/ عبدالرزاق الربيعي - العراق
عندما قال الشاعر سعدي
يوسف :" لقد وجد باسم فرات طريقه المتفرد في المشهد الشعري العراقي الرائع في
المنفى" فهو يعني ما يقول لان تجربة الشاعر باسم فرات اختمرت في المنفى واينعت
ثمارها تحت لهيب جمرته ، رغم انه نشر العديد من النصوص قبل مغادرته الوطن الى
الاردن ومن ثم الى نيوزلندا ، وكانت له مشاركات عديدة في مهرجانات اقيمت في بغداد
وكربلاء التي ولد ونشا فيها ، وماان استقرت مراكبه في منفاه النائي لم يجد ملاذا له
سوى القصيدة يحاورها وتحاوره يبثها هواجسه وتبثه وهج الكتابة حتى شق مساره
على هذا الدرب الطويل فأصدر ديوانا نشرته دار الواح بمدريد عنوانه (اشد الهديل ) ثم
اعقبه بديوانه الثاني ( خريف الماذن ) الصادر عن دار ازمنة الذي قوبل
باهتمام المتابعين، اما ديوانه بالأنجليزية "هنا وهناك" فكتبت عنه اكثر من
عشرة عروض ودراسة بالانجليزية في نيوزلندا واستراليا وامريكا الشمالية واوربا ، قال
عنه القاص عبدالستار ناصر " يكتب القصائد علي ضوء الذكريات المعتقة في صندوق الرأس،
ليس من شاعر أصيل إلا وأكلته الذكريات في ساعة من زمن الغربة والمنافي ــ يعيش منذ
أعوام في نيوزيلندة ــ فكيف إذا كان الوطن علي بعد ثلاثين ألفاً من الأوجاع
والأميال والمحيطات حيث لا أحد ينطق العربية إلا في أحلام اليقظة!
لهذا تسمعه وهو يحكي في
ديوانه الحزين عن (مقامات القبانجي) وعن الملا عثمان الموصلي ، كما يقص الحكايا عن
ساحة الحرمين وباب القبلة، وكذلك شارع العباس والعلقمي (وهو نهر يجري في مدينة
كربلاء وغير مجراه احتجاجاً علي مقتل الحسين) بل يصل الشوق به إلي آخر المطاف بحيث
يتذكر (سجن السندي) و(باب السلالمة) وهي إحدي أعرق المناطق السكنية في كربلاءوباسم
فرات مزحوم إلي رأسه بأسئلة فات أوان الجواب عليها بعد أن كثرت حول منزله الحروب
واحترقت أوراقه التي كتب فيها أجمل أوجاعه وأعذب سعاداته فهو عادة ما يسأل نفسه عن
مصير كربلاء الثانية وكربلاء الثالثة وكربلاء الرابعة، يرسم الطرقات في قلب البلاد
ويحاول طرد الأشجار عن رأسه لكن زقزقة العصافير ستبقي حتي إ ذا اختفت الشجرة ودعونا
نقرأ في سؤالاته التي تصحو وتنام علي فراشه الكئيب"
دعونا نقرا اجاباته عن
تساؤلاتنا حول الشعر وكربلاء وجيل الثمانينيات وتاريخ العراق وهو المولع
بالتنقيب في المسكوت عنه في هذا التاريخ الاشكالي :
* اولى الاشارات
التي جعلتك مشدودا الى وهجها ، كيف كانت ؟ ومن اين جاءت ؟
- اولى اشارات التلقي
جاءت من جدتي ، حيث قامت بتحفيظي لسورالقران القصار قبل دخولي للمدرسة، اضافة
لمواظبتها على قراءة القران والادعية بشكل يومي ، وما للترتيل من تا ثير منغم
على اذن الطفل ، كما وان المواكب الحسينية والاحتفالات الدينية وطقوس البكاء حيث
كربلاء عاصمة الدموع بلا منازع ، ومنهل الفجيعة ، وما كنت اسمعه من جميع من يكبرني
بالسن من كلمات التذمر والشكوى من السلطات ، ثم شاءت الصدف ان كان هناك ثمة صدفة ان
أعمل مع صديق لوالدي ، وكان أصحابه يجتمعون كل يوم في دكانه تقريبا ، يتحدثون في
الشعر والسياسة ،وكانه الصبي الذي هو انا يسترق السمع لما يقولون ، فيجد لكلامهم
موقعا يمس شغاف قلبه ويضرب على اوتار احاسيسه ، وكانوا يرسلونني كل يوم لشراء طريق
الشعب جريدة الحزب الشيوعي العراقي ، فبدات اتصفحها في البداية ثم حين اكتشفت ان
هذه المجموعة عندما تلتقي تنسى العالم وما فيه بالرغم من انهم يتحدثون عن مشاكل هذا
العالم السياسية ،فبدات اقرا ما تيسر لي من هذه الجريدة وانا في طريق عودتي حاملا
الجريدة اليهم ، و التي اكاد اجزم انها كانت من الثراء المعرفي ما جعلها تحظى
باحترام حتى من يختلف معها ايديولوجيا ،والهيئة التعليمية في المدرسة الابتدائية
التي كنت فيها ،وما فعله معلموا اللغة العربية والتاريخ والجغرافية خاصة من دور
بعدم التقيد بالمنهج والتوسع بالمعلومات وتصحيحها كما حدث لمعلم التاريخ في الخامس
الابتدائي ، عندما بدات اتحدث عن (أبي العباس السفاح ) وبما سطروه من مغالطات في
كتاب التاريخ فما كان من هذا المعلم الانسان الا ان صحح معلوماتي التي استقيتها من
المنهج وكنت بالصدفة قد فتحته ،شارحا لنا المعنى الحقيقي للسفاح ، اما بالنسبة
لمعلم اللغة العربية فقد قال لنا يوما وكنا في ذات الصف اعلاه : لا يمكن ان ندعكم
اجتياز الابتدائية دون ان تحفظوا على الأقل 200 بيتا من روائع الشعر العربي ، وكان
يقصد من خارج المنهج بالتاكيد. هذا ما دفعني لاقتناء الكتب وانا في
الابتدائية.
من هنا بدا تشكل وعيي و
محاولاتي الاولى بالكتابة،واول شخص تجرأت وعرضت عليه كتاباتي هو ابن عمتي الذي كان
يكبرني باربعة اعوام (قتله النظام مع شقيقه وابن عم لنا)،وهذا الفارق بالسن له
اهميته بالنسبة لطفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره ، ثم جاءت مرحلة الدراسة
المتوسطة وفيها حدثت اشياء كثيرة لي منها اني انتقلت من العيش مع جدتي لابي الى
العيش مع والدتي وفيها بدات اعرض قصائدي على مدرس اللغة العربية ثم تعرفت الى راهب
الادب في كربلاء محمد زمان والى مجموعة من الادباء في المدينة غالبيتهم لم ينشر
شيئا من نتاجه وبعضهم نشر القليل او الكثير، كنت اصغر الجميع سنا ،نلتقي بشكل يومي
اما في محل التصوير الذي كنت اعمل فيه (ستوديو الفنون ، ومن هنا جاءت كنيتي "
فنون"كما اطلقها الصديق اياد الزاملي )او في بيت محمد زمان او مقهى سيد علي. كنا
نلتهم كل ما يقع بايدينا من كتب ،كنا نقرا الشعر التقليدي منذ بداياته التي وصلت
الينا وحتى الجواهري الكبير حقا مثلما نقرا نازك والسياب والبياتي وسعدي يوسف
وادونيس وحسين مردان وبلند الحيدري وعشرات الاسماء الشعرية التي ظهرت في الخمسينات
لكن سطوة هذه الاسماء التي ذكرت وبريقها جعلت الكثير من الاصوات تتمدد في
زاوية قصية من رفوف المكتبات العامة ومحلات بيع الكتب الا لمن سرى هوس الشعرفي
عروقه وكنا نتبادل الكتب ونتباهى بحصولنا على مجاميع شعرية نادرة طبعت في الخمسينات
او الستينات او مطلع السبعينات ، واتذكر في احد الايام جاءني الصديقان الشاعران
حميد حداد وكريم جواد والفرح يملا وجهيهما وعلى محياهما الفخارعلى ما حصلا عليه من
غنيمة عند ذهابهما الى ام العراق
بغداد وكانا قد وصلا توا
الى كربلاء فمرا بي في ستوديو الفنون كما هي عادتهما وبداا يستعرضان غنيمتها امامي
فرجوتهما ان يخبراني عن المكان وبعد تمنع ودلال اخبراني فما كان مني الا ان انتظرت
الصباح الذي راح هو الاخر يماطل بدهاء كصديقي الرائعين ،فبكرت الى بغداد وتزودت ما
تزودت ففي عراق نهاية النصف الاول من الثمانينات ما زالت العملة العراقية قوية ،
وكانت دواوين الشعر ومجلات الطليعة الادبية والاقلام من التي صدرت في السبعينات
عندما كان سعر الكتاب لا يتجاوز المئة فلس .ذكرت هذه القصة وهي واحدة من مئات القصص
عن مدى تعلقنا بالكتاب وشغفنا به ، هذا بالاضافة الى قراءتنا لترجمات عيون الشعر
والادب الاجنبي من خلال المجلات والكتب ، فقرأنا لمعظم الاسماء المتداولة عالميا
وترجمت الى العربية ، كل هذا ونحن دون العشرين من العمر،فلا عجب انه بعد كل هذه
السنين ، وعندما استقبلت احدهم في العاصمة النيوزلندية قيل لي انه شاعر، وهو قد
اخبر الناس بعد ذلك انه حاصل على ستة جوائز شعرية،فسالته عن اسماء لها حضورها
في الساحة الثقافية ،فكان جوابه اما انه لم يسمع بها من قبل او راح ينتقص او يتهجم
عليها حتى لايضطر الى القول انه لم يقراهم كما فعل مع احد اهم النقاد العراقيين
والعرب،متعللا بان هذا الناقد قد الف كتابا عن احد الشيوخ الشعراء، ونسي انه هو
الذي تغنى بنيسان الذي عاد ،وكلنا يعلم ان من يتغنى بنيسان في العراق زمن النظام
المنقرض يعني وبكل بساطة التغني باسوا يومين في تاريخ العراق الا وهما السابع من
نيسان يوم حزب البعث وما ادراك ما حزب البعث ، و28 منه يوم ميلاد طاغية وسفاح
العراق،سقت هذه الحادثة لاقول ان مجموعة الادباء الشباب التي تعرفت عليها في تلك
الفترة والتي كانت تضم فيما تضم حميد حداد ، صلاح حيثاني ، كريم جواد ، عقيل ابو
غريب ، ماجد الوجداني وشقيقه حميد ،علاوي كاظم كشيش،خضير النزيل ، فلاح الصوفي ،
عقيل المنقوش ،كاظم شناوة ، قاسم شناوة واياد الزاملي ،لم ولن تنزلق لحضيض
التغني بميلاد الطاغية تحت ستار التغني بنيسان الذي عاد ، ثم عندما يسقط نظام
الطاغية بعد ذلك بسنوات تنشر ذات القصيدة (اذا كان كل كلام موزون مقفى شعرا فهي
قصيدة ،وهذا ما تفهمه هذه الفئة) على اعتبار ان الطاغية سقط في نيسان . او التغني
بتموز واللعب على ذات الوتر الانف الذكر، فكان موقفها حازما و واضحا من النظام ومن
اتباعه ومواليه ومداحيه وطباليه منذ نعومة اظفارهم ،وان عمق جذور هذه المجموعة في
ارض الثقافة الانسانية قراءة ووعيا وهضما وتمثيلا هو الذ ي جنب معظم اعضاء هذه
المجموعة بعد خروج غالبيتها للمنفى من الوقوع في مطب النرجسية وتضخيم الانا بشكل
مرضي مقزز كما حدث للبعض ممن وصلوا مؤخرا الى بلدان اللجوء فراحوا يدعون ادعاءات
اسطورية خالية من كل حياء ومستهترة بكل القيم والاخلاق ومستخفة بالاخر المضيف في
عقر داره مستغلة صدقه مع نفسه وتصديقه للمقابل .
* كل مشروع شعري يرتكز
على اسس ماهذه الاسس بالنسبة لك ؟
-انها ثلاث اسس :
الموهبة ، سعة الاطلاع المعرفي و التجربة ، اما الوعي فهو المظلة التي تظلل هذه
الاسس ، فادونيس وهو اقل موهبة من السياب وسعدي يوسف وسركون بولص ، استطاع بسعة
اطلاعه المعرفي الثر وتجربته الغنية مع وعي عميق بالاشياء يظلل هذين الاساسين جعلت
ذائقته الشعرية على درجة عالية يحسد عليها ، من تلافي الضعف في موهبته ،وليصبح
مدرسة في الشعر العربي ، تعلمنا منه الكثير ،واكاد اجزم ان رايا ايجابيا يقوله
ادونيس بشاعر ما دون تدخل دافع اجتماعي في الراي لهو خير من عشرات الجوائز الشعرية
التي تمنح بالمجان لتوهم الاقزام انهم اصبحوا عمالقة الشعر وعلى سعدي وسركون
وادونيس ان ينحنوا امامهم ، ولكن هيهات فالدافع الاجتماعي يتدخل شئنا ام ابينا ،
ولا يضعف هذا الدافع الا بضعة امور اهمها عامل الزمن والذي كلما طال كان الحكم اقرب
للصواب ، والدافع الاجتماعي خصلة يشترك فيها جميع البشر.
اما بالنسبة الى مشروعي
الشعري (اذا حق لي ان ادعوه مشروعا ) فهو كاي مشروع شعري اخر يرتكز على
الاسس الثلاث الانفة الذكر، والركيزة الاولى لا حق لي بتقييمها فهي متروكة
للقارئ ، اما الركيزة الثانية (سعة الاطلاع المعرفي) وكما اسلفت فقد كانت همومنا
كمراهقين تختلف جذريا عن هموم مجايلينا ، كنا لا نهتم بجمع المال وتكديس الملابس
والتباهي امام الفتيات حيث ان الشعر اخذ ماخذه منا ،فانعكس اخلاصنا
للشعر على جميع مناحي الحياة ، حتى اننا كثيرا ما تخاصمنا وحدثت بيننا مشادات ،
احيانا تستمر اياما او ساعات ومعظم الاحيان دقائق، وهو ما وثق علاقتنا بوثاق مقدس
مفجوع بالحنين واللوعة، وبعد خمسة عشر عاما على تشتتنا القسري استطيع ان اوكد لك ان
جميع مشاكساتنا و خصوماتنا وسلوكياتنا وغرامياتنا كانت من اجل وفي سبيل الشعر ،
وطننا وملاذنا وانتصارنا الوحيد في هذه الحياة التي اكاد اجزم اننا معشر الشعراء
اكثر من يتجرع الخيبات فيها. ان هذا الاخلاص للشعر والترهب في محرابه ، جعل القراءة
همنا الاكبر واهتمامنا الاول ، وهذا ما سبب لنا مشاكل اجتماعية كثيرة مع
الاهل والاصدقاء والحبيبات، حيث كنا وما زلنا نقصر في الكثير من واجباتنا
الاجتماعية والاعراف والتقاليد بسبب هوسنا بالشعر والقراءة . اما بالنسبة للتجربة ،
فاعتقد ان ما مر من احداث بالعراق في الربع قرن الاخير جعلت الجميع يمتلكون
تجارب غنية في حياتهم تمكنهم من التعبير بطريقة ذات مستوى فني وابداعي راق لو
تكاملت ادواتهم الاخرى كالموهبة والاطلاع الواسع (ولا اقول الثقافة) مع وعي عميق
بالاشياء ، والشاعرمعنيّ بالأشياء أكثر من غيره مثلما هو معنيّ بطرح الأسئلة ولكن
ليس بالضرورة الأجابة عنها. ان الشاعر الحديث (الحداثوي) يجب ان يمتلك معرفة عميقة
وواسعة تؤهله لتكوين رؤيته الخاصة لهذا العالم بغض النظر عن تقاطعها مع المحيط
،الشاعر كتلة متوهجة من القلق ، أعجب من الذين يعيشون حياتهم على نمط واحد ، وأعني
روحياً ، كيف لشاعر ما بالذات يستطيع أن يقضي حياته مؤمناً أو ملحداً ( وهنا
ارجوعدم فهم المسألة بسذاجة وضيق أفق) لو قرأنا سير جميع الشعراء المخلصين حقاً
للشعر والناظرين له كغاية عليا ، سنجدهم قلقاً يشاركنا حياتنا ، ما أعانيه حقاً هو
هذا الشعور الفادح بالخسارة ، القلق الذي لا أبالغ بالقول اذا قلت قد أصبح مرضا
،ومرة كتبت عن شاعر: انه شاعر القلق ، هل كنت أقصد نفسي ، لا أدري ،وكم أرتكبت من
حماقات بسبب قلقي هذا ،خاصة عندما يعلن الضجر عن حضوره التام ،المنقذ الوحيد هو
الشعر، ساعتها أستنجد بقراءته ، وحين أكتبه أشعر بأنتصار يوازي شعوري الفادح
بالخسارة .
* نشات وترعرعت خلال فترة
الثمانينيات ، لكنك لا تحسب نفسك على شعراء الثمانينيات ، لماذا ؟وكيف تنظر
الى قضية الاجيال الشعرية ؟
- لقد نشرت قصائدي الاولى
في تلك الفترة ،ولكن انا لا احسب نفسي على اي جيل ، فمن الصعب ان يحدد الجيل بعشرة
اعوام ، اذ من الصعب ان نجد فرقا واضحا في الكتابة بين من بدا الكتابة والنشر في
عقد ما ومن بداها في العقد الذي يليه ، وكلنا يعرف ان افضل نماذج ما يطلق عليه
الجيل السبعيني كتبت في الثمانينيات ، وكثيرا منها في نهاية الثمانينيات ، وذات
الحال ينطبق على ما يسمى الجيل الثمانيني ، الذي عقد ملتقاه في شهر ايلول
1992 بغياب بعض اهم ابنائه واغلب ما قرا فيه من قصائد قد كتبت بعد الحرب ، ثم ان
غالبية مجاميع شعرائه المميزة نشرت في التسعينات ، والحال ينطبق على الجميع لان
معظم شعراء العالم كتبوا قصائدهم الناضجة بعد سن الخامسة والعشرين ، ان لم تكن بعد
سن الثلاثين ، فالمتنبي اذا ما قراناه بدون ظلال التاريخ واساطيره وهيمنة
الاشاعة ، نجد ان ما كتبه في بداياته ما هو الا ذلك الكلام الموزون المقفى ، او على
احسن الاحوال ، شعر تقليدي كان الاحرى به ان يحذفه من ديوانه ، ولكنه تطور تطورا
مذهلا بعد ذلك ان كان ما كتبه في حلب او روائعه بعد خروجه من مصر وحتى مقتله ،
بالرغم من الطابع العنصري الذي هيمن على بعض هذه القصائد ، وليس كما ذهب المبدع طه
حسين ، عندما ادعى خطا ان افضل نماذج المتنبي كتبها في مصر ، فهذا كلام ابعد ما
يكون عن العلمية واقرب ما يكون الى كلام شخص متعصب الى مصريته ،وكذلك الجواهري
الكبير الذي كتب افضل قصائده بعد سن الاربعين ، وكلنا يتذكر عشرات القصائد –
الروائع التي كتبت بعد تلك السن ، فاضحت في ضمير الامة العراقية مشاعل زهو وفي لغة
الضاد شموس ابداع.
ان طرفة بن العبد ورامبو
وغيرهما اقرب الى الشذوذ من القاعدة ، لهذا اجد ان من الصعب ربط العقد بالجيل
والجيل بالعقد ، فمن الممكن ان يكون القرن فيه ثلاثة او اربعة اجيال ، ولكن عشرة
اجيال وكل جيل يختلف في الكتابة عمن سبقه ومن لحقه فهذا تجييل غير علمي بالمرة .
وهل يتساوى من نشر
في العام الاول من العقد مع من نشر في الاعوام الاخيرة ، وهل يتساوى من نشر قصائد
في مطلع العقد مجرد صالحة للنشر او بسبب علاقة اجتماعية تربطه بمحرر صفحة
ادبية في جريدة او مجلة ما مع من عزف عن النشر لاسباب ابداعية واخلاقية ،وحين بدا
النشر فان كل قصيدة نشرها كانت مكتملة البناء ناضجة تنم عن احساس عميق بالمسؤولية
ووعي كبير بالية الكتابة، تستحق معها ان تنشر هذه القصائد بارقى المجلات الادبية
المتخصصة في العالم ، هذه مجرد اسئلة وغيرها تطرح نفسها ، امام الاصرار على التجييل
العشري الذي تردده الغالبية دون تمحيص ، وكم من شاعر رحل قسرا الى عقد اخر بسبب
تباطئه بارسال نتاجه الى الصحافة الادبية ، أليس التجييل العشري نتيجة كسل النقاد .
اما النظر الى تجربة
الشعراء الذين نشروا خلال عقد الثمانينات فهم بالمئات ولكن من واصل بداب وابداع
منهم ربما لا يتجاوز اصابع اليدين ، وانا احترم هذه التجارب واتابعها ، وبعض هؤلاء
الشعراء ، ليسوا من حملة الجوائز ونجوم مهرجانات الشعر ، انهم يكتبون بصمت وبدون
ضجيج ، فانا ممن لايمكن للجوائز والاشاعة والنجومية ان تؤثر على ذائقته الشعرية
،بالمناسبة غالبية حملة الجوائز عندنا هم شعراء بالاشاعة ، ان كانت اشاعة النظام او
الحزب او اشاعة غير المتخصص ، اي تلك التي يشيعها المرء عن نفسه امام اناس هم ليسوا
اهل اختصاص كان يكون امام رسامين لم يقراوا عشرة دواوين شعر في حياتهم و امام
سينمائيين او ممثلين درجة عاشرة وصحفيين من ذات المستوى ومغنين وموسيقيين وحملة
شهادات فقهاء باختصاصاتهم ولكن جهلة بالشعر ، شعراء وادباء ممن لم يسمعو بسركون
بولص ورامبو(يظنونه ممثل سلسلة الافلام الشهيرة) وجان دمو (يظنونه بريطانيا او
فرنسيا) وجماعة كركوك (فرقة موسيقية تركمانية تعمل في شركات حقول النفط ، هكذا
يعتقدون ع مقدسة الا التركمان لما ان ماساة اخواننا التركمان بدات عندما جاءت شركات
النفط فوظفت جميع فئات الشعب العراقي من خارج كركوك ال) اضف الى ذلك عمال المطاعم
والمقاهي على امل الحصول على وجبة رخيصة وفنجان شاي مجانا . حتى الجوائز العالمية
غالبيتها تمنح لاسباب لا علاقة للشعر بها ، فجائزة لمضطهدي الراي واخرى للدفاع عن
الحريات وثالثة لمن عاش في المنفى لمدة اطول مرغما بسبب مواقفه السياسية ممن يحكم
بلده وهكذا منحت مؤخرا جائزة هولندية الى محمود درويش ولم تمنح لسعدي يوسف ، علما
ان محمود درويش عاد الى فلسطين قبل عشرة اعوام تقريبا ، واسرائيل خرجت من الضفة
الغربية وبهذا اعترفت باحتلالها ، فلا يغضبها منح الجائزة ، اما سعدي يوسف فهو خارج
بلده منذ ربع قرن ، وهو على خلاف مع النظام الجديد في العراق ، والعراق تحت
الاحتلال الامريكي منذ عامين ونصف ، ولا احد يعلم متى يعود ، ومع ذلك لم يمنح
الجائزة ربما حتى لا تغضب امريك، وسركون بولص الذي ترك العراق منذ اكثر من خمس
وثلاثين عام، وهناك الكثير من الجوائز تحت مسميات اخرى ، لها علاقة بكل شئ الا
الابداع الشعري ،كل هذا العدد الهائل الذي يكتب الشعر بالعربية ، بينما نجد
مهرجاناتنا العربية والمتوسطية تحتفي بمجموعة معنية حتى أصبح هؤلاء مدمني مهرجانات
ووسائل اعلام ، فراح البعض منهم يتدلل على اللجان المانحة للجوائز، بينما نجد أسماء
مهمة في الشعر العربي لا يلتفت لها أحد ، وليس اعتباطا ان تجد القائمين على هذه
المهرجانات والجوائز حالهم حال أي جاهل بالشعر يرددون بلا خجلٍ وحياء جملاً
والقاباً ، أي قارئ حقيقي للشعر يشعر بالعار من ترديدها مثلاً: أمير الشعراء ( بعد
قراءتي لديوانه قايضته بكتاب قصة الفلسفة ، وقلت قولا ما زلت أفاخر به : هذا حمار
الشعراء وليس أميرهم ، وكنتُ وقتها دون العشرين من العمر ) ، متى أصبح للشعراء
أميراً ، كل شاعر هو امير تجربته وآلامه وحماقاته وخيباته ، فأثناء عملية الكتابة
يستعيد الشاعر حريته وكينونته ، وأناه تكون في قمة تجلّيها وانتصارها وشعورها الحاد
بالعظمة ، فكيف يقبل بشاعر مثله أن يكون أميراً عليه في الشعر، مما يؤسف له ان
الأخطاء التي أُرتكبت في الماضي ما زلنا ندفع ثمنها ، فوجود المثقف الذي ينحني أمام
السياسي وليس العكس ، بكثرة في ثقافتنا ، هو الذي منح السياسي فرصة اطلاق الألقاب
ومنح بركاته الغير إبداعية لتابعيه ، وبهذا إختلط الحابل بالنابل وكثر الغثّ وندر
السمين ، بل نتج عن هذا مافيات ثقافية ، مما حدا بالكثير من المبدعين الحقيقيين الى
الأنزواء والزهد أو في أحسن الأحوال التقشف بالكتابة والنشر، فهل من الممكن ان اخدع
باحد بعد كل هذا ، لا بالتاكيد.
* انت من الشعراء المقلين
في الكتابة والنشر ، هل هنالك اسباب لهذا ؟ ام ان المسالة لا تعدو ان تكون اكثر من
قضية مزاج شعري ؟
نعم انا مقل ولايقلقني
هذا بل ولا اهتم له ، لاني اهتم بالكيف لا بالكم ، الا يكفي ( ولكن هذا ال يكفي
يقلقني وليس الكم ) ان عملاقا كسعدي يوسف كتب :" لقد وجد باسم فرات طريقه
المتفرد في المشهد الشعري العراقي الرائع في المنفى". وفي رسالة لناقد كبير بل يعده
ادونيس اهم ناقد عربي كتب لي يقول " كهديل فاختة ثكلى على شاطئ الفرات"
وهو ذاته في احدى زياراته الى عَمّان في جلسة ضمته مع مجموعة من الشعراء والأدباء ،
قال لهم : كيف لم أنتبه لباسم فرات أنه شاعر مميز، فما كان من الشاعر وسام هاشم الا
ان اتصل بي مخبرا ، وانت نفسك أكدت ذات الكلام اذ انك سمعته من هذا الناقد في اليمن
، فهل تعلم ماذا كانت النتيجة هو انني لم أستطع ان أكتب أي قصيدة لفترة طويلة ،
وخلال خمسة أعوام أو أكثر لم أكتب سوى قصائد معدودات أنه الشعور الحاد
بمسؤولية الكتابة ،أن تسمع إطراء من شخص تحترم ذائقته وحساسيته الشعرية العالية ان
صحّ التعبير فهذا يعني انك وصلت الى منطقة مكشوفة لا يمكن التراجع فيها ولا سبيل لك
إلاّ المضي قدماً الى الأمام ، فمنذ نعومة أظفاري وانا أرتجف أمام أي شخص
أقرأ له قصيدتي أو أسلمه ايّاها ليقرأها بنفسه ، حتى ألآن وعبر الهاتف عندما أهم
بقراءة قصيدة لصديق فان أعضائي كلها تهتز مثل نخلة مزروعة في عراء القطب الجنوبي ،
رغم اني قرأت أكثر من مئة وخمسين مرة في نيوزلندا خلال اقامتي التي امتدت الى ثماني
سنوات وبالذات في العاصمة النيوزلندية ولنغتن ، حيث ان هذه المدينة مع ضواحيها تعج
بالأماسي الشعرية والتي لا تقل عن ثماني أمسيات شهرياً . والساعات التي تسبق مواجهة
الجمهور، هي من أصعب الساعات وأكثرها قلقا ورهبة وخشية من الفشل ، ومع كل نجاح
أحققه ، أزداد قلقا ورهبة وخشية ، فالكتابة تحتاج الى تجربة ، والتجربة تحتاج الى
أن تختمر في الذاكرة ، وان تتشذب وتتعمق بالقراءة ، لذا فالمسألة ليست مسألة مزاج
شعري ، والكتابة بشكل ايجابي عن نتاجي وبالذات اذا كثرت ( كتبت اكثر من عشرة عروض
ودراسة حول ديواني بالانجليزية في نيوزلندا واستراليا وامريكا الشمالية واوربا ) هي
التي تقلقني لانها تخاطبني بطريقة اخرى ، قائلة : اين جديدك ، واحذر ان تراوح
بمكانك ، فقافلة الابداع الى الامام وهي لا ترحم منِ يتخذ منَ الدراسات والمقالات
وسادة لينام عليها ، أكثر الأشياء تفرحني هو عندما يكون قارئ نصي ، قامة شعرية مهمة
ويتمنى ان يكون هو كاتب هذا النص ، هذي هي الجائزة الكبرى والحقيقية .
* للمكان الاول اثر على
كل تجربة ، و لكربلاء مساحة واسعة من تجربتك ، هلا حدثتنا عن هذه المساحة؟
المكان الاول بالنسبة لكل
انسان هو كالرحم ، هو البراءة ، التشكل ، الارضية التي يقف عليها كانسان وكعاشق
وكحالم ، وتزداد العلاقة حميمية كلما كانت الجذور أعمق وأعمق ، اضافة الى ان المقصي
او المنفي يحاول أن يوسع مساحة للاشياء الجميلة والرائعة في ذاكرتنا للمكان
الاول ، وبما ان الزمن له قدرة عجيبة على قمع السلبيات في ذاكرتنا ، وبهذا يصبح
المكان الاول مكانا مثاليا بالرغم من كل مثالبه تحن اليه كجنة مفقودة ، وكانك ما
عانيت الى درجة دفعتك للهجرة بعيدا عن هذا المكان ، وللتخلص من هذه الاشكالية فانك
ترحل جميع احباطاتك وعدم تجانسك الى حالة قريبة بالقدرالتي هي بعيدة ، كان تكون
الحكومة وخصوصا هرمها الاعلى ، مجبرا نفسك على التغاضي عن مئات الناس الذين يحيطون
بك من مخبرين وانتهازيين ومنافقين ومدعين يحسبون ان تملقهم للمسؤولين وللادباء
السلطويين شهادة ابداع كبرى عليك ان تنحني لهم عليها ، وارجو ان لا يفهم ان مدينتي
ومدينة ابائي واجدادي منذ اكثر من تسعة قرون ( نزحت عائلتي في القرن الحادي عشر من
بابل العظيمة حيث عشنا هناك منذ الازل ، اذ اننا استعربنا بعد عودة اخوتنا من
منفاهم الاختياري والذي استمر لاكثر من الف عام حاملين دين جدنا الاسطوري العظيم
ابراهيم بعد اجراء الكثير من التجديد عليه ) هي مؤئل كل هذه السلبيات ، ولكن
نحن العراقيين نعود الى ارومة واحدة هي العراق ، فامنا هي ارض شنعاروجبال آشور
ووالدنا هو العراق وهذا يعني ان ثقافتنا واحدة والعقلية التي نحملها واحدة بكل
سلبياتنا وايجابياتنا واختلاف لغاتنا ومعتقداتن، وان عدم وجود فسحة زمنية كافية ذات
استقرار وانفتاح سياسي ورفاه اقتصادي للتخلص مما اورثتنا اياه الهجرات المتواصلة
الى سهول البلد من الجهات الاربعة من سلوكيات لاتتناسب والمجتع المديني .
نعم المكان الاول جنة
مفقودة نحن اليها دوما ونؤسطرها كما نؤسطر الاشخاص ، لان منطلقنا هو ذهنية التأليه
،فحتى الذين ذهبوا للعراق بعد سقوط بغداد وعادوا الى منافيهم محبطين ومتخذين قرار
اللاعودة النهائية والاستقرار في المنفى ، فانهم بعد سنوات قد تطول وقد تقصر سوف
يعاودهم الحنين ، وان المكان الاول سوف "يحتال" على ذاكرتهم فتخضر من جديد الاشياء
الجميلة او التي يصورها لهم حنينهم جميلة ، وتبدا الجنة المفقودة في التوسع على
حساب صحارى الذاكرة ، وهنا لابد لي من الاشارة الى نقطتين ، الاولى هي اني هنا
اتحدث عن غالبية ولا اتحدث عن فئة قليلة ، قرار استقرارها النهائي اتخذته منذ ان
وطئت اقدامها بلدان اللجوء والهجرة بمشاعر باردة وقلب من حديد لا املكهم، ولا اريد
ان املكهما ، لان العراق بيتنا جميعا وبناء وتعمير هذا البيت واجبنا جميعا ، بينما
هؤلاء ، الوطن بالنسبة لهم حيث سعادتهم ورفاهيتهم ولا ولاء واخلاص لهم الا الى
نفوسهم . اما النقطة الثانية فهي تخص الذين عادوا للعراق بدوافع مصلحية على امل
الحصول على منصب مرموق ظانين ان وجودهم في المنفى كل هذه السنين يمنحهم الحق
بالتطلع لمنصب مهم بعد السقوط الكبير، وعندما خاب ظنهم عادوا الى منافيهم مرددين ان
العراق انتهى ، وهو بالفعل انتهى بالنسبة لهم راهنا على الاقل .
فالمكان الذي ولدت(1967)
وعشت فيه حتى خروجي من العراق (1993) هو في الخيال الجمعي ، مقدس ورمز للثورة
والتحدي ، تخشاه الانظمة ويتغنى به الثوار والشعراء والفنانون والحالمون والمؤمنون
وانصاف هؤلاء جميعا ، وهذاهو قدر المقدس والرمزيجمع كل الالوان والاطياف ، ذاكرتي
ملأى بمشاهد المواكب الحسينية بكل تفاصيلها مع الاف القصص التي سمعتها من كبار السن
الذين تجد كتب التاريخ تملأ رفوفا من بيوتهم ذات العمارة العراقية الأ صيلة عن
تاريخ المدينة قديما وحديثا وعن فقهائها وادبائها ومتصوفتها وعاهراتها وقواديها
ولوطيّيها وحشاشيها واشقيائها وصراعات محلاتها السكنية ،او صراع المدينة مع
الحكومة او مع القبائل ، مشاهد الجنائز التي تاتي من مناطق متفرقة من العراق لتطوف
في المدينة اولا ثم تذهب غالبيتها الى النجف ، اصوات الاذان من المنائر المذهبة
واصوات النعي والتشييع ايضا ،جنائز يمشي خلفها المئات ومنظر اصحاب الدكاكين وهم
يتركون دكاكينهم للالتحاق بها ولو لبضعة امتار طلبا للثواب ومواساة لاهل المتوفي ،
واخرى تسير يتيمة بلا ناع فتعلم انها لشخص أعدمته الحكومة ، وجزاء من يمشي خلف
جنازته سوف يكون اللحاق به ، ومع كل ارهاب السلطة فالناس كانت تحاول ان تشارك
وان بطريقة صامتة ( اول مشهد اتذكره في حياتي هو مشهد ميت ممدد وسط غرفة في الطابق
الاعلى من بيته ونسوة متلفعات السواد يطفن حول جثته نائحات ، والميت كان خال
أبي وعم والدتي الذي توفي بعد مقتل ابي باشهر معدودات لكني لا اتذكرابي) والنهر
الذي يلتف على جسد المدينة مثل شال يلتف على جسد فاتنة هل اقول كربلائية ، فجمال
المرأة الكربلائية هو صورة حقيقية على اختلاط الاعراق والاجناس والتلاقح الحضاري
بين الامم ، فمن خلل العباءة يطالعك وجه نوراني تتصارع فيه نار الرغبة العارمة
بانوار العفة والحياء، حتى تخاله يجاهد للافلات من العباءة ليخطف قلبك الذي تنازعته
الحيرة وسمره الجمال . وماذا بعد ، قد لا ابالغ اذا قلت ان تاريخ المدينة هو تاريخ
عائلتي ( بمعناها الواسع ) ولو كنت روائيا لكتبت تاريخ كربلاء سرديا من خلال الأسرة
التي انتمي لها رغم خطورة هذا المشروع ،عشرات المرات وانا التقي بأناس على مقاعد
الدراسة او العمل او من خلال النشاطات الاجتماعية والثقافية ، وعندما اعود للبيت
واسأل جدتي ، يكون الجواب عادة ان رابطة نسب بيننا ، بل وتسهب في الحديث عن تاريخ
هذه العائلة ومتى استقرت في كربلاء ومن اين جاءت ، وكنت دائما اقول لها اذا كان
اخوك مختار محلتنا وابناؤه من بعده فانت مختارة المدينة ، وعلى ذكر العائلة فقد كنا
نتسابق أنا وامي وشقيقتي على التهام الروايات والمسرحيات والقصص ، وكم كان اصدقائي
وبقية المهمومين بالادب ، يغبطونني عندما أخبرهم حالنا في البيت وان والدتي قد قرات
مثلا : للحب وقت وللموت وقت ، الساعة الخامسة والعشرون ، زوربا ، مدام بوفاري ، مئة
عام من العزلة ، ليس لدى الكولونيل من يكاتبه ، الأرنديرا البريئة وجدتها العجوز،
الرجع البعيد ، معظم روايات عبد الرحمن منيف ، اكثر من رواية لحنا مينا ومجموعة من
مسرحيات شكسبير ترجمة جبرا ابراهيم جبرا خاصة ، وغيرهذا من الاعمال الأدبية المهمة
.
ان العلاقة الحميمية التي
تربطني على مستوى العائلة والأصدقاء والمكان (البيت والمحلة والمدينة) وعلى المستوى
الديني والتاريخي ( قرأت خمسة كتب عن ثورة الحسين عدا المقالات والبحوث ...الخ)
مع المكان ذاته جعل لكربلاء مساحة واضحة كل الوضوح في شعري ، فكربلاء هي الرحم ،
والذاكرة ، وهي سلوك أيضاً ، فيها يتماهى الروحي والمادي ، الخاص والعام ، الماضي
والحاضر ، الديني والأسطوري .
* الوطن ماذا يعني الان
بالنسبة لك؟
مجموعة كبيرة من الضحايا
يتفننون بتقليد جلادهم ، ويتسابقون لمنحه صك الغفران وبراءة حسن سيرة وسلوك امام
التاريخ ليتحول الى صلاح دين جديد تتغنى به الاجيال القادمة وكانه بطل
ضَمنَ وحدة العراق ودافع
عن لغة القرآن ، اما المقابر الجماعية والحروب المجانية سوف يكون حالها كحال ضحايا
صلاح الدين ، من يستطيع الان ان يعلن امام الناس ان صلاح الدين الايوبي كان سفاحا
لدماء المسلمين لانهم يختلفون عنه مذهبيا ، حارقا لمكتباتهم قامعا لفكرهم ، حتى
طريقة وصولهما على رأس الحكم فيها الكثير من التشابه كالتملق والاغتيالات لكل من
يقف بطريق وصولهما الى اهدافهما ، فهل هي مصادفة ؟ ماذا يعني الاصرار على كتابة
الدستور بفترة زمنية هي اقل من 1 /30 من مدة كتابة دستور المحتل، علما ان تاريخ
العراق الحديث فيه من التعقيد الشئ الكثيروهو يكاد يكون من البلدان النادرة الذي
فئاته السكانية لغوية ام دينية ام مذهبية تكذب بوقاحة وتقصي الاخر بنازية
ضاهت هتلر وموسوليني ، وهنا اتحدث عن القيادات السياسية ، لا عن الشعب المظلوم ،
الذي تربطه علاقات مصاهرة عبر تاريخه الطويل ، بل ان طيبة هذا الشعب وكرمه أشهر من
ان يتحدث بهما أحد ، حتى لتكاد تتعجب وانت تقرأ تاريخه كيف يمكن لعراقي ان يدعي انه
من الاقحاح سريانا أو عربا أو تركمانا أو أكرادا أو يزيديين أو شبكا ، أوليس
السيدين جلال الطلباني ومسعود البرزاني هما من الأشراف اي من السلالة النبوية ،
وهذا يعني انهما ليسا من الاكراد الاقحاح ، والحال ينطبق على الجميع الا اذا كانوا
ممن دخلوا العراق قبل فترة وجيزة .
ماذا يعني ان يكون العراق
، اول من اكتشف الحضارة والكتابة وسن القوانين ، ودستوره مهلهل فيه ما يفرق اضعاف
ما يوحد ، اما كان الاجدر ترك المسائل الكبرى والمصيرية الى فترة زمنية تهدأ فيها
النفوس ، وتبدأ بالأسترخاء وبقطف ثمار التعددية ودولة المواطنة وخيرات البلد ، مع
تثقيف الشعب بتاريخه حتى يكون على بينة مما يجري وعلى ماذا يصوت .
* ما موقفنا كمثقفين مما
يعانيه الان هذا الوطن الجريح؟
الحروب والطغيان والظلم
والحصار لسنين طويلة ، مع تغييب تام للمعلومة الا بما يخدم النظام ساهمت بتقوقع
الناس ، وتضخيم الانا عند هم مع شعور مرير بالمظلومية ، حتى الأكثرية صار سلوكها
وتفكيرها لا يختلف عن الأقليات ، ويتساوى في ذلك المثقف والأمي( الأمية هنا تعني
الجهل بتاريخ العراق اللغوي والديني والأجتماعي) وسوف استشهد بنموذج
عايشته عن قرب ، لأوضح ما اقول ، وهو لا يختلف عن النماذج اللغوية والدينية
والمذهبية الأخرى التي ابتليت بداء المنفى وافرازاته بعدما هيئ الطاغية لها الأرضية
الخصبة من خلال مغامراته الحمقاء واستبداده وطيشه الأرعن والنموذج هو : مجموعة من
الشيعة الأميين يرددون بلا كلل او ملل انهم يشكلون نسبة تزيد على ال70% وان الدولة
العلمانية العراقية منذ تاسيسها ولحد التاسع من نيسان 2003 ظلمتهم وهضمت حقوقهم
وانهم كالعير تحمل الذهب وتاكل الشوك والعاقول ....الخ وذات الكلام تسمعه من الذين
يطلقون على انفسهم الطبقة المثقفة ( الصحف الألكترونية خير دليل) واذا حاولت ان
تبين لهم ان ادعاءاتهم فيها الكثير من المبالغة واعطاء المبرر للطاغية على ما فعل
وتبييض صفحته وان المسألة اكثر تعقيدا مما يتصورون ، وان النقاط التي يطرحونها
مردودة واحدة اثر أخرى ، ابتداء ان غالبية شيعة العراق جذورهم سنية لثلاثة أو أربعة
قرون خلت ، وثانيا ان التزاوج المختلط مذهبيا ولغويا ودينيا بين العراقيين يكاد
يكون من الكثرة بحيث اذا أسستَ حزبا قوام الأنتساب له الزواج المختلط وثمراته حتى
الجد السابع فأنه سوف يكتسح مقاعد مجلس النواب بنسبة تفوق ال80% ، وبالمناسبة
انا ادعو الى تأسيس هذا الحزب . وثالثا يجب التفريق بين الشيعة والرافضة ، فالشيعة
هم كل من يوالون أهل البيت ، ولكن ليس بالضرورة ان يرفضوا خلافة الثلاثة الأوائل من
الراشدين أو يذهبوا بعيدا في غلوهم حد تكفير كل من لا يؤمن بولاية الأمام علي ،
وهذا هو ما يميز أهل العراق من الفئتين ، ونحن في كربلاء شهود على مشاركة السُنة في
مواسم الزيارة . ورابعا لاوجود لأحصائية حقيقية ودقيقة في العراق خلال ال47 سنة
الأخيرة لنعرف النسبة الحقيقية ، ليس لفئة دون اخرى بل لجميع الفئات دينية ومذهبية
ولغوية ، وسيبقى هذا الباب مفتوحا على الكذب والخداع والتضليل ، ما لم تجر احصائية
دقيقة وباشراف هيئات دولية محايدة . خامسا هناك مثل يقول ان الخير يخص أما الشر
فيعم ، ولقد كان خير نظام صدام لأهله وعشيرته ومن والاه وطبل له ، وكلنا يعلم ان
العديد من الشيعة والكثير من رجالات العهد الجديد وعلى راسهم رئيس الجمهورية
وغريمه ومستشاره الأمني خصهم خير صدام، مثلما شره طال العراقيين جميعا ولو بدرجات
متفاوتة ، والكل يدعي ان أعلى درجات الشر أصابت فئته اللغوية او الدينية او
المذهبية ، لا أحد يستطيع ان ينكر مظلومية الشيعة وانهم أكثر من عانى ويثبت ذلك
الباحث حنا بطاطو ، ولا أدري ماذا سيكتب المرحوم بطاطو لو قدرت له الظروف ان يعيد
صياغة كتابه الجليل عن العراق قبل موته ليس لأجل المقابر الجماعية مع عظيم مصابها
ولأن أكثر من فئة عراقية أكتوت بها ، بل لشيئين أنا شاهدهما انفردت هذه الطائفة دون
سواها بمرارتهما وذلهما ألا وهما الشعارات الطائفية التي ملئت مدينتي ولا أعلم
ببقية المدن ، من قبيل : لا شيعة بعد اليوم ، الموت للشيعة الخونة ، فلتسقط الشيعة
الكفرة ، فلتخسأ الشيعة السفلة وعشرات الشعارات الأخرى حيثما وليت وجهك مرفقة
بالأساءة والسباب والكلام البذئ للشيعة ورموزه، أما الشئ الثاني فهو عملية
تهديم مركز المدينة وتفجيرمعظم الجوامع والحسينيات ومقام المهدي المنتظر الأمام
الثاني عشر للشيعة لما له من دلالة ووضع سياج (سور) كونكريتي يحيط بمرقدي الأمام
الحسين وأخيه العباس على شكل بسطال عسكري ، نعم على شكل بسطال عسكري امعانا
بالأذلال والقهر،وتسفيها وتحقيرا لمعتقدات القوم ، ولكن هذا لا يعطي الحق للشيعة ان
يتخذوا من ذلك ذريعة للأنفراد بالحكم وتقلد مناصب هم ليسوا أهلا لها أو تبقى حكرا
لهم دون سواهم . أما اذا أردت أن تتعرف على باقي النماذج اللغوية أو الدينية أو
المذهبية ما عليك الا ان تغير الأسم ، وفي النتيجة سوف تكتشف أن نفوس العراق أكثرمن
100 مليون نسمة وان صدام أعدم أكثر من خمسين مليونا ودمر أكثر من عشرين ألف قرية ،
كل هذه الأدعاءات هي محاولات لاشعورية من الضحايا لتقليد جلاديهم ومنحهم صكوك
براءة.
من خلال لقاءاتي
ومكالماتي الهاتفية مع الكثير من الأصدقاء شعراء وادباء وفنانين وصحفيين ، خرجت
بنتيجة مفادها ان "مثقفنا" يعرف الكثير عن الأدب والفن والفلسفة والثورة الفرنسية
والبلشفية والأمريكية ، اما تاريخ بلده العراق التاريخ الأكثر تعقيدا ، فيظن
"مثقفنا" مع شديد الأسف انه لا يحتاج لمعرفته لأنه ابن البلد ، وهكذا استطاع
السياسي العراقي ان يمرر مشروعه مستخدما الروح النازية والفاشستية والصهيونية بابشع
صورها مستغلا جهل هذا "المثقف " بتاريخه ، واذا ما تحدثت مع احدهم تأخذه العزة
بالأثم فيقول لك مداريا جهله : أنك تريد أن يقال عنك بأنك باحث ولست بشاعر ، واخر
حصل على جوائز الحرب من النظام وجوائز السلام من المنفى ، تقرأ في قصائده حبا
للعراق جما فتخاله الوطني الشريف الحق هو،قال لي انت شاعر دعك من هذه الأشياء
والتفت لشعرك ، وهو ذات الكلام سمعته من مدع فائز بجائزة ام المعارك ،
وكان من مدللي شعراء
الطاغية لأسباب اجتماعية بحتة لا علا قة لها بالأبداع من قريب او بعيد وقد وصل الى
احدى بلدان اللجوء قبل عام واحد فقط لا غير من سقوط النظام وراح يدعو شعراء البلد
الذي حل فيه الى مهرجان المربد ، مفاخرا أن له علاقات مع شعراء لهم نفوذهم الواسع
في بغداد صدام حسين وهو من قرأ مرات مع شاعر اسرائيلي كان سفيرا سابقا ، وأيضا هو
من قال لي بالحرف الواحد : نحن الذين ( يقصد نفسه ) خرجنا مؤخرا وقد عشنا فترة
التسعينات كاملة في العراق ، أكثر وطنية منكم انتم الذين خرجتم قبلنا .... أي
ان جميع العراقيين الذين خرجوا من العراق قبل تلميذ مداح الطاغية ، بيوم واحد
منقوصة وطنيتهم ومشكك بها فيا للتفكير البعثي الصدامي. كأن قراءة تاريخ
العراق اصبحت جريمة او عملا يستنزف شاعرية الشاعر ، اما احتساء الخمر بشكل مفرط
والجلوس في المقاهي ، هو ما يجعلك شاعرا عملاقا ، وهنا لابد لي من ذكر شخصيتين
واحدة سجلت حضورها عن طريق النفاق والتملق للنظام السابق وتمجيد وتبرير حروبه
وجرائمه مثل الشخصيتين السابقتين أعلاه ، واخرى تعد مدرسة كبرى من مدارس الشعر
العربي الحديث بل وكم كان صائبا محمود درويش عندما قال عنها ما معناه : بان معظم
شعراء الحداثة العربية مدينون لها ،الأولى راحت تشن الهجوم تلو الاخر ، فمرة لماذا
انا متوتر، لأن القلق على مصير الوطن ، في نظر الأنتهازيين يعتبر توترا ، وأخرى أنا
أستعرض ،لأن هذه الشخصية التي لم تقرأ خمسة كتب في تاريخ العراق ومثلها في الفلسفة
والديانات وهي في الخامسة والأربعين من العمر، كل حصيلتها من القراءة هو مجموعة من
الروايات فراح يستعرضها امامي بشكل ساذج وطالبا مني اسماء مؤلفيها وحتى لا اضطر
للهبوط لأستعراضه الساذج ، أخبرته بعدم معرفتي ، وهي ذات الروايات التي ذكرتها
أعلاه من اننا والدتي وشقيقتي وأنا كنا نتسابق على إلتهامها وكم تناقشنا نحن
الثلاثة بما كنا نقرأ ، بينما الشخصية الثانية الخضراء تماما والتي نحن جميعا
مدينون لها فقد وقفت بكل خشوع لما اقول عن حقيقة الصراع على مناطق جغرافية بعينها
وغيرها من الحقائق وكنت أشفع حديثي معه بمصادر جد مهمة عن تاريخ العراق ،حتى شعرت
بالخجل وانا مسترسل بالحديث لتواضعه الجم ، هذا هو الفرق بين من يظن نفسه "شاعر
القرن" ويحسب ان مدحه للطاغية وحصوله على جوائزه او اتخاذه لمداحي النظام ائمة
وأساتذة كافية لجعله مبدعا ومثقفا وعلى الجميع اطاعته (هذه أخلاق بعثية صرفة) وهو
في الحقيقة قزم ، وبين عملاق عندما يتكلم معك يشعرك انك صنوه عمرا وابداعا ،أقول
كيف في هذا الخضم المتلاطم من الجهل التام لتاريخ العراق وهو امتياز للطبقة
"المثقفة " وأناهم المثقلة بوباء النرجسية التي ورثوها من المتنبي ، هم يعيبون على
الفقهاء فقههم الذي كان جد متطور في زمن الجمال والخيول ونظام الجواري والعبيد وليس
في زمننا هذا ، ولكنهم سمحوا لأنفسهم الأحتفاظ بنرجسية المتنبي في زمن تطور وتشعب
الفنون مقروءة ومسموعة ومرئية ، كيف لهم أن يتخذوا موقفا صحيحا وبنّاء وحازما ،
لجعل الطبقة السياسية تحسب لهم حسابا وتخشى صوتهم ، لاأظن ان طبقة جاهلة تماما
بتاريخها تستطيع ان تقف الموقف المسؤول والحازم عما يجري في الوطن ، لست متشائما
ولكنه الواقع ، فما ينشر من مقالات في الشأن العراقي تثير القرف ، فهذه المقالات
المكتوبة بأقلام "مثقفين " وهل تستطيع ان تتجرأ وتقول لشاعر او قاص او روائي
انك لست "مثقفا" .
* قلت في بداية حوارنا
"من لا جذور عميقة له في ارض الثقافة ينزلق الى الحضيض" ماذا تعني ؟
الفن عموماً هو الوجه
المشرق لأي حضارة ، فهو جانبها الروحي ، لذا فالفن غاية بحدّ ذاته والأنزلاق الى
الحضيض ، فيما أعنيه هو أن يتحول الفن الى وسيلة ليس دفاعاً عن الأنسان كقيمة مطلقة
، بل لأشباع رغبات زائلة ، وتدليس للسياسيّ ، كمثال على ذلك ،ما حدث في العراق بعد
قيام ما يسمى ب "الجبهة الوطنية" في بداية السبعينات من القرن المنصرم ، حيث أعطت
الأحزاب المنضوية في هذا التجمع شرعنة لحزب البعث بقيادتها وحكم العراق ، وما نتج
عن ذلك ليوم الناس هذا ، من تحويل الثقافة على يد المشتغلين بها الى ماكينة إعلامية
موجهة لصالح فرد أهوج مصاب بحزمة من الأمراض النفسية والعصبية كل واحد منها كفيل
بايداعه مصحة الأمراض النفسية والعصبية ، فراح كل من لا جذور عميقة له في أرض
الثقافة ينزلق الى الحضيض ، فكثرت قصائد المديح ودواوين المعركة التي منحت فرصة
ذهبية لكلّ شويعر ومتشاعر لينشر ديوانا مليئا بكلّ شئٍ الا الشعر ، وغدت جوائز
النظام الكثيرة كجوائز قادسية صدام وام المعارك وغيرهما تُمنح بالمجان على كل من
يبدي براعة بالتدليس واشباع رغبات النظام الدموية والتسلطية ، وتمجيد الحروب
العبثية والموت المجاني ، وأصبحت مكافآت النظام وجوائزه ودعمه ، أوسمة يحملها هؤلاء
على صدورهم ويتفاخرون بها ،أينما ذهبو، حتى بعد خروجهم من العراق وحصولهم على
اللجوء السياسي أو الأنساني ( لا أدري بأي حق وعلى أي معيار) ويقدمون أنفسهم على
انهم رموز العراق الثقافية ، هكذا وبدون حياء.
* تبدو مشغولا ومهموما
بتاريخ العراق ، ماذا وجدت خلال نبشك في هذا التاريخ؟
في سنوات الدراسة كنت أجد
لذة في دروس التاريخ تكاد تضاهي لذة حصص اللغة العربية ، وكنت أستغرب عندما أرى
زملائي يتذمرون من درس التاريخ ، بينما كنت نادرا ما أفتح كتاب التاريخ المقرر، هذا
اذا فتحته ( وهل يجعلك الشعر تلتفت لشئ سواه ) كل ما يشرحه المعلم لنا يختزن في
الذاكرة ، وكذلك كنت أستمتع جدا بقراءة تاريخ الأدب وحياة الشاعر ، وكم من مرة ظننت
ان التاريخ أقرب الي من الشعر، فاترك كل شئ وأهرع الى دواوين الشعر ، لأطمئن نفسي
ولم أكن حينها أجد تفسيرا لهذه الظاهرة وانا الفتى الا بعد سنوات ، ألا وهي
ان الشعر لا يقبل بالشريك ، استمر حب التاريخ معي ، وكانت معظم قراءاتي عن تاريخ
العراق القديم وعن تاريخ الاسلام والمذاهب الاسلامية وبعض الكتب فيما يخص
المسيحية واليهودية وتاريخ العرب ، في العراق وفي الاردن لم أشعر بان اخي وشريكي
(غير الناطق بالعربية) في الوطن ، ينظر الي نظرة سلبية ، بل كنت أظن انه على معرفة
تامة بما جرى لي ، وأول حادث لفت نظري هو في طريقنا الى نيوزلندا ، حيث ان الطريق
استغرق ما يقارب اليومين ، كان معي في الطائرة مجموعة من الصوماليين والايرانيين
وتشكيلة متنوعة من العراقيين ، ومما لفت نظري ان الصوماليين والايرانيين (عاشوا
لسنوات في سوريا ) كانوا يتحدثون معنا ببساطة ، فنحن سوف نكون معا ما يقارب الشهر
والنصف ، بينما العراقي المختلف عني لغويا او دينيا لا يريد ان يكلمني ، وزاد
من حيرتي حين وصلنا الى مركز اللاجئين ، حيث كنا نحن الناطقين بالعربية أقلية ،
فوقفت على تصرفات وشاهدت سلوكيات هي أقرب للأنتقام والشعور عند الآخربأني أنا
الناطق بالعربية هو عينه صدام ، ولم ينفعني باني من كربلاء وما تعرضت له مدينتي من
دمار وقصف وحرق وسلب مثل أغلب مدن العراق ، والفرا ت الاوسط والجنوب خاصة ، بل
وتكاد تكون أكثر ، فانا ناطق بالعربية وهذا وحده دليل أدانة ، ومن هنا بدأت الأسئلة
تطوقني : لماذا يحدث هذا بين ابناء وطن واحد وضحايا نظام واحد؟ ، هل استطاع النظام
ان يدمر طيبة العراقي وشهامته وانسانيته؟ ،وهل استطاع ان يتغلغل الى نفوسنا
ولاوعينا فيزرع أمراضه وخرابه؟ وغيرها من الأسئلة التي ما فتئت تزداد وتتشعب كلما
وقفت على سلوك مناف للأنسانية والوطنية عند أبناء وطني في منفاي الجديد، وحين انهيت
فترة الاسابيع الستة ، انتقلت الى العاصمة ، وهناك حدث ما هو أكثر ، الا وهو اني
انا الناطق بالعربية ، محتل للعراق ، انا بَدَويّ متخلف أتيت من الصحراء أحمل دين
التخلف معي وحطمت حضارة العراق التي كانت قائمة ، وبما ان الغالبية العظمى من
النيوزلنديين ، وهم في أقصى جنوب الكرة الأرضية ، لا يعرفون عن العراق شيئا ، غير
ما تبثه وسائل الاعلام النيوزلندية والتي تأخذ الكثير من موادها من وسائل
الاعلام الغربية عموما والامريكية خصوصا ،فهم يصدقون كل ما تقوله لهم وكم سمعت من
نيوزلنديين أو من خلفيات متنوعة اتخذت من نيوزلندا وطنا لها لظروف ما ، بأن طرحي
يختلف عن باقي العراقيين ، ثم راحت أفواج اللاجئين التي وصلت قبلنا بعقد أوفي النصف
الاول من التسعينات ، تبث الكثير من أفكار النظام ولكن بعد تغيير الأسماء ، وتلعب
ذات الدور الذي لعبه النظام من كذب وتزوير وقلب الحقائق رأساً على عقب ، فالعنصرية
الشوفينية والطائفية المقيتة والتديّن بشكل يسئ للدين الذي هو علاقة روحية خاصة بين
الأنسان وربه تمنحه شعورا بالطمأنينة والسكينة والتوازن ، ما هي الا افرازات وأمراض
المنفى ونتيجة طبيعية لحكومات متخلفة أنانية ظالمة لا هم لها سوى التشبث بكرسي
الحكم وليذهب الوطن وأهله الى الجحيم ، ومعارضة هي وجه آخر للحكومات (جميع أحزاب
المعارضة في العالم هي وجه آخر لحكوماته، هذه بديهية) بكل ما في الكلمة من معنى
ومرارة ، فمشروع الأمبراطورية العربية الكبرى (من المحيط الهادر الى الخليج الثائر
رايات عبد الناصر ، وحين سرق صدام الحكم من اللص الذي سبقه تغير المقطع الأخير الى
: رايات آل الناصر) الفنطازي قابلته مشاريع امبراطورية فنطازية ، لا تقل عنصرية
ونازية وإلغائية وإقصائية للآخر عن حَمَلَةِ مشروع الوحدة العربية الأندماجية
الفورية الذي سوف يتحقق على ارض المريخ ، من قبل الفئات اللغوية الأخرى الأقل
عددا التي تعيش بين ظهرانينا ،ومن هنا بدأ اهتمامي بتاريخ العراق يزداد ، وبحثي عن
تفاسير شافية ومقنعة للظواهر التي أعايشها ، وكان أول باب يفتح أمامي لأجد نفسي
أمام حقول ألغام لاحصر لها ، وأخطر هذه الألغام هي ان جميع التنظيمات العراقية
بمنتسبيها وتابعيها ومؤيديها لا هم لها سوى التسابق على تبرئة صدام ونظامه
واتخاذه قدوة لهم بل ومحاولاتهم الدؤوبة لتخطيه عنجهية وعجرفة وكذبا وطغيانا وبغيا
،فالضحايا تقلّدُ جلاديها دائما لأن العقلية واحدة ، عقلية مبنية على التغالب أي كل
ما أحصل عليه بالقوة منك فهو ملكي وكل ما تحصل عليه بالقوة أو بغيرها مني فهو ملكي
أيضا ومبدأ اذا لم توافقني على كل ما أقوله وأدعيه فأنت عدوي عنصريّ (إذا كنت
تختلف معي باللغة) طائفيّ ( إذا كنت تختلف معي في الدين أو المذهب ) ، أليس التربع
على صدارة التنظيم حتى الممات ومن ثم يؤول الأمر الى الأبن أو الأخ هو ذات ما تفعله
الأنظمة التي يدعي هؤلاء القادة العظام يحاربونها من أجل الديموقراطية والحرية
وحقوق الأنسان ، كأني بأبي الفقراء وامام الموالي يقول: الديمقراطية والحرية وحقوق
الأنسان مضغة بحلوقهم.فليس القرآن وحده حمال أوجه ، فبفضل طغاتنا عفوا قادتنا كل
الأشياء حمالة أوجه ،العدد الوافر من رجال الحراسات الخاصة ، شراء الذمم ، الدفع
حسب أهمية الشخص وتكريمه ، فاذا كان رئيس جهاز قمعيّ وجلاد من النوع القذر جدا ، في
زمن النظام ، فهو يليق بأن يكون مستشارا أمنيا لرئيس الجمهورية ،أليس هذا تلميع
لصورة صدام ،تغيير أسماء الكثير من المدن والأقضية والنواحي والقرى ،دون حساب
للأهمية التاريخية لهذه الأسماء ، وهو ما كنا جميعا نؤاخذ نظام صدام حسين عليه واذا
بمعارضيه يفعلون ذات الشئ ،بل وأسوأ عندما يتم لأسباب عنصرية احتلالية بحتة تغيير
اسم محافظة مهمة من محافظات العراق عمرها يمتد لأكثر من أربعة آلاف عام وهي معروفة
بهذا الأسم ، الى اسم آخر يوحي بان القاطنين الجدد (اصبحوا أكثرية في القرن العشرين
فقط ) يعيشون على أرضهم التاريخية ، معظم التنظيمات التي كانت معارضة لنظام البعث ،
تقلده بعدم احترام وتقديس حدود البلد ، فالنظام المنهار كان يربي النشئ على ان حدود
البلدان العربية مصطنعة ، فخلق في لا وعي الأنسان العراقي عدم احترام حدود وطنه
،وما زاد الأمور تعقيدا هو تركز غالبية الحكم بيد مجموعة معينة من الناس تنتمي الى
منطقة واحدة ومذهب واحد ، ولا تمتلك البصيرة السياسية الثاقبة والدهاء بما يجعلها
قادرة على التحكم بأطياف المجتمع ، فخلقت هوة عميقة في الذات العراقية ،من الصعب
ردمها ، وما اتهام كل من وقف ضد الحرب بأنه مناصر للطاغية ، ألا نتيجة طبيعية
لضبابية الرؤية التي خلفتها عقود السيطرة الغير شرعية لهذه المجموعة ،وذات الشئ
تجده عند الذين أصبحوا في السلطة اليوم ، فمنذ سنين وهم يرددون بوقاحة تفوق وقاحة
جميع من حكم العراق ، بل وتتقزم أمامها أكاذيب النازية وتوأمها الصهيونية من
ان العراق وطن ابتدعه الأنجليز ، ولم تنفع جميع بحوث وأدلة كبار الباحثين في تاريخ
العراق من ان هذا البلد يشكل معظم العراق التاريخي ، ففي بحثه القيم " مشكلة
الموصل"(أتمنى حقا ان يعاد طبع هذا الكتاب مع كتاب العراق لحنا بطاطو بأعداد كبيرة
وبسعر زهيد ليتسنى لكل عراقي ان يتعرف على تاريخ بلده المعاصر بدون دجل الأحزاب )
وهو دراسة دكتوراه من جامعة أنديانا الأميركية عام 1952 يثبت الدكتور فاضل حسين ان
واحدا من الأسباب الرئيسية التي أستندت عليها لجنة عصبة الأمم بعائدية ولاية الموصل
الى الوطن العراقي هو ان أهل الولاية كانوا يحاربون بجانب الأمام علي بن ابو طالب
إمام العراق في حربه ضد معاوية بن ابو سفيان حاكم الشام ، كما وان والي بغداد في
العهد العثماني ، كان حاكما فعليا لولايتي البصرة والموصل ، أضف الى ذلك ان معظم
أجزاء ولاية الموصل وما جاورها شمالا وجنوبا وغربا كانت ذات غالبية سامية (سريانية
وعربية ) حتى سقوط بغداد بيد المغول ،وان هذه الغالبية لم تتحول الى أقلية في
مناطقها التاريخية الا بعد أحداث جسام مرت بها المنطقة كغزوات الأقوام الوسط –آسوية
ثم حملة التشيع الأجباري التي نفذها الصفوييون بحق الأقوام الخاضعة لحكمهم مما جعل
الكثير من القبائل الكردية تنجو بمذهبها الى الجانب السُنّي ، أي الأراضي الخاضعة
لحكم العثمانيين ، فطبيعة التشيع وهو في الغالب سهليّ وعلى ضفاف الأنهار لا يجد صدى
في نفوس الجبليين والصحراويين الرعاة ، وما حدث في مصر من تحول الى الجانب الآخر هو
لأجتماع ثلاثة عوامل معا ، فساد الفاطميين في اواخر حكمهم وقسوة ودهاء من خلفهم في
الحكم ورفع راية الجهاد بوجه المحتل الأوربي وزج الناس فيها . ولا يفوتني ان أذكر
ان واحدا من أهم مراجع الشيعة وقف في مطلع القرن العشرين ببغداد صارخا " أهذه عاصمة
البلاد " وذلك قبل سنين طوال من دخول الأنجليز الى العراق ، فكيف أصبح العراق
وطن ابتدعه الأنجليز بعد الألحاق القسري كما يدعون لولايتي البصرة والموصل بولاية
بغداد ، هؤلاء هم نتاج طبيعي لحكومات لا تحترم البلد الذي تحكمه ولا تعير أهمية
لخصوصيته ، ولم تحاول ولو محاولة بسيطة ولكن جادة ان ترد على معارضيها وتسفه
أكاذيبهم في هذا المجال ، نعم لأن أي محاولة علمية سوف تصطدم بحقيقة ان العراقيين
ليسوا جميعا عربا أقحاحا ففيهم من استعرب كملايين السريان بعد أن أسلموا وهم سكان
العراق الأصليين وخصوصا من بغداد وحتى منابع دجلة والفرات ، وهذا يعني ان المناطق
التي جاء منها الكثير من سياسيين وعسكريين حكموا لأكثر من نصف قرن وهم يتبجحون
بالعروبة ونقاوة دمهم وهم في الأصل ليسوا عربا أقحاحا ، وهذا ما سوف يفسد صدق
قضيتهم وهل عندهم قضية سوى التشبث بالحكم ، أضف الى ذلك ان أي قارئ جيد ليس صعبا أن
يلمس حقيقة ان المجتمع المتنوع ثقافيا الذي تنادي به بلدان اللجوء قد عاشه ويعيشه
العراق منذ آلاف السنين ، فطه باقر وهو حجة ما بعدها حجة بتاريخ العراق القديم يؤكد
ان العراق وطن متعدد الثقافات والأعراق والديانات منذ فجر التاريخ ،وهو حاضنة
للحالمين والفاتحين وطالبي العلم او طالبي الرزق فيطيب لهم المقام فيقيمو أو التقرب
لله بمجاورة أوليائه من يصدق مثلا ان مناطق سريانية مثل القوش وكرمليس فيها عوائل
أرمنية تسرينت ( أي أصبحت سريانية ) نتيجة وجودها الذي يمتد لأجيال وأجيال في هاتين
المدينتين ،وان كركوك بالرغم من ان التركمان يشكلون غالبية فيها منذ قرون بعد
إزاحتهم للسريان بشكل تدريجيّ ، فانها ظلت مثالا يحتذى للتعايش ولم تبدأ مأساتها و
ماساة اخواننا التركمان الا بعد أن جاءت شركات النفط فوظفت الجميع من خارج كركوك
ومن غير التركمان ، هذا ، ولكن ماذا نقول لأصحاب المشاريع القومية " العنصرية "
بجميع فئاتهم اللغوية ، لا تستغرب اذا قلت لك اني لا أخشى الأحزاب الدينية في
العراق قدر خشيتي من الأحزاب القومية ، لأن الأنتخابات كفيلة بتعريتهم واعطائهم
حجمهم الحقيقي ، ولأن الدين وطقوسه لا يمكن أن يفرضهما أتباع هذا الحزب أو ذاك حسب
اجتهادتهم والتي كثيرا ما تكون خاطئة ، مما ينفر الناس منهم ،ثم ان الحياة تتقدم
شاء "الورائيون " أم أبو، أما الأحزاب القومية فهي تضرب على وتر حساس تجعل من
أتباعها كالمخدرين يصدقون كل ما تقوله لهم أحزابهم ، وأصبحت مقولة " اذا قال صدام
قال العراق " يطبقها كل حزب على نفسه ورئيسه وما على الأتباع والمؤيدين سوى ترديد
ما يقوله الزعيم المخضرم والقيادة التاريخية ، حتى لو كانت هذه الأقوال في جوهرها
عدائية صارخة أو تمس السيادة الوطنية أو فيها من الأستخفاف بالآخر وتهميشه ما يتفوق
على أستخفاف وتهميش صدام حسين لنا جميعا كعراقيين وما مشكلة كركوك والأبقاء على
المليشيات ، وطرح الفيدرالية الهشة ،وتهميش الفئات العراقية القليلة العدد بل
واجبارها ان تكون تحت مظلة الكبارالا أدلة على ما أقول ،ان ما حدث ويحدث تتحمل
الحكومات العراقية وخاصة نظام البعث- صدام مسؤولية كبرى فيه ،وباقي الأحزاب وطبقة
المثقفين مسؤولية صغرى ، ولكن هذا يرفع عنهم التميز ، اي لا وجود لزعيم سياسي عراقي
وطبقة مثقفة طليعية رائدة ، هنالك بعض الأصوات المغردة خارج السرب ولكنها لم تشكل
ظاهرة.
ان من يطلق شعارات
غوغائية غير مسؤولة وهو في مركز القرار ، عليه ان يعي ان الآخر المختلف لغويا أو
دينيا او مذهبيا ، لَذو قدرة عجيبة على الأستنساخ والتقليد لشعاراته الغوغائية
وأحيانا عندما يطول الظلم فان الأستنساخ سوف يكون أكثر تطرفاً وأبعد ما يكون عن
الحقيقة ، ولكن ساعتها من الصعب أقناع الضحية ان مشروعها صورة أكثر قساوة وظلما
والغائية للأخر من مشاريع جلادها ، فاللاوعي قد تخرب تماما أمام طرقات معاول سنين
الظلم ، وأي محاولة للوقوف أمام الضحية لتخليصها من لبس مسوح الطغاة ، ستواجه
بقاموس جاهزيحفظه العنصريون بلباس الثوريين واليساريين والمناضلين مثلما يحفظه
الظلاميون بلباس المظلومية والمُغيّبة .
ان من ينزل صور طاغية
ويعلق صوره مكانها ويسمح لأتباعه ومؤيديه ان يرفعو صوره ويرددو شعارات هي ذاتها
كانت تردد في زمن سلفه المخلوع أو المقبورمع حذف إسم الأخير ووضع اسمه مكانه ،ويفعل
ذات الشئ في انتخابات الحزب حيث المرشح رئيس الحزب منذ قرون لا أحد ينافسه ،
والنسبة لم تتغير 99.99% وخليفته شقيقه أو ولده البكر،هو ليس أسوأ من سلفه ، بل هو
يمنحه من دون أن يعي صك غفران وبراءة .
بل هو أعطى الدليل على ان
العقلية واحدة وما حدث هو تغيير وجوه ، وكلنا يعرف ان البعض ممن أصبح في السلطة
الآن كان يلهث كالكلب أمام فتات موائد السفاح المخلوع ، وما زالت الذاكرة تستعيد
بنشاط صورهم من خلال الشاشة الصغيرة ( التلفاز) وهم يقبلون كف أو كتف الطاغية ، وان
ننسى هل ننسى قول السابق للاحق : "ان كل الذين سبقوك كانوا أقل طمعا منك" فما كان
منه الا أن يثبت لسيده انه لجدير بالأموال التي أخذها ، فقدم هدية للطاغية هي عبارة
عن مجزرة قتل فيها عشرات المثقفين العراقيين ، ولم ينس هذا الطماع ان يثبت
للمتطرفين الفاشست في تنظيمه وهم الغالبية العظمى أنه لَذو مقدرة كبرى على إرضائهم
في نفس الوقت فراح ينفث سمومه العنصرية الحاقدة على الغالبية العظمى من العراقيين.
أليس في ذلك تبرئة لصدام
وهو أقذر مجرم وطاغية واتخاذه قدوة لهم ،فباستثناء الحزب الشيوعي العراقي ( وهو
صاحب سجل لا يتناسب مع تضحياته بحق الأمة العراقية وقدسية وحدة التراب العراقي )
لم تحدث انتخابات حقيقية وتتبدل وجوه رؤساء الحزب كل فترة زمنية ما ، ولكن
الأنشقاقات كثيرة والسبب حب التسلط عند الجميع وليس ثورة على دكتاتورية القيادة كما
يدعون ، لست متشائما ولكن هذه هي الحقيقة القاسية والمرة ، العقلية واحدة وطريقة
التفكير واحدة والفطرة واحدة ، فنحن مفطورون على التسلط واستغلال الآخر وحب الظهور
بمظهر العبقري والزعيم الأوحد والعالم بكل شئ ،وتقليد مفهومنا عن الذات الألهية ،
حتى الله بدل أن يكون الرمز المطلق للخير والرحمة والعدل جعلناه دكتاتورا ، ورحنا
نكتب له تقاريرالوشاية والنفاق الحزبية ضد كل من نختلف معه ليس في العقائد فقط بل
وفي الكثير من الأمور الدنيوية التافهة .
* هل انعكس هذا الوعي على
نصك ؟
أعتقد ذلك ، ولكني لم
أثقل قصيدتي بالتاريخ والأسطورة ، فقصيدة عواء ابن آوى ، مبنية على التاريخ أساسا ،
المتعدد القراءات ، واقعة الطف ، مقتل أبي ، مقتل الجد الأعلى للأسرة على يد
العثمانيين وقطع رأسه وارساله للأستانة ، وأيضا سجن الأمام موسى الكاظم في سجن
السندي الذي دُسّ له السمّ فيه ،وقصيدة هنا حماقات هناك .. هناك تبختر هنا ، ففيها
أستخدام ليس للتاريخ وحده بل تعشيق للأساطير العراقية والماورية ( سكان نيوزلندا
الأقدم ) وكذلك الكثير من القصائد الأخرى ، فقراءات الشاعر تنعكس على نتاجه مهما
حاول التخلص أو إخفاء ذلك ، فمن يكثر من القراءات حول السينما والفن التشكيلي لابد
أن تجد في قصائده استفادة من تقنية السينما والتشكيل ومن يكثر من قراءة الروايات
والمسرحيات والقصص ، فأن تقنيات السرد والدراما بصماتها واضحة في نصوصه ،وبما أنني
أعمل في مجال التصوير الفوتوغرافي منذ عام 1983 ، فقد أشار أكثر من واحد ممن تناولو
شعري الى تأثير ذلك ، مثلما أشارو الى تأثير كربلاء والتاريخ الأسلامي الشيعي وهو
التاريخ المقصيّ والمُعارض للأستبداد في الأسلام على شِعري بدون الوقوع في فخاخ
الطائفية .
* ماذا أعطاك المنفى
وماذا أخذ منك ؟
أشياء كثيرة ، فالأختلاط
بشعوب وثقافات مختلفة يوسع مدارك الخيال ، بل هو تخصيب للمخيلة ، أضف الى ذلك
البديهية التي رددها الكثير من الأدباء العراقيين ، ألا وهي معرفة الوطن الأم بشكل
جيد ، وأهمها ، ان العراق لا يتكون من العرب والأكراد كما كان النظام يشيع ، ومراكز
القوى الجديدة الآن ، ضاربين بعرض الحائط حقيقة وجود فئات لغوية أخرى لها ثقلها
وتاريخها في الوطن ، بل ان بعض هذه الفئات هي أقدم من العرب والأكراد بقرون طويلة
قد تتجاوز العدة آلاف من السنوات ، واذا تم تجاهلها بغير وجه حق من قبل النظام ،
لماذا يكرر الخطأ ذاته من أصبح النفوذ لهم الآن ، والعرب أنفسهم تواجدهم في
العراق ليس مع ظهور الأسلام كما هو شائع خطأ ، بل يمتد الى ما يقارب الثلاثة آلاف
سنة ، بل وان كل ما هو غرب نهر الفرات هو جزء من شبه الجزيرة العربية ، أي أكثر من
نصف مساحة العراق ، والمنفى عزّز ما كنا نؤمن به في الوطن من ان التنوع دليل عافية
وقوة لنا ، وإغناء لمخيلتنا ، وقد انعكس كل ذلك على شعري ، فأصبح تاريخ العراق
المتنوع وأساطيره تجد طريقها بيسر في قصائدي ، جنبا الى جنب المؤثرات النيوزلندية ،
بل وأحيانا في حالة مزاوجة ، وهو مشروع آمل ان أشتغل عليه بكثرة في المستقبل ،
والآن انا في هيروشيما ، فلا تستغرب اذا قرأت لي قصائد في المستقبل ، فيها مؤثرات
يابانية أيضا. أما ماذا أخذ مني ، فأشياء كثيرة ، لا يمكن حصرها هنا ، يكفي اني
وبعد ثمانية أعوام في نيوزلندا ، وتنقلي بجواز سفر نيوزلندي ، لم أستطع ان أشعر ان
هذا البلد الجميل حقا ، ممكن ان يكون بلدي الى الأبد ، وأن أقدم نفسي على أساس اني
نيوزلندي ، يكفي اني طرحت نفسي في المحافل الأدبية النيوزلندية ، كشاعر عراقي منفي
يعيش في العاصمة ويلنغتن ، وأعتقد ان سببين يكمنان وراء ذلك ، أولاً هو الحب
والولاء والأخلاص للعراق ، لأن دماءنا وروحنا وجذورنا عراقية ، وثانياً هي تلك
التجربة المريرة لي في العمل في نيوزلندا ، حيث عملت مع شركة متخصصة في مجال
التصوير الفوتوغرافي وبيع الكاميرات ، لعام ونصف بدون مقابل ولأكثر من خمسة أعوام
براتب ، ولأكتشف ولكن في فترة متأخرة ان هذه الشركة ، مارست معي أقذر أنواع
العنصرية والاستغلال ، المنفى قاتل محترف يتلذذ بتعذيب ضحاياه ويشرب دماءهم أحياء .
*
الشاعر العراقي باسم فرات يعيش في هيروشيما - في منفاه الياباني
البريد الالكتروني للشاعر :basimfurat8@yahoo.com
البريد الالكتروني للشاعر :
basimfurat@hotmail.com
البريد الالكتروني للمحاور :
razaq61@yahoo.com