شاعر عراقي من كربلاء..
تلك هوية حملها معه حين غادر مدينة القباب عام 1993 احتجاجا على اعتقال رفاة اسلافه
كما يقول ليحط في مدن الصقيع بحثا عن بساط يحمله إلى خارج الوجع..لكنه سكن وجعا آخر
اسمه الغربة..فما بين الخطوة الأولى نحو المجهول والخطوة الأخيرة في المجهول كان
الشعر سلاحه الوحيد لمداواة الم الوجع الجديد الذي استساغه لأنه بكل تأكيد لن يفقد
رقبته إذا ما بقي يقارع هذا الوجع بكثير من الصبر..في كربلاء كانت خطوته الأولى في
عالم الشعر وسط بكاء وعويل مستمر فاستثمر العويل الأزلي الممزوج بعويل الوجع القاتل
حين كان العسس أكثر من نجوم الليل وحين كانت كان الوجع هنا قبل الرحيل سيفقده ذاكرة
الشعر..فحمل شعره ورقبته وأفكاره تاركا أما وأخوات على بساط الصبر ليجد له مكانا
يحلم فيه بعودة ميمونة إلى مدينة القباب التي لم ينسها حتى حين ترجمت مجموعته إلى
الإنكليزية فكان غلافها الأول يحمل صورة القباب علامة الارتباط بأرض لها رائحة
الزعفران ورائحة المسك ورائحة الطين الحري والسمك المسكوف والباقلاء بالدهن الحر
التي تشتهر بها مطاعم كربلاء..فوجد ضالته أخيرا في بلاد الساموراي وفي مدينة تعاملت
مع الحرب من خلال القنابل الذرية وكأنه يريد ألا يفارق ارض الحروب حتى لو كان ذلك
من خلال ذكريات شعبها..إنها مدينة هيروشيما التي يراسل من خلالها أحبته وأصدقائه
حتى لا ينقطع حبل الحنين إذا ما كانت اللغة العربية هي ميزان العقل لإتمام معادلة
البقاء على أمل العودة من جديد.
نشرت له دار ألواح –
مدريد – ديوانه الأول " أشَدّ الهَديل "عام 1999 وفي عام 2002 أصدر " خريف المآذن "
عن دار أزمنة- عَمّان وأصدرت له 2004 دار هيدووركس في العاصمة النيوزلندية وبلغتين
، ديوانه " هنا
وهناك " بالإنجليزية عام
2004
وعبر البريد والمواقع
الالكترونية التي عرفنا كيف نضرب على أزرارها بعد سقوط مانع حركة الأصابع كان
الحوار على ريح كربلائية وهواء ساموراي مبتعدا عن رائحة القنبلة الذرية التي هدمت
هيروشيما أرضا ولم تهدم شعبها.
* بين الشعر والغربة
وطن..هل استطاع الزمن من تقريب المسافة بينهما.. وهل استطاع الشعر ان يكون البوصلة
التي تهدي الحروف لتكون باتجاه الوطن ؟
- الفنان ( في الغرب
ينظرون لكل المجالات الكتابية والسمعية والبصرية على انها فنون ، لذا فالوزارة تسمى
وزارة الفنون ) هو غريب والأغتراب أزمته طول حياته ، وأعتقد انه لا يمكن للمرء ان
يكون مبدعاً وهو في حالة تماهٍ مع بيئته ، وأن لا يؤمن بالتجاوز ، هذه بعض شروط
الابداع الكثيرة ، فالشعور بالغربة والاغتراب هما محفّزان لا إراديان على إثبات
الوجود في ذات المجتمع الذي نعاني فيه ومنه ، وبالرغم من ان هذه الرؤية تشمل قطاعات
واسعة من الناس وليست طبقة الفنانين وحدهم ، ولكننا نركز هنا على الشاعر المبدع
الفنان ، فهي لا تتناقض مع الالتزام بقضايا الوطن والانسان والجمال ومفاهيم الحرية
والعدالة ، من وجهة نظر إبداعية وليست سياسية ، والتي تختلف جذرياً مع الالتزام
السياسي ، كما يريده رجل السياسة فهو يحدّ من طاقات المبدع الذي يخلق من إبداعه
وطناً له ، يجد عزاءه فيه ، فالذي بين الشعر والغربة هو وطن الابداع – المنجز.
الغربة هي روحية أكثر
منها مكانية ، مع عدم إقصاء الأخيرة ، وأنا ضحية الغربتين ،وهل استطاع الشعر ان
يكون البوصلة التي تهدي الحروف باتجاه الوطن ، فأقول وهو اعتراف ، انني واحد من
كثيرين تعرّفوا على العراق أكثر حين صار يفصل بينه وبينهم الجواز ، فقد أتحتُ
الفرصة لنفسي لقراءة تاريخه ، حيث قرأت عن القرامطة والمعتزلة والشيعة مثلما قرأت
عن الصابئة واليزيديين واليهود والمسيحيين ، وقرأت عن القبائل العربية مثلما قرأت
عن القبائل السريانية ( سكان شمال العراق وأعالي دجلة والفرات الأصليين ) والقبائل
الكردية والتركمانية ، قرأت عن جنوبه وعن شماله ( أضعاف ) ، قرأت عن مدنه وريفه ،
وعن بدو صحاريه وجباله ، عن معتقداته قديماً وحاضراً ، عن طبيعة مجتمعه وإنسانه ،
وكل قراءة تقرّبني أكثر وتزيد شغفي به أكثر ، لا أنكر الدور الذي لعبته عائلتي
بتربيتي على الايمان المطلق بعراقيتنا ، وراح ينعكس ذلك على منجزي ، الذي اصطبغ
بهوية ونكهة عراقية ، وهذا ما أكده الكثير من الأدباء ، ان من خلال رسائلهم او من
خلال مقالاتهم ودراساتهم ، وباللغتين العربية والانجليزية .
** ما الذي جاء بك إلى
الشعر ؟ الأثر الأول والطفولة والكتاب؟
- لا أبالغ في القول ان
قلت اني تنفّست الشعر ، نعم هكذا وجدت نفسي وانا طفل صغير في الثامنة من عمري أعمل
مع صديق لوالدي المقتول دفاعاً عن جارته ، أستمع واستمتع بالشعر وهم يتحدثون فيه
ويقولونه ، شعرتُ انّ شيئاً روحياً يمس شغافي ، منذ ذلك الحين انتبهت الى اني ماضٍ
الى هاويتي الاجمل والانبل ، ثم كان لأبن عمتي الشهيد بلا أثرٍ ، دوره ، وبعد ذلك
مدرس اللغة العربية الأستاذ فاضل ديوان ( أبو أسامة ) دور أكبر وأهم ، لتأتي
المرحلة المهمة جداً في حياتي ، بل اعتبرها الاجمل ، وهي مرحلة تعرفي الى مجموعة
مهمة في كربلاء ، منهم من يكبرني بعامين ومنهم من يكبرني بعقدين ويزيد ،ومنهم من
بين هذين ، كل هؤلاء الأصدقاء الذين أعتز فعلا بصداقتهم ونبلهم وذكرياتي معهم ،
وبتلك السنوات الرائعات التي قضيناها معاً، وكم استفدت من ملاحظاتهم واقتراحاتهم ،
خصوصاً وان الجميع يكبرني سناً ، وفي تلك المرحلة العمرية يكون للسنتين والثلاث
والاربع تأثيراً كبيراً ، وهنا يجب التأكيد على دور الطفولة بآلامها وحرمانها
وانكساراتها ، طفولة بائسة لم احببها او اتعاطف معها يوماً ، منذ نعومة أظفاري وانا
أمقت هذا الوحش الكاسر الذي يدعى "طفولتي" وما زلت أنظر لها على انها أسوء مرحلة في
حياتي ، رغم انها ما زالت "تمدّ لسانها ساخرة مني ، بعدما سخّمت حياتي الحروب
والمنافي" . وكم عظيم هو الشعر الذي أنصفني دائماً من مرارة الطفولة ، الشعر هو
مركبي وصولجاني في بحار المنافي والاغتراب والهزائم والانكسارات والخيبات . أما
الكتاب فاعتقد ان كل شاعر هوايته الاولى هي القراءة ، لا يمكن تخيل من أدركته حرفة
الشعر بدون رفيق الدرب الذي هو الكتاب .الكتاب هو صاقل ومشذّب للموهبة وموسع مدارك
، ودليل يقودك بحنوّ الى تجارب وإشتغالات مختلفة تكون في البدء متكأً لك ( والتخلص
من هذه المرحلة ضرورة وإلاّ تحوّل الشاعر الى مستنسخ لقصائد أستاذه )، ومن ثم
محفّزاً ، فعلامة فارقة لك ، وقد سحرني الكتاب منذ نعومة أظفاري ، ومن أوائل
ذكرياتي معه ، هو انني كنت أتمشى مع جارٍ لنا إغتصبته الحرب بعد ذلك ، وكنتُ دون
العاشرة ، على شاطئ نهر الحسينية ، وإذا بكتاب مستلقٍ على صفحات المياه ، مستمتعاً
بالموج يمشّط حروفه ، يخدش هدوءه نزق الشجيرات الراقصة قرب الضفاف ، فطلبت من جاري
ان يساعدني للحصول على هذا الكنز وقد ساعدني ولأنه وجد صعوبة أثناء انتشالنا للكتاب
من براثن الشجيرات النزقة ، فقد عبر عن استيائه قائلاً : "أتمنى ان يكون منشوراً
شيوعياً لتترك هذه العادة السيئة " وقد كان يكبرني بعامين وأظنه سمع عن الشيوعية من
أهله .
**في القصيدة قصدية وفي
القصيدة مغزى..كيف تستثمر القصدية والمغزى للوصول إلى القارئ ؟
- أنا شاعر حياة وتاريخ ،
اذا اردت ان تعرفني فما عليك سوى قراءة شعري ، همي الاول هو الشعرية في القصيدة او
النص ، ومن أجل الشعرية اضحي بكل شيئ ، قد لا أبالغ بالقول اذا قلت ان قصائدي مرآة
فنية شعرية لحياتي ممزوجة بتاريخ الاسرة والمدينة والوطن ، مشروعي هذا منذ البدايات
وانا أطوره وأشتغل عليه ، حالماً بصهر التواريخ الاربعة في بوتقة القصيدة ، التي هي
القوة المتحكمة المطلقة في النص ، آملاً ان يجد القارئ في قصائدي ما يغنيه عن
مراجعة عشرات المصادر التي اتخمت بالأيديولوجيا عنصرية او طائفية أو مناطقية ،
مثلما يجد فيه ما يصطلح عليه بلذة النص ومتعة القراءة ، فأنا عندي ان تاريخي هو
واحد لا يتجزّأ ، وما يطلق عليهم بالسومريين والعموريين والاكديين والبابليين
والآشوريين والعباسيين ، ما هم سوى سلالات حكمت بلدي ، ولم يكونوا أقواماً تمتلك كل
مقومات القومية بمفهومها العنصري الالغائي الذي نؤمن به اليوم مع شديد الأسف ،
والذي حوّلنا نحن الناطقين بالسريانية والعربية (خصوصاً) الى غرباء بل ومحتلين
للعراق ونحن سكانه الأصليين ، ربما تكون هذه الرؤية ، هي رؤية شاعر ، تبحّر بقراءة
تاريخه ، ولا يستسيغها المؤرخ الأكاديمي ، ولكن هذا هو ما أومن به ، وأنا شاعر بلا
أيديولوجيا ، سوى انني أحب وطني كثيراً ، وراهب وثنيّ في ملكوت الشعر ، لا تهمني
الجوائز ان كانت دينية او سياسية او اعلامية .وقد لوحظ ذلك ، عربياً ( يمكن ملاحظة
الدراسة التي كتبها الناقد عدنان حسين أحمد عن شعري ، مثالاً الذي رأى انني أشتغل
على تاريخ كربلاء والتاريخ عموماً دون ان أقع في مطب الطائفية ) وانجليزياً (
الشاعر طوني بَيَر وهو أحد أهم شعراء نيوزلندا حيث أكد ان شعري أعطى الصورة
الحقيقية للعالمين العربي والاسلامي ، وليست الصورة التي تروجها وسائل الاعلام
الغربي )
**هل تتخذ من الواقعية
مجالا لبناء القصيدة أم إن المخيلة هي من تتحكم في طريقة الإنتاجية ؟
- الواقعية وحدها تفسد
الشعر ، لأنها تحوله الى شعار أيديولوجي ، أو في أحسن الأحوال صورة
فوتوغرافية والكتابة بلا مخيلة خصبة لا يمكن ان ترقى الى مصاف الشعر ، ودور المخيلة
هو تحويل الواقعي واليومي الى شعري ، الابداع عموماً والشعرخصوصاً يحتاج الى
ذاكرتين ، ذاكرة لاقطة وحافظة للكثير من التفاصيل التي تغيب عن الانسان العادي ،
وأخرى تخيلية ، ومن تزاوج وتلاقح هاتين الذاكرتين ، ينتج نصٌّ شعريٌّ ، مضافاً
اليهما الموهبة والمعرفة ( مفهوم المعرفة يختلف عن مفهوم الثقافة ، وكلما اقتربت
المعرفة من الثقافة والتي هي تحليل واعادة بناء للمعرفة ، كلما كان دورها ببناء
القصيدة أساسياً ) . إطلاق العنان للمخيلة ضرورة يحتاجها النص في عملية الكتابة
مثلما يحتاج الى الموهبة والتجربة ، والموهبة الأصيلة أو الكبيرة هي التي تستطيع أن
تخلق تجربة متخيلة وتصهرها مع التجربة الحقيقية ، لأنتاج نصٍ يمتلك تجربته الخاصة
به ، وهذا ما نجده عند شاعرين يعيشان في بيئة واحدة وتربطهما علاقة اجتماعية حميمة
، وقراءاتهما واحدة ، واهتماماتهما واحدة ، ولكن قصيدتهما تختلف تماماً .
**البعض من الشعراء ينتهج
السرد القصصي في كواحدة من طرق البناء الشعري هل يمكن أن يكون هذا التداخل في صالح
القصيدة ؟
- الحداثة تعني فيما
تعنيه الاستفادة القصوى من جميع انواع الفنون والمعارف ، وكل شاعر هو بطبيعة الحال
قارئ جيد للسرد ، علماً ان السرد ليس غريباً تماماً عن الشعرية العربية ، ولكن بفضل
التقنيات الحديثة استطعنا ان نطلع على نماذج راقية جداً في السرد ، وقد وفق الكثير
من الشعراء في ذلك ، مثلما لم يستطع بعضهم تجاوز الممكن والحد الأدنى مما أوقع نصه
في منزلق خطرٍ ، لكن على العموم السرد حاله حال الكثير من التقنيات التي دخلت
القصيدة الحديثة ، فقد أغناها وأخرجها من مآزق ومطبات ، وفتح لها باباً من أبواب
الحداثة ، والحقيقة التي نؤمن بها جميعاً هي ان المبدع الحقيقي ، يستطيع ان يحول
كلام الباعة والطرقات الى شعرٍ صافٍ ، أما من يعيش عالة على الشعر ، فأنه يحول
الشعر الى ذلك الكلام الموزون المقفى والذي لا يستحق حتى ثمن الحبر الذي كتب به أو
المساحة التي شغلها في الشبكة المعلوماتية .
** للمكان في زمن الطفولة
اثر في المخيلة.. أما زالت الطفولة كلها والمكان هي المهيمنة على الذاكرة الشعرية
والمرجعية شفاهية قبل تدوين القصيدة.؟
- لا شكّ إن كربلاء معي
حيثما ذهبت ، كربلاء التي هي جزء من وطن أنظر الى مأساته بمنظار يختلف عن الآخرين ،
ولكني لا أحنّ لمكان طفولتي (بمعناه الضيق) ، وألعن في السر والعلن طفولتي البائسة
، والتي هي عبارة عن يتم وحرمان من الأبوين ومن دفءهما ومن ملاعب الطفولة ، فقد
اشتغلتُ خبازاً وانا في السابعة من عمري ، وكم كنت أقارن وانا دون ذلك ، بين حياة
أعظم العظماء وأعني طفولته ، وطفولتي ، ولم يتهيأ لي جدّ هو سيد قومه ، كان احد
أحلامي الكبرى هو أن أكبر سريعاً ، لأتخلًص من طفولة كنت ومازلت أحسبها أسوأ فترة
في حياتي ، وكم كان الدمع يجد طريقه سريعاً لمقلتيّ أنذاك ، كلما رأيت أطفالاً
ينعمون بحنان العائلة والتي كنت أحسبها دون الأب والأم لا تعني شيئاً ، وقد تعرّضت
لأحراجات جمة في المدرسة عندما كان يطلب مني ان أجلب وليّ أمري ، وكنت أخر طالب
يجلب وليّ أمره وفي كل مرة يختلف عن سابقاتها ، وعلى العكس تماماً أحنّ لمكان
مراهقتي وبداية شبابي في محلة باب السلالمة ، ومازلت انظر الى فترة العشر سنوات ما
بين 1983 – 1993 وهي فترة تعرفي على مجموعة كبيرة من المهتمين بالكتاب ، على انها
الفترة الذهبية ، حيث أحن الى كل لحظة من لحظاتها ، وكل مكان قضيناه معاً ، ان كان
في بيوتنا او المقاهي او ستوديو الفنون ، او الشوارع والطرقات التي كنا نسلكها معاً
وخمرة الشعر والادب والثقافة لا تفارق شفاهنا وقلوبنا وعقولنا ، وهذه الفترة لها
أثرها في المخيلة ، هذا لا يعني ان لا أثر للطفولة في ذاكرتي الشعرية ، ولكنه أثرٌ
مليئٌ بالندوب والسخام والحرمان ، أحاول أن أفضحه وأحاسبه وأعريه وأنتصر عليه
شعرياً ، لهذا تجد تلك الفترة المظلمة من حياتي لها حضورها القوي في نصوصي .
** هل منحتك الغربة
والنساء الجميلات وكل ما هو مختلف في العراق ذاكرة للشعر؟
- إحدى مهام الشاعر هي
التقاط الشعري من مما هو غير شعري ، فكيف اذا كان هذا الشيء شعرياً ، الغربة بحد
ذاتها قصيدة ولكنها قاسية جداً أما النساء الجميلات فهنّ قصائد الله التي يعجز أي
شاعر الاتيان بمثلها وما علينا الا ان نقرأها ونقرأها ثم نتأملها لنكتب قصائدنا
التي مهما حاولت فلن تصل الى درجة الخلق والابداع لما في هذه القصائد الباذخة
شعرياً ،ومثلما منحني العراق نبعاً لا ينضب وشلالا يتدفق بالشعر ، فقد منحتني
الغربة وقصائد الله والحنين والاستغلال والعنصرية في بلدان حقوق الأنسان البلدان
التي تمنحك حقوقك بيد لتسرقها منك باليد الأخرى ، وقراءاتي المتنوعة واطلاعي على
تجارب شعرية مختلفة من خلال احتكاكي بثقافة مختلفة لغة وسلوكاً وطريقة تفكير ، أقول
قد منحتني ذاكرة ومحفزات جديدة للشعر ، تتمازج وتنصهر مع ذاكرتي العراقية لتأسيس
خطاب أجتهد ان يكون ذا علامة " باسم فرات "خاصة بي ولا تشبه سواي .
** أدب المنفى كما يطلق
عليه الآن في العراق .. هل استطاع أن يكون عراقيا بثوب جديد أم أثرت عليه الوقائع
الجديدة التي تصطادها العين ؟وما هي العلاقة ما بين الأدباء في الخارج وما هي
المصادر التي تقربهم من الأدب و الأدباء في الداخل.
- نعم انه عراقي لا شكّ
في ذلك ، وهل تستطيع عندما تنهي قراءتك لسعدي يوسف وسركون بولص وفاضل العزاوي
وعشرات غيرهم الا أن تخرج بنتيجة مفادها ان من كتب هذه الأعمال لا بدّ ان يكون من
سلالة جلجامش ، وذلك الشاعر العراقي الذي وصلتنا قصيدته الرائعة والتي يقول في
مطلعها " لقد نفتنا الآلهة " وكم واحد منا رددها في منفاه مرارا .. وحتماً ان للأدب
العراقي في المنفى نكهة مميزة بعض الشيئ ولكن ليس لدرجة الاختلاف الكلي ، فمفردات
الغربة والمنفى والحنين ومشتقاتها تجدها واضحة في معظم نتاجات الادباء الذين يعيشون
في الخارج ، مثلما تجد مفردات واسماء جديدة فرضت نفسها بقوة في نصوصهم ، وعلى سبيل
المثال لو لم أكن أعيش في منفاي النيوزلندي لما كتبت الكثير مما كتبت ، وبالذات
قصائد مثل " برتبة منكسر " و" هنا حماقات هناك .. هناك تبختر هنا" و " شيئٌ ما عنكِ
.. شيئٌ ما عني " و " أنا ثانيةً " وغيرها من القصائد التي هي عراقية بلا شكّ مطعمة
بنكهة جديدة نيوزلندية ، وسوف تتغلل النكهة اليابانية في قصائدي مستقبلاً ، علماً
ان أول قصيدة أكتبها في اليابان هي تحت عنوان "الساموراي " . هناك تهويل غير مبرر
لما يصطلح عليه بأدباء الداخل وأدباء الخارج ، وكأن العراق هو البلد الوحيد في
العالم الذي انجب الدكتاتورية وانجب عدداً من الادباء غادروه لاسباب سياسية
واقتصادية وسياحية ( ليس كل من خرج من العراق وخصوصاً في الخمس او الست سنوات
الأخيرة من عمر النظام ، لأسباب سياسية أخلاقية ، فمن تنعم بجوائز النظام ومكرماته
ودعمه حتى خروجه ، لا يمكن ان يصنف من ضمن الأسباب السياسية والأخلاقية وانما
.....وأجعلها لفطنة القارئ اللبيب ) فالعلاقة هي بالتأكيد جيدة بل وممتازة ، ولكن
من في نفسه مرض ان كان مازال يعيش في العراق ليَتّهِمَ من خرجوا بأنهم عبيد الدولار
ويسمهم بالخيانة ، او من يعيش في الخارج ظاناً نفسه انه الأسمى والأنقى ، بل والأهم
ابداعياُ لأنه يعيش في مجتمعات منفتحة ولا يتحكم بها داء التحريم ، وواسماً جميع من
بقي في الوطن بالتلوّث ، وكأن الجميع كانوا عبارة عن جوقة لا همّ لها سوى تمجيد
الطاغية ، كلا الفريقين حلم ان يصبح ذا شأنٍ في يوم ما ، ولكنه لم يقدم القرابين في
معبد الابداع ، ليحقق ما حلم به ، فمنهم من ظنّ ان تحوله الى مدمن على الخمر
ومحاولاته بتقليد رامبو وبودلير وغيرهما سلوكياً ، مع جلوسه بجانب شعراء وأدباء لهم
بريق نجوميّ، انما الدليل على عظمته فراح يوزع احكامه التي لا علاقة لها بالابداع ،
جزافاً ، ومنهم من اتخذ من جوائز النظام أو جوائز بعض الدول التي لا رابط يربطها
بالحداثة والابداع ، أو جوائز أخرى أعطيت لأسباب لا علاقة لها بالمنجز الشعري بقدر
ما لها بالمنجز الاجتماعي ، دليلاً على عبقريته الشعرية الفذة ، فراح يطلق التصاريح
الجوفاء ، والادعاءات الفارغة ، وشاهراً علينا بذاءاته لنصفق لوهمه ، هؤلاء هم من
يحاولون بكل الوسائل ترويج مصطلح أدباء الداخل وأدباء الخارج ، موهمين القارئ ان
فرقاً شاسعاً بين من يكتبون تحت يافطة هذين المصطلحين .اننا نطلق أو نردد الكثير من
المصطلحات دون تمحّص ، وبعضها قد يسيئ إساءة بالغة لنا دون أن نعي ، مثلاً نجد ان
الصحف التي كانت تحارب الطاغية قد روّجت الكثير من الاساءات للشعب العراقي بوعي أو
دون وعي ، فبالاضافة للمصطلح المذكور أعلاه ، تردّد وبشكل واسع وبدون أدنى شعور
بالمسؤولية والحياء سوى التكالب لتعرية النظام السابق حتى لو كانت نتيجة ذلك احداث
شرخ بين أبناء الوطن الواحد وهذا ما ندفع ثمنه الآن ، مثل مقولة " ان الأربعة
ملايين عراقي الذين يعيشون خارج العراق هم أدمغة وكفاءات ومواهب وخبرات العراق " أو
" ان خبرات وكفاءات ومواهب وادباء وعلماء العراق كلهم خارجه "هكذا بكل بساطة ، وكأن
من بقي في الداخل هم الجهلة والأغبياء والعياذ بالله ، ونسوا هؤلاء ان العراق هو
الرحم والمنجم ، ولا يمكن في يوم ما أن ينضب ، هذا أولاً ، وثانياً ان الاربعة
ملايين هؤلاء قد انتشرت بين غالبيتهم أوبئة التطرف والعنصرية(خصوصاً بين غير
الناطقين بالعربية ، ومعاداة كل ما هو عربي واسلامي وعراقي) والطائفية المقيتة
والارتداد الى الداخل لدرجة تخلق تناقضاّ صارخاً بين المجتمع الذي يعيشون فيه
وبينهم ، هم سببه ، والأطفال هم الضحايا ، والنرجسية والأنا المضخمة بشكل مرضي ،
فمن وصل مبكراً لدول اللجوء اتهم من لحقه مؤخراً بالانتهازية والتطبيل للنظام
والتخلف ، والذي وصل عن طريق الهجرة وليس اللجوء اتهم اللاجئين بالامية والجهل ( في
العاصمة النيوزلندية اتهمت سيدة عراقية وصلت وزوجها عن طريق الهجرة ، الجالية
العراقية بالامية واصفة الغالبية العظمى بذلك ، في نشرة داخلية لأحدى المؤسسات
المهتمة بشؤون اللاجئين عندما حاورتها ) أما اذا أردنا ان نحصي السلوكيات الشاذة
فلا تكفينا مجلدات كالسرقات والتزوير وغيرها من الممارسات غير الاخلاقية والاتهامات
حد مناداة الشرطة وإلصاق تهمة الارهاب وإدارة خلية إرهابية بشريك النُزُل العربي
والمسلم في بيئة غذاها الاعلام الغربي بأن الارهاب يعني العروبة والاسلام ، بسبب
وجبة طعام لا أكثر ، وهذا السلوك يصدر ممن يحسب نفسه على الأدباء .
تأكد يا صديقي ، اننا
أبناء بلد واحد وثقافة واحدة ، وأمة واحدة هي الامة العراقية ، ان كنا في الداخل أو
في الخارج ، ان كنا نكتب باللغة العربية او بغيرها من لغات العراقيين وهنا اسمح لي
أن أخرج عن الموضوع قليلاً ، لأتناول مسألة تؤرقني كثيراً وأحلم بها ، ألا وهي أن
تقوم وزارة الثقافة بتأسيس دائرة الترجمة العراقية ، والتي من مهماتها ان تقوم
بترجمة كل ما يكتبه العراقييون بغير العربية ، ليتسنى لنا جميعاً ان نطلع على ما
يكتبه أخوة لنا في الوطن ، علماً ان اللغة السريانية وحدها فيها آلاف الكتب والتي
اذا ترجمت للعربية ، سوف تكون ثراء ينضاف للمكتبة العراقية والعربية .
** ما ذا يعني لك أن
تترجم مجموعتك الشعرية إلى اللغة الإنكليزية وتكون أول مجموعة شعرية تترجم إلى هذه
اللغة ؟
- في البدء سعدت كثيراً ،
فديواني هو ليس أول كتاب لي ، يترجم للانجليزية فقط ، بل هو أول كتاب يترجم من
العربية للإنجليزية وينشر في نيوزلندا ،وقد كان حفل توقيع الكتاب ممتازاً حيث حضر
أكثر من مئة شخص في بلد غربي سكانه دون الأربعة ملايين ،والعاصمة التي حدث فيها حفل
التوقيع ، نفوسها مع ضواحيها البعيدة لا تتجاوز ال370 ألفاً ، وقد كتبت عنه أكثر من
عشرة عروض ودراسات في نيوزلندا وأستراليا وأوربا وامريكا حيث نشرت مجلة الأدب
العالمي اليوم قراءة جميلة عن الديوان ، وهي مجلة رائدة في الولايات المتحدة ، ولكن
بعد أيام قلائل ، لم يعد الموضوع يعنيني بشيئ وهذه هي حالتي ، ان كان في نشر كتاب
أو مقالة او كتابة قصيدة ،أو غير ذلك ، فما أن ينتهي الموضوع حتى تغادرني لذة
الانتشاء أو تحقيق المنجز ، ولا أكتمك فأنا سعيد بذلك لأنه دافعي للبحث عن ما يشبع
رغبات روحي الظمأى للمنجز، وأنا شخص غير راضٍ عن نفسي ، وأعجب ممن هو دون الخمسين
ويقول لك انه راضٍ عن نفسه وهم من ينطبق عليهم قول المتنبي :
وتعظم في عين الصغير
صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
فهم الصغار الذين تعظم في
عيونهم صغار الأمور،أنا شخصياً لا أومن أني حققت شيئاً وينتظرني الكثير الكثير
لإنجازه ، وصدور ديوان شعر لي بالانجليزية هو مرحلة بسيطة ومتواضعة من عشرات إن لم
تكن المئات من المراحل التي تنتظرني وانتظرها.
** هل استطاع الأدباء في
المنفى أن يكونوا لهم منهجا خاصا أو طريقا جديدا في كتابة النص الأدبي وهم يتمتعون
بحرية اكبر من أدباء لداخل ؟
المبدع هو مبدع أينما كان
، ومن لا يحمل موهبة حقيقية ، وهماً إبداعياً يملك عليه حياته لا يمكن له أن يبدع
حتى لو عاش بصحبة أفضل أدباء العالم وفي كل مدن العالم المتحرر ، وخذ على سبيل
المثال لا الحصر ، المبدع الكبير محمد خضير ، والمرحوم شهيد الإبداع والمبادئ محمود
جنداري ، والشهيد حسن مطلك ، والشاعر طالب عبد العزيز ، والقاص والمسرحي جليل
القيسي ، هؤلاء نجوم مضيئة في الإبداع العراقي والعربي ، لم ينفخهم الإعلام ولا
مؤسسات حزبية أو حكومية ، ولم يسافروا إلى بلدان كثيرة ويتخذوها مستقراً لهم ولو
إلى حين ، ومع ذلك أنجزوا منجزاً رفيعاً في عليائه ، وقد استطاعوا برغم الظروف التي
عاشوها إن يتحايلوا إبداعيا على الرقيب ، فليس كل من حصل على عضوية الاتحاد العام
للكتاب العراقيين ، أصبح أديباً ، ونحن نقول هذا الكلام لأن المئات ممن خرجوا من
العراق تحت عنوان "أدباء " وحصلوا على اللجوء بعد ان قام البعض ممن امتهنوا حرفة
الكتابة دون رادع أخلاقيّ بكتابة مقالات لهم ،لتنشر في صحف المعارضة والتي كانت
تستقبل الجيد والردئ على السواء ، ليتوهموا إنهم أدباء ( لقد حاول قريبٌ لي أن يفعل
ذات الشيء وطلب مني أن أكتب له ، فنهيته وزجرته ، ولم أمد يد المساعدة له لأن ذلك
خيانة للكلمة ، وهو الآن في كربلاء ) فالمنجز العراقي في المنفى نعم فيه من حقق
حضوراً يحسب أضافة جيدة للثقافة العربية ، وفي جميع المجالات ، ولكن كم عدد هؤلاء
؟، هذا هو السؤال ، وحتى لا نغبن الإبداع العراقي ، نقول إن هناك مجموعة جيدة من
الأسماء ، لو قدّر لها أن تعود للوطن فان حركة إبداعية كبرى على مستوى العالم
الناطق بالعربية ، سوف تغلي في العراق .
** الأدباء الذين عاصرتهم
في كربلاء هل كانوا بالمستوى المطلوب من الموهبة أم كانوا مجرد محبي أدب وهل كان
بعضهم صاحب تأثير على تجربة باسم فرات أم إن الغربة كان لها مفعولا خاصا في إدامة
الموهبة ؟
- معظم من عاصرتهم في
كربلاء كانوا ولا زالوا أدباء ، أمّا ما هو مستواهم الأدبي ، فهذا لا أحبذ النقاش
فيه لأن الاجتماعي سوف يطغى على الإبداعي في حكمي ، بسبب علاقاتي الحميمة معهم ،
ولكن هذا لا يعني إن الجميع كانوا بمستوى واحد ، فالعمر والتجربة لهما الأثر الكبير
وخصوصاً وأغلبنا كان في بداياته ، وكما هو معلوم معظم التجارب لا تتوضح إلا بعد
الثلاثين بسنوات ، وإذا عرفت أننا ( غالبيتنا ) ولدنا ما بين 1960 و1967 وهو تاريخ
ميلادي أنا الأصغر سناً من الجميع ، فأن فترة وجودي في كربلاء كانت فترة التشكيل
للكثيرين منا ، ورغم إن البعض قد توضحت ملامحه قبل خروجي ، فهي ليست كافية للحكم ،
خصوصاً وكما أسلفت إنني تربطني بهم علاقات اجتماعية حميمة ، وأنا أحترمهم حقاً ،
والزمن هو كفيل بتحديد من كان مبدعاً كبيراً ومن ليس بمبدعٍ ، لكنني أكاد أجزم إن
الجميع كانوا أكثر من محبي أدب ، حتى إن بعضهم استطاع إن يلفت نظر النقاد أو لجان
الجوائز ، وهم جميعاً أصحاب فضلٍ عليّ ، فقد كنت كما ذكرت مراراً صغير القوم عمرياً
، وكانوا يعاملوني كأخ وند لهم ، طبعاً لم يكونوا ملائكة ، ولكني مازلت أشعر بحلاوة
تلك السنوات التي قضيتها معهم وقد تأثرت ولفترة وجيزة بميول قراءات هذا وذاك ،
ولكني كنت أردد دائماً أني متأثر بأكثر من شاعر ، حتى أنني حين ذكرت ذلك أمام أحد
الشعراء في بيته وبحضور عدد من الأصدقاء ، ضحك الجميع ، ولكني كنت أعني ما أقول
وأنا لحد هذه اللحظة فخور بذلك ،فقد عنيت ولكن بطريقة غير مباشرة من أنني تلميذ
لجميع الشعراء ، لأن لا وجود لشاعر درجة النقاء في شعره 100 % ولكن هناك من يسقط في
شرك التأثر بشاعر واحد طول حياته فيفقد بوصلته ويجعل القارئ بدون أدنى مجهود يستحضر
الشاعر المهيمن ، خصوصاً إذا كان خطابه سهلاً على الأذن العربية ، أما من ينوع
قراءاته ويحرص على تنقية موهبته من سطوة الآباء شعرياً وليس بشتمهم والأساءة لهم ،
لأننا تعلمنا من جميع الأسماء المطروحة في الساحة قبلنا، فاحترامهم إنسانيا واجب
مثلما التمرد شعرياً عليهم واجب أيضاً ، وهم بلا شك أكثر من يفرح لشق عصى الطاعة
التي يمارسها تلامذتهم،أعود وأكرر إن الأدباء الذين تعرفت عليهم في كربلاء هم أخوة
وأصدقاء لي ولهم كل المحبة والاعتزاز في نفسي وقد استفدت حقاً من أكثرهم في بداياتي
وخصوصاً في النصف الأول من الثمانينات ، وقد كانت مكتباتهم مفتوحة لي مثلما بيوتهم
وقلوبهم ، والعكس صحيح ايضاً .