تسعى الشاعرة
رانية أرشيد في مجموعتها الشعرية (ابجدية خاصة) الى تأثيث النص بملحقاته
السرد الأنثوي بمجموعة من نداءاتها الباطنية وتطير بها الى الداخل الخفي
الذي يتراسل مع الخارج القاسي في فيض من الأحاسيس الجيّاشة ووسط فوضى
الأشياء وهدير ماكنة العالم وطوفان أسئلة الأخر امام حواس العدم، إنّ ما
تؤسس له الشاعرة هو هذا التضاد والخيميائي الذي يحلّق بها الى عوالم لا
مرئية تشّعر حوافّه شفرات الجنون بالانتصاص من اليومي الواقعي الذي يتصيد
ذاكرة الشاعرة ويتسلّط على ذاتها الشاعرة ويتعامد سديم الحلم في جاذبية
نصيّة تتحرّك فيه الشاعرة لترسل صدى دواخلها وتهرب منه لتقرأ بيان الحياة
في نهارات بيضاء تكاد تهرب من روزنامة الزمن، فالمعنى الخفي الذي يظلّ قوام
النّص في طبقة من الملفوظات يتجمّر في رنين الكلمة شعرياً ويتوهج التضاد في
بناه الحسية في معنى من معاني الحياة والعدم، هذه المسافة الحادة تقرأها
الشاعرة في هذا المصوّر اللفظي: (قريباً من الحلم.. بعيداً عن ساعة
الميلاد.. هكذا تترنح بين المسافة والموت، منذ سكن وجهك الوقت.. ص11) في
هذا النسق تكاد تختزل الشاعرة ثيمة كبيرة من ثيمات الحياة، فبالعودة الى
العنونة الرئيسية (في البدء) تنشغل الذاكرة الجمعية في استدعاء بنية
الموروث اللفظي والميثولوجي لاستعارات توراتية وانجيلية ترسم بها الشاعرة
علامة نصية ترتب بهيكلية كلامها عمارة نصيّة تنعطف الى الداخل في تزاوجها
مع الخارج الآخر الذي يقرن الاقتباس النصي او التناص اللفظي بالإشارة
الحادة الى وثيقة المقدس وخصائصه، وتفيض الشاعرة بالتأطير الحسي في باطنية
حادة بإقامة منطقة للجسد الذي تأكله النار ولا يحترق وتتمظهر هذه الصورة في
هذه الإقامة اللسانية في النصّ نفسه: (كنتُ ناراً تأكلني ولم يشتعل الجسد
ص11) وتتوّج هذه المعادلة الجوانية بعلاماتها الحسية في تشظّي أفق الدلالة
داخل النسيج الشعري، فأنا المتكلم تفضي الى فيض من الأحاسيس وترى في منظومة
التشبيه حدساً كبيراً تتجاوز شفاهية اللغة والبيان لتدخل في تقاطعات السّنن
الحكائية (النص النثري السردي/ الحكاية، هي موضوعة الآن او البيان كما وصفه
جاكوبسن في حين عرف (كلودليفي شتراوس) الحكاية بالحكاية كسياق مسترسل
بتضاريس سردية تكاد تتجاوز في ملفوظاتها، إنّ قوة الإشتغال على الملفوظة
السردية تضيف طاقات إضافية الى الأنطولوجي المعرفي والتكامل الدلالي ونتوخى
عبر هذه القراءة لرؤية هذه المصورة الشعرية بوعي للأنا الساردة (هكذا كلما
ال ت ق ي ن ا، تشتعل النار لأستنشق ما في الأصابع من دخان، كأنك نهرٌ هائج
يسير نحو ناري، وكأنهما شفتاي بالانتظار.. ص11). يتسم المشهد أعلاه بميله
الشديد الى استثارة الأخر واستدعائه لبناء علاقة ايروتيكية تتمظهر في قوة
الدلالة في طاقة وحمولة الدوال (الأصابع + دخان + نار + هائج + ناري +
شفتاي) وتفريغ حمولة الدلالة في تشعير السرد انعكاساً لخطاب الأنا الشاعرة
والنداءات الأنوية العالية لا بل الصارخة، وتصوّر القراءة العميقة هذه
الروابط بسلسلة ضمنية ظاهراتية للفعل الشعري في مشهدتيه الأيروسيه، رغم
ظهور الإنفعال الجاهز في هذه المصاهرات الحسية في قصديتها، فالخطاب هنا
ينوء بآلحاحه على إقامة علائق ذات خصيصة شعرية، تتصاعد بقدرات الشاعرة
التخييلية، حيث تستفيق من تراتبية الخطاب لتمارس فعل الألم الضروري الذي
تراه القراءة في نسق من انساق زرادشت نتشّه ويتمظهر هذا الكلام في هذا
الاشتغال الشعري الذكي لهذه الصورة (لا يتسع الجرح جسدي، وليس هناك اختصار
لنزيفه... ص12). تتجاور عنونات النصوص في مشهديتها الصورية كما لو أنها
تسعى لاخفاء وعيها الذاتي على بنية الحكي حيث تتمظهر فيها الذات الكاتبة
الحكّاء من خلال كسر نمطيتة النسق الكلي لإزاحة ثيمة الظلّ: (كان حُلمي
مرصّعاً بالأمل/ وبرنين ضحكاتي.../ خدعني موج البحر/ وفي زبدِ موجهُ/ غرق
ظلّي.. ص14)، تكتشف الشاعرة في غوصها بالزمان سيرتها الأنطولوجية التي تؤسس
للخراب وصراعها مع المكان، فالزمن يأخذ منها كالنار، وتمثل هذه الرؤية
المعرفية عبر الشعر تلاقح شظايا المحو والتشهّم والتبدد في المهب والغرق في
الوهم وترى القراءة هذه الصور في اندثار الوقت في توصيفات المتناهي في
الزمن الذي يظهر للجسد والمعنى والأنوثة والبياض والمتاهة والضياع: في هذا
النص (كريشة عصفور) (الأيام تمتلكني، تسكنني/ تخرجني من جلدِ أنوثتي../
تُغيّر وريدي وشرياني/ تكوّن ساعتي وتحرق أيامي،/ ليصبح حاضري، رماداً/
مستتراً خلف ستار ضياع مقدّر.. ص15).
إن الشاعرة تسعى
الى اكتشاف اسطورة الضياع عبر عالمها المحسوس الموشوم بالقلق والرغبة
بالتشظي، فالمعرفة هنا تتأسس شعرياً في بنية حكائية تتجاور شعرية السرد عبر
شكل يأخذ أطراً فنية بإتكائه على المفردات والرموز والإشارات اللفظية
الدالة (شتاء مريض و.... أنا دون مظلّة.. ص18)، إن الشاعرة تصف تارة
بالواضح والتقريري وأخرى بالغامض والترميزي الجمالي، وهي تهرب نحو طفولتها
(أضم الترحال وأسى النايات/ وأبحث عن عمر تاه،/ تاهت فيه أيامنا/ ماضٍ..
بلحظاته التي نسرقها من الزمن الآتي/ وبلياليه التي تمحو رقص الفراشات...
ص20).
تمثل أفعال
القراءة اشتباكاً تتخالط فيه حفريات النص والوعي الحدسي الإنفعالي للقراءة،
إنّ التداخل الصوري في نصوص الشاعرة تشكل فيوضات تختزل الذات في تحولاتها
عبر أفعال شعرية مشهدية حتى أنها تتحقق هذه الصفة الدلالية في منظومة
العناوين وخاصة نصوصها القصيرة (رقص على صوت عار)، حتى تطمئن الشاعرة الى
ذاتها ترسم صورتها الظلية الى جانب ظلّ الأخر: (ظل سراب) (حين أُهدي ظلّي
للجدار أكونُ/ مطمئنة على بصماتهِ الهلامية،/ تلك التي أهديته إيّاها
عندما/ كنتُ على مقربة من جانبه الثالث،/ عندها كان حلُمُهُ أشرسَ من
الخوف.. ص48).
الكتاب: أبجدية
خاصة (شعر)
المؤلفة: رانية
أرشيد (شاعرة من فلسطين)