ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

يمكنكم إرسال الحورارات الأدبية أو الفنية للموقع إليكترونياً على adab@arabicnadwah.com أو بالضغط على هذا الرابط.

علاء عبد الهادي:  شعراء السبعينيات أخذوا صيتهم

من انتمائهم إلى عصابات شعرية!

ندوة - هونج كونج

حوار: سمير درويش - مصر

 

فى هذا الحوار يفتح الشاعر علاء عبد الهادى النار فى كل الاتجاهات، فهو شاعر إشكالى يكتب قصيدة مخالفة وعميقة يصعب على بعض الشعراء تلقيها.. ويفعل ذلك بوعى يثير ضده موجات من الضغينة المختبئة فى قلوب شعراء جيله بالأساس، بالإضافة إلى الذين سبقوه والذين جاءوا بعده. ربما كانت لدراسته ومعرفته بلغات أجنبية دور فى ذلك، فهو حاصل على دكتوراة الفلسفة فى النقد الأدبي، قسم الدراما والمسرح من أكاديمية العلوم المجرية التى منحته عام 1998، 1999 جائزة الشاعر المجرى "فوشت ميلان" وقد شارك فى العديد من مؤتمرات النقد العربية والدولية، وهو عضو عدد من الجمعيات النقدية والأدبية المصرية والعربية والدولية، وعضو مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر، له تسعة دواوين شعرية: لكِ صِفةُ الينابيعِ يكشفكِ العطش 1987، حليبُ الرماد 1994، من حديثِ الدائرة 1994، أسفارٌ من نبوءةِ الموتِ المخبّأ 1996، سيرةُ الماء 1998، الرَّغام 2000، معجم الغين 2002، النشيدة/الراوية وغوايته الأولى 2003، وشَجٍن 2004. درّست أعماله فى عدد من الجامعات المصرية ونوقِشَتْ فى عدد من رسائل الماجستير والدكتوراة، وكُتبت عنه العديد من الدراسات النقدية من نقاد مصريين وعرب، وله عدد من الأعمال النقدية التى نُشِرَت بالعربية والإنجليزية، وتُرجمت بعض قصائدة إلى الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والمجرية. كما تُرجم ديوانه "سيرةُ الماء" إلى الإنجليزية.

 

كثيرون، وأنا منهم، يعتقدون أن تجربتك الشعرية خاصة جداً، ومتفردة بين تجارب أقرانك من شعراء السبعينيات! كيف ترى ذلك؟

- حين تنشر عملاً إبداعياً يصبح جزءاً حميماً من ذاكرتك الجمالية ملكاً للناس، ويصبح لكل قارئ كامل الحق أن يُقيّمه وفقاً لحسه الخاص، حتى لو كان حكمه قد قام على حس انطباعي، أو بُنِيَ على ما كرسته الألفة من ذوق سائد، ربما كانت لى تجربة خاصة فى مشهد الشعر العربى المعاصر، ربما خرجت نصوصى عما هو سائد فى هذا المشهد، لكننى لا أستغرب على أية حال شعور بعض النقاد أو الشعراء بالقلق أو بعدم الرضا، ولكن ألم يتعرض مالارميه ورامبو وأبولينير وغيرهم كثر لذلك؟ ومن العالم العربى ومن المعاصرين يتم توجيه التحفظات ذواتها إلى شعراء مثل أدونيس والماغوط وأنسى الحاج وغيرهم حتى الآن! أهمية الشاعر الإشكالى فى رأيى هى أن يتسبب نصه فى إثارة الجدل، وفى خلق الاختلاف، ربما ينجح فى أن يظل نصه عزيزاً لا يسلم نفسه ـ مثل فتاة ليل ـ إلى العابرين، نصاً ملتبساً حفياً بسره وانشغاله بذاته، لا يكرس الواقع الجمالى بل يجترح ممكناً جديداً وعالَماً مختلفاً.

أنا لا أكتب النص مرة واحدة، فأنا أكتب بتلقائية الدفق الشعرى فى البداية، ثم أبدأ الإنصات للنص، وألعب بعد ذلك معه بحريّةٍ.. إلى حد الإعياء، غالباً ما يقوم لعبى على آلتى الحذف والتركيب، يثرى التركيب مزج التفاصيل، فهو يفقد الطريق قصداً كى يجده من جديد، فالتركيز على تأليف العمل وتكوينه عبر التركيب هو جزء لا يتجزأ من شروط إنتاج تأثير الواقعى وهو تأثير أكثر عمقاً مما يخصه المحللون عادة بهذا الاسم كما أشار إلى ذلك عالم الاجتماع الكبير بيير بورديو. وقد أصبحت هذا التركيبية متاحةً بإلحاح بعدما سمحت طريقةُ الطباعة والكتابةِ وتنوع الميديا واللعبُ بالشكلِ لأكثر من اتجاه فكرى واحد بالتغلغلِ فى داخل بنية الدلالة. فى ذات الوقت التى خاتلتْ فيه ذوقَ المتلقي، الذى يبحث عن مُنْجَزٍ نصيٍ واضحٍ ومحدد.. وقد نجحتُ فى بعض أعمالى فى وضعِ المتلقى داخل بنية النصّ ليكون راوياً.. بسبب ما أطلقتْهُ بِنيةُ هذه الأعمال من سياقات عديدة متجاورة يمكن للمتلقى استيلادها من المقطعِ الواحد.. الأمر الذى خلق إرغاماتِ فى التلقى جديدةً على القارئ، سيرفضها حتماً إن لم يخلق بينه وبين الكاتب شكلاً من أشكال التواطؤ، مما يدفعه إلى القيام بدور جوهرى فى إنتاج الدلالة.. التى تعتمد بشكل جوهرى على أهليةَ المتلقى التأويليةَ .. بعد أن خاتلَتْ بعضُ هذه النصوص التراتبَ الذى يفرضه الشكلُ المعتاد للكتاب.

 

خلافات شخصية

 

هل هذه التركيبية النصية هى السبب الذى يقيم مسافة بين نصوصك وأحكام بعض الشعراء الذين لا يستريحون لهذه التجربة ولا يقيِّمونها بما تستحق؟

- لا يوجد شاعر من جيلى خال من تحفظات بعض من أبناء جيله عليه، المجايلة حجاب، لكن إن وُجِدَت مثل هذه الآراء فهى فردية، تكمن من ورائها خلافات شخصية أكثر منها شعرية، وأنا أرى أن جيل السبعينيات العربى بل العالمى هو أهم جيل مؤثر فى حركة الشعر العربى فى القرن الماضى ولا أقول إنه الأجمل! لكن من سيتبقى من هذا الجيل فى العالم العربى أسماء قليلة لا تتجاوز أصابع اليدين، وهى ليست فى الغالب تلك الأسماء المفروضة إعلامياً سواء تلك التى تستخدم حظوتها الصحفية فى الترويج لأنفسها، أو تلك الأسماء التى تستخدمها المؤسسات الرسمية خصوصاً فى مصر، وتجدها فى كل المؤتمرات وعلى كل الموائد، أو تلك التى تمارس ذلك سراً والتى لا نعرفها بشعرها بل بمعاركها المختلقة مع جيلها أو بعنفها المصطنع مع الأجيال التى سبقتها على المستوى الشخصي، يثلج صدرى تقدير عدد كبير من أبناء جيلى لنصوصي، فأنا من أكثر شعراء هذا الجيل الذين كتبت عنهم دراسات وأبحاث أكاديمية ورسائل، من مصريين وشعراء ونقاد عرب أو أجانب، أكثر الدراسات حول شعرى قام بها شعراء ونقاد من أبناء جيلى أو الأجيال التى تلتني، ومعظمهم لهم خبرة عميقة فى القراءة الشعرية، يقرأون الشعر من مواقع قدم متحولة برغم حيادها، أى أن لهم فى قراءاتهم المبدعة رشاقة راقص باليه وعيون صقر محلق، لكن السيطرة الإعلامية على الساحة ظلت حتى الآن لشعراء ستينيين لا أهمية لهم، يكتبون منذ ثلاثين عاماً قصيدة واحدة، ومنهم من توقف عن الكتابة ويعيش على معارك مصطنعة حول قصيدة النثر، لهم تلاميذ ومريدون أسعدهم أن يُحْتَضَنُوا من وجهاء لهم مراكز من هذا الجيل، على الجانب المقابل يوجد عدد من شعراء السبعينيات أخدوا صيتهم من انتمائهم إلى جماعات أو عصابات شعرية، لا قيمة شعرية لمعظمهم الآن، لم تتجاوز كتاباتهم الشعرية عملاً واحداً استمر فى دواوين متعددة على مدار ثلاثين سنة، مكررين ألاعيبهم الشعرية القديمة، محتمين بالتوفيق، وما اعتاد عليه الذوق الشعرى السائد، لذا لم تتجاوز أعمالهم الشعرية النصوص التى تربى عليها ذوقهم الشعرى فى بداياته، فوقعت قصائدهم فى مصيدة شعراء آخرين مثل صلاح عبد الصبور، وأدونيس، على مستويى الرؤية والتعبير معاً، كما نجد الاتجاه المحافظ ذاته فى عدد كبير من شعراء الثمانينيات أيضاً تحت دعاوى الحفاظ على التجربة أو تثبيتها إلى غير ذلك، مصاحباً برطانة نظرية ساذجة حول ما يسمى المهمش، أو قصيدة التفاصيل الصغيرة، أو معاداة القضايا الكبرى ـ وكأن علاقة الكلمات بالأشياء تحتاج إلى واقعية جديدة ـ إلى آخر هذه المغالطات التى تربط جودة الشعر أو تجديده بموضوع النص الشعري! الشعر قليل كعادته، وأنا أفرق بين من يكتب الشعر والشاعر، فليس كل من كتب شعراً شاعراً.

الكتابة على الأنساق السابقة، أو ما أسميه كتابة الاجترار، أسهل كثيراً من كتابة نصوص شعرية مفارقة على المستويين الموضوعى والشكلي، أحياناً يُطلق على أعمالنا أنها تتسم بسمة عدمية ما.. وهذا ليس اتهاماً إذا ما نظرنا إليه من مستوى عميق لفلسفة الجمال، لأننى حين أدفع النزعة الجمالية إلى حدها الأقصى أتجه بالضرورة نحو نزعة الحياد الخلقي. فى مشهد الشعر العربى الآن نصوص حاول فيها قلة من الشعراء العرب والمصريين التخلى أولاً عما أتقنوه فى صناعة القصيدة على المستوى الشكلى من إيقاع وخلافه، وعلى مستوى الموضوع الدارج أو المتناول، والتحلى ثانياً بذاكرة تحروا فيها الاهتمام بالمهمش واستنطاق البياض، متحلين بالجهل ـ بعد العلم ـ لاستدراج الدهشة الكامنة فى الأشياء، حتى تجلت ـ ثالثاً ـ بعض نصوصهم فى أعمال فارقة تفرض أنفسها الآن على الساحة العربية والنقدية على المستويين الشعرى والأكاديمي. أتمنى أن يكتشف أصحاب الأقدام الحجرية ومريدوهم أن ظهورهم أصبحت عارية، وأن أقدامهم ـ دون أن يدروا ـ تكاد الريح تأكلها! لأن عدد النصوص التى تستطيع أن تقاوم حركة الزمن المعاصر المتسارعة ـ وما يفرضه من تطور على المفهوم الإبداعى للجميل ـ أضحى قليلاً إلى حد بعيد.

تتطلب قراءة نصوصى ـ بشكل عام ـ نوعاً خاصاً من "الإنصات البصري" للنص قبل تحديد اشتغاله الفضائي، وقد بدأتُ هذا الاتجاه فى الشعر المصرى أنا وشعراء قلة من هذا الجيل واحتضنه شعراء قلة لهم تجاربهم الشعرية المميزة من جيل الثمانينيات مثل شريف رزق، الأمر الذى قد يفتح النص الشعرى المعاصر لهواء جديد يعصف من اتجاهات فنية وأدبية مختلفة، يمكننى القول إن العمل الشعرى فى بعض تجلياته السبعينية الآن وفى بعض تجلياته بعد ذلك.. تجاوز لغة الكتابة. وقوانين الأسلوب. إلى شيء جديد أطلقتُ عليه مصطلح "الكتلة النصية"، حيث يتحول النص تدريجياً من التطوير القائم على نزعة المحافظة.. إلى نفى الشعر ذاته لصالح السرد الشعرى "ولا أقول السرد فى الشعر"، متوجهاً نحو انقطاع معرفى على مستوى النوع بسبب وطأة الاتصال، بسبب استمرار الاضطراد البنيوى للشكل الشعرى العمودى وابنه الشعر التفعيلى مدة طويلة فى تاريخنا الإبداعي، أى أن اتجاه ما يسمى بقصيدة النثر الآن ـ فى رأيى ـ يسير بثبات نحو السرديات التى ستتوسل فى كتابة العمل الشعرى بأنواع أدبية ـ وربما أنواع فنية ـ أخرى، لكن المحصلة ستحتفظ ـ كما أظن ـ بأثر شعرى كلي، باعتبارها بنية نصية كبري، لها كتلة مركبة ذات معمار يحتفى بالتجاور، ويضم الكثير من الدلالات الحبيسة والهامشية "بتعبير أستاذنا د. إبراهيم أنيس"، أعمال تهتم بالرمادي، ولا ترسم أكوانها بالسواد وبالبياض فقط.

 

كتابات جديدة

 

ما الذى تقصده بمصطلحيّ "السرد الشعري" و"السرد فى الشعر"؟

- أصبح العمل الشعرى ككل فى الكتابات الجديدة خاضعاً لرؤية إبداعية تتجاوز مفهوم التجميع المنفصل لمجموعة من القصائد المكتوبة فى مناسبات متعددة وفى أحوال وموضوعات مختلفة، أصبح أكثر قرباَ من أشكال التركيب أو التصميم الجمالى ــ المعروفة فى الرواية أو الدراما المسرحية ــ من مفتتحه إلى نهايته، أنا أنظِّرُ لهذا الأسلوب باسم "السرد الشعري".. فثراء النص الشعرى الآن يظهر على مستوى النص كله، فمن الممكن من خلال هذا المفهوم أن يحوى النص الشعرى ـ ولا أقول القصيدة ـ مقاطع تخدم الأثر الشعرى الكلى للنص ولكنها تنحرف على مستوى الجملة عن مقاطعه الشعرية الشكلية الواضحة والمباشرة "الإيقاعية". فالنص من مفهومنا للسرد الشعرى وعبر إنشائه المركب، ومن خلال إطاره الخارجى الحامل للمضمون الكلى للعمل دلالة وتأثيراً يمكنه أن يكون ذا أثر شعرى كبير دون أن تتحلى مقاطعه بالسمات الشعرية المباشرة التى اعتادها الذوق الشعرى العام تاريخياً على مستوى الجملة. فهو يستبدل بالنثر اللاشعر أى أنه يضع "الشعر أمام اللاشعر"، وهو فهم جمالى مختلف عن السائد. فالتفرقة الأساسية فى وعيى الجمالى الآن تهتم باتجاه السرد الشعري. وتتعامل ـ على أقل تقدير مع القضية المطروحة ونفيها ـ باعتبارها قضية "شعر أو لا شعر" لا قضية "شعر أو نثر".

الشعر من خلال مفهومى لمصطلح "السرد الشعري" لا يعتبر شكلاً متميزاً للخطاب بسبب خصائص لسانية مطلقة "دلالية ومعجمية وأسلوبية"، بل بسبب خصائص نسبية تمنح "كتلته النصية" صدمتها الشعرية وتميزها النوعى بشكل نسبي، وهذا ما يجعلنى أذهب إلى أنه ليس صحيحاً بالضرورة ما شاع لمدة قرون عديدة من أن اللغة الشعرية تختلف عن اللغة اليومية على مستوى الجملة، خصوصاً ما يتعلق بالمستوى اللسانى أو على مستوى التعريف القار للشعر، هذا التعريف الذى حكمته أذواق وخطابات نقدية ومفاهيم تراثية تقليدية اختزلت الشعر إلى بعض صفاته التاريخية "النسبية"، مما كرس لرؤية معيارية شكلية خاطئة ولا تاريخية، ما زال الشعر يعانى منها إلى الآن على مستويى الإبداع والدرس النقدي، بل إن النص الشعرى كما أرى يتميز بتأثيره الكلي.. بشعرية الخطاب كله لا بشعرية كل جزء فيه.. هذه إضاءة فارقة على مستوى وعيى للمفهوم.. فالحدود بين الجملة الشعرية والجملة النثرية غائمة وستظل لعبة فى يد الشعراء العظماء القادرين على تحويل "ما يسمى النثر" اللاشعر إلى الشعر.

إن اتجاه السرد الشعرى الحالى الذى يطل بحياء والذى أتوقع له ذيوعاً فى المستقبل القريب يتوسل فى تركيبيته وقصديته الشعرية بنصوص نوعية مختلفة اُصطُلِحً على انتمائها ـ تاريخياً ـ لأنواع غير شعرية، وعلى أفعال قصدية يمكن إرجاعها أسلوبياً إلى النثر، إلا أنها تقوم بوظيفية شعرية بامتياز، أى أن المقصد النوعى فى تطوره يمكن ـ وهذا رهن بقدرة الشاعر ـ أن يتضمن أنواعاً أخر، أو أن يتشابك بأساليب متنوعة دون أن تؤثر هذه الأساليب على مبدأ تصنيفه الخطابي، على الرغم من إمكانية تصنيف كل نوع كتابى فى اتجاه السرد الشعرى إلى منطق تمثيل جنسى جزئى مختلف على مدار النص. وهذا يجذبنا نحو الحديث عن مصطلح "السرد فى الشعر" وأقصد بهذا المصطلح: استخدام بنية نثرية متكاملة بذاتها مع بنية شعرية متكاملة بذاتها، تكون مجاورة لها، أو متداخلة معها، بوعى إبداعي، يفصل فيه المبدع بين النثر والشعر، باعتبارهما ـ فى وعيه الجمالى ـ نوعين، أى أنه نص تجريبى مركب من عنصرين يحمل كل منهما خصائصه المنفصلة جمالياً، وهذا حس جمالى تقليدى يضع الثنائية الخاطئة منطقياً: "الشعر أمام النثر"، وهو ما قامت به بعض المحاولات التجريبية الشعرية الستينية وتبعها فى ذلك عدد من نصوص السبعينيات، فعلى عكس "السرد فى الشعر" الذى على الرغم من تجريبيته، يضع الثنائية الخاطئة والأزلية دوماً أمام ناظريه "شعر أمام نثر"، فإن "السرد الشعري" يطل بوصفه مزيجاً متجانساً لا يمكن فصله دون الإخلال بالصدمة الجمالية الشعرية للخطاب، إن تبئيره الأساس قائم على نحو الخطاب، أما "السرد فى الشعر" فهو مركب من عنصرين يحمل كل منهما خصائصه الأسلوبية والجمالية بقدر أكبر من الانفصال أو التخطيط الجمالي، مركب يكون تبئيره فى الأساس على نحو الجملة.

 

حليب الرماد

 

أنت تراهن على الاختلاف والجِدَّة فى كل قصيدة تكتبها لدرجة أن كل ديوان أصدرته يختلف ــ بمعنى ما ــ عن الذى يسبقه والذى يليه .. لماذا؟

- تشكل هذا الوعى التجريبى بعد الانتهاء من كتابة عملى الشعرى الثالث "حليب الرماد" 1987 فأنا لا أنشر عملاً شعرياً إلا إذا كانت هناك مسافة جمالية ما متحققة بينه وبين العمل الذى سبقه وإلا اعتبرت ما أكتبه تمارين شعرية لا أحتفظ بها، وستجد هذه المسافة بين ديوان "أسفار من نبؤة الموت المخبأ" وديوان "سيرة الماء" كما تجدها بين ديوانى "الرغام" و"معجم الغين" وتتضح هذه المسافة بشكل فارق بين ديوانى "النشيدة" و"شَجِن" وهكذا.

ما زلت أرى فى النص الشعرى منظومة حساسة تؤثر فيها أضأل التفاصيل، وتتجسد فيها بحساسية فائقة تمفصلات جمالية دقيقة، هكذا تظل دوماً كتلة من النص حفية بالتباساتها، أنا أذكر مقولة فادحة لأحد النقاد الغربيين يقول فيها إن أجمل النصوص تبقى إلى الأبد غير متممة لا يقدرها القراء حق قدرها ثمة معلومات مفتقدة دائماً فى النص الشعري، هذه واحدة من حيثيات وجوده الجمالي. أما الشاعرَ ـ فى رأيى ـ فهو ذلك العقلُ الكبيرُ الذى يصطادُ دهشتَه مما تبوحُ به الروحُ.. هكذا لم أتسترْ فى قصيدتى خلفَ مسمياتٍ شائعةٍ عما يسميه بعضُ النقاد التلقائيةَ.. الإلهامَ.. الموهبةَ.. وغيرَ ذلك من مفاهيمَ ضالةٍ عن آلية إنتاجِ النصِّ الشعري. فبدأتُ منذ تاريخ مبكر الإنصاتَ إلى النصِّ، وتجريبَ ما قد يطرحَه عليَّ من سبلِ اشتغالِه فوق فضاءِ الصفحةِ.. إن رفرفة جناح فراشة فى الكون يغير الطقس، فما بالك لو كان فى القصيدة.

اكتشفتُ فى أثناءِ دراستى لمظاهرِ الأداءِ الفنى وتجلياتِه فى التراثِ والموروثِ العربيين وعلاقاتهم بمشكلة النوع ــ الموضوع الذى كانَ جزءاً من أطروحتى لدكتوراة النقدِ فى أكاديمية العلوم المجرية ــ وقوعَ الراوى الشعبى داخل بنيةِ النصِّ السردى .. فراوى السيرةِ الشعبيةِ لايؤدِّى محفوظَهُ فقط.. بل يضيفُ عليه.. يعدِّلُ أحداثَ سيرتِه إن اقتضى الحالُ أو طالَبه المتلقى بذلك.. إن الراوى لا يحفظُ السيرةَ فقط. الراوى يؤلف جزءاً منها أيضاً. إنه منتجٌ ومستهلكٌ إيجابي. يقعُ داخلَ بنيةِ العملِ السردى وخارجَها. كيف يمكنُ لى أن أجعلَ المتلقى راوياً لنصى الشعري؟ كيف يمكنُ له أن يكونَ مستَهلِكاً ومنتجاً فى الآن ذاتِه؟ هكذا قامَ توظيفى لفضاءِ الصفحةِ، وتجريبى لطرائقِ كتابةٍ بديلةٍ بعمليةِ تفتيتِ المسارِ النصي، وظهورِ نصٍّ مرافق، مع استخدام الدالِ الشعرى ليمنحَ تعدداً فى المعنى يصلُ إلى حدِّ النقيضِ بسببِ تفتتِ النصِّ على مستوى القراءةِ.. ووجودِ أكثرَ من سياقٍ فى النصِّ الواحدِ. حيث سمحت طريقةُ الكتابةِ واللعبُ بالشكلِ لأكثر من اتجاهٍ فكريٍ واحد بالتغلغلِ داخلَ بنيةِ الدلالةِ، فى ذاتِ الوقتِ التى خاتلتْ فيه ذوقَ المتلقي، الذى يبحث عن مُنْجَزٍ نصيٍ واضحٍ ومحدد.. ربما نجحتُ فى وضعِ المتلقى داخل بنية النصُّ ليكونَ راوياً، بسبب ما أطلقتْهُ بِنيةُ العملِ من سياقاتٍ عديدةٍ متجاورةٍ يمكن للمتلقى استيلادُها من المقطعِ الواحد.. الأمر الذى خلقَ إرغاماتِ استقبال جديدةً على القارئ، دافعةً إياه إلى القيام بدور جوهرى فى إنتاج الدلالة.. مما يعنى دفع القارئ إلى التوقف عند الشكل المحسوس للنص لمادته المرئية الصوتية المشحونة بالتناظرات مع الواقعى الذى يقع فى آن معاً فى داخل نظام المعنى وفى داخل نظام المحسوس، بدلاً من المرور به باعتباره علامة شفافة وهذا يعنى اللجوء إلى أن يُكتشف فى الشكل الرؤية المكثفة للواقع، كما يقول بورديو.

 

شعراء قصيدة النثر متهمون أحياناً بمحاكاة تجارب جماعة شعر اللبنانية، وأحياناً بالتأثر بالشعر الغربي! كيف ترى ذلك؟

- من الجميل أن يظل الشاعر متهماً لكن من الواجب أن نعرف جهة الادعاء كى نعرف القصد من الاتهام! قام جزء كبير من تجارب جماعة شعر اللبنانية على نصوص الشعر الغربى الفرنسى بخاصة، وأنا أرى أنها استولت على بريق إعلامى أكبر كثيراً من إنجازها الذى صدر من واقع بيئتها الإبداعية، فمعظم طروحاتهم تناست ما قامت به من نقل مروجة لما ادعته من تأصيل، ويمكن الرجوع إلى أهم الطروحات التى طرحتها هذه الجماعة لنكتشف أن أهم آرائها المؤثرة جاءت من الربع الأول من كتاب سوزان برنار، والكتب الغربية الشبيهة، وهذا ليس عيباً فى حد ذاته ولكنه يجعل السؤال مختلفاً!

على المستوى الشخصى لا يوجد عمل واحد لى تربطه أدنى علاقة مباشرة ـ على المستوى الشكلى ـ بأعمال شعراء آخرين عرب أو أجانب، وأظن أن عدداً مهماً من شعراء السبعينيات المصريين والعرب ينطبق على أعمالهم التجريبية الوصف ذاته، قصيدة النثر لها فى العالم كله اشتباكاتها سواء كانت هذه الاشتباكات على مستوى التأثير والتأثر أو على مستوى المفهوم المجرد والتنظير. التأثر والتأثير شيء طبيعى فى الحراك الأدبى لكن البيئة الثقافية والعامل الفردى ـ المبدع ـ هو الذى يحوله بالتدريج ليس إلى عمل له سمات محلية فقط بل إلى عمل متفرد له سمات شخصية غير قابلة للتكرار بسبب أصالتها الجمالية. فمن يذكر الآن ـ سوى المتخصصين ـ تأثير شعر الهايكو والهايكى اليابانيين على تطور قصيدة النثر فى أوروبا! لكن قصيدة النثر الفرنسية مثلاً لها أبعاد تتجاوز بمسافات هائلة مجموع العوامل المؤثرة على تكوينها أو نشأتها، مثل قصيدة النثر العربية تماماً.

 

قصيدة النثر

 

لكن كثيرين من شعراء التفعيلة والنقاد يراهنون على أفول قصيدة النثر قريباً!

- رهان من راهنوا على أفول قصيدة النثر رهان خاسر بل أجزم أنه لا أهلية نقدية تذكر لمستخدمى المناهج النقدية الحديثة من نقاد الستينيات والسبعينيات ـ إلا باستثناء واحد أو اثنين على أقصى تقدير ـ فهم عاجزون عن التعامل النقدى مع النص الشعرى بشكل عام، ونصوصنا والنصوص التى تلتنا بشكل خاص، فى ضوء المناهج النقدية المعاصرة، حيث تنتمى معظم كتاباتهم النقدية إلى النقد الشارح مضافاً إليه لغة اصطلاحية مخلوطة وعاجزة عن تأسيس رؤية، أى أنهم يمارسون النقد القديم بلغة جديدة فقط، تدعى الطابع العلمى من دون إجراءاته، وأشهر مثالين لذلك جابر عصفور وصلاح فضل.

أما ما نعوه على قصيدة النثر فأقول إن التاريخ لا يرجع أبداً إلى الوراء، وأنهم ضيوف على زمن الشعر الجديد، والضيف لا يدخل إلى بيت المضيف بسيفه! ما الذى قدمه هؤلاء النقاد سوى دراسات تفتقد الإبداع والرؤية والمنهج لأسماء ضعيفة معاصرة فى إبداعها، واهنة فى جمالياتها، برغم التزامها، فامتلأت مكتبات الكليات بمجلدات ودراسات أكاديمية عن شعراء لم يسمع بهم أحد، بل لم يقرأ لهم أديب معاصر، ففصلوا الحياة الأكاديمية عن محيطها الإبداعي، ثم ما الذى قدمه شعراء التفعيلة الجدد الآن، أنت تعلم أننى أكتب التفعيلة والعمود وقصيدة النثر، وأننى نشرت أعمالاً كُتِبَتْ بالأشكال الثلاثة، أى أنه لا خصومة بينى وبين شكل شعرى ما، لكن الخصومة بينى وبين هذا الوهن الشديد لمحاربين ينافقون بعض النقاد بدعوى أنهم ضد الحداثة، تحت لواء شكل شعرى واحد، اذكر لى شاعراً تفعيليَّاً واحداً فى مصر تجاوز صلاح عبد الصبور مثلاً، مع الوضع فى الاعتبار أن الانتشار لا يعنى الجودة، فأكثر الشعر انتشاراً الآن هو شعر التسلية، شعر لا يصلح إلا فى كتابة خطابات غرامية، أو فى الإلقاء المنبرى لمناسبة وطنية، اذكر لى شاعراً عمودياً واحداً فى العالم العربى تجاوز شوقى خصوصاً بعد وفاة الجواهرى والبردوني.. إن قصيدة التفعيلة فى رأيى كانت حاملاً تاريخياً للاتجاه من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر.. وإن كنت أعتبر أن النظام الشعرى العروضى القديم الآن.. هو نشاط شعرى ملفق.

فإذا ما تطرقنا إلى قصيدة التفعيلة، نجد أنها فى بداياتها قد حمت نفسها بأن خلقت سياجاً معرفياً مانعاً للمتطفلين، حيث تطلب الدخول إليها معرفة بالثقافة العروضية واللغوية والصرفية، أى بكل عناصر الشعر القديم على المستوى البنائي، من هنا كانت شرعيتها السريعة، وإمكانية تجاوزها السريع أيضاً.. وحين حطمت قصيدة النثر السياج الذى وضعته لنفسها قصيدة التفعيلة ومن قبلها بالطبع قصيدة العمود, دخلها الجميع، الوضع الذى أساء إلى قصيدة النثر أكثر مما نفعها، بسب العدد الهائل من المتطفلين الذين ظنوا سهولة كتابتها، بالإضافة إلى إتاحة النشر للجميع دون تمييز، مما أضر بالذوق الشعرى العام أكثر مما أفاده، فإذا أضفنا إلى ذلك غياب النقد عن المشهد الشعرى المعاصر، وضبابية الرؤية بسبب كثافة البخور الذى يطلقه نقاد المطبخ لأسماء خالية من الموهبة بسبب مكانة صحفية أو إعلامية أو علاقة شخصية، مما أضعف الرؤية ووسمها بقدر كبير من غياب التمييز، فاختلط الغث بالثمين، أمكننا أن نضع أيدينا على أسباب ما يسمى أزمة الشعر الحالية، وهى ليست أزمة نصوص بالتأكيد.. أى أن القصائد الجيدة موجودة دائماً، على قلتها.

 

منظور جغرافي

 

بحكم معرفتك بلغات أجنبية، كيف ترى العلاقة بين قصيدة النثر عندنا وعندهم؟

- أنا لا أوافق على عبارة "قصيدة النثر عندنا وعندهم" التى وردت فى سؤالك، لأنها تتعامل مع القصيدة من منظور جغرافى له سمة الجوهر وهذا غير صحيح. قصيدة النثر فى مجمل طرحها الآن ما زالت ـ مثل قصيدتى التفعيلة والعمود ـ تتعامل مع الموضوع الشعرى من موقف مثالي، يتهم الواقع ولا يتجاوزه، وربما يعبر عنه بصورته الخام، وكأن علاقة الكلمات بالأشياء تحتاج إلى واقعية جديدة! فشابهت فى ذلك النماذج السيئة من قصيدة التفعيلة، مما أوقع معظم نصوص قصيدة النثر فى سذاجة واقعية، قديمة، لا تختلف جذرياً عن المحاكاة القديمة إلا عبر آليات الإنتاج فقط، لا فى مجمل الرؤية الشعرية. فالمحاكاة القديمة اعتمدت على التشبيه بنسبة كبيرة، ثم الاستعارة التى انتقلت من عالم المرجع إلى العوالم الممكنة التى تنتجها، ليعيدها المتلقى الباحث عن المعنى المطمئن ثانية إلى عالمه، أى أن التطوير عبر اشتغال الاستعارة الكثيف فى النصوص الحديثة كانت نتيجته خلق مسافة بين العالم الشعرى والعالم المعيش فقط، دون أن تنال القصيدة نصيباً كافياً من طزاجة الرؤية، هكذا قام الاختلاف بين معظم المشاريع الشعرية فى القرن الماضى على ما تفرزه آليات إنتاج النص الشعرى على المستوى البلاغى بمعناه الواسع، خصوصاً فى العالم العربي، ليسود استخدام الكناية فى القصيدة المعاصرة بشكل هيمن على جزء كبير من آليات الإنتاج الشعرى فى قصيدة النثر، رافق ذلك توظيف المفارقة"Irony".  ولا يعنى هذا غياب التشبيه والاستعارة، ولكننا نتكلم على المهيمن فى المشهد الشعرى على المستويين الجزئى والكلى الآن، هكذا ظلت كتلة كبيرة من قصائد النثر تدور فى الفلك القديم ذاته، ولم تتطور إلى عالم الكشف الذى لا يمكن الدخول إليه إلا بالمفهوم الترانسندنتالي، أن أكتب خارج نطاق خبرتي، وإن كان المكتوب فى نطاق معرفتي، إن السؤال الملح هنا هو ذاك الذى يرتبط بمفهوم اللعب بمعناه العميق: كيف يتخلى الكاتب عما يتقنه فى صناعته؟ كيف يتحرى ذلك على أقل تقدير؟!  فالمتعة باللعب هى الهدف الأهم لطزاجة العمل، أما النشوة فتؤدى إلى تكسير هذه اللعبة.. والبحث عن لعبة غيرها.

عدد كبير من أساتذة النقد لا يجيدون قراءة الشعر، بل أجزم أنهم لا يتذوقونه وتوقفت ثقافة بعضهم الشعرية عند أمل دنقل، ومنهم من توقفت ثقافته الأدبية عند غزوة بدر! توجد دعاوى متهافتة قصرت الزمن الأدبى على نوع واحد هو الرواية، روج لها كتب نقدية متهافتة وهزيلة أشهرها هو "زمن الرواية" كتبه موظف كبير ـ كان مشروعاً فى بداياته لناقد مهم ـ لكنه بعد أن تحول إلى موظف فى المؤسسة الرسمية الثقافية أسهم فى إضعاف الوجود الشعرى المصرى بكل الطرائق الممكنة من تشكيله للجنة الشعر إلى حرمان الشعر من أى دعم أدبى أو وجود فى خارطة المؤتمرات الأدبية، لكننى أرى من واقع قراءاتى للشعر بأكثر من لغة، أن الشعر العربى ينافس بقوة ما يكتب من شعر على الساحة الغربية، المشكلة تكمن فى التواصل، فى انتباه القائمين على المؤسسات الثقافية العربية إلى مشروع الترجمة العكسية، بعكس مشهد الرواية العربية الذى إذا ما قارنته بمشهد الرواية فى أميركا اللاتينية أو فى أوروبا مثلاً لوجدته متأخراً جداً ـ ولا أقول متخلفاً ـ عن مثيله الغربي.

 

صنع الشعر

 

هل التجريب أو اللعب على حد تعبيرك قادر على صنع الشعر؟ ألا تعتقد أن أى فن يحتاج إلى بعض الاستقرار لتثبيت التجربة؟

- لا استقرار فى الشعر! فلا معنى فى الخطاب النقدى المعاصر بشكل عام لما تسميه تثبيت التجربة! كيف تكون تجربة وتحاول فى أثناء خلقها وفى تطورها أن تقوم بتثبيتها؟! ولمن تثبتها؟ لك أم للمتلقى أم للتاريخ؟ لم لا نعترف بالعجز بدلاً من اتهام الآخرين؟! وهل هذا التثبيت هو مهنة الشاعر أو وظيفته؟ ومن قال إن الشاعر يلجأ للتجريب كى يصنع شعراً؟ ربما يلجأ للتجريب كى يهدم شعراً! فهل يمنح الشعر سطوعه إلا أضواء المعنى المنعكسة، المتداخلة.. المنكسرة فوق سطح النص وشكله الجديد والمغاير! المهم ألا يكون للنص لمعة كاذبة. يهدم التجريب من أجل بناء جديد. يخلق فجوة معرفية وجمالية للمتلقى وللناقد على حد سواء، فالتجريب نوع من العرافة، تصدق إن صدفت، حينها فقط يختلط عالم اللغة وعالم المرجع بشكل ينتج تأويلاً ضالاً للمحيط، وبإيمان يتنزه عن الاقتناع بما يسمى حقيقة، متواضعاً فى تساميه لأنه لا يقدم حلولاً بقدر ما يثير الأسئلة، وكأن التجريب لا يثبت أصالته إلا حين يصل به الشاعر إلى حد الإعياء فقط.

نحن نلعب بفداحة، أنت شاعر وتعى هذا الكلام، فهل ننكرُ على الشاعر أن يضِنَّ بقصيدتِه.. بملكيتِه لرأسمالِ شعورِه الفردِى الخاص.. فإذا إراد المتلقى اللعبَ معنا فيجب أن يخضعَ لسلطتنا الجمالية، قد يُفضى اللعبُ بيننا إلى مجموعةٍ من الخبراتِ الجماليةِ الجديدةِ للشاعرِ والمتلقى على حدٍ سواء.. فاللعب يحبِّلُ القصيدةَ بكلِّ مظاهرِ الوجودِ دونَ هدفٍ نهائى أخير.. وهنا ـ بالذات ـ تفقدُ القصيدةُ قوتَها التطهريةَ الكامنةَ فيها.. تمتنعُ عن كونِها أداةَ مصالحةٍ مع الواقع.

ما زلت أحاولُ ـ فى أعمالى وعبر التجريب المستمر ـ الهربَ مِن التراث .. لكننى لم اسْعَ يوماً إلى تكريسِ الفصل بين الشاعرِ والمتلقي.. بل وضعتُ المتلقى فى صخبِ الدلالاتِ.. ووجهتُهُ ـ بخبثٍ ـ إلى اللعبِ معَ القصيدةِ، بعد أن تحرَّيتُ انفصالَ السلوكِ البلاغيّ فى نصِّى عن السائدِ. قد يكونُ ذلك هو العنصر التراثى الوحيد الذى لا أريدُ تحطيمَهُ وأتمنى أن أنجح فى استبقائِه فى أعمالى القادمة.. وهأنذا ما زلت أحاول الهرب مِن مُقامِِ القصيدةِ إلى فضاءِ النص.

 

(نقلاً عن العرب أونلاين 5 يوليو 2005)

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

 

ضع إعلانك هنا