الأغنية الشعبية هي ((الأغنية التي يرددها الشعب ويستوعبها
ويتناقلها وتصدر عن وجدانه وتعبر عن آماله، وليس شرطاً ان يكون الشعب
هو مؤلفها بل تبناها من مؤلفها الأصلي المجهول فأصبحت ملكاً للشعب))1))
وتتسم هذه الأغنية بالبساطة في التأليف واللحن والتلقائية في التعبير
والوضوح في المعنى، ((تعيش فترات طويلة وهي غالباً زجل باللهجة العامية
تنتشر بسرعة. ويتناقلها الشعب بسهولة.. فتغزو البلاد ومنها ما يغزو
المجتمعات الأخرى عبر العصور. فينسى مؤلفها وملحنها.. وتعيش هي كأغنية
شعبية لتمثل روح الشعب ومعتقداته .. طابعه وعاداته وتقاليده .. وكلما
كانت الأغنية بسيطة وسهلة الأداء أقبل الشعب على ترديدها والحفاظ
عليها))2)).
وتكمن أهمية الأغنية الشعبية في تعبيرها -بصدق- عن الواقع الاجتماعي،
وعن انفعالات الافراد بمواقف وأحداث معينة ومشاعرهم المكبوتة نتيجة
الضغوط الاجتماعية؛ لذلك توصف بكونها ((عملية تعويض تتم لا شعورياً
لتعيد للنفس توازنها ولا تدع لها مجالاً للاضطراب))3)).
من هنا نجد أن البيئة الخصبة للأغاني الشعبية هي الريف بأجوائه
الطبيعية وعلاقاته الاجتماعية التي تحكمها عادات وتقاليد صارمة ((تدفع
الإنسان نحو الحديث عن متنفس يبدد حالة الحصار أو الاختناق أو الاغتراب
الذاتي المفروض عليه من المجتمع لما يزخر به من قيم وأعراف اجتماعية
سائدة تمنع اختلاط الرجل بالمرأة أو تحرم عليه الزواج من المرأة التي
يحب))4)).
وعادة ما يكون التعبير عن هذه الانفعالات بطريقة عفوية هادئة، إذ ((ليس
فيها تعقيد أو صراع في التحليل النفسي أو التأمل الذاتي، بل إنها تأتي
تلقائية منبعثة من الذات الشعبية غير المعقدة، دافقة بالأحاسيس دون
محاولة لكتمانها أو تغطيتها بكلمات منسقة منمقة))5)).
ولعل تماس الأغنية المباشر بهموم الشعب وهواجسه وتجسيدها الحي
لاختلاجات النفوس البسيطة والكادحة، هو الذي دفع بالشاعر المعاصر إلى
الإفادة من معطياتها وأجوائها ومعانيها بغية توظيفها في نصه الشعري
لاثراء صوره الشعرية، ولخلق مزيد من التفاعل مع الوسط الاجتماعي الذي
يريد أن يعبر عنه ومن خلاله عن تجربة فردية أو جماعية. ((إن اختيار
الأغنية الشعبية بكل أبعادها السابقة يعد مشروعاً للكشف عن نزعة الشاعر
الحديث إلى البساطة والعفوية وإلى منح القصيدة صلة تربطها بالذاكرة أو
بالماضي البعيد أو القريب، أو بالتراث بشكل شمولي وهذا يوضح طبيعة
ارتباط الأغنية ومن خلالها ارتباط القصيدة بأسباب التواصل
التي هي أسباب قوية ومتجذرة في الشعر العراقي الحديث))6)).
يوظف سعدي الأغنية الشعبية في بعض قصائده لغرض الكشف عن مواقف
وتجارب شخصية متنوعة، ولغرض إضفاء صفة الواقعية على ما يعبر عنه،
فتضمين أغنية شعبية داخل نص شعري يجعله مضمخاً بذكريات الطفولة وأيام
الصبا، ويعكس في الوقت نفسه العلاقة الحميمية التي تربط الشاعر مع بطل
القصيدة. ففي قصيدة (حادثة في الدواسر) يضمّن سعدي الأغنية الشعبية
التي تقول:
"للناصرية .. للناصرية
تعطش وشربك ماي .. بإثنين إيديا"
يضمّنها القصيدة في سياق الحديث عن شخصية شعبية مناضلة تبدو قريبة
من سعدي، إذ تجمعهما الطفولة والصداقة؛ ولهذا نجد سعدي متعاطفاً مع
بطله ومشفقاً عليه يرشده ويوجهه حين تلاحقه قوات الشرطة:
"سلمان عبد الله يا قمر الدواسر ... يتبعونك
ببنادق متأرجحاتْ
أبداً وراءك يركضونْ
فعيونُهم تخشى عيونكْ
لكنهم قد يقتلونكْ
لن يذكروا يا طفل عبد الله، أغنيةً شجيةْ
كنا نغنيها معاً: ((للناصرية
تعْطشْ وشربكْ ماي ... للناصريةْ))"7))
لقد كان توظيف الأغنية في هذه القصيدة موفقاً من أكثر من ناحية.
فهي (أي الأغنية) – أولاً - وردت في سياق شعبي محوره بطل شعبي مطارَد،
وفضاؤه منطقة ريفية في جنوب العراق (الدواسر). ولقد انسجمت الأغنية -
ثانياً - مع مناخ القصيدة والتحمت بنسيجها وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها؛
لأن سعدي عرف كيف يمهد للانتقال إلى الأغنية بواسطة الفعل (يذكروا)
ومتعلقاته. إنّ سعدي – هنا – يوظف تكنيكاً غالباً ما يستخدم في القصة،
وهو تكنيك (الاسترجاع) أو Flash back إذ إنه في خضم وصفه لعملية ملاحقة
بطله، يعود إلى الوراء في الزمن ليتذكر ما كان يجمعه مع سلمان حين كانا
يغنيان معاً هذه الأغنية، وهنا نصل – ثالثاً – إلى دلالة الأغنية وما
تحمله من معانٍ تتوافق مع معنى القصيدة الرئيس الذي يتركز – كما قلنا –
في حميمية العلاقة بين الشاعر وبطله. يقول عمران خضير الكبيسي بشأن
توظيف سعدي هذه الأغنية: ((والشاعر يوحي بهذا التضمين الارتباط، وقوة
العلاقة الروحية والاتجاه الروحي، حينما تسقي الحبيبة حبيبها الماء
بالأكف، بدلاً من الكؤوس تعبيراً عن صفاء النية، وبساطة العيش، وبداءة
الحياة الإنسانية وعمقها الروحي والإنساني، حينما لا تكون هنالك أية
مصلحة في الحب سوى الحب نفسه))8)).
ولقد جاء هذا التوظيف جزئياً؛ لأن الشاعر لم يضمن الأغنية كاملة في
النص، بل عمد إلى إدخال جزء معين منها كان كافياً – في نظره – لأداء
المعنى الذي ينشده. واغلب تضمينات سعدي للأغاني الشعبية تعتمد هذا
الاسلوب. كما يلحظ أن سعدي ضمّن المقطع الغنائي بلفظه العامي الدارج،
أي كما هو وارد في الأغنية أصلاً، فلم يشأ أن يعرّب الأغنية أو يفصحها
أو ينقلها بصورة حديثة كأن يغير فيها شيئاً أو يعكس مضمونها؛ لأنها
مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة الجمعية الشعبية، بحيث لو حُوِّرت
لفقدت دلالاتها الإيحائية وطاقاتها التعبيرية ونكهتها الخاصة وطزاجتها
الإنفعالية، ولا شك في أن سعدي عالم بكل هذا الزخم المعنوي الذي تحمله
الأغنية، وعالم بمدى التأثير الذي تحدثه في المتلقي؛ لهذه الأسباب
مجتمعةً يتبع الأسلوب نفسه، أي التضمين الجزئي واللفظي في قصيدة
(موطني):
"كان في الدرب على صندوق صابونٍ ينامْ
كان يبكي في دموعِ الأغنيةْ:
"أريدْ اشردْ
من البصرةْ
ولاعودْ""9))
فهو يضع الأغنية على لسان شخصية عامل كادح يتمنى الهرب من واقعه المؤلم
وبالتالي من موطنه. ويضع إزاء ذلك - وهو في بلاد الغربة (الكويت) -
حلمه وأمنيته بالرجوع إلى وطنه:
"موطني ... لو نسمةٌ من موطني
لو شراعٌ نحوهُ يحملني"10))
ولأن سعدي هو ابن الريف وأبن ريف البصرة تحديداً لذلك ينقل الأغاني
الشعبية المنبثقة عن هذه البيئة الريفية، وينقل أجواءها المحلية
بأماكنها وشخوصها وممارساتها الحياتية وسلوكياتها الاجتماعية التي تتسم
بالفطرة والسذاجة والصدق، وكثيراً ما يربط هذه الأغاني بشخصيات كادحة
تعاني من البؤس والحرمان؛ لذا فمن الطبعي أن تكون هذه الأغاني الموظفة
ذات طابع حزين. ويلمس فيها ((التراث المنحدر من الجماعة القديمة
مختلطاً في الغالب بعناصر
ناشئة من الصراع بين "الشعب" والطبقة الحاكمة))(11).
وغالباً ما ينبه سعدي قارئه إلى أغنيته، ويعتمد في ذلك طريقتين:
إما أن يمهد لها بكلمات مثل: (أغنية، نغني) كما في الأمثلة التي مرت،
أو أن يذكر في خاتمة الأغنية أنها أغنية، فضلاً عن أنه يحصرها بين
قوسين كما في مقطع من قصيدة (مرثية الألوية الأربعة عشر) حين يستخدم
هذه الأغنية الشعبية على طريقة الكولاج:
"كالوها بالأمثال: كلمن ضميره
يا عيوني ... كلمن ضميره
"أغنية غير شائعة""12))
ولقد كان وجود الشاعر في منفاه الاختياري في بيروت يستدعي - هذه
المرة - توظيف أغنية لبنانية(*)
(باللهجة البدوية) وليس أغنية عراقية شعبية كما كان يفعل في المرات
السابقة. مما يعني ارتباط الأغنية بالمكان الذي يتواجد فيه الشاعر، وإن
هذا المكان هو الذي يوحي للشاعر استعمال هذه الأغنية أو تلك بحسب
الحاجة التي يتطلبها الموقف النفسي والحالة الشعورية. وقد يتسع حجم
توظيف الأغنية الشعبية حين تستغرق في القصيدة سبعة أسطر إلى حد أنها
تشكل مقطعاً متميزاً عن غيره من المقاطع الأخرى في القصيدة سواء من حيث
اللغة أو الإيقاع أو الدلالة. ففي قصيدة (عن المسألة كلها) - التي مر
الحديث عنها في الفصل الأول والتي يختلط فيها الشكل القديم (العمودي)
بالشكل الجديد (التفعيلة) - نقرأ هذا الزجل الذي يشكل قفلاً أو خاتمة
للقصيدة:
"هاهم عاشقوكِ يغازلونكِ:
حلوةْ
يا حلوةْ
ركضنا اليوم للجلوةْ
ومن كركوك جيناها
من كركوك والبصرةْ
جينا اليوم للحلوةْ
جينا اليوم للجلوةْ"14))
وتتردد هذه الأغنية في الأعراس على ألسنة البنات المقرّبات للعروس،
حين يأتين لتزيين العروس وتجميلها، أي ما يسمى في العامية بـ(الجلوة).
وهي تعبر بتلقائية وبدون تصنع عن تقاسم الفرحة وجماعيتها، وتكاتف الناس
البسطاء في هذه المناسبات لدرجة أنهم يأتون من مدن بعيدة للمشاركة في
هذا الفرح. ولئن كان موضوع الأغنية ينصب في خدمة الهدف الرئيس الذي
ينشده الشاعر وهو إنقاذ المرأة الجميلة من براثن الحارس التتري
وتتويجها عروساً في نهاية المطاف كما تصور الأغنية، فإن توظيفها –في
رأينا– لم يكن ناضجاً بدرجة كافية. فالأغنية تبدو محشورة في النص
ومفروضة عليه من الخارج، ولم تندمج أو تلتحم بالنسيج الشعري بحيث تكون
متوافقة ومتدرجة مع الإنسياب الموضوعي. إن القاريء يشعر بأن ثمة بتراً
قد حصل حينما انتقل الشاعر فجأة ودون مقدمات من الحديث بصيغة الماضي
إلى الحديث بصيغة الحاضر. وربما كان التوظيف موفقاً لو تغلغلت الأغنية
في مفاصل النص وعملت على اندماج الصورة الشعرية والصورة الشعبية. من
ناحية أخرى لم يكن سياق القصيدة الذي تهيمن عليه لغة جزلة مهيأً
لاستقبال أو تبني هذا المقطع الشعبي المتناشز عنها، فالحس الشعبي غائب
تماماً عن أجواء القصيدة.
وإذا كانت الصيغة التي يتبعها سعدي في توظيف الأغنية الشعبية في
الأمثلة السابقة هي التضمين. فإنه قد يستعمل أحياناً صيغة التلميح،
فيشير بشكل غير مباشر ومختصر إلى هذه الأغنية. فهو حين يقول:
"نيسانُ، أغصانٌ من الريحانِ، يا نخلَ "السماوةْ"
لكنّ هذا الليل يسقيكَ الظلامَ، فلا نراكْ
إلاّ مرايا داكناتٍ تحت هدهدةِ النجومْ
لكننا سنراك يا نخلَ "السماوةْ"
يا مزهراً بالطّلع والعصفور، يا جسراً سماوياً
تنامُ على قناطره الكرومْ"15))
يشير إلى الأغنية الشعبية الشهيرة (نخل السماوة)، وقد وظف سعدي
الأغنية عن طريق الإشارة إلى عنوانها.
ويفعل الشيء نفسه مع أغنية شعبية شامية رائجة، إذ يقول:
"ياما ... لماءِ الوردِ
ياما للشّامِ
وما لأهلِ الشام"16))
وهو بذلك يشير إلى أغنية:
"ياما للشام والله يا مالي
طال المطال يا حلوة تعالي"
كما أن سعدي قد يلجأ في قصائد أخرى إلى أسلوب تفصيح الأغنية ونسجها
نسجاً جديداً يتلاءم مع النص الشعري لغةً وأداءً وإيقاعاً، لكن مع هذا
التجديد أو الترميم تبقى الأغنية محتفظة بروحها الشعبية وظلالها
التراثية. ففي قصيدة (مصطفى) التي تتكون من ثلاثة مقاطع، نجد في نهاية
كل مقطع أغنية من أغاني ترقيص الأطفال. ولنأخذ الأغنية التي وردت في
المقطع الأول:
" يا حلو، يا مصطفى
يا قُرّةً للعينْ
نومَ الهنا ... مصطفى
يا أشهلَ العينينْ
غمِّضْ على خيلنا
والبصرةِ الصوبين
تحميك بعد النبي
والسادةِ الألفين
يحميك يا مهجتي
مختارُ "كوت الزين
"17))
ويبدو أن هذه الأغنية كانت شائعة على ألسنة النساء في قرى البصرة
أو قرى جنوب العراق عموماً، أو أن سعدي نسجها على منوال إحدى أغاني
تنويم الأطفال أو ترقيصهم، فغير شكلها اللغوي واحتفظ بقالبها ومحتواها
وروحها الشعبية، وحصرها داخل شكل بصري ربما للإيحاء باستقلالها عن بقية
مفاصل القصيدة كونها تمثل صوتاً مغايراً للصوت السابق (صوت الراوي)،
على الرغم من أن الشاعر حاول خلق نوع من الانسجام بين موضوع الأغنية
وموضوع القصيدة. إذ يدور الموضوعان في فلك الذاكرة حيث يسترجع الشاعر
من خلالها أحداثاً شتى مرت بحياته على شكل شريط سينمي ويحاول مزجها
بالأحداث الراهنة التي تمر بها مدينته البصرة التي ذاقت الأمرّين في
الحرب، وتعبّر هذه الأغنية التي ترد على لسان الأم التي تناغي طفلها
وترقّصُهُ عن أحاسيس صادقة ونقية وعواطف دافئة تعكس دفء الحياة في
الريف وحميمية العلاقة بين الناس البسطاء. غير أن سعدي - كعادته -
يضمّن توظيفه لهذه الأغنية معاني سياسية تتساوق مع موضوع القصيدة، ففي
نص الأغنية التي وردت في المقطـع
الثاني - وهي على غرار الأغنية الأولى - نقرأ:
" يا حلو، يا مصطفى
يا زينة الشبّانْ
مرّت غيومُ العدا
مرت على "حمدانْ"
يا حلو، يا مصطفى
هانَ الذي ما هانْ
بعد الندى والندامى
ضعضعوا البنيانْ
يا حلو، يا مصطفى
يا سدرةَ البستانْ
يا ليتَ شمس الضحى
حنّتْ على الولهانْ
"18))
فلاشك في أن هذه العبارات أو الجمل (غيوم العدا، ضعضعوا البنيان،
شمس الضحى) تتضمن إشارات سياسية صريحةً أو مكنيّة يحاول بها سعدي أن
يبين موقفه من الوضع الذي آل إليه العراق.
ويدخل في إطار الأغنية الأهزوجة أو ما يسمى في اللهجة الدارجة
بـ(الهوسة الشعبية) وهي ((نشيد شعبي في لغة العامة من الناس ينشده
القرويون في مناسبات كثيرة ومتنوعة، مثل الحروب، وعند الوفاة،
والاستعراض (العراضة) والأعراس، والاستقبال والتوديع))
19)).
ويرافق الأهزوجة الرقص الذي قد يكون بالقفز على الموضع قفزات متساوية
ومتتالية، أو بتقديم الرجل اليمنى إلى الأمام وضرب الأرض بها، أو أن
يتبارز اثنان بأسلحتهما في الوسط ويشكل الباقون دائرة حول ذينك
المبارزين ويدورون باتجاه واحد، والشعر الملقى هو الذي يحدد نوعية
الرقصة20)).
ويوظف سعدي الأهزوجة الشعبية للتعبير عن مواقف معينة تحتاج إلى هذا
النوع من التقنيات التعبيرية. فالحرب تتطلب وسائل معنوية تثير الحماسة
في نفوس الفرسان وتستنفر العزائم.
في قصيدة (الرماة) تتكرر هذه الأهزوجة:
"لو هلهلتِ يا ميّاسةْ
تأتي الفرسانُ الدّواسةْ
لو هلهلت يومَ الحنّةْ
تأتينا أغصانُ الجنةْ
لو هلهلتِ
يا ورداتي"21))
وهي أهزوجة خاصة بالحرب جاءت على وزن الخبب (فعلن فعلن فعلن فعلن)
الرشيق والمتسارع ليتوافق مع حركة الضاربين بأقدامهم أو الراقصين
الدائرين باتجاه واحد. ولا يقصد سعدي من هذه الأهزوجة إثارة الهمم في
نفوس الفرسان كما تنص على ذلك؛ لأن السياق الذي وردت فيه الأهزوجة هو
سياق تهكم وسخرية من الحرب، وبالتالي فإن هذا التوظيف ينتشل القصيدة من
السقوط في وهدة البروبغاندا التي تتسم بها أغلب قصائد الحرب.
ويدخل في إطار الأغنية أيضاً (الموّال) وهو نمط من أنماط الغناء
الشعبي في ريف جنوب العراق ويستخدمه سعدي بشكل يمكن قراءته بالعامية
والفصحى في قصائد عدة. ففي قصيدة (في تلك الأيام) التي تتكون من ثلاثة
مقاطع، ينتهي كل مقطع بلازمة صيغت على شكل موّال مختلف من مقطع لآخر:
"يوم انتهينا إلى السجن الذي ما انتهى
وصيّتُ نفسي وقلتُ المشتهى ما انتهى
يا واصلَ الأهلِ خبّرهم وقلْ ما انتهـى
الليلَ بتنا هنا، والصبـح فـي بغـداد"22))
ويلحظ أن بناء هذه اللازمة مقتبس من بناء خاص لأحد أنماط الشعر
الشعبي يشتهر في العراق باسم (الدارمي). وهو اشبه بالرباعية، يتكون من
أربعة ابيات أو اسطر، ولكن يتميز بتكرار الكلمة الأخيرة في الأسطر
الثلاثة الأولى، أما السطر الرابع فهو بمثابة قفل للرباعية. وغالباً ما
ينظم هذا النمط لغرض الغناء. وتعبر هذه المواويل الثلاثة عن يقين
الشاعر بالغد المشرق الذي سيوصله إلى بغداد على الرغم من الحصار الذي
تفرضه عليه جدران السجون، إنه إيمان بحتمية الثورة العمالية. ولمّا
كانت القصيدة مبنية على صوتين: صوت الراوي (الشاعر) وهو يتحدث عن تجربة
السجن المؤلمة، وصوت الموّال الذي يؤمّل (السجين) بالخلاص من السجن؛
لذا فإن التوظيف كان موفقاً في ابراز طبيعة الموقف النفسي في القصيـدة
التي تقوم على التغاير، فالسياق العام الذي يجمع الصوتين هو سياق حدث
سياسي بامتياز.
ولأن شعر سعدي سياسي بالدرجة الأولى، فإن المضمون السياسي لا يفارق
هذه المواويل التي يوظفها لخدمة أغراض القصيدة. ولعل قصيدة (إذن نزنر
هذا الوطن بالبترول والديناميت) تمثل الذروة في التصاعد الدرامي لموقف
الشاعر السياسي من الوطن يصل إلى حد تفجير الوطن الذي تحول إلى مشجب
كبير للأسلحة. في هذه القصيدة نعثر على موّالين متتالين ذي مضمونين
سياسيين:
"يا وردةَ النارِ لا تستعجبي للنارْ
دنياك دارتْ، فلا للنجم فيها دارْ
يا وردةَ النارِ، أهلي اخمدوا بالعارْ
نيرانهم، واستوى التُجّار والثّوارْ"23))
"يا وردةَ النارِن لابُدّ السما تنزلْ
كالنجمِ في الليلِ، حتى عتبةِ المنزلْ
يا وردةَ النارِ ... لا بُدّ القُرى تشعلْ
نيرانها، والملا يمشون بالمشعلْ"24))
هنا - أيضاً - يؤمن سعدي بالفعل الثوري حلاً لكل المتناقضات، فلابد
لكل القرى أن تشعل نيرانَها كي تحرق كل ما هو غير مثمر. إنها صرخة
احتجاج وغضب بوجه هذا الوطن الذي يعشقه بمرارة حد الموت لكي يرعوي.
فسعدي مسكون بالعراق ولا يمكن أن يقف موقف اللامبالي إزاء ما يجري.
ويلحظ أن سعدي يصرح - في المقطع الذي يلي - باستخدامه (الموّال) إذ
يقول مخاطباً نفسه:
"ألم تجد شكلاً أكثر حداثةً من الموّال؟"
لا فائدة.
إذن؟
نزِّنرُ هذا الوطن بالبترول والديناميتِ ..
و؟"25))
إلاّ أن النجاح لا يحالف سعدي في كل توظيفاته للموال. ففي قصيدة
(تشريح)26))
لا نحس بانسجام بين الموال وموضوع القصيدة بسبب بناء القصيدة القائم
على لوحات منفصلة لا رابط حقيقياً بينها سوى الجو العام الذي تثيره هذه
اللوحات أو المنظر الكلي الذي ترسمه، ولاشك في أن الشاعر يقرّ من خلال
عنوان القصيدة بأنها عبارة عن أشلاء ممزقة واوصال متقطعة.
ويجدر بالذكر أن معظم الأغاني الشعبية في شعر سعدي هي أغان حزينة
تعبر عن الحرمان المادي والاجتماعي وتجسد اختلاجات النفس البشرية
المثقلة بأعباء الحياة، هذه النفس التي رانت عليها عقود من ظلم العادات
والتقاليد وقمع الحكومات، فكانت تجد في الأغنية البسيطة متنفساً عن كل
هذه الهموم، وترويحاً عما يثقل كاهلها. ولعل ميل سعدي إلى هذا النمط من
الأغاني يتوافق مع ما في نفسه وما في شعره من حزن شفيف يسكن معظم
قصائده. وسواء أكان توظيف الأغنية عنده موفقاً أم لا، فهو يأتي لأداء
غرض معين يبتغيه الشاعر، وغالباً ما يكون هذا الغرض سياسياً يعرّي
واقعاً اجتماعياً مزرياً، أو يحرّض على فعل ثوري، أو يحلم بغد مشرق
ينام فيه بين أحضان الوطن الحاضر الغائب؛ لذا فإن أغلب توظيفاته
للأغنية الشعبية تأتي في سياق القصائد الوطنية والسياسية، التي يروم من
خلالها الاقتراب من الجماهير والسير بهم إلى مرافئ الحرية.
1))
في علم التراث الشعبي 17.
2))
الأغنية الشعبية بين القديم والحديث، تيمور أحمد يوسف، مج التراث
الشعبي 44.
3))
التراث الشعبي في الشعر العراقي الحديث، قيس كاظم الجنابي 30.
4))
نفسه 31.
5))
في علم التراث الشعبي 18.
6))
التراث الشعبي في الشعر العراقي الحديث 31-32.
7))
أعش 1/542.
8))
لغة الشعر العراقي المعاصر، عمران خضير الكبيسي 100.
9))
أعش 1/529.
10))
أعش1/295. وينظر: نفسه 546.
(11)
الاشتراكية والفن 104.
12))
أعش 1/402.
(*)
نقصد بذلك أن طريقة الغناء لبنانية وأن الذي يغنيها لبناني يضفي عليها
مسحة شعبية من اللكنة اللبنانية.
14))
أعش 1/ 177.
15))
أعش 1/410.
16))
نفسه 4/358.
17))
نفسه 3/136.
18))
أعش 3/139.
19))
الأهزوجة العراقية، شاكر البرمكي، مج التراث الشعبي 37.
20))
مقدمة في الأهزوجة الشعبية، فاضل السعدوني، مج التراث الشعبي 98.
21))
أعش 2/36،35.
22))
أعش 1/113. وينظر: المقطعان الآخران من القصيدة نفسها 114،115.
23))
نفسه 2/452.
24))
أعش2/ 453.
25))
نفسه.
26))
نفسه 216-219.