراءة اجتماعية تاريخية تلغي الذات من النص. وبين هاتين القراءتين،
وكلتاهما لا تمسك بالنص (النص بشكل عام وليس نصي الشعري فقط)، أشكو دائما من
الإفراط في القراءة السياسية لنصي الشعري حتى أصبح كل ما أكتبه يفكك إلي إشارات
سياسية تحيل إلي هذا المعني السياسي أو إلي تلك الحقبة السياسية أو تلك الحادثة
السياسية...وهذا أسوأ ما في الأمر. فلم أقرأ قراءة جمالية موازية للقراءة التاريخية
الاجتماعية إلا نادرا.
طبعا، بوسعنا أن نقرأ النص قراءة تاريخية أو اجتماعية ـ إذا أردنا ـ وهذا مستوي من
مستويات القراءة، ويجب أن نحافظ عليه بدون أن يتم علي حساب القراءة الجمالية وكأن
القصيدة وثيقة اجتماعية وليست نصا فنيا. وبالتالي، أصبحنا ـ نحن الشعراء العرب ـ
مطالبين بأن نختار أحد المأزقين: إما أن يحول نصنا إلي وثيقة تاريخية أو إلي نشرة
أخبار تنقل وقائع الانحطاط العربي الحديث، أو أن نبذل جهدا أكبر لقتل المعني في
الشعر، أي البحث عن القيمة الجمالية المطلقة للامعني. وكلا الخيارين لَيْسَا خياري.
ولذا، عندما أتكلم عن شكواي أو ضيقي من الإفراط في القراءة السياسية لشعري وكأنه
وثيقة للسردية التاريخية الفلسطينية، وإن كان يحمل بالطبع بعضا من هذا الجانب،
فإنني لا أستطيع في المقابل إلا أن أستثني القراءة الأخرى. القراءة التي تعرف كيف
تنظر إلي طبقات المعني المتعددة في النص الشعري، فتقرأ الفني، وتقرأ الاجتماعي،
وتقرأ التاريخي. ولا شك أن حتى هذه القراءات المفرطة في التأويل السياسي علمتني كيف
لا أزود هؤلاء النقاد بذرائع تجعلهم يقرؤون هذه القراءة. بمعني أنني أحمل نفسي
المسؤولية أحيانا، مما يجعلني أكثر حذرا تجاه التناول السهل، فربما كان نصي الشعري
أو بالأحرى بدايات نصي الشعري، بداياتي القديمة، هي التي قد تكون مسؤولة عن ذلك.
ومن ذلك مثلا الإفراط في الترميز كأن تتم إحالة أي امرأة في القصيدة إلي أرض. قد
تحمل المرأة معني الأرض، ولكن ليست المرأة هي الأرض. ومن ثم تجد أنهم يفصلون جسد
المرأة التي أكتب عنها في قصائد الحب إلي جغرافيا.
طبعا، إن شعر الحب يحمل عدة معان وجودية وإنسانية، ولكن ليس بمعني الترجمة الحرفية
للمعاني السهلة.
* محمود، من الواضح أن قصيدتك هي أحد مرتكزات خريطة الشعر
العربي الحديث. ما في ذلك من شك. فهي جزء من هذه الخريطة وتتجاور فيها مع أنواع
أخري من المرتكزات وأنواع من القصائد. ولذا يهمني أن أسألك عن هذا الجوار. كيف تقرأ
مثل هذا الجوار؟ كيف تعيشه وتواكبه داخل هذه الخريطة، ودعني أؤكد أساسا علي التجارب
الكبرى؟
** لا أستطيع أن أقول إننا نتجاور، وإنما نحن نتكامل. وأتحدث عن الخريطة الشعرية
الحالية، أما في السابق فكل واحد كان يتعلم ممن سبقه. وبعد ذلك، بعد سن معينة نصير
جيلا واحدا. لا تقاس التجربة الشعرية بسنوات العمر، إنما بسنوات الإبداع أو
بالملامح الإبداعية لكل تجربة.
لذلك، أعتقد أننا لا نتجاور وإنما نحن أجزاء من بعضنا البعض، فليس هناك أحد منا كان
سيكون مَنْ هو عليه الآن لولا الآخر. ولا أقول هذا من باب ادعاء التواضع. أكثر من
ذلك، أنا أتعلم وأستفيد وأصغي باهتمام لا فقط إلي من هم أكبر مني سنا أو إلي
مجايليَّ، وإنما أيضا إلي من هم أصغر مني سنا. ولي هذا الحرص علي أن أصغي دائما إلي
الحساسية الجديدة، والذائقة الجديدة، ولا أخجل أبدا من الاعتراف بأنني أتعلم منهم
كثيرا. لكنني أفهم أيضا أنه بعد تراكم معين، يبدو وكأن هناك أقطابا شعرية متجاورة
أو تطل علي بعضها البعض كما لو أن الخريطة علي شكل أرخبيل. وهذا من حق الناقد أن
يراه، وربما من حق القارئ أيضا، ولكن ليس من حق الشاعر أن ينظر إليه كثيرا، بل عليه
حتى أن يتجاهل أنه محور أو ضلع من أضلع مثلث...
* لكنك في مراقبتك لهذا الأرخبيل ، إذا جاز التعبير، تظل
ممسكا عن الكلام ولا تتحدث عن التمايزات أو الخصائص التي ترصدها من داخل مرصدك
الشعري والجمالي. وأري أن خروجاتك قليلة جدا بهذا الخصوص؛ أذكر هنا نصوصك وشهاداتك
النثرية الجميلة والمتألقة التي كتبتها عن سعدي يوسف أو المرحومة فدوي طوقان أو
المرحوم محمد الماغوط أو المرحوم ممدوح عدوان...
** بشكل عام، أحذر من الدخول في جدال حول المسائل الشعرية الراهنة. أتحاشي ذلك،
أتحاشي النقاش حول الخيارات الشعرية، حول أفضلية الشعر الموزون أو أفضلية قصيدة
النثر. وكنت قد ارتكبت حماقات في السنوات الماضية، وأبديت آراء متسرعة أندم عليها.
وأعتقد أن ليس من حقنا أن نضع أي موانع أمام أي تجربة شعرية جديدة. ليس من حقي أن
أقول، ومن الخطأ أن أقول مثلا إن خيار الوزن أفضل من خيار القصيدة النثرية أو إن
الشعر العمودي أفضل أو ليس أفضل من قصيدة التفعيلة (لكم أكره هذا التعبير!).
ما يعنيني شخصيا هو تجلي الشعرية في القصيدة، وما يهمني هو أن أقرأ شعرا سواء في
القصيدة العمودية أو الحرة أو النثرية.
من ناحية أخري، بسبب حساسية العلاقات بين الشعراء أحذر كثيرا من إبداء الرأي في شعر
زملائي وتسمية هذا أو ذاك. إن هناك حزبية شعرية عندنا، وأعتقد أن هذه الروح الحزبية
تعكس أزمة ثقة بالذات. ينبغي أن يمر النص بدون كوادر حزبية، أن يعبر ويخترق ويصل
بدون ترويج إعلامي. لذلك، فإن علاقاتي العامة سيئة جدا ولا أحرص علي ربطها.
* إذا صدق حدسي، كأنك تلمح إلي ما يلحقك من إيذاء داخل
الخريطة الشعرية الفلسطينية...
أنا أتعرض فعلا لحملة قاسية جدا من أغلبية الشعراء الفلسطينيين. لا أشعر أن لدي
مشكلة مع الشعراء العرب، ولكنني أتعرض دائما لتشهير، وتكفير، وتخوين من أغلب
شعرائنا الفلسطينيين، وأدعي أنني لم أقرأ ولم أسمع.
* لكنك، وأنت تتابع وتقرأ وتواكب دبيب النمل في القصيدة
العربية الحديثة والمعاصرة، لا شك أن هناك ما يدهشك فيها، وبعض ما يعجبك فيها. فما
هي هذه الملامح أو الخصائص التي تثير إعجابك في هذه القصيدة؟
** يعجبني كثيرا إعلاء شأن اليومي والعادي، وانتهاء البطولة اللفظية في الشعر
العربي. انتهي زمن الفروسية الشعرية وتمجيد البطولة بكل معانيها. ولا أَمَسُّ هنا
معاني الوطنية، بل أشير إلي نموذج الشعر ـ البطل أو الشعر ـ النبي...
إن تكسير أو تفكيك هذه الصورة هو الجانب الجميل والثوري من مشروع الشعراء الشباب.
وذلك بإعلاء شأن اليومي والهامشي والعادي. ولكنني لا أحب الإسراف في البحث المضني
عن اللامعني لدي كثيرين منهم. إن بعض الشعراء الشباب ـ للأسف الشديد ـ يبذلون جهودا
طائلة من أجل أن يكونوا غامضين. والغموض قد يكون طبيعة ملازمة للعمل الشعري،
والشاعر عندما يكتب إنما يكتب لكي يوضح نفسه لا ليبحث عن غموضها. الغموض يأتي في
سياق العملية الشعرية، لكنه ليس هدفا.
قلت لك ما يعجبني، لكن ما لا يعجبني هو الإسراف في قول اللاشيء وتزيين الكلام
بمفارقات أصبحت جاهزة. لا يعجبني لدي البعض هذا الإصرار علي أن يكتب قصيدة لا تقول
شيئا.
ويعجبني أيضا التخفيف من الادعاء البلاغي والبحث عن بلاغة جديدة، وإشراك القارئ في
معرفة كيف تُكْتَبُ القصيدة. طبعا، في ذلك مكر خطِر جدا. هذه ليست لعبة شكلية، بل
يجب أن تحمل معني آخر.
هناك نقطة أخري، حول شعرية التفاصيل وهي مقولة سادت كثيرا في الخطاب حول الشعرية
العربية الحديثة. لا شك أن التفاصيل قد تشكل أو تكون الظاهرة، لكن تفاصيلنا أحيانا
لا يكون هناك رابط بينها. فأنت عندما تقرأ القصيدة لا تجد تفصيلا واحدا يحمل معني
أسطوريا ـ كما يمكن أن نجد ذلك مثلا في شعر يانيس ريتسوس ـ أو معني ميتافيزيقيا. لا
تجد أن هذا الجزء التفصيلي الصغير يحيل إلي ما هو أكبر منه أو إلي ما هو خارجه.
وهذه لعبة شعرية تحتاج إلي ذكاء أكبر مما يتصورون، وإلي معرفة أعمق قد لا يملكها
هؤلاء الذين يقولون عن أنفسهم إنهم شعراء التفاصيل. أية تفاصيل؟
وما هو الضوء الذي يوجد وراء هذه العتمة؟ وما الذي يحمله مثلا ظل الحجر؟ هل يحمل
تاريخا ما، أسطورة ما، معني ما ورائيا...أم ليس هناك شيء نهائيا، وأن هناك لقاء
مصادفة بين الشباك مع زجاجة الماء مع ورقة الشجرة التي سقطت في الطريق؟ أعرف أن هذه
الأشياء وغيرها يمكن أن تجمع، ولكن ينبغي أن يتوفر لها شاعر له رؤية ومعرفة، فيؤلف
شكلا وماهية بهذه العناصر التي لا تبدو مشتركة ويمكن أن يربط بينها خيط مشترك إذا
تهيأت له رؤية شعرية.
* محمود، كما أشرتَ الآن وكما تلح دائما، أنت لا تحب المعني
الجاهز في إنجاز القصيدة. وأيضا، تلح علي ضرورة البحث عن المعني.
فكيف تتم هذه العملية الدقيقة والعميقة في بحثك عن معني شعري؟
** أصدقك القول، أحيانا أكتب تحت ضغط حافز ما كأن أكون فرحا بشيء ما صغير، وكأن
أصحو أحيانا وعندي فرح بأن لدي ما أقوله أو ما أكتبه، لكنه غير واضح، وغير محدد.
فأجمل كتابة هو أن يأخذك هذا الحافز الانفعالي أو العاطفي أو النفسي إلي كلمات هي
التي تعثر علي علاقة بعضها ببعض. ولذا فالفكر الذي يكون محضرا سلفا للقصيدة، تغيره
عملية الكتابة بفكر آخر. إن الكتابة لها فكرها الخاص الذي يتمرد علي الفكر السابق
للقصيدة.
بهذه الحالات، وهي قليلة جدا، يكون ما ليس معروفا سلفا أفضل مما حدد سلفا. وقد تذهب
إلي القصيدة بفكرة شعرية جاهزة فتكتبها بسرعة شديدة، لكنك تكتشف أنها تفتقر إلي
الطريق إلي المعني. أي أن المعني في هذه الحالة كان سابقا للبحث عنه. وأعتقد أن
المعني الحقيقي للشعر هو الطريق إلي المعني وليس المعني الجاهز سلفا. المعني الجاهز
هو أن تمسك بهذه المادة الذهنية أو الروحية فتضعها في قالب جاهز كما لو كنت تصنع
خزفا. أما حين يكون المعني قيد التشكل، ويجد نفسه طوع نفسه، ويعتمد علي نفسه في
اختيار استعارته وصورته وموسيقاه وختامه؛ آنذاك يتحقق أجمل الشعر.
* في شعرك، هناك حضور قوي جدا لِثِيمَة (موضوعة) الشهيد.
وطبعا، فهي لحظة رفيعة من حيث أبعادها الإنسانية والأخلاقية والإستعارية والرمزية،
أو من حيث التعبير والموقف النضالي والجمالي، في المسار الفلسطيني والعربي، وحتى في
تاريخ قصيدتك.
سؤالي هنا تحديدا عن طبيعة وسيرورة علاقتك بالشهيد، وبالشهادة والاستشهاد عموما.
كيف تنظر إلي هذه العلاقة؟ وكيف تكتب شعريا عن شهيد معين؟ هل لطبيعة وفداحة
الاستشهاد أم لابد أن تتوفر قرابة شخصية أو إنسانية بين الشهيد وبين قصيدتك، كأن
يكون صديقا لك أو لك سابق معرفة به أو ذاكرة مشتركة أو رمزية خاصة؟
** كتبت مرة في بيروت أهدد أصدقائي بأنني سأسميهم خونة إذا ماتوا، في قصيدة سنة
أخري فقط.
ومن فرط ما فقدت من أصدقاء ماتوا أو استشهدوا حتى كدت أتحول إلي شاعر مراثٍ، رجوت
أصدقائي أن يتوقفوا قليلا عن الموت. للأسف، فإن هذه الأمنية لم تتحقق. وهي أمنية
شريفة (أن يتوقف الناس عن الموت)، وليست خيانة وطنية، بل بالعكس هي دفاع عن الحياة
وعن الحق في الحياة. وللأسف الشديد، فإن تطور القضية الفلسطينية يجري بطريقة نزداد
معها شهداء.
أظن أن اللغة تشابهت من كثرة الكلام عن الشهداء. ويكاد هذا الكلام الذي غدا واجبا
وطنيا، يصبح غير أخلاقي. بمعني أن الواجب يقتضي أن نتكلم عن حياة من يستشهدون، عن
حياتهم المفقودة وليس فقط لتقديس أو تمجيد عملية الاستشهاد، وإلا سيتحول الشهداء
إلي أغراض، ويصبح الخطاب الشعري حولهم نوعا من مساهمة الشعر في القتل.
علي الشاعر أن يحزن لأنه يكتب عن الشهادة، ولا ينبغي أن يفرح لأنه عثر علي موضوع.
وقد كان لدي صديق (لا أريد أن أسميه)، كان قد أصيب بحالة جفاف شعري. ولما استشهد
أحد أصدقائنا، قال: ربنا رزقني بقصيدة!. ولكن مهما تفلسفنا، يا حسن، ومهما تكلمنا
عن هذا الموضوع، فإن علينا أن نتكلم باحترام غير عادي عن الذين يقدمون حياتهم، حتى
لو لم يعرفوا بأنهم يقدمون حياتهم من أجل قضية كبيرة. ودعني أعطك مثلا آخر عن هؤلاء
الذين قتلوا في الحرب الأهلية بغزة. والمشكلة هي كيف تسمي من ماتوا، شهداء أم
ضحايا؟ عندما يقتل الأخ أخاه، هل يكون المقتول شهيدا والقاتل قاتلا؟ والحال أن
القاتل ضحية والقتيل ضحية.
إن كثرة الاستشهاد عندنا، وكثرة الموت عندنا، أصبحت تضغط علي الضمير الشعري، وعلي
اللغة الشعرية. لذلك، تلاحظ أنني أكتب عن الموت العادي. كأن ليس من حق الفلسطيني أن
يموت موتا عاديا، بسبب مرض أو في حادث سيارة أو بسبب شيخوخة مثلا. كأن الفلسطيني
صار محروما من الموت العادي. لكنني لكي أكتب عن شهيد، يفترض أو ينبغي أن أعرفه لأنه
ليس فكرة. يجب ألا يتحول الإنسان إلي فكرة وإنما يجب أن يظل كائنا بشريا. ولذا لا
أكتب إلا عن شهداء أعرفهم شخصيا، أو عن أصدقاء ماتوا موتا عاديا.
* محمود، ألا تري معي أن قراءك قلما ينتبهون إلي قوة حضورك
الشعري في كتابة النثر. تعجبهم النصوص ويقرؤونها، لكنها لا تظل حاضرة بنفس القوة
التي يظل نصك الشعري حاضرا بها في الوجدان، في الذاكرة، وعلي مستوي التداول
والتخاطب، وفي رسائل الحب المتبادلة أيضا.
ومنذ صدور كتابك ذاكرة للنسيان، ومع صدور عملك الجديد في حضرة الغياب بالخصوص، بدا
لي أن اهتماما نقديا وإعلاميا واسعا بدأ يحيط بشعرية نثرك.
أنت، كيف تتعامل أو كيف تقرأ أو تتمثل هذه اللحظة في مختبرك الشعري والجمالي؟ أقصد،
اللحظة التي تترك فيها قصيدتك جانبا وتنتقل إلي قارة النثر. هل تفعل ذلك بقرار معين
قد يكون ناتجا عن تفاعل أو رد فعل معين؟
هل هو خيار تمليه استراتيجية جمالية معينة؟ هل هي استراحة من عبء القصيدة، إذا جاز
لي القول، ومن مستلزماتها وإرغاماتها؟ وقبل هذا وبعده، هل تظل خلال لحظة الانتقال
من الشعر إلي النثر داخل نفس المختبر ونفس الإحساس؟
** ربما كان الأمر هو كل هذا الذي قلتَه، وربما كان بعض ما قلتَه، وربما كان شيئا
خفيا، وربما هو تطور الإحساس بأن القصيدة الغنائية الموزونة بالنسبة لكاتبها تقترب
من احتمال أن تصبح نمطا. فإحياء الإيقاع من جديد، والذي قد يصبح مكررا، قد يتم عن
طريق النثر.
وعندي قول أقوله دائما في مثل هذا السياق، وهو أن مَا يُضِيءُ القصيدة قد يكون
أحيانا جملة نثرية أو كلمة عامية أو كلمة بسيطة جدا بدون أن تكون مبتذلة. هي التي
تعطي أحيانا للقصيدة شعريتها، وأتحدث هنا عن الشعر الموزون.
كثير من القصائد المهمة تحولها جملة نثرية، لها طابع الجملة السردية، هي التي
تحولها إلي بؤرة شعرية وتعطي للقصيدة وهجها.
هناك جانب آخر، وهو أنني بطبعي أحب النثر، لكن عدم انتباه الناس إلي ذلك هو تقصير
مني ربما، إذ لم أعط للنثر صفة المشروع وإنما أكتبه من حين لآخر أو تحت ضغط الواجب
عندما أضطر لكتابة مقالة أو خطبة أو كلمة في ندوة.
أنا شديد الرغبة في أن أجري مصالحة في نفسي أولا، قبل أن أجريها في نفوس الآخرين،
بين شعرية النثر وبين القصيدة، وبخاصة أن تعريف الشعر، أو تعريف القصيدة لنفسها في
العالم، أصبح يتسع لاختلاط أجناس متعددة في الكتابة. لم نعد نستطيع أن نقول هذه
حدود القصيدة... أو قد نستطيع أن نقول هذه هي حدود القصيدة، ولا نستطيع أن نقول هذه
هي حدود الشعر.
وأعترف لك أيضا أن تأثير جماليات قصيدة النثر عليَّ قد غيَّرني، وكأنني أريد أن
أعتذر لعدم استيعابي المبكر لأهمية هذا المشروع. طبعا، لا أريد أن أكتبه، ربما -
ولكن قد أكتب شيئا علي تخوم تعريف الشعر وتعريف النثر أو علي تخوم صعوبة تعريف
الجنسين فأوفق بينهما أو أتقاطع بينهما.
ثمة نقطة أخري، وهي أنني لا أريد أن أكتب شعرا بوتيرة سريعة. أبتعد لكي لا يقودني
إيقاعي. وقد تعتبر هذا استراحة أو إجازة تجريبية، وقد يكون هذا الكتاب هو كتابي
الأخير، وربما قد لا أكتب شعرا. لا أستطيع أن أقدم ضمانات أو وعودا لأنني لا أضمن
غدي، والشعر ليس مشروعا هندسيا أو تخطيطا علميا قد يمنحك ضمانات قابلة للتطبيق.
ورَاهِنًا، أنا أكتب يوميات تتوزع بين مقاطع نثرية وأخري موزونة، وقد تكون في
جوهرها قصيدة نثر، علي الأقل كما أفهمها. وكما أصبحت أقترب من قصيدة النثر ولا أعبر
عن أي تحفظ، فإن شعراء قصيدة النثر بدورهم مطالبون بأن يقتربوا من الوزن. ومثلما
أري أن قصيدة النثر توسع ضفاف شعريتي، علي شعراء قصيدة النثر أن يجربوا لعل الوزن
يوسع ويطور تجربتهم. لماذا هذه القطيعة؟ لماذا هذه المواقف الكفاحية والنضالية؟
لماذا يخوض بعض الأصدقاء الشعراء حروبا تشبه الحروب القبلية أو الطائفية؟
بالنسبة إليَّ، أنا أزاوج كتابة الشعر وكتابة النثر، ولا أعرف إلي أين سيقودني في
ذلك. لكنني مرتاح لكتابة النثر كما أرتاح في كتابة الشعر، وهو خيار يعطيك طريقة
تنفس مختلفة، ويعطيك حرية سباحة في بحر لا حدود له.
* في هذا السياق، كيف انبثق نصك النثري ذاكرة للنسيان، أثناء
وجودك في بيروت 1982، رغم أنك كتبتَ في تلك اللحظة وفي تلك الفضاءات قصائد أساسية
عن بيروت؟
** أعتقد أن النص النثري في ذاكرة للنسيان أفضل من كل ما كتبته عن بيروت شعرا. وهو
نفسه شعر، مزيج من الروبورتاج ومن القصة ومن المسرحية ومن الشعر، وقد كُتِبَ بحرارة
عالية جدا. كما أن فيه دينامية الكاميرا في التنقل، والتداعيات الحرة، والضغط
الشديد.
ذلك النص كتبته لسبب بسيط جدا، ولم أكتبه لا بحثا عن شكل جديد ولا تأسيسا لخيار فني
معين. كتبته لأحرر نفسي من الحنين إلي بيروت. ولعله أسرع نص كتبته، إذ أنجزته خلال
شهرين عندما حبست نفسي في شقة بباريس...
* دعني أندس هنا لأسألك - وأنت تتأمل هذه العلاقة الجدلية
والملتبسة والمعقدة في آن بين الشعري والنثري في تجربتك الأدبية والجمالية - لماذا
تأخر استيعابك لقوة أو لجاذبية أو لجمالية قصيدة النثر رغم أنك كنت تعرف جيدا أن
عددا من أصدقائك الشعراء، وعددا من كبار شعراء الإنسانية الحديثة زاوجوا بين الشعر
الموزون وقصيدة النثر (بودْليرْ، رامْبُو، ريتْسوسْ مثلا)...؟
** لعلي أسأت التعبير عندما استعملت كلمة استيعاب ، فقد كنت من البداية أحب قصائد
محمد الماغوط، ومن البداية كنت أحب كثيرا من قصائد أنسي الحاج. ومعني الاستيعاب
هنا، أن تكون قصيدة النثر جزء من تجربتي. معني تأخر استيعابها، أي تأخر استيعابها
في تجربتي.
هذا أولا؟ وثانيا من فرط السهولة والاستسهال في كتابة هذا الشكل بدون أدني وعي به.
وإلي الآن، يمكنك أن تفتح الصفحات الثقافية في الصحافة العربية لتجد آلافاً، بل
عشرات الآلاف من الذين يكتبون قصيدة نثر بدون أن تكون قصيدة نثر أصلا. فربما كان رد
فعلي ناتجا عن هذا الاستسهال أو عن الروح النضالية المبالغ بها لبعض كُتَّاب قصيدة
النثر الذين يصدمك لا فقط المستوي الإبداعي لديهم، وإنما أيضا ادعاؤهم النظري حين
يتصورون أو يتصور بعضهم علي الأقل بأن بإمكانه أن يطرد أي خيار شعري آخر من
الحداثة، أي خيار غير خيار قصيدة النثر ولا يُعَرِّفون الشعر إلا بهذا الخيار.
نقطة أخري، كنت وما أزال أعتقد أن الوزن الشعري لم يستنفد كل إمكانياته وأغراضه.
ولو يلاحظ القارئ شغلي الأخير، هناك تطوير للإيقاعات داخل العروض العربي. ليس هناك
حدود لاستثمار إمكانيات بحور الشعرية العربية، ولا أوافق علي أنها استنفدت كل
أغراضها، بل مازال بوسعها أن تستوعب حتى ادعاءات قصيدة النثر.
الوزن نفسه يستطيع أن يستوعب الادعاءات النظرية لما يسمي بقصيدة النثر. وأنت تعرف
مدي حبي للإيقاع المسموع، الإيقاع البصري إذا جاز التعبير، الإيقاع الموسيقي سواء
كان خفيضا أو عاليا.
وربما لا أستطيع أن أعبر عن نفسي شعريا إلا بهذه الطريقة.
* محمود، في كتابك في حضرة الغياب نص لم تخف فيه شغفك العميق
بالنثر، بشعرية النثر إن شئت، وحققت فيه مستوي من الارتقاء العالي الشفاف المضيء
الذي يصل إلي حد تحقق قصيدة نثر بالمواصفات الشائعة التي نعرفها بها.
كيف تحققت هذه اللحظة في الكتابة؟ هل بسبب من ذهابك العميق المؤلم إلي أقصي درجات
المحنة الجسدية أم ببساطة، بسبب حضور مكرك الجمالي؟
** إن موضوع المحنة الجسدية بكل تفاصيلها كتبته في قصيدة جدارية . ومشروع في حضرة
الغياب لا علاقة له بهذه الأزمة، لكن هاجسي في هذا الكتاب كان هو إعطاء جماليات
النثر العربي أقصي طاقاتها.
وكل هذه الأحزان في الكتاب كانت أمرا ثانويا، وما كان يعنيني أساسا هو ترقيص اللغة،
والاحتفاء باللغة. كأنني أشتغل في مهرجان من الكلمات والصور والجماليات متحررا من
أي اعتبار آخر غير الاعتبار الجمالي. كان هاجسي هو أن أطلق ما يمكن إطلاقه من مردة
وحمائم وطيور اللغة العربية. كنت كأنني أكتب شعرا، وكل يوم كنت أكتب صفحة واحدة.
وعندما كان ينتهي اليوم وتظل هناك جملة لم تنته، كنت لا أنهيها. كنت كل يوم أريد أن
أؤجل الانتهاء من هذا النص لأنه كان يفرحني. كان يشعرني بأن فيه كتابة أخري غير
النثر العادي، وغير القصيدة. كنت أبحث عن شكل آخر للكتابة، وجاء هذا النص نِتَاجَ
لقاء جنسين، الشعر والنثر.
* لكن هناك أيضا في هذا النص حضوراً واضحاً لقوة سردية. وهو
نَفَسٌ نجد تجليات له في قصائدك، غير أنه يحضر هنا بكثافة خلاقة...
** في قصائدي الموزونة وفي كل تجربتي الشعرية، سي حسن، عندي حب لمزج السردية
والغنائية.
* وماذا تعني بالنسبة إليك شهية المحكي، في الكتابة وفي
القراءة معا؟
** هذا ما أسميه أنا الاستمتاع بالاستطراد، أن تشتق من كلمة كلمات، وأن تحيلك كلمة
إلي دروب، إلي سماوات، إلي غيوم، وإلي قصص. وهذا الحب للحكي هو الذي يتمتع به
الروائيون. وأنا أغبط الروائيين علي هذا الكلام الذي لا نهاية له. المشكل أنني لا
أستطيع أن أسميه حكيا، وإنما أسميه استطرادا للغة يأخذك بعيدا، ويصل بك إلي أرض،
وإلي منطقة وإلي قصة، وإلي حادثة، وإلي مأساة، وإلي عرس.
إنني أحب السرد، لكن ينبغي أن يكون مضبوطا. أحب أن يكون سردا إيقاعيا إلي حد كبير،
سردا مُمَوْسَقاً.
* يلفت الانتباه أيضا في نصك في حضرة الغياب حضور لبنية
مثنوية، سواء علي مستوي الذات المتكلمة، أقصد هذين الشخصين اللذين ليسا في الحقيقة
إلا شخصا واحدا، أو علي مستوي بناء الخط السردي والحكائي للنص.
ولا يحضر هذا البعد المثنوي لأول مرة لديك في هذا النص، وإنما هو موجود في شعرك كما
هو واضح. ومع ذلك، فهو هنا أكثر حضورا حتى إنه يشكل عنصرا تكوينيا في النص من
بدايته إلي نهايته. فكيف تقرأ شخصيا هذا البعد في كتابتك؟
** إن حيلة النص كله مبنية علي خطاب تأبين يقوله المؤلف الحي لآخره الميت المتخيل.
والثنائية القائمة بين وجود الآخر ووجود الأنا متوفرة فينا جميعا، لكن كيفية
الاعتراف بها أو رؤيتها وإجراء الحوار معها أمر لا يجرؤ عليه كل إنسان. فما كل
إنسان قادر علي أن يعترف بأنه إثنان، فهو باطني وظاهري، هو حاضر وغائب، مؤنث ومذكر،
هو شاعر وناقد، هو أرضي وسماوي. وأنا من الذين يتعرفون علي ذاتهم أكثر من خلال
الآخر، سواء كان آخرهم أو كان الآخر آخر.
أعتقد أن العلاقة بالآخر هي الطريق المعرفي نحو معرفة الذات. وبالتالي فهذه
المثنوية تلازمني منذ زمن بعيد، وهي تعطيك حرية الكلام أكثر. فعندما تُخرج ذاتك من
ذاتك وتتفرج عليها، فإنك تمنح نفسك حق الكلام وكأنك لا تتكلم عن نفسك. وهذا ما يفتح
لفن الاعترافات فضاء أوسع، متحررا من الحشمة ومن إخفاء عواطف أو هواجس أو ظنون. أما
من أين جاءتني هذه المثنوية، فأظن أنها تأتي من خلال الثقافة لا من خلال التجربة
الذاتية. وثمة أنواع من الفكر تتحدث عن ذلك.
وعلي المستوي الجمالي، فهي تعطيك مجالا لتمزج الديالوغ مع المونولوغ من حيث تصير
الحدود بينهما متداخلة. كما تعطي جمالية للتضاد، وليس هناك من أدب حقيقي بدون صراع
الأضداد.
والصراع قد يؤدي إلي مصالحة وقد لا يؤدي إلي مصالحة أيضا، لكنه يساعد علي أن يطل
الواحد علي الآخر بطريقته ويتعرف عليه. وقد يوصل التعاطف الأكثر إلي جهل أكبر، وفي
رأيي فإن طريق الجهل هو طريق نحو المعرفة. كلما عرفت أنك جاهل، تعلمت أكثر.
والمشكلة دائما هي مع الجاهل الذي لا يعرف أنه جاهل. أما الجاهل الذي يعرف جهله فهو
قادر علي التعلم.
وقد تكون هذه المثنوية في آخر الأمر مجرد لعبة فنية، إذ إنها - شعريا - توفر توترا
أعلي، وتشكل نافذة لرؤية نفسك من خارجها، ولتبادل النظر أيضا بين خارجك وداخلك بنفس
الثنائية. كيف تستوعب خارجك من داخلك وكيف تخرج داخلك ليتطهر ويتصفى حتى وإن كان
داخلك في الأصل قد جاءك من خارجك.
* هناك أيضا في مشروعك الشعري بنية تكوينية مركزية هي بنية
المكان. وطبعا، كانت فلسطين تلقي بظلالها دائما كمكان وكفضاء علي نصوصك؛ ومنها كانت
تنبثق القصيدة أحيانا أو تلتحق القصيدة بها أحيانا أخري. لكنك حاولتَ في مراحل
متعددة أن تغير هذا المكان الأمومي، إذا صح التعبير، المكان الأول لذاكرتك الشعرية.
فحضرتْ أمكنة أخري، عواصم ومدن أخري...
واليوم، عندما تتأمل سيرورة قصيدتك، هل تتأمل هذه العلاقة مع أمكنتك الشعرية؟ وكيف
تتمثلها؟
** كانت العلاقة واضحة أكثر مما هي عليه الآن. فقد كان هناك بعد ينتج عنه الحنين
ويُجَمِّل الأشياء. فأنت من بعيد تري الأشياء أفضل وأجمل. وبالتالي، فالمكان
المتخيل يطيع اللغة أكثر من المكان المتحقق.
خَفَّتْ علاقتي بالمكان الأول، شعريا، عندما تحققت رؤيته من جديد، وإذا به كان أغني
في الصورة، في الاستعارة وحتى معناه كان أرقي. ومثل أي شيء متحقق، يكون أقل وهجا من
المتخيل. هذا طبعا لا ينطبق علي الحقوق الوطنية والسياسية. وأخشى دائما عندما أتكلم
عن هذا الموضوع أن يحدث سوء فهم عند بعض الناس.
الآن، أستطيع أن أقول بصراحة إن الأمكنة أصبحت عندي متشابهة. ربما لأن عمري لم يعد
يسمح لي بإقامة علاقات عاطفية مع أمكنة جديدة، كما لم يعد يسمح لي بإقامة علاقات
عاطفية مع أناس جدد. قد أكون أكثر حصافة في العلاقة مع الناس، وأكثر مجاملة، وأكثر
احتراما، لكن الوهج العاطفي خف. وهذا ينطبق علي البشر وعلي الأمكنة أيضا. وربما
لكوني أتْخِمْتُ أمكنة.
إن المكان في آخر الأمر إذا لم يكن منشأ ذاكرة، ومكونا لذاكرة، يصبح منظـــرا،
مشهدا طبيعيا.
وإذا كانت لدي القدرة علي الاندهاش أمام المشاهد الطبيعية الجميلة، فإن هذا لا يقيم
علاقة داخلية وطيدة بيني وبينها...
* هل لهذا الإحساس بتشابه الأمكنة الذي أصبح لديك، مع ما
يصاحبه من خفة الكثافة العاطفية، هو الذي جعلك في بعض أعمالك الشعرية الجديدة تنأي
بعيدا في عودتك إلي بعض أمكنــــة الطفولة كما هو الشأن في ديوانك الشعري لماذا
تركت الحصان وحيدا (1995)؟
** لا، أنا أتحدث إليك عن اللحظة الحالية. ذلك أنني لما كتبت لماذا تركت الحصان
وحيدا كنت بعيدا عن مكاني الأول. لقد كان ما يشبه الرد الشعري علي تعرض السردية
الفلسطينية للالتباس، بعد اتفاق أوسْلُو. فقد تألمت كثيرا من المصافحة التاريخية،
وآلمني الخطاب. كان الخطاب الإسرائيلي يتصرف وكأنه خطاب ضحية مقبل علي مصافحة عدوّ
بصعوبة، ويستذكر الشهداء، بينما كان الخطاب الفلسطيني خطابا إداريا. فشعرت أن حتى
اللغة تعرضت للالتباس، لغة الضحية الفلسطينية. وكان هذا حافزا مباشرا لكتابة هذا
النص دفاعا عن السردية الفلسطينية، وعن اللغة التي تعرضت - برأيي - إلي تشويش.
* محمود، ما معني أن تسمع قراءك يقولون عنك إنك ضمير فلسطين؟
** هذا شرف كبير لي. شرف كبير لي قد لا أستحقه. وكل إنسان، كل شاعر، يحب أن يرقي
إلي مستوي أن يتشرف بهذا الشرف، لكن بدون أن تكون له أعباء جمالية. أي أن لا يكون
من حقك أن تكتب إلا عن فلسطين بالطريقة المحددة لرؤية الناس لفلسطين. بمعني أن تبقي
تذكر فلسطين في كل نص، وتتحول إلي مؤرخ الحدث الفلسطيني. أما أن يكون الضمير بمعني
الممثل لجانب الإجماع الوطني الثقافي، وأن يكون معبرا عن روح هذا الشعب، فهذا شرف
كبير.
* ألا يمكن أن نفهم من ذلك أيضا أنك أسهمت كثيرا وعميقا، من
خلال كتاباتك الشعرية وحضورك الثقافي والأدبي الممتد، في إثراء الرمزية الفلسطينية،
وفي توطين القضية الفلسطينية في الوعي العربي، وفي الوعي الإنساني؟
أنا هذا إحساسي ورأيي...
** وأنا ليس من حقي أن أوافق علي هذا الكلام. ساعتها سأطري نفسي وليس من عادتي
إطراء النفس. ولكن هذا يشرفني - كما قلت - ويشرفني أيضا أن أوسع مفهوم المعني
الفلسطيني من إطار جغرافي ضيق إلي إطار واسع. هذا الذي أعتز به، وهذا الذي أتعرض
بسببه إلي حملات بعض الفلسطينيين وكأنهم لا يحددون الهوية إلا بتضييقها. أما أنا
فأُعَرِّفُ الهوية بمدي توسيعها. أن تنتقل فلسطين من جغرافيا صغيرة تحمل معاني
كبيرة طبعا إلي أفق إنساني، وتُقْرَأ كنص شعري علي المنبر الشعري المفتوح بشكل مّا،
فهذا تكبير لفلسطين وليس تصغيرا لها كما يظن بعض الملتزمين بالمفهوم الضيق للهوية.
والهوية الفلسطينية يجب أن تكون هوية كونية لأنها هوية إنسانية، ونقل المعني
الفلسطيني إلي آفاق رحبة لا يمكنه إلا أن يكون خدمة كبيرة للقضية الفلسطينية.
القصيدة هي الحب غير المتحقق
في آخر هذا الحوار، وعلي سبيل الختم، استدرجت الشاعر الكبير إلي هذه اللعبة
الإعلامية التي تتميز بخفة الأسئلة وسرعة الإجابات. وبمحبة أجاب وأعطي بعض الإضاءات
التي لها أهميتها بدون شك.
* الليل؟
** لا أحبه. أخاف الليل. وفي الليل لا أعمل شيئا إلا القراءة. لا أستطيع أن أكتب
حرفا واحدا في الليل.
* تكتب في الصباح فقط؟
** لا أكتب إلا في الضوء، ولا أعرف لماذا. الليل عادة هو زمن الشعراء، ويوفر وقتا
أطول، لكنني محروم من هذا الزمن.
* الصمت؟
ليس هناك صمت. الصمت يحمل ضجيج الكون، والمهم أن نعرف كيف نصغي للصمت.
* الحلم؟
** الحلم هو إعادة تأليف الواقع بمهارة غير مرئية.
* النوم، ما علاقتك بالنوم؟
** عبادة. أحب النوم كثيرا، وأفرح عندما أنام، أفرح عندما أنام وأعرف أنني أنام.
ولا أري أنه يحمل معني الموت، بل بالعكس أري أنه يحمل معني السباحة فوق الغيوم. إنه
الراحة الكاملة.
* الحب؟
** سؤال صعب، لأنه متغير. فهو في كل ساعة يحتاج إلي جواب مختلف. هو تواطؤ بين شخصين
علي تطوير سوء الفهم.
* الصداقة؟
** الصداقة أصعب وأعذب.
* المرأة؟
** المرأة هي الجمال، الجمال الكوني.
* القصيدة؟
** القصيدة هي الحب غير المتحقق.
الرباط، في أبريل 2007
-----
عن القدس العربي
|