ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

يمكنكم إرسال الحورارات الأدبية أو الفنية للموقع إليكترونياً على adab@arabicnadwah.com أو بالضغط على هذا الرابط.

حياتي .. وقضيتي .. وشعري

محمد دكروب

 

أول حوار مع محمود درويش في الصحافة العربية أجراه معه الناقد اللبناني محمد دكروب ونشرته مجلة الطريق عام 1968 في موسكو، أول عاصمة يزورها محمود درويش .
لم أكن قد التقيت به قبلا، ولكني كنت اعرفه من زمن طويل، منذ أخذ ينشر هناك اشعاره التي جمعها في ديوانه 'أوراق الزيتون'.. اتتبع ما يتسرب إلينا من قصائده وقصائد رفاقه الاخرين.. وعندما اجتاز شعره الاسلاك الاسرائيلية الشائكة، وانطلق في العالم العربي خصوصا بعد نكسة حزيران شعلة أمل واصرار وسط اليأس الشعري القاتل في تلك الفترة، شعرنا هنا باعتزاز كبير: هذا واحد منا، عملاق شعري آخر يؤكد طليعية شعرنا التقدمي، ويعطي، هو ورفاقه، المثل الحي علي اندماج الشاعر بشعبه، والشعر بالقضية.
في صوفيا، أيام مهرجان الشباب العالمي، جاء من يقول لي: 'محمود وسميح هنا، يريدان رؤيتك'..
وفي أحد احتفالات التضامن مع الشعوب العربية، التقيت بمحمود درويش.. شاب نحيل، وجه اليف جدا، قريب إلي القلب.. اكتشفنا كاننا نعيش معا من زمان.. هو ايضا يعرف الكثير عني وعن رفاقي الكتاب هنا. قال انه ورفاقه، هناك، فتحوا عيونهم علي الادب التقدمي من خلال 'الثقافة الوطنية' ثم من خلال 'الاخبار'. بعض ما نكتبه في صحفنا، كانوا ينقلونه إلي صحفهم. كانت صحفنا، كما قال، نافذتهم إلي العالم العربي، والشريان الذي ينقل إليه حركة الادب والفكر والكفاح.
يا محمود!.. أنت اسطورة عندنا.
ابتسم بحياء... قال انا انسان عادي جدا، ما اقوم به يقوم به الكثيرون، ولكن صوتي، كشاعر، يصل إلي مسافات أوسع..
التقينا بعدها عدة مرات في صوفيا، وسط ضجيج المهرجان، واهازيجه، وزيناته، ومشاكله... ثم التقينا في موسكو، حيث اتيح لي، في جو هاديء، ان أجري معه هذا الحديث، محاولا ان يكون وثيقة أدبية وانسانية، عن حياة، وشعر، وكفاح شاعر المقاومة العربية في فلسطين: محمود درويش.
في ديوان 'عاشق من فلسطين' تخلصت من شرح تفاصيل الصورة واكتفيت بالاشارة الموحية... ولعل الترامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وانما صار نبضا في الدم.
طفولتي: بداية الماسأة
حدثنا عن نشأتك.. البيئة والجو والناس... وانعكاس احداث تلك الفترة الاولي علي نفسك ومسيرتك فيما بعد...
أضع أمامكم طفولتي، لا لأني من أولئك المولعين بالحنين إلي 'البراءة المفقودة'، ولا لأني انتمي إلي الذين يعاملون مرحلة الطفولة علي انها العنصر الحاسم الذي يحدد اتجاه الشعر. ولكن الطفولة، في مثل حالتنا، اكتسبت ميزة خاصة وستساعدنا، ولو قليلا، علي فهم هذه الصلة التلقائية المبكرة بين الخاص والعام. ان طفولتي هي بداية مأساتي الخاصة التي ولدت مع بداية مأساة شعب كامل.
لقد وضعت هذه الطفولة في النار، في الخيمة، في المنفي، مرة واحدة وبلا مبرر تتمكن من استيعابه، ووجدت نفسها فجأة تعامل معاملة الرجال ذوي القدرة علي التحمل ولاتستثني من مصيرهم. فالرصاص الذي انطلق في تلك الليلة من صيف 1948 في سماء قرية هادئة (البروة) لم يميز بين أحد، ورأيت نفسي، وكان عمري يومها ست سنوات، أعدو في اتجاه أحراش الزيتون السوداء، فالجبال الوعرة مشيا علي الأقدام حينا وزحفا علي البطون حينا، وبعد ليلة دامية مليئة بالذعر والعطش وجدنا أنفسنا في بلد اسمه: لبنان، وحين صحا ذلك الطفل الممزق الثياب من التعب والرهبة كان رأسه يزدحم بالأسئلة التي هاجمته دفعة واحدة وبلا تسلسل. ومنذ تلك الليلة انقلبت الصفة الخاصة لعالم الطفولة، واصبح ذلك الطفل محروما من الاشياء واللغة التي تميزه عن الكبار. والغريب، هو أن تلك الليلة أكسبته شعورا غامضا بأنه، منذ الان، لن يختلف عن الكبار. والتصقت بذهنه وعاطفته كلمات جديدة صار يعرف انها مصيرية: الحدود، اللاجئون، الاحتلال، وكالة الغوث، الصليب الاحمر، الجريدة، الراديو، العودة، وفلسطين... اذ لم تكن به حاجة، علي ما يبدو، لان يعرف بأنه من فلسطين قبل الآن. من هنا، الاحظ أن ارتباطي الاول بالقضية بدأ بتعرفي المفاجيء علي كلمات. وعندما كنت أسأل أهلي عن ترجمة هذه الكلمات، كنت أدخل عالم قضايا جديدة والتصق بها رغما عني، مبتعدا بوتيرة سريعة، عن عالم الطفولة اذا كان يعني ما يحظي به الطفل من تفوق وتمييز، وصرت اقترب، بوتيرة سريعة ايضا، من عالم الطفولة الذي صار يعني المكان الذي ستخلصني العودة إليه من هذه الكلمة الجارحة: لاجيء وهكذا، تحولت عواطفي إلي اسيرة لكلمة 'العودة' التي تعني المصلحة والانتهاء من العار. وصرت انتظر، حيث أصبح الاحساس المرهف بالحرمان والظلم والتشرد مسيطرا علي ذهني الصغير وكل ما ورثته من حب للدنيا استبدله الواقع الجديد بضيق شديد بها. ولهذا أذكر فقدت موهبة اللعب وتسلق الشجر وقطف الازهار ومطاردة الفراش، وورثت عن أهلي عادة التأفف والركون إلي الصمت والتأمل. واستطيع الآن أن أحدد، من بعيد، أن الموهبة الاولي التي قادتني إلي الشعر كانت موهبة التأمل، بمعني انها اوصلتني إلي الارتباط المرهق بهموم الكلمات الجديدة، وسط جو كثيف من الغربة، فعمقت احساسي بالسبب والشكوي، ومن هنا ايضا استطيع أن أحدد منبع حساسيتي الشديدة تجاه العدوان فان طفولتي كانت ضحية عدوان وأجد الآن، خلال هذه المراجعة أن الطفولة لم تكن تعني مرحلة من مراحل حياتي، وانما كانت وطني، وفي وطن الطفولة كنت أشعر بالمراحل: الحرمان الخوف طرح الاسئلة، العزلة، التأمل، ثم الغضب علي شيئين: علي الواقع الجديد، وعلي الذين احتلوا طفولتي وطني، وقادوني إلي هذا الواقع. هذه هي تجربة 'الطفولة المنفية'. وتليها تجربة أخري:
العودة... منفي آخر!
قيل لي في مساء ذات يوم: الليلة تعود إلي فلسطين. وفي الليل، وعلي امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان، الوعرة، كنا نسير.. أنا واحد اعمامي ورجل آخر هو الدليل. والدليل رجل خبير بمسارب الجبال، استغل هذه الخبرة لتصبح مصدر رزق.
في الصباح، وجدت نفسي اصطدم بجدار فولاذي من خيبة الامل أنا الان في فلسطين الموعودة. ولكن أين هي؟ لا. هذه ليست فلسطين تلك الارض السحرية.. الخلاص من الظلم الحرمان، لا تحتضنني كما تصورت. وهذا الصبي العائد، بعد سنتين من الانتظار، يجد نفسه اسيرا لمصير المنفي ذاته، باسلوب آخر وعلي ارض ليست له.. ليست له! هذه هي الحقيقة الثانية التي مازالت، حتي الآن، اعنف يد تحرك احساسي بالمأساة، كما كانت أول محاولة شعرية لي. لم أعد إلي بيتي وإلي قريتي، فقد ادركت بصعوبة بالغة، ان القرية هدمت وحرثت. كيف تهدم القري؟ ولماذا؟ وكيف يعاد بناؤها؟ ثم أجد أن اللغة الجديدة مازالت تلبسني.
اسمي الان: لاجيء فلسطيني في فلسطين!!
وأعود مرة أخري إلي وكالة الغوث والغربة ومطاردة الشرطة لاننا لم نكن نحمل بطاقة هوية اسرائيلية.. لاننا متسللون! واذا كان من المتاح الان تقويم هذه التجربة، تجربة اللاجيء في وطنه، فاني اشعر بانها تبعث علي خطر القتل النفسي بصفاقة اقسي من تجربة المنفي. في المنفي يتوفر لديك الاحساس بالانتظار، وبأن المأساة مؤقتة فتنسم رائحة أمل. وتحمل عذاب المنفي مبرر. والتصور للمنزل والحقل والجمال المنشود والسعادة القصية وغيرها أمر مشروع. أما التجربة الاخري، اللجوء في الوطن. فانه أمر غير مبرر وصعب الاستيعاب في حدود وعي الطفل والصبي. انك تشعر بالقصة والقهر حتي في اجمل احلامك. وتكتسب ملامحك انعكاسات واقع هي اقرب ما تكون إلي الرموز. كنت اشعر باني مستعار من كتاب قديم يخلق في انطباع غامض لاني لا أحسن قراءته.
ولكن الكابوس لايستمر بهذا الشكل. فان 'اللاجيء الفلسطيني في فلسطين' لم يترك 'حرا بحرمانه'. وهنا يضاف عنصر جديد هو عنصر التحدي من جانب السارق، وهو ذو حدين: الحد الاول، يزيد من الشعور بالتمزق، والحد الثاني يفجر هذا الشعور في نقطة ما..
في التحدي المضاد الذي يتطور إلي طريق عمل وكفاح.
عن القصائد الأولي


 

كيف بدأت تتلمس الطريق إلي الشعر؟
حدثنا عن الاشعار الاولي.. القصيدة الاولي التي نشرت لك، وتأثير نشرها علي نفسك، وفي حياتك.. ثم التيارات الادبية والسياسية التي تأثرت بها في تلك الفترة..
لا أذكر متي بدأت، بالضبط، محاولة كتابة الشعر. ولا أذكر الحافز المباشر لكتابة 'القصيدة' الأولي، وان كنت اذكر اني حاولت، في سن مبكرة، كتابة 'قصيدة طويلة' عن عودتي إلي الوطن، حذوت فيها حذو المعلقات، فآثرت سخرية الكبار ودهشة الصغار. واذكر ان بعض الصحف بدأت بنشر محاولاتي عندما كنت في المدرسة الابتدائية، وكنت أحدق طويلا باسمي المطبوع في الجريدة، فاطمح بان يطبع مرات أخري! وخلال دراستي الثانوية صارت كتابة الشعر تحتل الجزء الاكبر من اهتمامي. وكنت سريع التأثر بالشعراء الذين اقرأ لهم مؤخرا. وكانت محاولاتي تتسم بالزخرف والنغم المسموع جيدا، وكان اندفاعي وراء الانسياق الموسيقي ينسيني أو يضيع علي: الفكرة، في تلك السنوات كنت دائم البحث عن نفسي وعن الطريقة الافضل لكتابة، ومن المؤكد ان الرومانسية تستهوي كل ابناء هذا الجيل، ولكن هذا الشعر الجديد الذي نقرأه في 'الاتحاد' و'الجديد' للشرقاوي والبياتي والبغدادي وبسيسو والسياب وغيرهم يشعرنا بعلاقة أقرب ويلهينا بالحرارة لصلته المباشرة بالواقع، فاخذني هذا الشعر إلي أول الطريق. وانفصلت عن حبي الجارف لشعراء المهجر وعلي محمود طه. ولكن لم أجد، بعد، وسيلة التعبير، كان يشغلني في هذه المرحلة كيفية التعبير عن قلقي وتمزقي وغضبي كشاب ينتسب إلي شعب مضطهد ومسحوق، بما يخيل لي انه أفضل الاشكال واقربها إلي القلب. ثم، كيف أجمع بين حبي لفتاة وارتباطي بالقضية العامة. وكانت تلك السن تصور لي ان في الصورة شخصيتين متناقضتين وكنت أتأثر بأي انتصار ثوري في أي مكان في العالم، فأسارع إلي 'تخليد' هذا الانتصار.
انتميت إلي الحزب الشيوعي
فتحددت معالم طريقي
وفي تلك الفترة تعرفنا علي عملية غسل الدماغ الثقافي الذي نتعرض له. اكتشفنا انهم، في المدرسة، يعلموننا عن تيودور هرتسل اكثر مما نتعلمه عن محمد، والنماذج الذي ندرسها من شعر حاييم نجمان بياليك أكبر بكثير من نماذج شعر المتنبي، ودراسة التوراة اجبارية، أما القرآن فلا وجود له، فأحسسنا أن غزوا ثقافيا لنشر العبرية يزحف إلينا ناعما كالافعي، فكان لابد لنا من أن نمنح انفسنا الوقاية، وازداد اقترابنا من الاوساط اليسارية، وصرنا نقرأ مباديء الماركسية التي اشعلتنا حماسا واملا، وتعمق شعورنا بضرورة الانتماء إلي الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعا عن الحقوق القومية ودفاعا عن حقوق العمال الاجتماعية.
وحين شعرت أني أملك القدرة علي ان اكون عضوا في الحزب دخلت إليه في عام 1961، فتحددت معالم طريقي وازدادت رؤيتي وضوحا وصرت أنظر إلي المستقبل بثقة وايمان. وترك هذا الانتماء آثارا حاسمة علي سلوكي وعلي شعري.
عن دواويني وشعري: من المباشر إلي الرمز الشفاف
ديوانك الاول.. اسمه، طابعه العام. ماذا يمثل: في المضمون، في الشكل، في حياتك الخاصة، وفي الشعر العربي داخل اسرائيل لا... الديوان الثاني.. والثالث.. والرابع.
... ماذا يمثل كل ديوان، في نظر النقاد عندكم، وفي نظرك وفي حركة التطور الشعري عندك؟ هل وضعت شعرا وانت في السجن؟
تأثير السجن في نفسك وشعرك..
أول ديوان مطبوع لي، لا يستحق الوقوف. كنت في سنتي الدراسية الاخيرة (18 سنة)، وكان تعبيرا عن محاولات غير متبلورة، صدر عام 1960 واسمه 'عصافير بلا أجنحة'.


 

أما الديوان الثاني 'أوراق الزيتون' الصادر عام 1964 فأعتبره البداية الجادة في الطريق الذي أواصل السير عليه الان، الطابع العام المميز لقصائده هو التعبير الجديد، بالنسبة لشعرنا، عن الانتقال من مرحلة الحزن والشكوي إلي مرحلة الغضب والتحدي، والتحام القضية الذاتية بالقضية العامة، متنقلا من سمة 'الثوري الحالم' إلي الثوري الاكثر وعيا. وتشيع في جو الديوان رائحة الريف، وآلام الناس، والتغني بالارض والوطن والكفاح، والاسرار علي رفض الامر الواقع، وحنين المشردين إلي بلادهم، ومحاولة العثور علي مبرر لصمود الانسان امام مثل هذا العذاب، كما ترون في هذه الاغنية مثلا:
وضعوا علي فمه السلاسل ربطوا يديه بصخرة الموتي وقالوا: انت قاتل!
اخذوا طعامه، والملابس، والبيارق
ورموه في زنزانة الموتي
وقالوا: انت سارق!
ردوه عن كل المرافئ
اخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا: أنت لاجئ!
يادامي القدمين والعينين
ان الليل زائل
لاغرفة التوقيف باقية
ولازرد السلاسل
فحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي.. سنابل!
وقد استقبل الديوان برضا بالغ من القراء والنقاد والشعراء الذين اعتبروه مفاجأة وقفزة في الشعر العربي في بلادنا. ويسعدني أن اذكر أن 'أوراق الزيتون' هو الكتاب العربي الوحيد الذي طبع طبعتين.
'عاشق من فلسطين'
وشاعر في السجن


 

الديوان الثالث هو 'عاشق من فلسطين' صدر عام 1966، أن طريقتي في التناول هنا تختلف عنها في 'أوراق الزيتون' مما نتج عنه تغير في النبرة. صوتي هنا اكثر انخفاضا وهمسا وشفافية.
تخلصت من شرح تفاصيل الصورة واكتفيت بالاشارة الموحية. وحين انظر إلي الاشياء لا التصق بها فقط، وانما اتوغل فيها أو هي تتوغل في. كان وعيي ووجداني يدخلان في معادلة واحدة. ولعل التزامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وانما صار نبضا في الدم. واعتقد ان للتجربة التي خلفت 'عاشق من فلسطين' فضلا علي ما أدعيه. القسم الاكبر من الديوان كتب في السجن أو عن السجن. واظن ان للمكان بعض التأثير علي بناء القصيدة ايضا. ويخيل لي أن كتابة القصيدة في السجن اشبه ما تكون بعملية التقاط سريع أو اصطياد خاطف، وماهر، في نغمة اشبه ما تكون بالدندنة، حيث لا تكون للشاعر هناك أدوات الكتابة المادية التي اعتاد عليها. وقد يكون العامل المريح الذي يكتب فيه الانسان. شاء أم لم يشأ، أحد العوامل التي تدفعة إلي العناية الشديدة بالاناقة. من هنا تجد ان قصيدة السجن قصيرة، مكثفة، وتحتوي علي فراغ جميل ذي ايحاء، فانك تشعر ان هذا الشاعر السجين لم يقل كل شيء، لم يستهلك تجربته، ومازالت هنالك ظلال غير مرئية. وهذه الميزة ميزة الانطباع بوجود ما لم يقل تعجبني كثيرا في الشعر، كقاريء من حقي المطالبة بأن يتعدي دوري جهاز الاستقبال، إلي المشاركة في العملية الابداعية. ومع ذلك، فاننا نظلم المسألة اذا جعلناها وقفا علي عنصر المكان الا بقدر ما يعنيه من وعاء للتجربة أو مسرح لها. ان السجن يرغم المرء علي المراجعة والتأمل في كل شيء، وكون السجين مقطوعا عن العالم الخارجي ومحروما منه يحمل ارتباطه العاطفي والفكري به اكثر التحاما وحميمية. كل شيء في هذه الدنيا الطليقة خارج الاسوار يصبح ذا ذكريات ومواعيد، لدي موعد مع كل شيء.. عندما يطلق سراحي سأقف طويلا لكي امتليء بزرقة البحر وملوحته. وفي السجن 'اكتشفت' الشجر بكل ما فيه من مودة، كرد فعل للون الرمادي، وهكذا تصبح الالوان مثار اهتمام من نوع جديد. مازلت اقول ان النفي الحقيقي للانسان هو ان تبعده عن الشجر. كل عشية تتحول إلي رمز. وفي السجن تكتشف علاقاتك الحميمة بالناس، ويزداد الانتماء حنانا، وتري اهلك من زاوية أخري لم تنتبه لها من قبل. لقد كنت مضحكا جدا عندما كتبت إلي أهلي: 'اكتشفت اني احبكم بلا حدود. لاتؤاخذوني علي هذا الاعتراف'، ولكني كنت صادقا. ملخص القول ان العالم الخارجي الذي يتحول إلي وحدة رمزية واحدة يتداخل في السجين من أجل قضية، وتصبح كل العناصر مشاركة في هذه القضية التي يلح عليك السجن بالتشبث بها.
هذا ما حاولت أن أكتب عن حنيني إليه بطريقة قتلت فيها عنصر الحنين، لان السجن لم يبعدني عن الناس والاشياء والقضية، وانما جعلني اهضمها بشهية ونهم.
وهكذا، أري اني خطوت خطوة نحو المزج بين الاشياء مما استدعي صيغة اكثر مرونة تسع لحركة المزج، اسفرت عن انزال ضربة، غير مقصودة لذاتها، ببناء القصيدة الكلاسيكي. وقد حدث ذلك بما يشبه التلقائية، اذ لا خيار لك وسط هذه الحركات والرموز في ان 'تقرر' شكلا ما، فالعملية هنا هي التي اخذت اطارها وشكلها.
'آخر الليل..': مشكلة
الرمز.. والوضوح.. والقراء


 

آخر دواويني هو 'آخر الليل'. وارائي في غني عن تقديمه لكم لانه نشر في العالم العربي علي نطاق واسع، ولكني اشعر بان مسافة التطور الفني، بينه وبين 'عاشق من فلسطين' أوسع من المسافة الممتدة بين 'عاشق من فلسطين' و'أوراق الزيتون'، اشعر ان كلمات 'آخر الليل' اكثر ظلالا وايحاء، وصار الرمز، عندي، اغني بالكثافة، وان كان الجو العام شفافا. واستطعت، كما يبدو لي، أن أحقق الصداقة بين الحلم والواقع، بين سبب الرمز ومدلوله، وتلقائية العلاقة بين الفكر والوجدان، وفي الحوار القاسي أو الصراع بين الموت والحياة انتصرت علي الموت دون ان اجعل ايديولوجيتي تتدخل، ظاهريا.
ولكن 'آخر الليل' الذي اعتبره افضل ما كتبت، استقبل بفتور علني من اغلبية القراء في بلادنا. وقال لي عشرات من المثقفين: 'يامحمود! عد إلي الوراء. اذا كان هذا هو التقدم الفتي فليتك لم تتقدم'.. وقيل لي، بشفقة، ليتك لم ترحل عن القرية.. هذا الشعر غير مفهوم. ومجمل رأي القطاع الاوسع من القراء هو ان هذا الديوان يمثل بداية سقوطي. يضاف إلي ذلك ان الذين يكتبون النقد في بلادنا، عادة، لم يعيروا الكتاب أي اهتمام. وكتب احد رفاقي مؤنبا: 'هل سيأتي كل قاريء إلي الشاعر ليفسر له هذه الرموز، أم يبحث عن منجم' وأعرب عن أسفه لانجراري وراء الشعراء الرمزيين!!
من المكابرة ان اقول اني لم اشعر بعذاب نفسي. هل يترتب علي، لكيلا ينقطع التفاعل بين شعري وبين الناس، أن أعود إلي التعبير المباشر، والحث الصريح علي الكفاح والتمسك بالامل والعقيدة؟ هل اعلل هذه الظاهرة بعدم وجود نقاد جادين؟ هل هذه الظاهرة تطرح قضية 'التناقض' الفني بين متطلبات التجديد عند الشاعر وبين مدي الامكانيات الفنية المتوفرة لدي قطاع واسع من الناس؟ هل أصبحت صوري ورموزي وطريقة تناولي معتمة؟ هل غامرت كثيرا؟ ان هذه الاسئلة تشغل بالي بشكل ملح، خاصة اني اعتبر نفسي شاعرا ثوريا يخاطب الجماهير ويلتزم بقضية الجماهير ويكتب من أجل الجماهير. ويطرح امامي سؤالا للمستقبل: كيف أوفق بين شق الطريق امام الكلمة لتمارس مفعولها بين الجماهير بصفتها كلمة ثورية من ناحية، وبين متطلبات الشروط الفنية المتطورة لهذه الكلمة؟ ثم، انني مليء بالإحساس في ان 'اللعبة الفنية'، عندي، مكشوفة خلف منديل شفاف.
معارك.. ضد السلطة
والعدمية وانعزال الفنان


 

تخوضون معارك كثيرة.. حدثنا عن المعارك الفكرية
والاجتماعية التي مارستها... وعن محاربة السلطة لكم ولشعركم... وعن السجن...
كل هذه المعارك تقريبا تدور، مباشرة، في دائرة المعركة السياسية، سواء كانت السلطة الطرف الآخر والمباشر، وسواء كان الفكر الرجعي أو الانتهازي أو العدمي محفوفا بعطف السلطة أو تأييدها أو لا يعدو كونه جندا من جنودها. ولعل مكافحة سعي السلطة إلي اشاعة العدمية القومية في صفوف الجيل العربي الجديد قد اصبحت احدي معاركنا اليومية.
وتكرس السلطة جهودا خاصة لاضعاف قوة جذب حزبنا للشباب بالهجوم المستمر علي الفكر اليساري وعلي الاشتراكية، داعمة هذا الهجوم باساليب الارهاب غير الاخلاقية، وبفتح الابواب علي مصارعيها لكل أنماط الحياة الامريكية وثقافتها.
وتوحي السلطة مثلا لاحد مأجوريها، بين الحين والآخر، لاختلاق مناقشة واسعة حول: 'هل العرب يؤلفون شعبا؟' وتملأ صحفها بالمصادر 'والبراهين والأدلة العلمية القاطعة!' علي أن هذه الشعوب المسماة غريبة ليست عربية!! ولم يكن من الطبيعي ان نجلس مكتوفي الايدي أمام مثل هذه الاسئلة، ودخلنا معركة طويلة مع أصحاب هذا 'الفكر'. أورد ذلك فقط علي سبيل المثال. ثم إننا نحارب التثقيف الرسمي للشباب اليهود بروح الشوفينية والغطرسة القومية والتفوق العرقي وتزييف التاريخ، سواء كان ذلك في برامج التعليم أو الصحف أو الادب والفكر.
وفي الميدان الادبي، دخلنا عدة معارك حول الالتزام في الادب، وما هو الأدب؟ وهل هو الحياة أم لذاته؟ وغيرها من المواضيع التي اشغلت حياتنا الادبية، بشكل ملح، ذات يوم. ثم ان لابد من دخول معركة حول قضية كانت قضية الساعة: قضية الشعر الحديث، وغيرها من المناقشات الدائرة حول قضايا الفن والادب، والروايات العربية الرخيصة التي أغرقت المكتبات.
أما محاربة السلطة لشعري وشعر زملائي فقد كانت السلطة، في البداية، تجهد لجعلها غير مرئية بكل ثقلها، خاصة ان السلطة تحرص كثيرا علي مباهاة العالم 'بواحة الديمقراطية في صحراء الشرق'!! 'أكتب ما تشاء وأدفع الثمن الذي نشاء' هذا هو الشعار غير المكتوب. ولكن، ما هو الثمن؟ لن تعمل، لن تمارس حرية التجول، ولن تترك طليقا، وستبقي عرضة للاعتقال. فان انظمة الطواريء الانتدابية التي لاتزال سارية المفعول، تتيح للسلطة العسكرية ممارسة كافة الاجراءات ضد أي مواطن وهي في حل تام من تبيين الاسباب أو تقديمه للمحاكمة. وهكذا أصدرت السلطة العسكرية أوامر الاقامة الاجبارية ضد الشعراء العرب التقدميين بدون استثناء. وأنا، مثلا، لا أستطيع مغادرة حيفا منذ أربع سنوات. وسميح القاسم أمر بملازمة بيته منذ غروب الشمس حتي شروقها لمدة ثلاثة أشهر متتالية. وتوفيق زياد وسالم جبران محددا الاقامة في منطقة الجليل. ثم، هنالك المراقبة العسكرية علي طبع دواوين الشعر: لايستطيع الشاعر أو صاحب المطبعة ان يطبع أية مجموعة شعرية الا بعد ان تجيزها المراقبة العسكرية. ومن الواضح ان الرقيب لايرضي أن يكون عاطلا عن العمل أو كسولا!!، ثم، هناك الفصل من العمل اذا كنت موظفا: عيسي لوباني وسميح القاسم وغيرهما طردوا من جهاز التعليم. ثم، هناك السجن، رغم ان السلطة لم تجرؤ، حتي الآن، ولمتطلبات الدعاية، علي محاكمة شاعر لانه كتب قصيدة، وقد حاولت تقديمي إلي المحاكمة في عام 1961 علي قصيدة عن غزة، واستدعيت للتحقيق وقدمت لي لائحة اتهام، ونشرت الصحف ان العقوبة ستبلغ خمس سنوات سجن، ولم أحاكم حتي الآن. ولكني حوكمت لاني سافرت إلي القدس لالقاء قصيدة وسجنت شهرين.
وأذكر أني في عام 1961 وجدت نفسي في غرفة التوقيف لمدة عشرة أيام بدون تهمة وبدون تحقيق. وفي حرب حزيران اعتقلت مرة أخري.
ولكن السلطة لاتكتفي باتخاذ الاجراءات المباشرة ضد الشاعر. أنها تمارس المعركة النفسية عن طريق الصحف، فحين أحظي بإشارة صحفية في صحيفة. حكومية أجد نفسي من خلالها شبيها بالوحش، فليست معركتي الا معركة عنصرية.. أعاني مركبات الحقد وكراهية اليهود وغيرها من الالقاب!! واني اتصدي لهذه الصورة باعصاب باردة، بالتمييز بين السلطة الصهيونية وبين اليهود. أذكر أن صحيفة 'دافار'، مثلا، وصفت قصيدة لي عن الحرب بانها 'طعن لافضل ما لدي الشعب اليهودي من قيم'، فقلت 'لدافار': انكم أنتم الذين تشتمون شعبكم، فأنا احتج علي العدوان والقتل والتدمير والتنفس من رئات الآخرين، فتقولون لي: 'انك تطعن افضل ما لدي الشعب اليهودي من قيم'.
ومن المفيد ان نعلم ان التحريض علي شعرنا ليس من اختصاص الصحفيين فقط، واذكر ان نائب وزير الدفاع السابق شمعون بيريس حين أراد البرهنة علي ضرورة بقاء الحكم العسكري علي العرب لم يجد الا شعرنا سببا كافيا لاستمرار هذا الحكم!
حزيران..
الدماء والدروس


 

حرب حزيران.. كيف واجهت وطأتها؟.. تأثيرها في حياتك، وموقفك.. والطابع الذي اتخذه شعرك في تلك الفترة المريرة، وبعدها.
أدبيا، لم تخلق تأثيرا مفاجئا، ولم تقلب افكاري رأسا علي عقب، ولم تحطم قيمي كما فعلت، ومن الخير انها فعلت، بالكثيرين من الشعراء العرب خارج بلادي. لم أكن جالسا في برج حمام لكي تقنعني، بمثل هذا الدليل الفادح، علي ضرورة النزول إلي الشارع. ولكنها كانت مكاشفة جارحة. وأضافت، لمن لم يصدق حتي ذلك الحين، برهانا جديدا علي ضرورة ممارسة العمل والفكر الثوريين الحقيقيين، وعلي ان الادب ليس سلعة أو متعة.
وهذا ما كنا نؤمن به، حتي النخاع، قولا وعملا، وما زلنا بعد حزيران أشد ايمانا. ومن الضروري ان يستفيد منها اولئك الذين سودوا اطنانا من الورق ضد التزام الأديب بقضية، وضد تسلح الاديب بفكر ثوري حقيقي. ومن الموجع حقا ان يحتاج أديب إلي مثل هذه الكارثة لاكتشاف ما يشبه البديهيات، وأذكر اني قلت لفدوي طوفان، في لحظات لقائنا الاول في حيفا: هل ترين يافدوي ان شهرا واحدا من الاحتلال قد حل، عندك، كل المناقشات الطويلة حول الشعر؟ مشيرا إلي الانعطاف الواضح في شعر فدوي بعد احتلال نابلس. وقلت لها، بكثير من الوجع، 'آمل ان يستفيد الجميع مما حدث، لئلا يأتي نزار قباني، مثلا، لزيارتنا'!
من الواضح، أن أحدا لايحاول التخفيف من قبضة الذهول، وتفتح الجراح الجديدة، والجراح القديمة التي تخفر مرتين أو ثلاث مرات. وأنا شخصيا، وأنا قابع في السجن، تعطلت اعصابي. وبعد خروجي لم اجرؤ علي القيام بمحاولة الكتابة، لأن التشنج والرؤية الفارقة في الدم والحروق لم تتح لي بلورة المدخل الذي سأنفذ منه إلي مثل هذا الموضوع المهلك، والصعوبة الفنية في مثل هذه المواضيع هي العثور علي فتحة ضيقة تتمكن من السيطرة عليها والتطلع إلي ساحة الموضوع وآفاقها. ويبدو أن سخونة الوجدان الزائدة عن الحد المعقول تفسد العملية الابداعية بقدر ما تفسدها برودة العقل الزائدة عن الحد المعقول. بعد شهور وجدت نفسي اكتسب بهدوء ظاهري هذه القصائد التي يحتويها ديوان 'آخر الليل'. وقد سهل علي العملية، إلي حد ما. إدراكي انه لم يتبق لي شيء.. الا العقيدة والكلمة. فلماذا تسقطان؟ وهما وسيلتاي للصداقة مع الحياة، والتعويض الباقي.
لقد استطعت في هذه القصائد، واقول ذلك بنبرة فخر، ان انقذ انسانيتي من الموت، في تلك الفترة العنيفة التي هددت انسانية الانسان بأفدح الاخطار. عندما انفجر الحلم، وجدت اني مازلت متشبثا بانبل تراث: انسانيتي.
شعر المقاومة
احتجاج وتغيير


 

ان شعرك وشعر زملائك يعتبر جزءا من شعر المقاومة العربي والعالي.. حدثنا عن مفهومك انت لشعر المقاومة.
شعر المقاومة، كما افهمه، تعبير عن رفض الامر الواقع.. معبأ باحساس ووعي عميقين بلا معقولية استمرار هذا الواقع وبضرورة تغييره والايمان بامكانية التغيير. قد يبدأ هذا الشعر، غالبا، بالتعبير عن الالم والظلم، ثم الاحتجاج والغضب والرفض. ولكن لكي يفعل هذا الشعر مفعوله عليه ان يكون عملية للتغيير فيتسلح بنظرية ثورية ذات محتوي اجتماعي، وهكذا يجد نفسه شعرا جماهيريا. ان شعر المقاومة، بطبيعته. شعر ثوري. وكون هذا الشعر جماهيريا قد يهلك أشباه الشعراء فنيا، عندما تصبح النية الطيبة والمباشرة والخطابة الرنانة هي العناصر الاساسية في شعرهم. ان 'اللعبة' الفنية في شعر المقاومة تصبح اكثر انفضاجا. وعلي الشاعر ان يتداخل مع الواقع وينسق بكلمات متحررة من الهجاء والخطابة المباشرين. وأري ان من اتقي ميزات شعر المقاومة، عادة، الصفاء الانساني الشامل، فصرخة الانسان المضطهد المقاوم في أي مكان هي صرخة انسانية تخص كل انسان، والظلم والسجن والقتل والاضطهاد وقائع معادية للانسانية غير منحصرة في حدود جغرافية، ومقاومة الانسان لها هي عملية انسانية نبيلة. ويتمتع شعر المقاومة، عادة، بحساسية شديدة بالترنح كجزء من تمسكه بجذور عميقة تعينه علي الصمود وعلي تبرير هذا الصمود واحتقار هذا الظلم الطاريء امام جبروت التاريخ.
وأنا أعتبر نفسي امتدادا نحيلا، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة ابتداء من الصعاليك حتي حكمت ولوركا واراغون الذين هضمت تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدوني بوقود معنوي ضخم.
عن الرمز والشجر
الذي صار بلون الدم


 

في شعرك كثير من الرمز، وذكر لاشياء الطبيعة (الزيتون والبرتقال والشراب) لها عدة ابعاد رمزية وايحاءات... يقال: ان هذه الوسائل الرمزية 'تبعد' الشاعر الواقعي عن واقعيته... ما رأيك في هذا، من خلال تجربتك الشعرية نفسها؟
أشياء الطبيعة هذه، هي التي غالبا ما تتحول إلي الرمز عندي، فالبرتقال والزيتون، مثلا، هما من أقوي معالم الطبيعة في بلادي، ولكنهما ليسا طبيعة مجردة وبالمناسبة، انا لا أتحمس لشعر الطبيعة الوصفي الذي يمجد الطبيعة علي اعتبار انها لوحة جميلة. ان هذه الطبيعة تستمد حيويتها ومدلولها وقيمتها من خلال تعامل الانسان معها. ان اهتمامي بالبرتقال والزيتون مستوحي من واقع الانسان الذي غرس هاتين الشجرتين وساقهما بالعرق والامل منتظرا ثمار ما اعطي. هذه العلاقة بين الزارع والشجرة تحمل مدلول استمرار الحياة والامل والوطنية والتلقائية. ولكن، وبشكل مأساوي، قصمت هذه العلاقة بعسف وبكثير من الدم الذي لم يعد يبرر لي المحافظة علي حرفية لون الشجرة مثلا، بعد ان اختلطت أوراقها الخضراء باحمرار الدم وسواد الليل. والمزارع لاقي أحد ثلاثة مصائر: إما الموت عند الشجرة، وإما الهجرة الاجبارية عنها فالتصقت بذاكرته واصبحت رمزا للوطن وانتظار العودة، وأما بقي امامها دون أن يملك القدرة علي احتضانها واستمرار العلاقة بها، فتحولت لديه إلي نبع من الظمأ أو إلي امرأة تسبي امام عينيه. هكذا، لم يبق من الشجرة الا مدلولاتها، أي ان الواقع تحول إلي رمز أو ايحاء. هذا الرمز ايضا ليس جامدا.. امرا مفروغا منه، انه يتحرك مع تطور البيئة هذا الانسان بما يفرزه هذا التطور من حالات نفسية. ولكن الرمز الذي يحافظ علي 'حقيقته' في كل حركات الزيتون، في نهاية المطاف، هو التشبث في التراب والقدرة علي مواجهة الزمن وطول النفس والخضرة الدائمة أخيرا.
من الواضح، ان هذه الصورة لم تأخذ ابعادها الحالية عندي منذ اول الطريق. وقد توصلت إليها بعد احساس بضرورة التخلص من تفصيل الصورة الشعرية، والاكتفاء بما يشبه الرمز للتدليل علي الواقع الحسي دون الاستغناء عنه كليا.
الرمز عندي، كما اراه، ليس مبهما. انه يكتشف بسرعة، وهو في أول الامر وآخره بدليل التعبير المباشر.
هنالك تبرير آخر، لعله قادر علي اعطاء جواب آخر علي عضوية الترابط بين الصيغة والموضوع، كان من دوافع لجوئي إلي الرمز، في البداية، محاولة تخطئي الواقع الذي لايتيح لي امكانية الحديث بشكل مباشر، لاسباب سياسية، فكان لابد لي من ممارسة 'الاحتيال' الفني لعكس واقعي.. وهكذا ترون ان الرمز كان ضرورة وحاجة ثم تحولت إلي طريقة تعبير.
لماذا الرمز وانا واقعي؟ لعل ما قلته عن توصلي إلي الرمز يعطي الجواب، ثم ان استخدامي الرمز جاء لغناء واقعيتي ولخدمتها. والواقعية، كما افهمها، هي طريقة في فهم الحياة وعكسها واعادة خلقها، وليست وسيلة تعبير ميكانيكي جاهز. ولذلك، لا أري تناقضا بين التزامي بقضية وعقيدة وبين سعي إلي ما يبدو لي انه طريقتي الذاتية في التعبير.


 

في شعرك ملامح من الاساطير والحكايات الشعبية.. ما هي الاساطير والحكايات التي اثرت بك؟
هذه الملامح ليست ساطعة في شعري. وإذا كنت ألجأ، أحيانا، إلي الاساطير فليس ذلك لاعادة خلقها، وانما كنت احاول 'اختطاف' الرمز منها عندما يكون هذا الرمز صالحا لخدمة موضوعي والتوافق مع ذاتيتي، أي عندما اشعر بالتشابه بين ايحاء ذلك الرمز والايحاء الذي اريده.
كنت مولعا، بشكل خاص، بالاساطير اليونانية وبقصص القرآن والتوراة. وقرأت، بشغف، حكايات الف ليلة وليلة.
عن الشكل الجديد للشعر
والالقاء امام الجماهير


 

كيف يتم التوفيق، عمليا، بين الشكل الجديد للشعر وبين الضرورة التي تواجهونها باستمرار لالقاء الشعر بين الجماهير العربية داخل اسرائيل؟.. حدثنا عن تجاربكم في هذا المجال.
بودي القول ان مهرجانات الشعر العربي في اسرائيل قد تحولت، ذات مرة، إلي احتفالات شعبية ينتظر الناس مواسمها. وأنا اذكر تلك الفترة بفرح حقيقي. كانت ساحة القرية أو المدينة أو دار السينما تزدحم بالناس من جميع الفئات والاعمار للاستماع إلي الشعر بحيوية وتجاوب واضح، حتي ضاقت السلطات ذرعا بهذه الظاهرة 'الخطرة' وقاومتها بمختلف الوسائل ولجأت أخيرا إلي منع الشعراء من الانتقال من أمكنة سكناهم.
لم يكن المستمعون يفكرون ببناء القصيدة بقدر اهتمامهم بما تحمله من الصور والمعاني والايحاءات، واذكر أن القصيدة الاولي المنتمية إلي الشعر الجديد التي سمعتها في مهرجان شعري كانت للشاعر حنا ابوحنا، وقد استقبلت بحماس منقطع النظير لرشاقتها الفنية وبساطتها العميقة ومحتواها الثوري، أن انصار 'الشعر القديم' في بلادنا متشددون حين تكون القصيدة مطبوعة، ومتساهلون أشد التساهل حين تكون مسموعة، وهذا يؤكد لي ان إحدي صعوبات الشعر الجديد، بالنسبة لكثيرين من القراء، هي طريقة قراءته المتعسرة، فلا يعرفون متي تبدأ الفقرة الجديدة ومتي تنتهي الصورة الاولي لتلحقها الصورة الثانية وهكذا... وبالنسبة لي، فوجئت ذات يوم حين أصر المستمعون علي الاستماع إلي قصائد مكتوبة بالطريقة الجديدة. واذكر اني حين ألقيت، لأول مرة، قصيدة غامرت في بنائها الجديد هي 'بطاقة هوية' اجبرت علي إلقائها أربع مرات متتالية. ونتيجة تجارب عديدة ادركت ان القصيدة الانسانية، مهما كان بناؤها، يمكن ان تلقي امام الجماهير، بدون أي حرج. ثم ان القصيدة الطنانة الرنانة تخلق جوا ضوضائيا، بينما القصيدة الجديدة تنشر، بسرعة غريبة، جوا من الذهول الذي يحبه الشاعر في مستمعيه ولا أقول ان كل المستمعين يفهمون، دفعة واحدة، كل ما في القصيدة، ولكنهم يعيشون جوها ويفكرون بها. واعتقد ان علي الشعراء الجدد، لكي يعززوا مكانة الشعر الجديد، ان يزيدوا من إلقاء الشعر للجماهير لكي تعتاد عليه وتتحرر آذانها من النبرة الضخمة القديمة التي اعتادت عليها وتوارثتها جيلا بعد جيل.
التيار التقدمي هو الحاسم
بين الكتاب والشعراء العرب


 

حدثنا عن أوضاع وتيارات الحركة الفكرية والادبية للكتاب العرب داخل اسرائيل.. وهل يوجد من باع نفسه للشيطان وراح يروج للمفاهيم التي تخدم السلطات؟
استطيع ان اقطع، بسهولة وبسرعة، بأن التيار التقدمي هو التيار الحاسم في حركتنا الثقافية. ومن دلائل هذه الظاهرة هو ان التيار الاخر لايملك الجرأة الفكرية علي مواجهتنا. ان التيار الرجعي عديم النفوذ، وقد شاءت الصدفة المدهشة ان تكون العناصر الرجعية فقيرة المواهب. لنأخذ الشعر، مثلا، وهو وجه الادب العربي في اسرائيل. ان كل الشعراء المعروفين والموهوبين، وبدون استثناء، ليسوا تقدميين فحسب، ولكنهم ينتمون إلي الحزب الشيوعي. ان المعركة عندنا تدور بين الشعراء التقدميين والسلطة مباشرة، والعكاكيز الثقافية التي حاولت السلطة الاعتماد عليها كانت أضعف من اية مواجهة. فنجمت عن هذه الحقيقة ظاهرة جديدة هي ظاهرة الصمت. اننا نجد فئة من الموهوبين تعاني ازمة فكرية ونفسية أوقوفها امام احد اختيارين: إما الكتابة. والكتابة عندنا يشق، عليها الانفلات من الواقع الخشن، وأما الاحتفاظ بلقمة العيش والسلامة. وقد اختارت هذه الفئة الاختيار الثاني، فصمت البعض صمتا تاما، وتحفظ البعض من المواجهة.
أما العناصر الرجعية فانها تسعي إلي ترويج فكرة عدم جدوي الادب الواقعي، واشاعة اليأس والتشكيك، ولكن منابر هذه العناصر تهاوت، فان كل المجلات الثقافية الحكومية المدعومة بميزانيات ضخمة قد اضطرت إلي الاحتجاب، لا بسبب افلاسها المالي وانما بسبب افلاسها الفكري وعجزها عن كسب الانصار من الكتاب والقراء ان هذه الظاهرة ظاهرة فشل المجلات الحكومية، تثبت قوة نفوذ التيار التقدمي في أدبنا الإنساني المعبر عن مشاعر الجماهير وتطلعها إلي حياة أفضل متحررا من الشوفينية ومن العدمية القومية. ومن أشد الادلة علي ذلك ان صحفنا الشيوعية 'الاتحاد' و'الجديد' و'الغد' ذات الموارد المالية الفقيرة تتمتع بتأييد القراء وعطفهم.


 

ما هو الشعر، بالنسبة لك؟


 

هل تقرأ كثيرا؟
ماذا تحب ان تقرأ بشكل خاص؟..
ولماذا؟
في السنوات الاخيرة صارت قراءتي خاضعة لبعض التنظيم، فانا أولي الدراسات النظرية والفكرية والسياسية المتعلقة بقضايا الحركة الثورية وهموم العصر المرتبة الاولي من الاختيار لأتمكن من شحذ سلاحي الثقافي ومعرفة العالم الذي اعيش فيه وايجاد مبرر لكفاح الانسان. ولعل اهتمامي الخاص بالدراسات السياسية والتاريخية ناجم ايضا عن طبيعة عملي الصحفي.
وفي الميدان الادبي احاول الموازنة بين حاجتين ماستين: دراسة الآداب القديمة وقمم الكلاسيك العالمي، وملاحقة التيارات الادبية والفنية المعاصرة في العالم. وانا مولع بمطالعة السير الذاتية لانها تحتوي علي الفائدة والمتعة والكشف عن خبايا النفس. ولعلي احتار بين ايثاري للشعر ام للمسرح، لاني مفتون بكل ما يتعلق بالمسرح. وبالمناسبة، لا أري الافلام السينمائية ولا اقرأ عنها رغم ما اتعرض له من نقد الاصدقاء وسخريتهم، واعتبر نفسي جاهلا في هذا الموضوع. وأحب ان اكون حريصا علي مواكبة الادب العربي الحديث والادب العبري الحديث.


 

هل لك تجارب، غير الشعر، في العمل الابداعي؟.. رواية.. قصة.. مسرحية.. أي شيء... حدثنا عن هذه التجارب سواء نشرت اشياء منها.
لم أحاول كتابة القصة أو الرواية، ولايبدو لي اني سأحاول رغم شغفي الشديد بقراءتهما. ولكنني مشبع بالرغبة في محاولة كتابة مسرحية شعرية.
احب كتابة الادب الصحفي، والريبورتاج، وتسجيل انطباعات عن الكتب والاحداث والامكنة، وقد كتبت مئات المقالات من هذا النوع. ولكنني في السنة الاخيرة لا أكتب إلا المقال السياسي أو التعليق، واتمتع بكتابة الاخبار السياسية.


 

ماذا تكتب الآن؟
وما هي مشروعاتك؟
اكتب، في هذه الفترة، عن الحب الذي يولد وسط قضية، فيحمل ملامحها وهمومها ويصبح جزءا لايتجزأ منها. أريد أن أكسر الحائط الذي يفصل بين العاشقين وبين الشارع. فالعاشقان ليسا عاشقين فقط، ولكنهما ضحية واحدة وأمل واحد وكفاح واحد. لقد تحدثنا كثيرا عن التحام الخاص بالعام، ولكن هذه الظاهرة أصبحت تأخذ شكلا تلقائيا عندي خاصة في الاغاني التي اكتبها الان. ان طعم العاشقين يحمل مذاق الواقع الخشن.


 

أي دور تطمع ان تؤديه، في الشعر، وبواسطة الشعر؟
... ان انقل قضية شعبي، بكل ابعادها، إلي الصفحات التي تستحقها في ديوان الشعر الإنساني، فهذه القضية حلقة من صراع الانسان المسحوق ليأخذ دوره الذي يستحق في الحياة وفي نشاط البشرية.
ومن الظلم أن أطالب غيري بتأدية هذا الدور. ومهما يكن حجم الآلة التي أعزف عليها صغيرا، فان لها مكانها في التشييد الانساني الشامل.
ان اصوات الشعراء القادمة من انحاء العالم، مجتمعة، هي التي تؤلف هذا النشيد. وتمسكي بهذه الآلة الفلسطينية لايتنافي مع وعي لشمولية الكفاح الانساني. ومجموعة الاشجار هي التي تصنع الغابة!


الحوار الأخير في الباييس الإسبانية:
الموت أفضل من حياة تحت الاحتلال

شيرين عصمت


كان يجد في المنفي سلواه.. كان يخفي وراء الحدود الضيق، الرعب والأمل. وعندما عاد إلي وطنه حمل داخله منفاه الذي صاحبه طوال حياته حتي داخل أرضه. وفي الأوقات الصعبة كان محمود درويش يضحك ويقاوم.. فهو شاعر من الطراز الأول. وجلد في عام 1941 في قرية فلسطينية تسمي البروة.. وقد مجحيت هذه القرية من الخريطة بسبب المليشيات الإسرائيلية بعد مولده بسبعة أعوام. عاش بعد ذلك متنقلا بين رام الله وعمٌان، يعيش أحيانا في بيروت أو يسافر إلي القاهرة. وقد كان هذا هو آخر حوار له نجشر في جريدة الباييس الإسبانية، أجراه في مارس الماضي الصجفي الاسباني خوان ميجيل مونيوث.. تحدث فيه عن الشعر، عن المنفي، عن الوطن.. فلسطين التي أصبحت بالنسبة له رمزا لكل شيء.. للحب، للعبث، للولادة، للنفي... وحتي للموت.
من أجل العودة إلي وطنه إحتاج إلي تصريح من الحكومة الإسرائيلية.. ومن المرات الناردة منحته التصريح.. أحيانا أذهب لأري الأرض التي كان فيها ذكرياتي.. فهناك موطن لغتي . يعلق محمود درويش الذي إستقبل الباييس في رام الله من أجل طبعة كتابه الإسبانية الجديدة (مختارات شعرية) والتي ترجمها لوث جوميث جارثيا. وكان حلمه هو : جعل شعري أفضل وكتابة شعر خالص. و لتحقيق هذا يجب أن تتخلص من ضغط التاريخ.. برغم أنني أعرف أنه أمر مستحيل. أريد أن يكون شعري قريب إلي الموسيقي.. شيء يمكن أن يفهمه الكل. وأن يصبح وطني حر.. وقتها أستطيع أن أقول أشياء طيبة عن إسرائيل.. وأستطيع أن أختار المنفي لو أردت. أتمني أن يحظي وطني بحياة طبيعية.. فلا أريد أبطال ولا ضحايا . ويشرح درويش أن شعره ليس سهلا.. من الضروري معرفة أساطير الشرق الأوسط. فأنا لا يعجبني كتابة قصائد وحيدة المعني.. فيجب أن تحمل تفسيرات كثيرة . ولأن القضية الفلسطينية في تطور دائم.. فهو يتصدي الآن لموضوعها.. أعتقد أنه لايوجد إنقطاع بين الماضي والحاضر.. فمن الممكن أن تجد نفس المصادر علي طول أعمالي. لكني الآن أجتهد أكثر في علم الجمال.. ليس فقط لأعكس الواقع.. بل أحاول أن أجعل قضيتنا إنسانية.. فالفلسطينيون كائنات بشرية تضحك، تعيش وحتي تموت موتا طبيعيا.. لا يجقتلوا فحسب .
وعندما أشرت إلي أنه يوجد أشخاص لاتعجبهم أعماله.. أجاب.. نعم، لكن أيضا يوجد من يفضل الشعر الذي أكتبه الآن. يخجلني أن أقول ذلك لكني الشاعر الأكثر شهرة في العالم العربي.. فلدي قراء جدد.. الكثير منهم شباب ويفهمون كتبي. أنا لازلت أنتمي للمستقبل، وهو في الأجيال الجديدة .
ولا التيارات الحالية أيضا _ بحسب كلامه­ تحسن المجال للإبداع الشعري.. أنهت التكنولوجيا الجديدة ووسائل الإعلام علي الشعر.. فهو لم يعد يشغل الآن المكان الذي كان يشغله في العالم في السابق. لكنها ليست أزمة في المحيط العربي فقط.. بل تحدث في كل العالم.. فلا يوجد الآن قراء للوركا أو ألبرتي .
الشعر كالأراضي الفلسطينية.. يعاني من الحصار. وقد تعرض المركز الثقافي الذي يديره الشاعر لهجوم في عام 2002.. دمر الجنود الإسرائيليون جزءا من الأرشيف.. لم أفقده كله. لقد كان إنتقاما لأنني إستقبلت وفد من الكتاب كان من بينهم خوسيه ساراماجو، وول سويٌينكا وخوان جويتيسولو يشرح الشاعر. وفي هذه الفترة وجلد عمله (حالة المكان).. كتبته حينما كانت الدبابات تحت بيتي. لقد كان علاجا للروح.. فالشعر يجعلك تشعر بالحرية.. يذهب بك إلي مكان آخر.. ربما يكون وهم، لكنه أمر جوهري .
ومنذ طفولته عرف تجارب جارحة.. التجرد من أملاكهم، السجن، النفي.. وطجردت عائلته من الجليل في عام 1948. وعاد بشكل مستتر.. فحمله النشاط السياسي في اليسار إلي السجن.وفي بداية السبعينيات تغربه.. فذهب إلي موسكو، ثم إلي القاهرة ومن قبلها لبنان. وفي عام 1982 ذهب من جديد تحت الحصار الإسرائيلي إلي بيروت.. المنفي أصبح جزء مني.. عندما أعيش في المنفي أحمل وطني معي.. وعندما أعيش في وطني أحمل المنفي معي. والبقاء لساعات في نقاط التفتيش العسكرية هو منفي. أعرف أن المستقبل لن يكون أفضل وأن الحاضر هو المنفي.. فالمستقبل دائما أسوء بالنسبة لنا.. وهذا هو المنفي .
الغرور هو عدو الذكاء
في قصيدتك الطباق المهداة إلي إدوارد سعيد.. كتبت: لا تثق بالحصان ولا بالحداثة .
أشير هنا إلي هنود أمريكا.. فالبيض أتوا بالحداثة علي حصانهم. والآن ممكن أن تنطبق علي ما يحدث في الشرق الأوسط.. لكن الدبابة هنا هي الحصان.
البلاد العربية تبتعد عن الحداثة.. والظاهرة الدينية تنمو بلا توقف.
الشعوب أصبحت أكثر إيمانا منذ 40 عاما بسبب الضغط والنزاع بين الطرفين الإسرائيلي والعربي. ماذا فعلت إسرائيل في مزارع شبعا اللبنانية؟ قدمت فحسب مبررا سياسيا إلي حزب الله. ماذا كسبت إسرائيل من غزو العراق؟ إعطاء القوة لهذه الحركات. لا أحد في العالم العربي يثق في السياسة الأمريكية.. إذن كان الدين هو الرد السهل علي القضايا المعقدة.
وهل من الممكن وقف هذا التيار؟
نعم.. إذا كان هناك إستقرار، عدل ، كرامة وديموقراطية. إذا وججد الأمل والعمل ستصبح الناس أكثر إعتدالا. ويجب أن تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من العراق وتتخلي عن وعودها بالديموقراطية عن طريق الدبابات. ويجب علي إسرائيل أن تفهم أنه لا يمكن أن تحتكر الأرض وتحتكر التاريخ في هذه الأرض. وقد قال أحد القادة الإسرائيليين أنهم سوف يقومون بعمل هولوكوست للشعب الفلسطيني.. لم أكن أنتظر أن يستخدموا هذه الكلمة للإشارة لنا.. لقد أصبحوا مجانين.. فقدوا ذكائهم لأن الغرور عدو الذكاء.
ماهي أفضل طريقة للكفاح ضد الإحتلال؟
إنه سجن.. فحياتنا ليست بحياة.. فالموت أفضل. من المحزن جدا الحياة تحت الإحتلال. الإنتفاضة الأولي (إنتفاضة الحجارة ضد الدبابات) هي النموذج.. سببت تغييراً في المجتمع اليهودي العالمي وجعلت الرأي العام الدولي يفهم أفضل الشعب الفلسطيني. أعتقد أننا لن نعود إلي هذا الطريق.. فأنا لا أري حلا.. وعملية السلام قد فشلت. لكننا عسكريا لن نستطيع. الحاضر هش للغاية.. ولا أحد يري المستقبل.. الماضي فقط هو الراسخ. لايوجد نور في آخر النفق.. فكل شيء مظلم.. وعملية السلام الحالية لن تقود إلي شيء.. فإسرائيل تجعل من السلام أمرا مستحيلا.

 

جريدة الباييس

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

 

ضع إعلانك هنا