كيف تحدّد ملامح تجربتك مع الحرف يا سيّد وأين ترى (سيد الداخلي ) الأبرز أقرب
للشعر أم للنثر ؟
رحلتي مع الشعر هي
جولة البستاني في روضه ، يقتطف منه ما يروق له ، ليصنع في النهاية عقده الخاص.
حاولت في رحلتي أن أتعلم شيئاً من كل من قرأت لهم من شعراء أيًّا كانت اللغة
التي أقرأ بها. في اللحظة الراهنة أجد نفسي لا تميل إلا إلى الشعر الكوني الذي
يخاطب الإنسان ، الشعر الذي لا يعرف حدوداً ولا ثقافة خاصة ، الشعر الذي حتى إن
دافع عن قضية بذاتها فهو يدافع عنها بمنهجية كونية تخرج بالقضية إلى الكون
الأرحب. لا يفلح في هذا إلا الشعراء الكبار. هذا الشعر يظل محافظاً على جانب
كبير من جماله بعد ترجمته إلى لغة أخرى. هذا ما أحاول تحقيقه في قصائدي الحديثة
، فبعد كتابتي للقصيدة أترجمها وأقرأها مترجمة ، وهنا تتضح لي عيوبها فأعالجها
في اللغة العربية حتى أرضى عنها. حين أنظر داخل نفسي لأرى أيهما أقرب إليها أهو
الشعر أم النثر، لا أجد شيئاً أقرب إليها من الشعر. حتى وإن كتبت الرواية
والقراءات النقدية أعدّ نفسي ضيفاً على الروائيين والنقاد. أنا شاعرٌ يكتب
الرواية والمقال. الشعر كما أرى الآن هو أقوى أداة نتواصل بها مع الأمم الأخرى.
قد يبدو هذا حديثاً لا يتفق مع الواقع الذي نرى فيه أن الشعر تقل مبيعاته عن
أية مبيعات أخرى. لكنه لم يمتْ ولم تتقلصْ أهميته بل تقلصت أهمية الشعراء الذين
أصبحوا هم الجمهور بعد أن انصرف عنهم الجمهور. الشعر الحقيقي ما زال هو الأداة
الأقوى أثراً في الشعوب والأقدر على تغييرها. الشاعر الحق لا يكتب الشعر لينفث
عن عاطفة ما ، ولا يكتب الشعر ليقرأه الناس وينشر شعره في الصحف والمجلات فحسب
، بل يكتب الشعر لإعادة اكتشاف نفسه في كل مرة يكتب فيها قصيدة جديدة. اكتشاف
النفس هو أن تراها عارية ً دون حواجز ، دون طلاء ، هو أن تتقبل عريها دون
محاولة منك لتغييرها ، وهنا يكون التغيير الحقيقي. وما إعادة اكتشاف نفسك
وتغييرها إلا إعادة اكتشاف الكون بأسره وتغيير الكون بنفسه. وما الإنسان الفرد
إلا الكون مصغراً ، أو كما قال الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري: أتزعم أنك
جِرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ!
قرات لك ما تقوله في نصك ( يوم من أيام السأم) : لكنني وحدي هنا مستلقياً محدثاً
سقفاً يعيد لي صدى صوتي أظل في وحدتي مستلقياً بغرفتي منتظراً موتي!……..
ما يقوله النص ليس
نسخة عن سأم باريس أو غيرها كما أظن ، بالنسبة لي أراه ماكراً قليلاً إن أردت
أن أستضيفه مكرراً على طول الطريق معك، لكن قل لي: هل هنالك سأم خاص ب(هونج
كونج) أم أنه كان سأماً خاصة بما قبل وصولك هنا؟!
السأم في هونج كونج
هو سأم الروح من المادة وطغيانها. هي مدينة لا وقت فيها للحب ، ولا وقت للصداقة
، ولا وقت لصلاة الروح في ملكوت الجمال. كل شيء نصنعه بأنفسنا أو نصطنعه
بأنفسنا على عجالة. حتى الطبيعة جرنا عليها فسخرنا سلاسل الجبال الخضراء
الخلابة لبناء ناطحات السحاب الخرسانية عليها. لا حرمة لراهب الروح في مدينة لا
تتحدث إلا بلغة المادة ولغة الجسد. هذا هو سأمي الذي كان. سأمٌ تجرع المادة حتى
الثمالة فلفظها وأفرغ جوفه منها. وما أنشطتي ومشاركاتي الثقافية إلا رفض لهذه
المادة ، وإلا فهو الموت الذي انتظرته في غرفتي فلم يأتِ ، وأتت بدلاً منه رغبة
الروح في الحياة ، فكان الشعر رفيقاً.
ما هي روايتك الخاصة لمشوار الاكتشاف عندك ومشوار العملية الإبداعية تاليا
بمراحلها؟ وهل إصدار رواية باللغة الانجليزية نكهة خاصة أم أنه مجرّد مفرق في
الطريق؟
مشوار الاكتشاف كان
في سن الخامسة عشرة على يد أستاذي في اللغة العربية أستاذي الفاضل أحمد حسن. هو
الذي اكتشف شاعريتي وعلمني العروض وأشار عليّ بقراءة الشعر العربي القديم كله
قبل قراءة أي شاعر حديث. هذا ما فعلته مما ساعدني كثيراً على التمكن من كتابة
القصيدة العمودية في وقت قصير. انتقلت بعدها لكتابة شعر التفعيلة الذي أكتبه
حتى الآن. تأثرت بالعديد من المدارس المختلفة التي قرأت لها والتي شكلت قصيدتي
التي أكتبها الآن. وشكل قصيدتي الآن لن يكون هو الشكل الأخير لأن عدم التجديد
هو الموت ذاته. غير أني عاشقٌ للجمال ، والتجديد عندي يجب أن يكون للأجمل.
الشاعر صانع عطور ، ولا يليق به أن يقدم للقارئ رائحة كريهة بدعوى التجديد.
فحاسة الشم لن تتغير لمجرد أن صانع العطور يريد التجديد. كذلك تذوق الجمال
والإحساس به لن يعطي مكانه لتذوق القبح لمجرد الدعوى للتجديد. وإن حدث هذا
فسيكون لفترة زمنية وجيزة تعود بعدها الحواس إلى وظيفتها الطبيعية. كثيراً ما
يكون التجديد مللاً من القديم ليس إلا ، وليس بالضرورة أنه الأفضل لعصره.
فالإنسان ملولٌ بطبعه ، ولكن لن يبقى إلا ما ينفع الناس وسيذهب الزبد جفاءً.
هذا قولٌ ينصرف على كل المدارس الشعرية والفنية دون انتصار لمدرسة دون أخرى.
كتابة الرواية ، نعم
، لها نكهة خاصة لديّ ، لأنها تختلف عن كتابة الشعر أسلوباً ولغة وصوراً ، فما
بالك حين تكون مكتوبة بلغة غير عربية! ولقد حرصت على كتابة روايتي الأولى
باللغة الإنجليزية لأني أخاطب بها القارئ الغربي تحديداً ، فالرواية مقسمة
لخمسة أجزاء معنونة بتواريخ وهي 1948 ، 1956 ، 1967 ، 1973 ، 1981. هذه السنوات
لها أهمية بالغة في تاريخ المنطقة. وعلى الرغم من أن الرواية تنتمي إلى
الواقعية الرمزية ، إلا أن القارئ الجيد يستطيع فك رموزها ، وهذا ما تحقق لكل
من قرأ الرواية وأرسل لي تعليقه عليها. ونظراً لحساسية موضوع الرواية فقد كانت
اللغة الإنجليزية هي اللغة الأمثل لكتابتها ، لأن كتابتها باللغة العربية سيكون
مثل حديثنا في غرفة مغلقة علينا لا يسمعنا أحد خارجها. وهذا ما يحدث منذ ستين
عاماً ، نتحدث ولا يسمعنا أحد. سأعمل لاحقاً على ترجمة الرواية إلى اللغة
الصينية والعربية. ونكهة الكتابة باللغة الإنجليزية لا تتوقف عند مجرد الكتابة
بلغة غير عربية ، ولكنها تشمل النشر أيضاً ، فالنشر للقارئ الغربي يحتاج من
الجهد والوقت والمراجعة والمال أكثر بكثير من النشر للقارئ العربي فيكون حفل
التوقيع بمثابة ميلاد بحق.
لديك مجال خصب يغوي بمفاتحات كثيرة معك، بيد أني أحب أولا أن أبدأ من
قصة الجغرافيا، كيف وجدت نفسك في أقصى يسار القاهرة على هذا المحيط ؟ وما أثر
هذا المكان في تجربتك الإبداعية والحياتية ؟
درست في بكين عام
1988/1989 فعشقت الحياة في الصين ، وعشقت الثقافة الصينية على الرغم من
اختلافها الكامل عن ثقافتنا اختلافاً قد تجد فيه ما تحب وما تمقت. غير أني
انخرطت في المجتمع الصيني وثقافته بشكل لم أعد أشعر معه بأني مغترب أعيش في
غربة. أثناء دراستي في بكين ، رأيت أصدقائي الصينيين يشاركون في مظاهرات الطلبة
التي بدأت في مايو 1989 ، ورأيتهم يضربون عن الطعام والشراب ، حتى انتهت
المظاهرات بمذبحة ميدان تيان آن مين 4 يونيو 1989. هذه التجربة ، وما تلا
المذبحة من أيام عصيبة في المدينة التي عشقتها حتى مغادرتي إياها عائداً
للقاهرة ، جعلتني أكثر قرباً من الشعب الصيني لأني شاركتهم معاناتهم وأحلامهم.
قررت حينها أن أعود للحياة في الصين ، وهذا ما كان بعد أن تخرجت في الجامعة
وأنهيت خدمتي العسكرية. لا شك بأن حياتي هنا قد تركت بصمة واضحة على شعري وفكري
ونظرتي للوجود ولكثير من الأفكار الدوجماطيقية التي لم تعد كذلك. حياتي في
الصين لم تفصلني عن تراثي ، بل قربتني إليه وعمقت فهمي له عن طريق المقارنة بين
الصوفية في تراثنا والبوذية والطاوية في تراثهم. قراءة أشعارهم باللغة الصينية
أفادتني كثيراً ، وساعدتني على صقل تجربتي في هدوء وقناعة بعيداً عن الجلبة
والتبعية التي تحدث في ساحتنا العربية ، ولا تترك وراءها إلا غباراً متصاعداً
ما يلبث أن يهبط على الأرض فلا تجد شيئاً.
تقول في مقالك عن ترجمة الشعر أن ترجمة (قصيدة النثر) أسهل ، هل تقصد أن خيانة النص
في هذه العملية تبقى مستترة وموضع تخمين؟ ثم ما حكاية الترجمة للصينية والإنجليزية
لذات النص ، هل هي للمقاربة أم المفارقة؟! ثم ما هو اللافت في طبائع اللغة الصينية
وكما نعرف أنها عشرات اللغات!
ترجمة قصيدة النثر
أسهل ليس لأنها أكثر غموضاً ومن هنا تكون خيانة النص مستترة ، فبإمكان شاعر
التفعيلة أيضاً أن يكتب شعراً غامضاً ، فالغموض في الكتابة ليس له علاقة ما إذا
كان الشعر موزونا أم لا. بل سهولة ترجمة قصيدة النثر يكمن في أنها بلا موسيقى
ولا وزن ، ومن هنا تنحصر مهمة المترجم في ترجمة المعنى فقط ، دون محاولة تجميل
النص بما ليس فيه من جمال لغة وموسيقى وقافية. أما ترجمة الشعر الموزون فتكون
صعوبته في أنك يجب أن تترجمه في لغة راقية وأن تمنحه موسيقى بل وقافية إن كانت
موجودة في النص الأصلي ، كل هذا يجعل عملية الترجمة أصعب بكثير من مجرد ترجمة
نص نثري يخلو من كل هذه الجماليات. ترجمة قصيدة نثرية قد تستغرق دقائق لترجمتها
ولكن ترجمة قصيدة موزونة قد تحتاج لساعات!
أما عن الترجمة للغة
الصينية والإنجليزية لذات النص فهذا لأني أنشر الترجمة في هونج كونج وهي مدينة
تتحدث اللغتين ، كما أن نهم الصينيين لتعلم اللغة الإنجليزية يجعل ترجمة النص
للغتين أكثر انتشاراً وقراءة ً. اللغة الصينية واحدة في الكتابة وإن اختلفت
الرموز بساطة ً وتعقيداً ما بين هونج كونج وتايوان من جهة والصين وسنغافورة من
جهة أخرى ، إلا أن هناك ستاً وخمسين قومية ً ولكل قومية لهجة خاصة بها مما جعل
الصين تختار لهجة تسمى الماندرين لتكون اللغة الرسمية.
تجربتك من خلال "الندوة العربية" لا فتة بلا شك ومميزة، وأحسبها قديمة لأنه تسنى لي
الوقوف على موقع قديم في مجموعات الياهو ، ما الذي حقّق لك عنصر الاستمرار وأقنعك
بمتابعة البث ؟
الذي حقق لي عنصر
الاستمرارية هو إيماني بأهمية ما أقوم به ، وبالدور الذي ألعبه كسفير للأدب
العربي في الصين. لولا إيماني بما أعمل لتوقفت عند أول هجوم علىّ من بعض
الغاضبين ممن لم أترجم لهم. ولو صبروا قليلاً لجاء دورهم جميعاً أو معظمهم في
الترجمة. الترجمة للغتين أجنبيتين فيه من المشقة والجهد ما لا يتخيله القارئ ،
وتحتاج وقتاً طويلاً لإتمامها ومراجعتها ونشرها. وهناك الكثير من المشاريع التي
أخطط لها من الآن لإنجازها واحداً بعد الآخر إن كان في العمر متسع ، فالترجمة
عندي مهمة حياة ، وليست مجرد مشروع أفرغ منه وينتهي دوري بعدها.
أعود لموقع الندوة من جديد لأنه بوابة اتصال عن جدارة، أسألك بصراحة هل لمست أيّ
تفاعل رسمي أو مؤسساتي عربي سواء أكان مقيما حولك أم ما بين خطوط الطول العربية ؟
وكيف كان ذلك! ما هي أبرز النشاطات هذا العام!
كان هدف الموقع
الأساسي هو التواصل مع قراء العربية وأن يكون بوابتهم في الشرق الأقصى. أعتقد
أن الموقع يقوم بهذه المهمة بشكل مرض ٍ. غير أن تفاعل المؤسسات الرسمية مع
أنشطتي ليس بسبب الموقع ذاته ، بل بسبب العلاقات الطيبة التي تجمعني بهم جميعاً
سواء على مستوى القنصلية المصرية في هونج كونج أو السفارة المصرية في بكين أو
المؤسسات الرسمية في مصر. تتجلى هذه العلاقات الطيبة في تعاونهم الكامل معي في
كل ما أقوم به من أنشطة. كان آخر هذه الأنشطة هو دعوتي للشاعر الكبير أحمد عبد
المعطي حجازي للمشاركة في مهرجان تشنجهاي الدولي للشعر وكذلك دعوته لزيارة هونج
كونج وإقامة أمسية شعرية له. أبرز النشاطات هذا العام هو الانتهاء من ترجمة
أنطولوجيا الشعر العربي للغة الصينية والإنجليزية ، وأحاول نشر هذه الأنطولوجيا
خلال هذا العام. أما على المستوى الشخصي فهو مشاركتي في مهرجان مان هونج كونج
الأدبي الدولي في شهر مارس ، وكذلك دعوتي للمشاركة في مهرجان ستروجا العالمي
للشعر في شهر أغسطس من هذا العام وصدور مختارات من قصائدي مترجمة للغة
المقدونية في كتاب خلال نفس الشهر.
سيد دعني أباغتك وأريدها بوضوح (هل أنت نبيّ على أبواب بحر الصين) أم تجد نفسك
مجرّد سفير في مهمة متشابكة ؟ كيف تضع الفواصل بينهما إن تشابكتا!
إن كنتُ سفيراً
للأدب العربي في الصين فهذا بسبب الأنشطة التي أقوم بها ، وإن كنت نبياً فهي
نبوة من نوع خاص قد لا يفهمها إلا الشعراء ، هي نبوة لا تمنح لكل الشعراء فليس
كل الشعراء أنبياء. والنبوة هنا معناها شفافية الروح حين الوحي حتى أن ما يكتبه
الشاعر يتحقق ، وهذا لا يعني أن الشاعر قارئ للطالع ، هذا شيء لا علاقة له
بقراءة الطالع. ولكن كما قال الشاعر الروسي بوريس بسترنك الحائز على جائزة
نوبل: "أيها الشعراء الأعزاء ، حذار أن تتنبئوا بموتكم البائس في شعركم ، فإن
قوة الشعر تجعله يتحقق!" واللقبان لا يتشابكان ولا يتعارضان فالأول مهمة
والثاني هبة لا تمنح لكل شاعر.
التجربة الإنسانية ليست نسخة كربونية، لكن هل المشاعر الإنسانية نسخة كربونية! ما
رأيك في هذه المسألة بعين الشاعر!
الإنسان متفردٌ ،
ولا توجد نسخة كربونية له ، لا على المستوى الجسدي حيث أن لكل منا بصمة أصبع
خاصة به لا تتكرر أبداً ، ولا على مستوى المشاعر حيث أن لكل منا فرديته ، ونهر
الحياة متجدد باستمرار ، وفي كل لحظة من حياتنا هناك موت وهناك ميلاد لخلايا
جديدة ولمشاعر جديدة. على المستوى النفسي يجب على الإنسان أن يعيش كل لحظة
منفصلة عن ماضيها ومستقبلها ، فلا يكون هناك كان ولا سيكون بل ما هو كائن فقط.
إن كان تيار المشاعر الإنسانية يتجدد كل لحظة للإنسان الواحد فكيف يتناسخ في
الناس جميعاً؟ نعم تتشابه المشاعر والتجارب وتمثل بذلك مرجعاً يلتف حوله البشر،
ولكن كل تجربة وكل حالة شعورية متفردة في كنهها وما تفجره في الوجدان.
ما الذي يقاوم في مشهد الشعرية العربية الحالي ويحاول أن لا يموت …: الخوف من
المجهول عند المبدعين العرب وخاصة جيل وارثي غواية وهزيمة ما قبلهم أم هو قوة في
كتلة النص التراثية نفسها ؟
الخوف لا يكون إلا
من شيء نجهله ، فالذي يجهل السباحة يخاف البحار. أما إذا عرفنا الشيء جيداً
لباباً لا قشوراً فلن نخافه ، بل سنستخلص منه ما نراه نافعاً لنا. الجهل هو
آفتنا حتى الآن. قديماً ذكر طه حسين أن المثقف العربي يجب أن يتقن إما اللغة
الإنجليزية أو الفرنسية وأن يقرأ بأيهما قراءته للغة العربية. فكم ممن يتحدثون
عن الشيء الآن قرءوه واطلعوا على نصوصه بلغته الأم؟ الاتصال بحضارة الغير إثراء
لحضارتنا وثقافتنا ، بشرط أن تكون جذورنا ضاربة بقوة في أرضنا ، حتى نكون
قادرين على التمييز بين الخبيث والطيب. مما لا شك فيه أن هناك قوة ذاتية في
النصوص التراثية تأبى الموت ، لأنها نصوص كتبت للخلود لا للفناء. وهذه سمة أي
عمل أدبي عظيم ، فالأدب وحده ، والشعر خاصة ، هو الذي يستطيع المحافظة على
اللغة وبالتالي على هوية الأمة وروحها.
من خلال خطوط تماسك اليومية ، هل من مقارنة بين حضور الشعريات المختلفة اليوم في
الباحة الصينية تحديداً ؟ وما هو معامل التقييم الصيني لها ولقيمتها الانسانية
والحضارية؟ كيف ينظرون للشعر العربي مثلا مقارنة بالشعر اللاتيني أو الروسي !
ما زال للشعر حضورٌ
كبيرٌ في الصين ، فالشعر في الصين له تاريخ عريق. والصين هي الأمة الوحيدة التي
لها أدب مكتوبٌ بلغة واحدة لقرابة ثلاثة آلاف سنة. من هنا فاهتمام الصين بالشعر
اهتمام كبييرٌ تعدى اهتمامهم بالشعر الصيني فقط إلى شعر الأمم الأخرى ، حيث
يحرصون دائماً على ترجمة الشعر الأجنبي إلى اللغة الصينية ، وهناك مكتبة هائلة
من هذا الشعر المترجم لا نجد مثيلها في اللغة العربية. هذا يشير إلى النهضة
التي تعيشها الصين الآن ، فالنهضة الحقيقية تشمل كل جوانب الحياة من ثقافة وأدب
وفن ولا تقتصر على الاقتصاد فقط. وعلى الرغم من أن الصين ترجمت بعض القصائد من
الشعر العربي ولكنه لا يقارن كمًّا بما ترجموه من الشعر الروسي والشعر الغربي.
وهنا يأتي الدور الذي أحاول أن ألعبه لوضع لبنة لسد هذا الفراغ.
أقدمت مختارا على تجربة الانتباه للرسائل الجميلة، وأقمت مسابقة نتج عنها مجموعة
الصديقة المبدعة فاطمة ناعوت لتترجم إلى الصينية كما فهمت، ما الذي دعاك لهذا
الانتباه : هل هو مجرّد تنويع على أنشطتك المتشعبة ونشاطات الندوة مثلا كما يضيف
أصدقاء آخرون مثل هذه النشاطات لمواقعهم العربية في قلب الوطن العربي ، أم إحساسك
بناقص من توفّر مثل هذه الأنشطة مؤسساتيا في هذا المجال في موقعك الصيني الحدودي ؟
لقد أقدمت على هذه
التجربة بحس المترجم قبل الشاعر. لأني كمترجم رأيت أن الكثير من قصائدنا
العربية الجميلة يضيع جمالها بعد الترجمة ، لأن جمال الشعر العربي يكمن بشكل
كبير في اللغة العربية ذاتها. أردت أن أخوض هذه التجربة لأرى كيف يبدو الشعر
العربي المعاصر بعد الترجمة ، ولهذا كانت لجنة المحكمين كلها من الشعراء
الأجانب ، واطلعوا على النصوص مترجمة للغة الإنجليزية والصينية. هذه التجربة
أظهرت لي كيف أن كثيراً من جماليات الشعر العربي ليست إلا فقاعات هواء تنفجر
بمجرد أن تلمسها بقلم الترجمة. هذا جعلني أحرص مؤخراً على قراءة قصائدي مترجمة
قبل نشرها لأن الترجمة تكشف لي عيوبها. ولكي تدرك حقيقة ما أقول اقرأ القرآن
مترجمة معانيه للغة أجنبية ، ستشعر أنك تقرأه لأول مرة ، وستدرك كثيراً من
المعاني لم تدركها وأنت تقرأه باللغة العربية. هذا لأن وعينا يغيب في دوامة
الترتيل واعتياد القوالب اللغوية الثابتة، وتأخذنا موسيقى اللغة فلا ننتبه
للمعاني التي تحملها الكلمات.
تقوم بنقل المواد العربية للندوة وينشر الأصدقاء العرب لديك أيضا مواد لهم، دعني
أسأل : هل يفعل الشعراء الصينيون ذلك أيضا؟ هل يطلبون ترجمة نصوصهم للعربية وليس
فقط إرسالها لك لنشرها باللغة الصينية ؟ وكذلك هل حدث واستخدمت المنتدى عندك في
الطريقين ؟ وأيضا هل يمكن استخدام الصورة الناطقة وتقنية "يو تيوب" المتواجدة في
الندوة الآن في الطريقين؟
الشعراء الصينيون
حريصون جداً على ترجمة أشعارهم إلى اللغة العربية ، ويطلبون مني هذا ، ويسعدون
جداً حين أنشرها لهم في أي بلد عربي. وقد أعربوا عن سعادتهم وتقديرهم بأكثر من
طريقة ، حيث تمنَح لي صلاحيات في هونج كونج والصين لا تمنح في العادة إلا
للأدباء الصينيين لا مجال للحديث عنها الآن حتى لا تفهم أنها على سبيل الفخر،
ولكن فعاليتها وفائدتها على الثقافة العربية ستجني ثمارها قريباً. بالنسبة
لمنتدى الموقع فقد بدأته للأدباء العرب تحديداً ، ولم أستخدم اليوتيوب للشعر
الصيني بعد ولكنها فكرة رائعة أشكرك على تذكيري بها. أتمنى أن أجد قراءات
بالفيديو لشعرائي الصينيين المفضلين.
ما هو مرتكز النص الشعري الصيني اليوم مقارنة بالنص القديم عندهم، هل هو ذات
المرتكز أم تغيّر؟ وكيف أثرت قوة الانفتاح وضغوط العولمة على هذا النص وإلى أين
دفعته كما تراه من موقعك؟ وما هي اهتمامات المتلقي الصيني اليوم على أي حال! هل
غلبته كتلة الصورة المعولمة للاستهلاك كما هو حال العرب!
لقد اختلف النص
الشعري الصيني الحديث عن نظيره القديم اختلافاً كبيراً ، وعلى الرغم من أن هناك
بعض الشعراء الصينيين ما زالوا يكتبون الشعر الكلاسيكي إلا أنهم قلة ولا يقرأهم
سوى القليل. النص الشعري الصيني القديم يرتكز على قوة اللغة والموسيقى التي
تنشأ من استخدام نفس عدد الكلمات في كل بيت ينتهي بقافية. هذه الكلمات القليلة
تعطي كل كلمة مستخدمة قوة هائلة من المعاني يكون من المستحيل ترجمتها في كلمة
واحدة. أما النص الصيني الحديث فهو نصٌّ حرٌّ يستمد قوته من صوره المركبة ،
وعلى الرغم من احتفاظه بإيقاع وقافية إلا أنهما ليسا مركز ثقل القصيدة الحديثة.
هل من كلمة مفتوح الفضاء أمامها ………….؟
أشكرك على هذا
الحوار الذي أتاح لي فرصة اللقاء بقراء "حيفا لنا" وأتمنى أن يجدوا فيما ذكرت
نفعاً لا غثاءً.