قراءة
فيما تكابده
" النخلة العاشقة " للشاعر
ياسر عثمان*
د.
عبد القادر فيدوح
- الجزائر**
كيف نتعرف
إلى مكانة الشاعر في المسيرة الإبداعية ، وأية شعرية تمتلكها هذه
المسيرة ، وهل يداعبها الشاعر ضمن شعرية الكينونة أم ضمن شعرية الوجود
؟ وهل رسالة الشاعر تكمن في التعبير عن المشاعر الفياضة ببداهة أم من
خلال توظيف الحدس الخالص؟ أم في إحضار قلقله من سؤال الوجود ، أم في
استدعاء ضميره الجمعي حين يختزل مرجعيته في دلالات معينة؟ أم في
تجدد طاقته الشعورية ، وهل يصون الشاعر مجده أم يتقيد بهذا المجد ؟
وكيف يعيد الشاعر إلى ذاته نداها ليبعث آفاقه ؟
إن
هذه الأسئلة وتساؤلات أخرى لا تُحصى تسهم بشكل أو بآخر في بلورة
الكينونة
الشعرية بوصفها فسيلة من أصلِ صنوي الشعري والحلمي، وتنقل
الشاعر من البحث عن الشيء إلى البحث في الشيء ، ومن تقبل الرؤيا إلى
التعرف إليها، ومن التحدث إلى المتلقي ، إلى التحدث معه ، فيكون بذلك
قد اقترب من إعطاء الأشياء ووجودها المحقق في ذاتها ، وفي هذا
اختراق لوصف عالم الأشياء بما هي عليه، اعتقادا منا أن الشعري الرؤيوي
لا يتعامل مع رؤيتنا للأشياء بمعزل قلقه من هذه الأشياء ، ويأتي الشاعر
بذلك متوجسا مكامنها ، ومترقبا كينونة رؤاها بالإدراك الجمالي وبالنظر
إلى ما تحمله ذاته من دلالات وجودية تجْبّر ما تثلّم ، وتلملم ما تشتت.
وإذا كنا
نعتقد في الشاعر ذلك فلأنه يعايش الوقائع في سيرورتها وليس في صيرورتها
، فيما يمكن أن تقع عليه هذه الأشياء ، وليس بما هي عليه. وفي هذه
الحال يتماهى الشعري بالواقعي ليبحثا في الرؤيوي، ويتجاوزا حدث الحقيقة
. وربما لهذا الأمر نطلب من الشاعر أن ينتقل من الواقع المعمول إلى
الواقع المأمول .
لقد انتابتني هذه الأفكار وأنا أطلع على ما وقعت عليه
يداي وما جادت به قريحة ياسرعثمان ـ المتعدد المواهب ـ في طلعته
الجديدة بقصيدة "النخلة العاشقة" التي لملمت شتات أفكاري
المتوجسة . ومن العسير علينا أن نتبين إلى أين يتجه بنا ياسر عثمان
بنخلته سوى أن نقول إنه يسوقنا إلى موقف الحَيَارَى مما يجري من حولنا
من صور يائسة، ومريضة،
في هذا الزمن الصاخب حيث تتعايش المتناقضات والوصفات
السحرية الموعودة، من واقع مكلوم إلى عالم مشرئب، بعد أن جعلونا نجري
وراء بقع السراب
}
يحسبه الظمآن ماءً
{
، في هذا الزمن الملتهب حيث يفور الضمير
من شدة غليانه، من هذا العالم المجنون حيث يبدو الحق
باطلا والباطل حقا، وحيث الوهج يستضرم في طموح البشريات ويغيب أفق
الانتظار ، وينكسر صرح الثوابت في نفوس المتألقين ، الكل في هذا الزمن
تائه ، يبحث عن وجه البراءة والصفاء.
من مثل هذا
الواقع المرير يتحرك الشاعر ياسر عثمان ليبحث في داخل كل ضمير عربي عن
مجده، فلم يجد بدا من المزج بين رمزين تاريخيين هما[ النخلة] ، و[
أمشير] ليعبر من خلالهما عن وجدان الأمة العربية في عمق جذور
دلالات النخلة وليبحث عن معادله الشعوري بالانتماء الضائع الذي تدفع به
عوامل عديدة ثائرة على ما هو سائد وغير مرغوب فيه ، وكأن الشاعر في
قصيدة " النخلة العاشقة " يفصح عما بداخل الواقع المرير من
أسرار وكبت. بعد أن أظهر أسى هذا الضمير عندما :
تبكي
النخلة المحبوسةُ الأحلامِ
في كرم
النخيلْ
لمَّا تأخر
طَلْعُها
رغم
الحبوبِ السابحاتِ على الجدارِ،
ورغم ماء
النهر أنضجها على مهل ٍ
على نارٍ
من الشوق الذي
نامت عليه
براءةُ العشاقِ
تكتمُ توق
نشوتها الكبيرةِ للقاءِ،
وترتجي
أمشيرَ يرفع رأسهُ،
ويتوقُ لــ
(المافوقِ) يرفعهُ.. معه
لن نتوقف
كثيرا عند ـ سيدة الأشجار ـ دلالات النخلة، التي تحتل مكانة بارزة في
تاريخنا المجيد ، فقد شكلت بشموخها فخرا بالجود، ورمزا معطاء ، للحياة
والخير المتجدد، واعتزازا بالانتساب إلى يابسة الصحراء ، فتباهى بها
الشعراء في صور بليغة على نحو ما قاله زهير بن أبي سلمى :
وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجة
وتُغرس إلا في منابتها النخل
وتتجلى
أسمى مراتب جمال صورة شجرة الحياة [ النخلة] منذ بداية الشعر إلى [
النخلة العاشقة ].
وإذا كان الرمز هو ما يقف بديلا عن شيء آخر لتحقيق أفكار المبدع
الدفينة في اللاوعي ، أو يحل محله بحيث تكون العلاقة بين الاثنين
[الدال والمدلول ] هي علاقة الملموس بالمجرد ، فإن الخير والعطاء
أكبر دليل على النخلة في هذا النص ، فهي تعكس الصفحة الجميلة والمشرقة
للوجدان العربي ، صفحة الخير والعطاء ، كما أنها مرتبطة بالأرض التي
نشأ وترعرع فيها الإنسان العربي ، وهي بالنسبة إليه بمكانة الوطن ،
والتاريخ ، والهوية ، غير أن توظيفها من الشاعر ياسر عثمان في صورة
يائسة يدل على ما لحق بهذا الرمز الخالد من تشويه وتفريغ من محتواها
الأصيل ، ولعل صورة البكاء يوحي باليأس وفقدان الأمل ، حتى أصبحت هذه
النخلة في أيقونتها شمَّاعة يعلق عليها العجز والفشل، فتحول ذووها إلى
ركام ساكن، وكأن الشاعر يصور الذات العربية في حالة بكاء نتيجة
التطورات السلبية التي طرأت عليه.
استهل
الشاعر قصيدته بلفظ " أواه " ويختزل فيها الشاعر حزنه وكثرة تفجعه ،
وشدة ألمه، معبرا عن حالته العاطفية الشجية ، ثم يشرك الطبيعة في صورة
النخلة معه في البكاء ويوظفها توظيفا عكسيا ليعبر عن معانٍ مغايرة
لطبيعتها، وملامحها ومدلولها ، وقد استطاع أن يمزج التاريخ بالواقع
وأقام بنهما بنية موحدة تمثل الحنين إلى الماضي والبحث عن الذات :
"أواه"،
تبكي
النخلة المحبوسةُ الأحلامِ
في كرم
النخيلْ
لمَّا تأخر
طَلْعُها
إن النخلة
في هذه القصيدة نخلتان ، نخلة للتغني ، وأخرى للبكاء ، فالشاعر تارة
يتحدث عن النخلة/ الطبيعة/ الجمال / :
لكن نخلتنا
الجميلة
بما تفيض
به من إيحاءات ، وتارة أخرى يتحدث عن النخلة الحزينة ، ليعود بها إلى
حيث اعتزازها بكبريائها عندما ألبسها الإرث الحضاري في زيِّ الشموخ
وهيئة المنظر، والإباء، والأنفة ، وأعلن من خلالها حنينه إلى الماضي
بوصف النخلة مثالا لفكره الذي التزم به ، ووظفها توظيفا رمزيا كشف من
خلاله عن ثورته وتمرده عن الواقع . فالشاعر يبكي ويتأوه بكاء تشاركه
فيه الطبيعة / النخلة وذلك لتبيان العجز أمام واقعه الذي لا يستطيع فعل
شيء لتغييره ، ويتضح هذا جليا في قوله:
تبكي
النخلة المحبوسةُ الأحلامِ
في كرم
النخيلْ
لمَّا تأخر
طَلْعُها
كما أن لفظ
" أواه " يدل على البعد القائم بين حلم الشاعر وأمله ، فهو يطلب أشياء،
ويعلم في الوقت نفسه أنها صعبة المنال ، وما يطلبه لا يعد إلا مجرد
أمنيات لا تقدم ولا تؤخر شيئا في واقعه المكسور .
من جانب آخرترتبط النخلة ارتباطا وثيقا بالانتماء لتظهر الموقف السلبي
تجاه واقعه المرير ، وعلى الرغم من هذه النظرة السلبية التي يحملها
النص تجاه انتمائه القومي إلا أنه يدل على الصدق النابع من قلب الشاعر
، وما هذه القصيدة إلا دفقات شعورية يدفع بها الإحساس بالشعور القومي .
والشاعر بهذا الموقف يبحث عن مخرج للمحنة التي يعيشها ، كما يخفف من
قسوة الأيام التي يعيش بين لظاها، وليس من سبيل أمام أي شاعر في هذا
الواقع سوى التعبير عن حزنه بشامة حزينة .
يصور
الشاعر النخلة / الإنسان العربي في حالة بكاء نظرا إلى التطورات التي
طرأت عليها من تأخر موسم حصادها ، النتاج الحضاري ، فيما مزج بين
تجربته الشعورية والرمز / النخلة عن طريق التأوه الذي يدل في هذه
القصيدة على الفجوة الغائرة بين الواقع والمثال ، الماضي والحاضر .
وعلى الرغم
من أن وظيفة الشاعر تكمن فضح الواقع وتعريته، اعتقادا منه أن ما
يدوم إنما يؤسسه الشعراء، إلا أن ياسر عثمان في هذه القصيدة يُصدم
بقسوة أخرى تفضي به إلى الكبت ومنعه من الكلام فيضطر إلى اللجوء إلى
رمز النخلة ؛ الأمر الذي برهن على إظهار صورة الصراع التي تنتاب الشاعر
، صراع مع الذات / صراع مع الآخر ، ولعل هذا ما قاد ياسر عثمان إلى
الشعور السلبي تجاه انتمائه القومي في صورة بكاء النخلة، فكان عليه أن
يستنجد بماضيه عله يجد فيه ما يخفف من أسى هذه النخلة ـ في مدلولها ـ
غير ترجيها من طلب النجدة من أقدم ملمح من أساطير الحضارة الفرعونية
في رمز [ أمشير ] .
وترتجي
أمشيرَ يرفع رأسهُ
نلاحظ أن المطلع في القصيدة قد مهّد نفسيا لولادة جديدة
للرمز [ أمشير] فصور زمنا معينا للتحول في دلالة موسم الخصب /الحصاد
المعبر عنه بـ " أمشير " وهو أحد الشهور القبطية الذي يأتي
في
ثاني أشهر
موسم پرويـِت (أي: النماء) أو أنه مأخوذ من إله الزوابع
في الثقافة الفرعونية.
ومن الواضح
أن الشاعر عندما يقول :
وترتجي أمشيرَ يرفع رأسهُ
فإن النخلة
ترتجي موسم حصادها الذي تأخر ، كما أنه عندما يقول :
أمشير يحملُ في عباءته الكثير من الحبوبْ
فإنه يوظف
إله الريح توظيفا رمزيا لا يختلف عن الأول ؛ إذ إن الريح تمثل للنخلة
نوعا آخر من من أنواع لقاحها.
وإذا علمنا
أن النخلة قد تعلقت بالشاعر تعلقا شديدا ، وكان يجلس إلى جوارها أثناء
تعبه ، فلا شك أن النخلة هي الإنسان ذاته من ينتظر[ أمشير] لكي يخلصنا
من قبضة الواقع المرة.
أمشير يحملُ في
عباءته الكثير من الحبوبْ
وتظل قبلتهُ الجبانةُ عالقةْ
ترضى بأنصاف الحسانِ،
و بالفسائلْ
نلاحظ في
هذه الصورة أن الرمز [ أمشير ] يؤدي في القصيدة دور رمز المرأة
الهاشمية في عهد المعتصم عندما صاحت وهي في أيدي الروم . فهل من نفير
لمعتصم آخر في هذا العصر الموبوء!.. وقد تكون الصورة نفسها رمز
السندباد ، الغائب الذي ينتظره البائسون . أما كون [ أمشير ] : " يحمل
في عباءته الكثير من الحبوب " فإنها صورة الوعد المأمول فكأن " أمشير "
يحمل معه الكثير من آمال نخيل المستضعفين والمقهورين ، لكنه لا يأتي
لأنه يكتفي بأنصاف الحلول والفسائل والفتات:
لكنَّ
نخلتنا الجميلةَ
لو تبوحُ بسرها يوماً
تموت
أمشير ُ !
،
يا أمشيرُ
!
كم عميت
عيونك بالنهارْ
كم تستدرُ
الحظَّ لو يأتيك سعياً
بعدما
كفّنتَه
بيديك في
أوج الحياة
وقلت
للأحلام
"لا" ؟!..
وفي هذا
المقطع تنادي النخلة [ أمشير] ذلك الذي يحمل معه حبوب لقاحها ، والنداء
هنا مرتان ، المرة الأولى بالهمزة التي ينادى بها القريب، لكنه لا يجيب
على الرغم من سمع النداء ، وفي المرة الأخرى يأتي النداء بالياء وهي
للبعيد، وفي هذه الحالة أيضا لا يجيب ، وكأن الشاعر يصور في لعبة نداء
النخلة لـ " أمشير " في المرة الأولى قولها : إن كنت قريبا
فأجبني. وفي المرة الأخرى : إن كنت بعيدا فأجني ، غير أن أمشير يفضل
الصمت ، والإعراض، ويمثل ذلك رعبا لا رغبا ، وكأن الصورة توحي بلا جدون
من مثل صرخة المعتصم : [ النفير.. النفير..] ، ومن ثم لا أحد يستجيب،
ولا أحد يسمع، وهو ما يعكس صورة انتظار اللامنتظر.
إن المتتبع
لدلالات [ النخلة / أمشير ] يتحسس من الوهلة الأولى أن تجربة
الشاعر الذاتية ، وهي تجربة مريرة يسيطر عليها صراع مرير ، طرفاها
الماضي / الحاضر وهذه الترجربة يدل عليها الحزن ، الحزن من الحاضر الذي
ضاعت فيه النخلة التي هي ملاذ الشاعر ومكانة انتمائه القومي . فالنخلة
[الشاعر] غريبة ولم يعد لها مكان في الحضور ، وما عاد هذا الحضور
يحتضنها ويأويها ، والمثول الذي لا يحتضن النخلة / الرمز من باب
أولى أنه لن يحتضن الشاعر ، ولن يكون له مكان في الوجود ، ولما كان
الحاضر غفلا ، وعاجزا عن احتواء النخلة /الشاعر أصبح الانفصال
عن هذا الواقع ضرورة ، ثم تحولت هذه الضرورة إلى مبدأ فموقف كما يرى
بعضهم .
وأيا يكن
الأمر يبقى مجال التأويل مفتوحا ؛ لأن الشاعر تستر عن البوح بمكنوناته
وأحزانه ، وحاول أن يختزل تجربة الإنسان [ ابن الصحراء ] برمز يضمر فيه
الكثير من معاناة النخلة / الشاعر، وهو في قصيدته يؤكد لنا
تجربة الخيبة التي يمر بها ، ويعكس من خلالها النكبات والنكسات التي
مررنا بها ، معلنا حزنه من هذا القدر . وكأن صورة :
تبكي النخلة المحبوسةُ الأحلامِ
هي نفسها
صورة بكاء الذات المنكوسة الأحلام . وتزداد حدة الشاعر النفسية في
المقطع الأخير من القصيدة ؛ إذ يقول :
أمشير ُ !
،
يا أمشيرُ
!
كم عميت
عيونك بالنهارْ
كم تستدرُ
الحظَّ لو يأتيك سعياً
بعدما
كفّنتَه
بيديك في
أوج الحياة
وقلت
للأحلام
"لا" ؟!..
إن نفسية الشاعر في هذا المقطع تعبر عن
استيائها من الواقع الذي لا يسمع فيه الشاعرَ أحدٌ وهي حالة معبرة عن
الشعور بالغربة والضياع ، وهذا الموقف يكشف عن الجو النفسي لدى الشاعر
، وعن خيبة واقعه ، وعن صراعه مع الوجود ،وكأن الشاعر يبحث عن
اللامنتظر ، عن الحلول السحرية الميئوس منها التي كانت تتمثل في [ النخلةُ
الغنجيةُ ] التي
فقدت دلالها ، وأظهرت حزنها، لما حل بها من ضيم كبير ومن كبَْل
سَلاسِلِ الأسْرِ .
ولعل ياسر عثمان بذلك يدرك الحقائق في الشعري الذي يهجس بالحدوس،
وبالنظر الخفي. وأمام تأزم الشاعر في مثل هذه المواقف ، يكون مكنونه
الداخلي أكثر المشاغل براءة وتعبيرا غائرا عن تصدع الذات ،
ويكون ايضا قد حدد مساره بإلغاء ذلك السؤال المتعلق بمعنى " البحث
عن الشيء " وتعويضه بـ " البحث في الشيء" لأن البحث في
الشق الثاني يكون وسيلة لغاية نفتقدها في الشق الأول. من هنا يرقى
التأمل بالحدس إلى المشاهدة ، ويبقى تأمل الشاعر تأملا خارقا يعيد بناء
الشيء في علاقته بالمدرك، بخاصة ونحن نعلم أن الشاعر الذي يسمِّي
ويَسِمُ الأشياء ، إنما يشير إلى ما هو غائب في الواقع والدلالة،
ويحاول استلهام رموزه حتى وهو يفقد توازنه الشعري في عالم الكلمات .
*قصيدة " النخلة العاشقة" هي واحدة من ديوان الشاعر: "
المنشور الذي خان زاوية السقوط" الصادر في القاهرة عام 2006م
** باحث وأستاذ متخصص في النقد الحديث من الجزائر.
|