أحمد بخيت: حملني نزار قباني علي كتفيه
..
فرأيت أبعد مما رأي!!
ندوة - هونج كونج
حوار ـ سيد محمود حسن
/
تصوير ـ موسي محمود
في الجامعة كان الشعر رفيقا في معارك الحب التي لا
تنتهي ورسولا يؤدي رسالته وهو مندس في كشكول زميلة كنت تتلعثم في مواجهتها. أما
الآن وقد انتهي زمان الجامعة وبدأ النقاد يحدثوننا ليل نهار عن انتهاء زمن الشعر
بقيت من الشعر مساحة صالحة لاجترار الذكريات ودون كل ذكريات شعر الجامعة بقي اسم
أحمد بخيت وحده مثيرا للتأمل, فهو الشاعر الوحيد بين طلاب الجامعة الذي كانت تخصص
له أمسيات خاصة يلقي فيها أشعاره في طقس من طقوس النجومية التي لم تكن تقل عن
نجومية الشعراء الذين كنا نراهم كبارا لأنهم وافدون علينا من خارج أسوار الجامعة.
مضت سنوات وظل اسم أحمد بخيت حاضرا يمكن أن تصادفه أحيانا علي شرائط الكاسيت في
الأغنيات التي يكتبها لبعض نجوم الغناء إلي أن فاجأني الناقد الكبير صلاح فضل بمقال
عنوانه أراهن علي هذا الشاعر الذي لم يكن غير رهان علي موهبة بخيت الذي فاز أخيرا
بجائزة الدولة التشجيعية عن ديوانه ليلي.. شهد العزلة الذي أهمله شعراء ينتمون
إلي نفس جيله لأنه ديوان شاعر تجاوزه الزمن يكتب قصيدة تقليدية غارقة في الرومانسية
ورحب به شعراء من جيل آخر مثل إبراهيم أبوسنة الذي كتب عنه شاعر يجمع بين التقليدية
والحداثة وبدا هذا الجمع بين نقيضين محيرا ودفعني من جديد للبحث عن الشاعر الذي
يرحب به النقاد ويهاجمه الشعراء فكان هذا الحوار مع بخيت وهو حوار لا يخلو من جرأة
وقدرة علي تجاوز الخطوط الحمراء في ساحة الشعر العربي.
* تجربة إصدار ديوانين معا بعد فترة توقف خاصة أنك
تبدو مقلا في النشر ألم تصبك بالقلق؟
لا يقلقني ما نشر يقلقني ما لم ينشر فقد كتبت عشرة دواوين شعرية ليس بين أيدي الناس
منها سوي ديوانين الأمر الذي يعني أن شعري لم يأخذ فرصة عادلة لإثبات وجوده
وللتعبير عن مساحات تميزه, كما يعني أن تجربتي الشعرية لم تمنح فرصة التقييم
المنصف وذلك لحجب أبرز إنجازاتها من خلال عدم النشر, أحلم الآن بأن أتمكن بسرعة
من نشر هذه الدواوين لأنني أعتقد أن نشر عشرة دواوين شعرية جيدة كفيل بوضع تجربتي
الإبداعية في مكان لائق علي خارطة الشعر في مصر والعالم العربي. ما يقلقني بحق هو
أن الواقع الثقافي يتقبل بسهولة أنصاف المواهب أولئك المؤهلين بقوة ليصبحوا ذيولا
للمتحققين إعلاميا فأنصاف الموهوبين لديهم استعداد دائم لخوض صراع غير ثقافي في
منطلقاته وآلياته وغاياته وذلك من أجل تحقيق تواجد شكلي علي ساحة لا ينتمون إليها
إبداعيا. وفي ظل هذا المناخ الذي يرحب بالأقزام التافهين علي حساب الأفذاذ
الموهوبين, ليس أمام أي شاعر حقيقي سوي أن ينسحب بشرف رافضا المشاركة في الكذب
الجماعي, أو يتنازل بهدوء عن إيمانه بأحقية المبدعين وبقيمة الإخلاص والإتقان
ويفقد تدريجيا نقاء روحه المتوهجة التي هي في النهاية أعظم أسلحته الإبداعية.
وقلة قليلة تستطيع أن تحارب بشجاعة المستميت كل عوامل الإحباط مراهنة علي القلة
النادرة من المثقفين الذين مازالوا يحتفظون بنقاء ضمائرهم وسلامة ذوقهم ونبالة
غاياتهم وعلي القاريء الجميل الذي ينتخب لنفسه وبنفسه الإبداع الجيد دون أن ينتظر
من الإعلام أو المؤسسة الثقافية أن ترشح له إنتاجا أدبيا مريضا لكتبة مستأنسين,
ناقصي الأهلية هذه الشبكة الجهنمية من المعوقات المحبطة أوقفتني كما أوقفت غيري
ودفعتهم بعيدا لكنني استجمعت إيماني وقررت أن علي المبدع أن يخوض حرب الكلمة
الشريفة الجميلة ولا ينسحب حتي ولو كان قدره في ظل الظروف الراهنة أن يخوض حرب
الخبز جنبا إلي جنب مع معركة الكلمة. الديوانان الصادران مجرد بداية لصدور بقية
الدواوين العشرة التي يراها الكثيرون معبرة عن تجربة شعرية جديرة بالاحترام ومع ذلك
أنا أعتبرها مجرد بداية, ومازلت أقول لنفسي إنها مجرد تمارين شعرية وقد آن الآوان
لنكتب شعرا حقيقيا. أصبح عمري ثلاثة وثلاثين عاما وإذا اتسع العمر قليلا فسيكون
هناك الكثير من الشعر الذي تنبغي كتابته.
* هل الفوز بجائزة الدولة التشجيعية مبرر
لهذا التفاؤل الكبير؟
صحيح أبهجتني الجائزة لأنها جاءت بعد فترة إحباط من الشعر وتأكد يقيني بأن الشعر
الجيد ليس زهرة موسمية بل لؤلؤة حقيقية وأن الشعر الجميل يجد دائما من يقدره وما
أسعدني أكثر أن اللجنة التي اختارت الديوان للجائزة ضمت أسماء كبيرة لها تاريخها
النظيف.
* من يقرأ شعرك يجد أن ثمة ولعا رومانسيا مغلفا
بالشجن كيف تكتب قصيدة رومانسية في واقع لم يعد رومانسيا؟
أكتب قصيدة إنسانية في واقع ـ رغم كل شيء ـ لم يزل إنسانيا كنت ومازلت أعتقد ذلك
فبرغم كل هذا الألم لم يمت الإنسان لا تعنيني الأوصاف التي تطلق علي قصيدتي سواء
كلاسيكية أم رومانسية أم واقعية كل ذلك قيل عنها فعلا. أنا ـ فقط ـ أصغي بصبر إلي
صوت القلب الإنساني واستمع بحنو إلي آماله وآلامه وأفحص بعمق تمزقات البشر
وتناقضاتهم المربكة وأتعجب بحب من قدرتهم المذهلة علي الاستمرار رغم كل هذا التلوث
الذي يثقل الضمير وأخيرا أكتب مؤمنا أن مهمة الشاعر كما يعتقد أودن هي مساعدة
الإنسانية لكي تنعم بالحياة بشكل أفضل, أو علي الأقل تتحملها بشكل أفضل. إذا
كان إيماني بالحب كقيمة إنسانية عليا, وبالحرية كضرورة حياتية عظمي, وبالعدل
كحلم بشري نبيل, وبالأمل كهبة إلهية رائعة يعد ولعا رومانسيا فأنا رومانسي.
قصائدي ليست ألعابا لغوية ميتة, ولا ألغازا ذهنية باردة, ولا دعاية أيدلوجية
متعصبة, إنها صوت إنساني شجاع يدعو الإنسان إلي الدفاع عن كل ما هو خير وجمال ضد
كل ما هو قبح وشر, دون أن تتجاهل أن الواقع المرير يفرض دائما علي الإنسان ضريبة
فادحة لكي يظل محتفظا بإنسانيته التي هي أروع مافيه.
* هل تعتقد أن النجومية التي مررت بها مبكرا أضرت
شعرك ومنعته من التطور أم منحتك مزيدا من الثقة في تجاربك الشعرية؟
لم أكتب من أجل تصفيق الأيدي, لقد كتبت من أجل تصفيق القلوب, عندما صفق لي
الآلاف في الجامعة وحفظوا قصائدي عن ظهر قلب عرفت أن ثمة من ينتظر منك أن تكون
دائما رائعا ولقد أشعرني ذلك بالنشوة لكنه أصابني بالرعب خشيت أن أقدم ذهبا زائفا
وأطلب شهرة سريعة علي حساب الأصالة والعمق.
كنت حيئنذ شابا لكن قلة الخبرة الشعرية لم تمنع سلامة فطرتي من إدراك أن الأيدي
تصفق أحيانا لشعراء قليلي الأهمية لمجرد أنهم أعلي صوتا أو لأنهم يستجدون رضا
الجماهير بقصائد حب سطحية متهافتة, أو بهجاء سياسي مباشر وفج, أو بأنين إنساني
متخاذل لا يوقظ القلب والروح والإرادة, لم أقبل وردة الرضا الجماهيري لأنها تذبل
سريعا وطلبت لؤلؤة اليقين الشعري لأنها تعمر طويلا. قررت التوقف عن النشر وكبح
الرغبة العارمة في الكتابة واتجهت إلي فحص تجارب المبدعين الكبار في الشعر العربي
والعالمي وأخيرا أخضعت شعري لأقسي اختبار نقدي ووضعته تحت رحمة أعظم ناقد في
الدنيا( الزمن) الزمن أعظم النقاد لأنه يفضح الذهب الزائف ويعلي قيمة اللؤلؤ
الحر.
عشر سنوات دون نشر ديوان واحد وأنا غير نادم فقد أبقيت من شعري ما أثبت لي جدارته
في الحياة حين صمد أمام اختبار الزمن واحتفظ ببهائه الشعري لذلك تأخرت رباعية ليلي
ست سنوات ومع ذلك استقبل النقاد والقراء الديوان الأول منها شهد العزلة كديوان جديد
وبحفاوة أسعدتني.
*من يقرأ شعرك من جيلك يري شاعرية كبيرة مسجونة في بيئة
تبدو تقليدية جدا بمعني آخر لماذا يبدو شعرك بعيدا عما يتحقق للقصيدة العربية
الآن, وهل هو نوع من الرفض للتجريب في حقل قصيدة النثر؟!
اسمح لي أن أشكرك لأنك قلت بيئة( تبدو) تقليدية لأن بيئة قصيدتي ليست
تقليدية علي الإطلاق, لأنني لست بعيدا عما يتحقق للقصيدة العربية الآن بمعني
أنني أتابع بأهتمام وأدرس بعمق تجليات الشعرية العربية في أطوارها الجديدة
وأحاول المشاركة بجديدي فيها. وأنا لا أرفض تجارب الآخرين في قصيدة النثر
وليس من حقي أن أرفض تجارب إبداعية جيدة في شكل ما لمجرد أنني لا أتبني هذا
الشكل حين أكتب والآن أرجو أن أتحدث بشيء من التفصيل عن هذه القضايا المهمة.
لقد رفض الشعراء الكلاسيكيون في أوائل الخمسينيات شعر التفعيلة لخروجه عن الشكل
الخليلي, وقد وجد أصحاب التفعيلة أن هذا الرفض ينطوي علي موقف شكلي متخلف
لأنه ينظر إلي الشعر علي أساس موسيقي فقط ويرفضه تبعا لذلك بينما كان ينبغي
النظر لما يطرحه من رؤي جديدة وموضوعات جديدة وجملة شعرية جديدة وصورة شعرية
جديدة وبناء جديد للقصيدة وغير ذلك من تجليات الشعرية, وللأسف دار الزمن
ليرفض شعراء التفعيلة ومعهم شعراء قصيدة النثر شعرا يرونه يتبني رؤية جديدة
ويقدم لغة جديدة لمجرد أنه يتبني شكلا موسيقيا يرفضونه أليس هذا موقفا شكليا
متخلفا. فالموسيقا سجن يحبس الناظم الرديء وحصان ينطلق بالمبدع الموهوب في
فضاء رحب وبالنسبة لي سأكتب في أي شكل عندما تحتاج تجربتي له.
* هل الولع بالشعر دفعك
إلي ترك العمل الأكاديمي وهل جاء قرار التفرغ بحثا عن جنون الشعر أم هربا من
تكلس الأكاديمية خاصة في كلية مثل دار العلوم؟
أنا أعتز بكلية دار العلوم وأحترم الأكاديميين الأفذاذ في دار العلوم وغيرها,
والعمل الأكاديمي شرف كبير لم يكن التنازل عنه سهلا لولا أن التضحية كانت من
أجل هدف أعده بالنسبة لي الهدف الأسمي علي الإطلاق. لقد كنت مؤهلا علميا
للعمل الأكاديمي غير أنني لم أكن مؤهلا نفسيا وروحيا لغير الشعر, قيود العمل
الأكاديمي والوظيفة الحكومية يمكن أن تقتل الشعر كان ذلك هاجسا مخيفا أحاط بي
طيلة خمس سنوات توقفت فيها عن الإبداع بالإضافة إلي إحساس شديد الوطأة بأن ثمة
معوقات محبطة تواجهني كباحث شاب وأنها لن تمكنني من الإبداع والتفوق في حقل
العمل الأكاديمي, ففضلت أن أترك ذلك الميدان لأي شاب مجتهد وطموح يمكنه أن
يؤدي وظيفتي ربما بشكل أفضل, بينما أعتقدت أن ثمة عملا كبير ينتظرني في حقل
الإبداع الشعري وهكذا تحديت الدنيا بقرار الانسحاب من الحياة الأكاديمية من أجل
الشعر, أتمني أن يثبت عطائي الشعري للجميع, أنني لم أكن مخطئا حين اتخذت
قراري المصيري بالتخلي عن مستقبلي الأكاديمي لصالح الجنون الرائع المسمي(
الشعر).
* في حياة كل شاعر أسلاف يرسمون تجاربه الأولي فمن
أسلافك؟
في التراث الشعري بهرني( أبوتمام) باقتداره الفذ في التصوير وولعه الجميل
بالتعبير عن معان مبتكرة, وتناهي إعجابي إنسانيا وشعريا بالمتنبي حتي الذروة
العليا.
وكان بديهيا أن يبهرني تلميذه العبقري شوقي وخاصة في أبنيته الموسيقية الفخيمة
الجليلة التي تشبه الأهرامات بعد ذلك تنفست الروح الإنسانيته السامية التي
تتجلي في شعر المهجريين. ثم توقفت أمام الشجن الرجولي في نبرة الفيتوري التي
تتفجر كما لو كانت زئير أسد جريح, وتوقفت أيضا أمام نزار وأناقته الجريئة,
وأمل دنقل بروحه الجسور وإيمانه الصلب, ولا ينتهي إعجابي بعالم محمود درويش
الثري وبتطور مشروعه المذهل لخلق لغة شعرية فريدة, وعالميا أعجبت بطاغور
وجلال الدين الرومي وبودلير وأراجون. وبعيدا عن هؤلاء جميعا فقد كنت ومازلت
أجلس كتلميذ مهذب أمام أية قصيدة جيدة لأصغر شاعر كي أتعلم, ففي اعتقادي أن
الشعر كالحب ينبغي أن تتعلمه كل يوم, وأن تكسب رضاءه كل لحظة وأن تترك غرورك
هناك علي العتبة قبل الوقوف بين يديه. ثمة من يري أن قصيدتك ماهي إلا إعادة
إنتاج لقصائد نزارية وهي في أفضل الأحوال تجاور تجربة فاروق جويدة دون أن
تتجاوزها في الشعر؟ نزار قباني أبي, حملني علي كتفيه فرأيت أبعد مما رأي ليس
في قولي أية محاولة للتقليل من أهمية عبقرية نزار الشعرية فقد كانت له إنجازاته
الباهرة حين حطم الأسوار التي تحجب قصيدة الفصحي عن عامة الجمهور, بابتكاره
لغة شعرية سهلة طازجة وأنيقة ونحته لصور مترفة وساخنة واقتحامه لمناطق شائكة
ومثيرة في التجربة الإنسانية بجانب جرأة قصائده السياسية التي جاءت قريبة من
وجدان الجماهير المسحوقة تحت وطأة القهر والفقر غير أنني رغم احترامي لتجربة
نزار كان لي منذ البداية تحفظاتي عليها, فمع اعترافي بأن بداياتي الأولي حملت
تأثيرات نزارية قليلة لا تلغي خصوصية تجربتي واعترافي بأن نزار وفر لي وقتا
طويلا ومهد لي سبيلا للوصول إلي لغتي الخاصة مبكرا حين أردت أن أطوع لغتي
الفصحي لحياتي المعاصرة وأن أعبر عن نفسي وجيلي بلغة بسيطة قريبة أنيقة كانت
تجربة نزار مفيدة للغاية وأزعم أنني استفدت من تأملها المثير سواء في نجاحاتها
أو في إخفاقاتها. فقد بدا لي أن نزار قد بهره نجاحه الجماهيري وشهرة بعض
قصائده الناجحة فأغرم بتقليدها كثيرا وكرر نفسه كثيرا في دواوين متشابهة
الموضوعات والأفكار والصور والألفاظ. ولم يعد يعني بنقاء لغته من الحشو
وأفكاره من السطحية وصوره من التناقض وبنائه من الهلهلة وإن ظل يتمتع بروح طفل
مشاغب ومراهق جسور وكهل مليء بالحيوية. غير أن التحفظ الأكبر لي علي نزار
أنصب علي ما يبدو من تناقض صارخ بين دعواه وتجلياتها الشعرية فقد كان في قصائده
السياسية كثيرا ما يبدو هجاء ساديا أو كاريكاتوريا ساخرا يفتقد الصدق والجدية
والحرارة. وكثير ما يبدو متناقضا حين يتعالي علي من يدافع عنهم كما لو كان
شاعر بلاط ملكي يريد أن يكون شاعر الشعب وكثيرا ما يتألق ويرق كمطرب في حفل في
الوقت الذي كان ينبغي أن يبدو أكثر صلابة وخشونة كمحارب في ميدان. لا أريد
الحديث عن تجربتي لكنني أستطيع أن أقول دون خشية اتهام بالغرور أن ثمة تجارب
شعرية لي قد حرثت أرضا لم تحرثها التجربة النزارية, وأن تطور لغتي قد باعد
بين التجربتين كثيرا. ويمكن أن يبدو الفارق في التقنية الشعرية بالمقارنة بين
قصيدتين في الموضوع ذاته مثل قصيدة نزار الشهيرة متي يعلنون وفاة العرب وقصيدتي
المتواضعة وداعا أيتها الصحراء فرغم أن القصيدتين تعالجان قضية أزمة الشخصية
العربية في اللحظة الحضارية الراهنة إلا أن الفارق جوهري في أسلوب الأداء
الشعري في كلا العملين.
* المقال الذي كتبه عنك صلاح فضل يدشن تجربتك يجعلنا نسأل عن دور النقد في دفع
تجاربك أم تراه لم يلتفت إلي تجاربك؟
كانت هناك منذ بداياتي الأولي كلمات تشجيع من نقاد أكاديميين في الجامعة لكنها
لم تصل إلي درجة الكتابة النقدية المدققة والتي تكرس مبدعا وتلقي الضوء علي
تجربة شعرية ناهضة. وبصدق تام فإن كتابة د. صلاح فضل الشجاعة والتي أسعدتني
وأسعدت الكثيرين ممن يحترمون الكتابة النظيفة كانت الاستثناء الجميل الذي يؤكد
القاعدة غير الجميلة التي تسود حياتنا الثقافية. فلا توجد حركة نقد تطبيقي
حقيقية وفاعلة في الحياة الثقافية المصرية ولا يجرؤ نقاد كثيرون علي اقتحام
اللحظة الإبداعية الراهنة بكتابات علمية كاشفة وأمينة. وما يكتب تحت اسم
النقد في الصفحات الأدبية أكثره متابعات متعجلة يمكن تصنيف أكثرها تحت بند
المجاملات المتبادلة بين الأصدقاء أو النفاق الثقافي لذوي الحظوة. عندما
أتذكر مقولة ناقد أوروبي شهير النقد هو الكتابة تحت رحمة عبقرية الآخرين أشعر
بالدهشة من اعتراف ناقد لامع بأن علي الناقد الكبير أن يسخر عبقريته النقدية
للكشف عن عبقرية النص الإبداعي بينما عندنا يتعالي الكثيرون من الأكاديميين
الصغار علي الإبداع ويعتقدون أن عليهم أن يكتبوا تنظيراتهم المستقبلية وعلي
المبدعين أن يكتبوا تحت رحمة عبقريتهم, بينما هم في الحقيقة ـ أقصد النقاد
الصغار ـ يهربون من المنطقة الخطرة إلي الركن الآمن ذلك أن التنظير لا يفضح
كثيرا بينما قد يكشف التطبيق بسهولة عن عجز أدوات الناقد وفساد ذوقه وضعف هضمه
للنظريات التي يتشدق بمعرفتها. وللأمانة فإن بعض النقاد معذورون في عزوفهم عن
النقد التطبيقي ذلك أن الكثير من المبدعين لم ينضج ثقافيا بشكل يجعله يستوعب أن
النقد الحقيقي ليس مدحا إنشائيا وأنه لا مبرر لحمل ضغينة تجاه ناقد كل جريمته
أنه يستخدم أدواته العلمية في تحليل النص بأمانة دون التورط في مديح فج لعمل
أدبي ساذج لمجرد أن مبدعه ينتظر ذلك المديح. عموما لم أكن وحدي الذي عذبه
الصمت النقدي عن تجاربه فكثير من المبدعين من غير ذوي الحظوة قد أخذوا نصيبهم
من التجاهل والصمت. وأصدقك القول إنني أحيانا تمنيت أن يشتمني أحد النقاد لكي
أتأكد من حقيقة وجودي في الحياة الأدبية لكنني والحق يقال أشهد بأن مبدعا كبيرا
لا تربطني به أي صلة قد كتب عني كتابة رائعة, دون أن يعرفني هو الشاعر أحمد
فؤاد نجم وكتب محمد إبراهيم أبوسنة وأمثال هؤلاء الكبار قليلون لأن كثيرين من
الكتاب اللامعين يكتفون بتحيتك بحرارة حين تلتقي الوجوه وبالكلام الكبير عنك
حين يكون الكلام عديم الجدوي لا يسلط عليك ضوءا أو يفتح لك بابا وهم في النهاية
لن يكتبوا عنك حرفا لأنهم مشغولون بأنفسهم فقط معتقدين أن الحياة الأدبية لا
تتسع لوافدين جدد خاصة إذا كانوا من ذوي المواهب الكبيرة. صدقني إنني لم أعد
الآن انتظر أن يشتمني أحد أو يمدحني أحد, لقد أدركت أخيرا أن علي أن أكتب
وأكتب وأكتب لأن هذا واجبي ولا شأن لي إذا كان الآخرون لا يرغبون في تأدية
واجبهم فربما كانوا يدخرون الورد لإلقائه علي قبورنا عندما ننام هادئين مسالمين
وعازفين عن مشاركة النهمين في كعكتهم.
* السؤال عن د. صلاح
فضل جعلني أتذكر أنه وجه اتهامات لشعراء السبعينيات هل تراهم أضافوا للشعر
العربي أم أضروا به؟
الرجل الكبير ـ أقصد صلاح فضل ـ لم يوجه اتهامات لجيل السبعينيات كل ما قاله
إنه يراهن علي شاعر اسمه أحمد بخيت متنبئا له بأن سيصبح في السنوات القادمة
شاعر مصر الأول القادر علي بعث الحياة في القصيدة العربية المعاصرة وأن هذا
الرهان قد يعني ضمنا القفز علي أسماء جميلة ومبدعة من جيل السبعينيات لكن هذا
هو رأيه الذي أعلنه بمنتهي الشجاعة. وبالنسبة لي أري أن جيل السبعينيات كأي
جيل آخر قدم شعراء جيدين ومهمين لكنه أيضا طرح أسماء آخرين لمبدعين فاشلين
شعريا تحت المسمي نفسه وأنا شخصيا أحب وأحترم المواهب الكبيرة في ذلك الجيل ـ
جيل السبعينيات ـ وإن كنت اختلف مع الكثير من أطروحاتهم النقدية, كما أكره
كثيرا ادعاءات الفاشلين في ذلك الجيل وضجيجهم الفارغ الذي لا يتناسب مع ضآلة
موهبتهم وضحالة شعرهم وفجاجته. علي سبيل المثال أنا أحترم الهادئين المبدعين
جمال القصاص ووليد منير وأكره الصخب الأجوف الذي يثيره أمجد ريان. جيل
السبعينيات فتح باب التجربة علي مصراعيه وألقي بعض الأحجار في النهر وأشعل رغبة
عارمة في الجديد وخاض معارك نقدية إيمانا بأفكاره مع شعراء مجترين ونقاد سطحين
كل هذه كانت إنجازات طيبة. لكن الكثير منها قد تحول علي يد المبدعين إلي
كوارث أصبح التجريب فوضي وهز الثوابت رفضا لأية قيمة إنسانية ونفيا لأي معيار
فني والرغبة في الجديد تحولت إلي ولع باللعب والشعوذات والألغاز, والإيمان
بالأفكار أصبح تعصبا يحاول مسح الأجيال التالية من الشعراء لتصبح مجرد أشباح
لجيل السبعينيات والأمر الأخطر أن المناداة بشعر للنخبة تحول إلي كتابة مغلقة
نسفت الجسور بين الشاعر والمتلقي ففشل معظم شعراء جيل السبعينيات في تحقيق نوع
من التواصل الحيوي مع الناس, وأقول لك إن تجربة السبعينيات لم تبهرني خاصة
أنهم لم ينجحوا في الدفاع عن كبرياء مصر الشعري, فلم يصعد من بينهم صوت شعري
عظيم يستطيع أن يقف بقوة بجوار الأصوات الشعرية الكبيرة في الوطن العربي وأن
يعوض مصر عن الغياب المبكر لأمل دنقل.
* تكاد تكون واحدا من نماذج قليلة زواجت بين كتابة
القصيدة الشعرية وكتابة الأغنية وتحقق لك بعض النجاح والجماهيرية ألم تشعر في
لحظة بأن الأغنية تسرق الشعر وأن الشاعر يضيع في زحام السوق أم أن دخولك إلي
الأغنية هو بحث عن جماهيرية لازالت متأخرة لأسباب تتعلق بطبيعة تلقي الشعر في
مصر؟
كان يمكنني أن أجيبك بشجاعة, لقد كتبت الأغنية لأشتري الحليب لطفلي وهو سبب
نبيل لكنه بالنسبة لي لم يكن كافيا وحده لقد أردت أن أتيح لكلماتي أفقا أوسع
حين تصل إلي المثقف والعادي إلي المتعلم والأمي ولكنني لم أكتشف فقط أن الأغنية
تسرق الشعر وأن الشاعر يضيع في زحام السوق. لقد اكتشفت أن أزمة الغناء العربي
لا تقل خطورة وتعقيدا عن أزمة الشعر العربي, إن مافيا الأغاني تكون شبكة
مخيفة نجومها كتبة أميون تحت اسم شعراء, وتجار ضجيج تحت اسم ملحنين, وصيادو
ثروات تحت اسم منتجين. وفرصة أن تعثر علي ملحن فنان قليلة وعلي شاعر أغنية
موهوب نادرة وعلي مطرب يجمع بين حلاوة الصوت وذكاء الإحساس مع فهم للكلمة
والموسيقي تكاد تكون معدومة. هناك ولا شك فنانون حقيقيون في الكتابة والتلحين
والغناء لكنهم الأكثر معاناة والأقل حظا, لقد عرفت ملحنا شهيرا يأخذ أغنيات
من الشعراء ليضع عليها أسماء لشعراء آخرين من الأصدقاء نظير خدمات متبادلة وقد
تعرضت أنا نفسي لسرقة من هذا النوع وسمعت أغنيتي وهي تشتهر في العالم العربي
باسم غيري رغم أنني كنت معروفا وقتها وعرفت شاعر أغنية زارني في بيتي وانطلق
سارقا شريط كاسيت عليه أغنية جديدة من كلماتي ليعطيه لملحن معروف وقد باعاها
معا لحنا وكلاما علي الرغم من معرفتهم الكاملة بأنها مباعة وأنها ستغني ورأيت
مطربا يختار أغنياته من ملحن لأنه وشه حلو وسمعت عن ورش الكتابة الجماعية
والتلحين الجماعي ونظرة واحدة فاحصة لكلمات الأغاني وألحانها تشعرك بمدي
التدهور الذي لحق بالذوق وبالفن علي أيدي الأدعياء والانتهازيين. عموما أنا
أحب الأغنية وسعيد بنجاح تجاربي القليلة فيها لكنني في المقام الأول شاعر فصحي
ولن أتخلي عن طموحاتي كشاعر فصحي, لكنني أحلم بأن أشارك مع شعراء جيدين في
إضافة أصوات شعرية خاصة وجميلة لميدان الأغنية ومايزال الأمل موجودا في أن تخرج
الأغنية من أزمتها قريبا بعد أن استنفد المزعجون كل أساليب الإزعاج ولم يبق
من بدع جديدة يطلعون علينا بها, سوي أن يصيبهم الجنون الجميل ويفكرون
من جديد في تقديم فن غنائي جميل.
(نقلاً عن الأهرام العربي)
|