أتيح
لي أن تكرمني الزميلة الكاتبة بنسخة من مجموعتها القصصية "لائحة الاتهام تطول"،
حيث تكرمت بإرسالها إلى عنوان أسرتي في الأردن، ومن هناك تم إرسالها لي بعد
تيسر من يحملها بعد شهر وأكثر من الزمان، فكانت رحلة طويلة لوصول كتاب أدبي
ولكنها رحلة تروي معاناتنا هنا في فلسطين المحتلة في الحصول على كتاب.
في
اللحظة الأولى لفت نظري العنوان الذي حملته المجموعة وهو عنوان أحد القصص التي
يضمها الكتاب، ودققت النظر في لوحة الغلاف فوجدت خارطة العراق خضراء لا لون آخر
سوى الرافدين دجلة والفرات باللون الأزرق، موضوعة في قفص الاتهام وشجرتي نخيل
مخلوعة من الجذور، وملقاة مكسورة تحفها من اليمين واليسار شجرتان أخريان ما
زالتا شامختين كما هو نخيل العراق، هذه اللوحة مع العنوان أثارا بداخلي
التساؤلات والمسارعة بالبدء بالقراءة متخطيا عادتي بأن أقرأ حسب تاريخ وصول
كتاب ما إلى يدي.
وكالعادة بدأت بعد تدقيق الغلاف بالنظر إلى الإهداء الذي يشي بالمعنى الذي تهدف
إليه هذه المجموعة فكان "إلى وطني الذي أدين له بكل شيء جميل"، وهذه إشارة
واضحة لا تخفى على قارئ، وقد أتيح لي الإطلاع على بعض القراءات ووجهات النظر في
هذه المجموعة، فوجدت بعض القصور في فهم ما تريده الكاتبة من خلال نزف قلمها،
فالمجموعة تحمل في ثناياها الهم الوطني الكبير وألم الوطن وجرح الوطن من خلال
المعاناة، معاناة الوطن الذي أثخنته الجراح ومعاناة البعد والاغتراب الذي طال،
ومعاناة المجتمع وأمراضه، فالمؤلفة عراقية المنبت والمحيا ولكنها تعيش خارج
الوطن منذ عام ألف وتسعمائة وتسع وسبعون حين غادرت للكويت، وبعد سنوات إلى
المغرب واستقرت هناك.
وما
أن بدأت بالقراءة وبعد عدة قصص حتى أدركت أن لائحة الاتهام تطول، تطال العديد
من المتهمين في ثنايا النصوص مما دفعني للمسارعة في القراءة لأطلع على هذا
النوع من القصص الهادف، الذي يحمل في طياته المعاناة وألم البعد والاغتراب وجرح
الوطن النازف، والذي لم يتوقف عن النزف في حروب متعددة لم تتوقف منذ عام
مغادرتها الوطن حتى وقوعه تحت ربقة الاحتلال، والصراع الدموي الذي يجري في
داخله فينزف الدم اليومي، وأصبحت أخبار العثور على عشرات الجثث المشوهة
والمغتالة خبر اعتيادي في نشرات الأخبار كل يوم، وأصبحت أخبار العربات المفخخة
والتي تفتك بالناس والأسواق والأفراح والجنازات خبرا متكررا بالكاد تجد لها
زاوية في عالم الإعلام.
وما
بين أربع وسبعين صفحة وتسع عشرة قصة تتوزع لائحة الاتهام وتطول، ويزداد النزف
ويكبر حجم الألم ويتفتح الجرح، وسأحاول في هذه القراءة المتواضعة أن أصل لتحديد
شخصيات المتهمين، والتهم الموجهة إليهم، تاركا للقارئ الحكم عليهم، وبعد
الإطلاع على لائحة الاتهام جمعت كل مجموعة من المتهمين الصغار ضمن المتهم
الأكبر، والذي لا تمثل شخصيات المتهمين إلا أجزاء من المتهم الأساسي الذي يضمهم
في ثناياه، وقد لفت نظري اقتصار المجموعة على تسع عشرة قصة !! فهل الرقم أتى
صدفة مجردة أم مقصودا ؟؟ أم أنه المخزون التراثي في العقل اللاواعي هو الذي حدد
هذا الرقم والمرتبط ارتباطا وثيقا بالمعتقدات الدينية ؟؟...
في
قصة "الخطافة" يلعب القدر لعبته في قصة حب وانتظار وحلم لقاء "أيام طويلة تمضي
وأنا أمني النفس أنني سألقاك"، "وفجأة وأنا أحلم باللقاء رأيتك إلى جانبي"، هو
حلم واستدعاء للذاكرة والطفولة "حكايات الماضي..حين كنا صغارا نلهو مع الزمان"،
"أتسلق السطوح، أمك وحدها تبقى معنا تغزل باستمرار وكأنها تحوك للناس أحلامهم"،
وتستمر الذكريات واستدعاء صورة الحبيب الذي غادر ولم يعد " سأذهب لإكمال دراستي
وأعود جديرا بك..يطول بك الغياب وأشعر بالعجز لبعدك، تهجرني إرادتي وأصبح
مشلولة أمام قوى تريد اختراقي"، "تأتي من السفر وتهرع لرؤيتي، وإذا بك أمام
مخلوقة أخرى ضعيفة مستسلمة"، فيغادر إلى حضن آخر ويأتي القدر على صورة "امرأة
ممتلئة في العقد الخامس من العمر"، تصرخ بقوة "لا رجل لك,,,قصص الحب عندك
مبتورة منذ البداية..هذا الذي جنبك جاء إحياء للذكرى وليس من أجلك"، "تلتفت لي:
فرصة أخيرة لك، انه بعيد ويهواك، اطلعي البحار من أجله وحين تصلين إليه تعيشين
ثلاثة أيام في الجنة ثم يتركك إلى العالم الآخر"، من هو الحبيب الذي غادر وتجسد
على شكل رجل ؟؟ هل هو الغياب عن الوطن والبعد، هل هو الوطن الذي يعاني فما أن
يعود إليه محبوب حتى يكون ضحية اغتيال أو سيارة موت متفجرة تقف في الزوايا
لترسل العشاق إلى العالم الآخر؟؟ وهذا القدر على شكل امرأة خماسينية العمر هل
هو عمر الدولة الحديث الذي انتهى بالاحتلال ؟؟ هي تساؤلات لا يمكن التغافل عنها
من خلال تداخل المعنى والأهداف في هذا القصص الجميل.
في
"محاولة" نرى عبث القدر مرة أخرى وبشكل آخر، امرأة تقف أمام مرآتها، فتشعر أن
"المرآة تضحك مني، تنظر إلي شامتة، تخرج لسانها، تسخر من عجزي واستسلامي"،
"وددت لو أفعل شيئا، أن أنتصر عليها، أحطمها"، وما المرآة هنا إلا قدر يخاطب
بطلة القصة، "ابتسمي..اهربي من سجنك، حطمي قيودك، ثوري على جلاديك، انتصري
لمبادئك وقيمك"، فتجيب "ماذا عساي أن أفعل وأنا غريبة هنا ؟ كبر الأبناء
وتركوني، فارقت أهلي وأحبابي منذ دهر، ولا أصدقاء لي هنا، أحبابي رحلوا...وأنا
لا أجيد السباحة ضد التيار، أصبحت خانعة أرضى بما يبتغونه لي"، إنها عملية
استسلام هائلة للقدر، لكنها تقرر أن تقاوم قدرها "عليّ أن أقهر خنوعي
واستسلامي، الإنسان مخلوق قوي، إن تردد يوما فانه يعود للحزم والعزم مرة
أخرى...ينبغي أن أتحلى بإرادتي..."، "أعاود الضحك تنتصر إرادتي، تنقشع الغيوم
السوداء"، تستعين بأغنية لفيروز تقول فيها " لم لا أحيا وطل الورد يحيا في
الشفاه"،
تنظر في مرآتها "مخلوقة جديدة أمامي، متفائلة، واثقة تحب الحياة، تهزم همومها
بالضحك، قادرة على الابتسام".
المتهمون نماذج مختلفة وعديدة، وكل نموذج يلعب دورا ما في المجتمع، وان كان
الكل يلعب دوره بصورة أو بأخرى باضطهاد المرأة وقمعها وقمع تطلعاتها، ولكني
آثرت أن أضع جميع المتهمين تحت خانة المجتمع بغض النظر عن كل جريمة وطبيعتها،
ففي النهاية المجرم هو النظام الاجتماعي بأدواته المختلفة، والجريمة واحدة وان
اختلفت صورها.
في
"استغاثة" نجد نموذجا متميزا من النماذج التي توردها الكاتبة، نموذج المرأة
التي يطلب منها أن تلقي محاضرة عن الحياة الزوجية السعيدة، في الوقت الذي لا
تشعر فيه بالسعادة أبدا، فهي وبغض النظر عن مستواها التعليمي المتقدم، ما هي
إلا ضحية من ضحايا المجتمع عامة والمجتمع الذكوري بشكل خاص، ولكنها تستغل غياب
الذكور والزوج لتتكلم بوضوح وصراحة مشرحة المجتمع العربي بكل ما يعانيه من
ازدواجية في التعامل، بكل ما فيه من الصور المزورة والأقنعة والزيف، وتشير
بأصابعها بوضوح إلى المجتمع متهمة إياه، "سأكون صريحة معكن وأتحدث بلا أكاذيب
أو اختلاقات وعندما ترينه مقبلا أخبرنني كي آخذ حذري وأعود إلى حديثي المرسوم و
المقرر، بلا مساواة ولا بطيخ في مجتمعاتنا العربية"، "هراء ما تدعيه بعضكن، هل
تزعمن المساواة، أي مساواة تجدنها في الوطن العربي ؟"، "ألا ترون أن علينا معشر
النساء واجبات كثيرة؟ وليس لدينا حقوق"، " أجد نفسي هكذا، أنا آلة صماء"، "هراء
ما بقينا نسمعه طوال عمرنا المهدود عن دعاوى المساواة"، "لماذا يفرض على المرأة
أن تحب من نسيها"، "المرأة العربية تكتسب عادات زوجها وتتخلق بها بمرور الوقت
"، ومن ثم تنتقل لتصوير المرأة المقموعة من داخلها "المرأة كالوردة تذبل إن لم
يتم ارواؤها"، "حلمت مرارا برجل يحبني ويضمني إليه بحرارة"، "هو القدر، جعلني
أبدو هادئة ساكنة، وداخلي يغلي كالمرجل"، "لا شيء غير الحب يبعث الأمل في
النفوس"، وفي النهاية بعد تصوير هذه الحالة التي تمثل النساء العربيات، الحالة
المقموعة من المجتمع الذكوري، نجدها بمجرد إطلالة الزوج تعود لترتدي القناع
المزيف من جديد "إنها حياة حافلة بالنجاحات، زاخرة بالأفراح، عشتها مع توأم
روحي"، "نحن زوجان متعاونان في كل أمور الحياة، ناجحان سعيدان..وشريكي إنسان ذو
قلب كبير"، هكذا تعود لارتداء القناع المزيف وتبقى صرختها تهدر في الأذن وفي
عيون القراء "لم يعد يراني امرأته، ومن أكون..؟؟".
وتتكرر الاتهامات للمجتمع في أكثر من قصة، ففي قصتها "تراجع عن قرار"، نجد
نموذج آخر لامرأة مضطهدة من المجتمع المتمثل بزوج سكير، وأبناء لا تستطيع أن
تتركهم وتنال حريتها "كيف يمكنها أن تتخلص من العبء المرهق وهؤلاء أولادهما
المشتركون، ويريدونهما أن يكونا مع بعضهما البعض، طيلة الحياة"، ولكن " لقد
حلمت مرارا أن تضع حدا للمعاناة المستمرة بلا طائل"، فهي تعاني من زوج "يحرص
على نكرانها وإقصائها من حياته كما أبعدها عن قلبه"، رغم أنه "يقرأ كثيرا، يريد
أن يظهر أمام الناس أنه مثقف، كأن الثقافة قراءة وتحول إلى دودة كتب، ودفن
النفس بعيدة عن الحياة واشراقاتها، لم يبال يوما بمشاعرها وأحاسيسها"، هذا
الإهمال كان يدفعها للتفكير بالخلاص، ومع زواج ولدها يدفعها البؤس النفسي
لتدبير جريمة قتل محبوكة كما خيل إليها للخلاص من الزوج، "سيبدو الأمر طبيعيا،
والجريمة بدون فاعل، فمن يشك بها؟؟"، تسائل نفسها "كيف يمكنها أن تعيش مع إنسان
غريب عنها، لا شيء يجمعهما ويوحد مشاعرهما المتباينة"، إنها ضحية أخرى تمثل
نموذجا من ضحايا المجتمع واستلاب حق القرار للمرأة، حتى تفكر بجريمة قتل وكل ما
تحتاجه أن تشعر بإنسانيتها لاغير وبحضن دافئ يضمها، وفي لحظة مفاجئة يحضر إليها
ليعرض عليها حضور فيلم سويا، "يفاجئها حضوره، لعله يشعر بوحدة قاسية بعد أن ذهب
الأولاد كما تشعر هي"، تسأل نفسها "ما بال هذا الرجل؟؟ هل فراق الأولاد يجعله
حنونا، رأت في عينيه ومضة حب لم تجدها وكانت تبحث عنها..ومضة جعلتها تود
احتضانه كما كانت في الأيام الماضيات"، والنتيجة تكون "ستؤجل قراراها، وتنتظر،
عله يعود".
وتتكرر صورة أخرى تصور اضطهاد المرأة في قصة "يوم في حياة امرأة"، حيث نرى
المرأة التي تتحمل كل أعباء البيت إضافة لعملها والزوج الذي لا يرضى أبدا ولا
يكف عن التذمر وإلقاء اللوم عليها أمام أي قصور مقصود أو غير مقصود، فالزوج هنا
يمثل شريحة من المجتمع تريد من المرأة العمل الذي يجلب الدخل الإضافي إضافة
للعناية في كل شؤون البيت، وأما هو فيكفيه العمل الحر الذي لا يستعبده والجلوس
على المقاهي دون أن يفكر بمساعدتها، أو على الأقل الكف عن التعنيف والتذمر و
"جعل الزوجة حائرة لا تدري بم ترضي زوجها".
وفي
قصتها "أهدي نفسي باقة ورد"، نجد نموذج المرأة المكافحة بجانب حبيبها حتى يحقق
طموحه ثم يتناساها وينسب الفضل فيما وصل إليه إلى ذاته متناسيا الجهد المشترك،
"قلت لي انك تطمح أن تكون أكثر نجاحا..أسعدني طموحك وناضلت من أجل نجاحك، ظانة
أنه نجاح لي"، وفي الحفل الذي تقيمه للأصدقاء احتفالا بهذا النجاح وتتكلم عنه
بكل ايجابية، يتكلم هو ويقول "فكرت أن تختار من النساء من تعينك بالمهمة
الجديدة، لكنك لم تجد ضالتك...المرأة رغم نضالها الطويل لم تصل إلى المستوى
الذي نريد..وان المرأة..لا يمكن أن تنجح بالمهام العظيمة"، وهكذا يتغافل عن كل
دورها ويحط من شأن المرأة، فتضن عليه بباقة الورود التي أحضرتها "نظرت إلى باقة
الورد بيدي، وجدتها تشفق أن تذهب إلى يد لا تعرف قيمة الورد"، "يا من تسطو على
انتصاراتي ناسبة إياها لك وحدك، متناسيا تضحياتي المتواصلة للوقوف بقربك".
نموذج
آخر تقدمه لنا الكاتبة في قصتها "ما عاد لك"، حيث الزوج الذي يتخلى عن زوجته
بإغراء امرأة أخرى، ونجد ما جرى على لسان المرأة الغريمة " رفيق حياتك أسيري،
وأنت تعانين التشتت والضياع، كلمات غزل مني صيرته معبودا لي، وأنت قد زالت منك
الحياة، ودخلت في سراديب البرودة والثلج".
حالة
أخرى تقدمها لنا الكاتبة من خلال قصتها "سطو"، فهنا المرأة تتعرض للشك والتخوين
دون أن يتاح لها الدفاع عن نفسها، فتعيش ذكريات الحب القديم فتتذكر "كنا نسير
وحيدين، أنا وأنت يا حبيبي، كفك حمامة تحط في يدي، كلماتك غيث تتشربه روحي،
وأنا جذلى أزغرد"، هنا هي ليست أكثر من ذكريات حب قد رحل ولم يدم الفرح "لم
أعتد البهجة، فسرعان ما تعاونت مجموعة أياد لتغتال مني الألق وتخنق في نفسي
الوهج"، انه الشعور بالظلم الذي تعرضت له فدمر حياتها، فالمرأة في المجتمعات
الشرقية يمكن أن تعاقب على الإشاعة، ويمكن أن تقتل أيضا تحت مسمى جرائم الشرف،
التي تتيح للرجل قتل المرأة تحت بند الدفاع عن الشرف وتبييضه، والمجرم لا يعاقب
إلا بالسجن شهور قليلة ويخرج من السجن مرفوع الرأس، والمجتمع ينظر له بالإعجاب
والتقدير، "لم أجن إثما..ماذا نقلوا لك ؟ وأي نوع من الآثام اقترفت يداي، يشلني
الشعور بالظلم، أتصدق كل ما يقولونه عني وأنت بحر حنان ؟ لم تدع لي مجالا
للدفاع عن نفسي".
في
قصتها "شعور عارض" تأتي القصة على لسان رجل، وهي القصة الوحيدة التي نجد الرجل
هو المتكلم معبرا عما في داخله تجاه زوجته، فهو يسمعها تحاول أن تكتم ألمها ولا
تصرخ فيشعر بالإثم وانه كان قاسيا على زوجته "شعور بالإثم سيطر علي لحظة هذا
الصباح"، "انتابني إحساس بأنني ظالم وأنني جانبت الإنصاف، واضطهدت هذه المخلوقة
بدون قصد مني"، "وفي كل مرة تتكلم فيها، أحاول أن أقنعها بأن ما تشعر به من ظلم
ليس صحيحا، وأن مرد هذا الشعور حساسيتها المفرطة، ونفسها المرهقة"، "فكرت أنها
أبعدتني عن عواطفها كما فعلت أنا منذ زمن"، هل هي صحوة ضمير في لحظة ما وهو
يتذكر الماضي وهي تكتم ألمها ؟؟ لكن سرعان ما يدق هاتفه ويأتي صوت صديقته تدعوه
لسهرة في بيتها فيصحو من الشعور العارض الذي انتابه "رحبت بالاقتراح وأبعدت ذلك
الشعور العجيب الغريب وكأنه زائر جاءني دون استئذان".